الملاعب الهزلية
كنت آليت على نفسي منذ أعلنت هذه الحرب — قبحها الله وقبح كل ما تأتي به — ألا أكتب كلمةً في صحيفةٍ سيارةٍ في شأنٍ من الشئون العامة خيرها وشرها حتى ينقضي أجلها. وأن أترك هذا القلم هادئًا مطمئنًّا في مرقده مدرجًا في ذلك الكفن الأبيض الرقيق المنسوج من خيط العنكبوت، حتى يأتي ذلك اليوم الذي يستطيع فيه أن ينبعث كما يريد لا كما يراد منه. ولكن نازلًا نزل بهذا المجتمع المصري منذ عام أو عامين لم أحفل به في مبدئه ولم أُلقِ له بالًا، وعددته في النوازل الصغيرة المترددة التي لا تلبث غيومها أن تنعقد في سماء البلد حتى تهب عليها نسمة من نسمات الروح الإلهي فتنقشع، ولكن ها قد مضى العام والعامان وهو باقٍ في مكانه لا يتحول ولا يتحلحل، بل تزداد قدمه على الأيام ثباتًا ورسوخًا، وأحسبه سيبقى في مستقبل أيامه أضعاف ما بقي في ماضيها إن لم نُثر عليه — معشرَ الكُتَّاب — حربًا شعواء تهز جدرانه هزًّا، وتدكه دكًّا، وتلحق أعاليه بأسافله.
لذلك كتبت هذه الكلمة غير مبالٍ بتلك الألِيَّة التي كنت آليتها، فلعل أصدقائي من أفاضل الكتاب يساعدونني في هذا الشأن الذي إن عجزنا عنه اليوم فما نحن بقادرين عليه غدًا.
نزلت بالأمة المصرية نازلة تلك المقاذر العامة التي يسمونها الملاعب الهزلية، وما هي في شيء من الهزل ولا الجد، ولا علاقة لها بالتمثيل والتصوير، ولا بأي فن من الفنون الأدبية، فأقبل عليها الناس إقبالًا عظيمًا، وأغرموا بها غرامًا شديدًا. فليقبلوا عليها ما شاءوا، وليفتتنوا بها ما أرادوا، ولكنَّ فريقًا واحدًا من الأمة هو الذي نضن به على تلك المواطن الساقطة أن تطأها قدمه، أو تظلل سماؤها رأسه، لأنا نضن به على كل منقصةٍ في العالم تزري به، أو تنال من كرامته.
ذلك الفريق المضنون به وبكرامته هو أنتم معشرَ الطلبة المصريين إخوتنا وأبناءنا، وعنوان مجدنا وشرفنا، وصورة وجودنا وحياتنا، ومناط أمانينا وآمالنا. فائذنوا لكاتب من كتابكم، وصديقٍ من أصدقائكم، أن يحادثكم قليلًا في هذا الشأن كما يحادث الأب ولده، أو الأخ أخاه، لا قاسيًا ولا متجبرًا، بل عاتبًا متلطفًا. وأمله عظيم أن ينتهي الحديث بينه وبينكم على ما يحب لكم، وما يعتقد أنكم تحبون لأنفسكم.
الحقَّ أقول: إنَّ الحياء يكاد يعقد لساني بين أيديكم فلا أدري كيف أحدثكم، ولا ماذا أقول لكم؟
أأعظكم في أمرٍ أنتم تعلمون من نتائجه وآثاره وسوء عقباه مثل ما أعلم؟ أو أدعوكم إلى اجتناب سيئةٍ لا أحسب أن بين كباركم وصغاركم من يجهل أنها السيئة العظمى التي لم ترزأ الأمة بمثلها في حاضر تاريخها أو ماضيه؟ أو أقول لكم: إنَّ هذه الأماكن التي تطؤها أقدامكم إنما هي مقابر المجد والشرف، ومدافن الفضائل والأخلاق، ومصارع الأعراض والحرمات؟ وهل غاب ذلك عن علم أحدٍ منكم فأُعلمكم منه ما لا تعلمون؟!
لا يجهل أحدٌ منكم شيئًا مما أقول، ولكنه الشباب ما زال يغري الضعيف العاجز عن احتمال سلطانه وسيطرته بالإقدام على تلك المخاطر المهلكة، فيمضي إليها قدمًا، لا يجهل مكان الخطر منها، ولكنه يعجز عن مغالبة نفسه ومناورتها حتى يتردى فيها، وربما كان هذا هو كل الفرق بيني وبينكم.
إنني لا أرى في هذه المجامع التي تفتتنون بها وتتهافتون عليها حسنةً تغتفر سيئة، أو جمالًا يفي بقبح، أو خيرًا يعزي عن شر، فتمثيلها سخيف بارد لا يستطيع من أوتي حظًّا قليلًا من سلامة الذوق أن يصبر نفسه ساعة واحدة على النظر إليه، ومُلَحها ثقيلةٌ مستبشعة، لو نطق بها ناطقٌ في مجتمع من المجتمعات الخاصة ثم قلب نظره في وجوه الجالسين حوله لرأى في ابتسامات السخرية المترقرقة في شفاههم ما يذيبه حياءً وخجلًا، وأناشيدها سوقيةٌ مبتذلة في موضوعها، وصورة أدائها لا يطرب لمثلها إلا أصحاب الأذواق العامية الخشنة الذين يطربون لنشيد الأذكار وطبول الزار وتعداد النائحات وضجيج الباعة في الأسواق، فماذا بقي فيها من وجوه الحسن بعد ذلك؟
بقي فيها الهزء والسخرية بالطبقات الشريفة العاملة في الأمة كالفلاحين آبائنا وأولياء نعمتنا، والشيوخ حفظة ديننا وأئمة لغتنا، والمحامين والأطباء والمعلمين أفاضل الأمة وعيونها، وغيرهم من طبقات الأمة كالصناع والخدم والأكارين وأمثالهم.
بل بقي ما هو شر من هذا جميعه، وهو تمثيل الشهوات البدنية والنفسية بجميع ألوانها وضروبها على مشهد من رجالنا ونسائنا وأطفالنا، وتصويرها بتلك الصورة القبيحة التي ترخى على مثلها الستور، وتقام من حولها الدعائم والجدران.
فلو أنَّ غريبًا وفد إلى هذا البلد وهو لا يعلم من شأنه شيئًا، فذهب إلى مكانٍ من تلك الأمكنة ليرى في مرآته صورة الأمة ممثلةً في مسارحها الوطنية، لقضى عليها للنظرة الأولى بأنها أحط الأمم وأدناها. ذلك إلى ما يسمعه فيها من ألفاظ السب والشتم، وجمل الفحش والهجر التي لا يطرق أذنه مثلها في موقفٍ من مواقف حياته، أو مشهدٍ من مشاهدها، إلا إذا قدر له أن يتغلغل بنفسه يومًا من الأيام في تلك الأحياء العامة الساقطة حتى يصل إلى «عرب اليسار» أو «عشش الترجمان» فيسمعها هناك في مشاجرات القرادين ومهاترات الشحاذين.
ولقد قال لي أحد الأصدقاء الظرفاء مرة: إنَّ شتائم «أم شولح» قد انتقلت إلى بيتي ولا أعرف كيف انتقلت إليه، فإني أسمع الكثير منها منذ أيام يتردد في أفواه الأطفال هازلين، وفي أفواه الخدم جادين.
أتدرون أيها الأصدقاء من هم أولئك الذين يسمون أنفسهم ممثلين، ويسمون ما يهذون به في مسارحهم روايات، والذين يدعونكم — معشر المتعلمين الراقين — إلى حضور مجامعهم باسم الآداب والفنون؟
لو أنَّ جماعة من الزامرين وآخرين من الطبالين وآخرين من القرادين، وجماعاتٍ غيرهم من الرمالين والمداحين، والصفاعين والبهلوانية، والحواة والرقاة، وبقية السائلين المستجدين الذين يمرون بأبواب المنازل كل يوم ضاجين صارخين فلا نلقي لهم بالًا، ولا نعيرهم أذنًا — اتفقوا فيما بينهم على أن يكوِّنوا جماعة واحدة تعمل يدًا واحدة في مكان واحد، لكانوا هم بعينهم جوق كشكش، والبربري، وشرفنطح، لا فرق بينهم وبينهم سوى أنَّ أولئك يقفون بأبوابنا ضارعين مبتهلين يقنعون باللقمة، ويجتزئون بالشربة، وهؤلاء يأبون إلا أن نقف على أبوابهم ونتعلق بأستارها فلا يفتح لنا حجابهم إلا إذا دفعنا الإتاوة المضروبة علينا.
وألطف كلمةٍ سمعتها في هذا الشأن قول بعض المفكرين: «كان الشر مفرقًا في أنحاء البلد فجمعه كشكش في مكان واحد.»
فهل تسمح لكم نفوسكم أيها الأصدقاء — وأنتم عيون الأمة اليقظة، وعقولها المفكرة — أن تنخدعوا بألاعيب هؤلاء الخبثاء المحتالين فترفعوها بأيديكم إلى هذه المرتبة العالية التي لم يخلقوا لها، ولا يمتون إليها بسبب من أسباب العلم أو الذكاء أو الشرف أو الخلق؟ وها هم أولاء نوابغ الممثلين في أمتكم أشقياء بائسون لا يكادون يجدون بين ظهرانيكم ما يقيمون به أوَدَ عيشهم، أو يعينهم على ما هم بسبيله من خدمة الفن والقيام عليه.
من الذي يذهب لمشاهدة التمثيل الجدي الشريف في مسارح أبيض ورشدي وعكاشة وأمثالهم إن كنتم أنتم لا تذهبون إليها؟
ومن هو أولى بها من بعدكم إن قطعتم صلتكم بها؟
أيعجبكم ألَّا يرى الزائر لتلك المسارح الشريفة حين يزورها غير العامة والسوقة والأميين والجاهلين، فإذا فتش عنكم في مكان آخر غيرها رآكم مزدحمين في مراقص كشكش والبربري وشرفنطح وأمثالها راضين عن مقامكم فيها، مغتبطين بسفاسفها وهذياناتها؟!
ألا تخشون أن يستنتج مستنتج منهم بعد ذلك وقد راعه هذان المشهدان الغريبان — مشهدكم في الأجواق الهزلية الساقطة، ومشهد العامة والسوقة في الأجواق الجدية الشريفة — أنَّ الأمة المصرية أمة غريبة الشأن، يفسدها العلم ويصلحها الجهل؟ أو أن يتطرف متطرف منهم في رأيه فيقول: ليت الأمة عاشت جاهلة عمياء، موفورا لها حظها من الأخلاق والآداب؛ فذلك خير لها من علم يهوي بها في مهواة الشقاء والعار.
لقد رأيت في حياتي صنوف الحيل والكيد، وضروب السماحة والوقاحة، فلم أرَ بين المحتالين والمتوقحين من هو أعظم كيدًا ولا أسمج وجها من هؤلاء القوم.
إنهم يحاولون دائمًا أن يلبسوا مفاسدهم وشرورهم ثوب الفضيلة والجِدِّ، وهو وإن كان ثوبًا شفافًا ينم عما وراءه، إلا أنه يكفيهم للذود عن أنفسهم في موقف الجدل والمناظرة، كما يكفي البرقع الشفاف المرأة المتهتكة للدخول في سلك المخدَّرات المتحجبات.
يمثلون الفلاح أقبح تمثيل، ولا يتركون مفسدةً من المفاسد ولا رذيلةً من الرذائل إلا ويلصقونها به. وينشدون مختلف الأناشيد في السخرية بشكله، والهزء بصفاته وأعماله، ثم لا يخجلون أن يقولوا بعد ذلك في بعض تلك الأناشيد: «ما دام بلادنا زراعية، حبوا الفلاح إن كنتوا تحبوا وطنكم.»
وينتقدون في رواياتهم فساد الرجال وخلاعة النساء، وينقمون على المصري تبديد أمواله في سبيل شهواته. وليس للنساء في مسارحهم عمل سوى إغراء الشبان وإغوائهم وإفساد عقولهم وابتزاز أموالهم في الساعة التي تمثل فيها هذه الروايات وتلقى هذه الأقوال!
ويهدمون اللغة العربية هدمًا بهذه اللهجة العامية الساقطة التي يكتبون بها رواياتهم، وينظمون بها أناشيدهم، وينشرونها في كل مكان، ويفسدون بها الملكات اللغوية في أذهان المتعلمين. ثم يزعمون بعد ذلك أنهم أنصار اللغة العربية وحماتها، فيقولون بتلك اللهجة العامية الساقطة: «مالها لغتنا العربية، آل همجية، يادي المصيبة يادي العار، فشر دي لغة المدنية، اتمسكوا بها صغار وكبار.»
ولا يستحيون أن يجمعوا في نشيد واحد من رواية واحدة بين قولهم: «دا أنا أبيع هدومي عشان بوسة، من خدك القشطة يا ملبن، يا حلوة زي البسبوسة، يا مهلبية تمام وأحسن.» وبين قوله: «مصر يحميك ربك، ما تشوفي إلا أيام سعدك»؛ أي أنهم يصفعون الأمة على وجهها هذه الصفعات المؤلمة ثم يحاولون أن يترضوها بعد ذلك بترديد كلمات «الوطنية» و«حب وطنك» و«مت في سبيل الأوطان» وأمثالها من الكلمات العذبة الجميلة التي لا معني لها في أفواههم إلا أنهم يعتقدون أنَّ المصريين قد بلغوا من الغفلة والبله مبلغًا لا يبلغه أطفال المكاتب ولا سكان المارستانات.
لا أرى لكم — معشر الطلبة المصريين — أمام هذه النازلة العظمى التي نزلت بنا إلا أن ينتدب فريق من عقلائكم نفسه لنصيحة إخوانه بالامتناع عن الذهاب إلى تلك الملاعب، وشرح مضارها وسيئاتها لهم، فإن امتناع فريق منكم يؤثر على فريق آخر، وهكذا حتى يصبح في عرفكم جميعًا أنَّ الدخول إلى تلك الأماكن عارٌ يخجل مرتكبه من الظهور به بين أصدقائه ومعارفه.
نحن في حالة نحتاج فيها إلى أن يعلم الناس عنا في كل مكان أننا أمة أخلاق وآداب. وأنَّ في نفوس أفرادنا من الصفات والمزايا ما يرفعنا إلى مصافِّ الأمم العظيمة، ومقياس عظمة الأمم عند العالم إنما هو بصفاتها ومزاياها قبل أن يكون بأي شيءٍ غير ذلك. فإن فات آباءنا أن يورثونا خلق العظمة والإباء في عهدهم، فلنتخلق به نحن لنورثه أبناءنا من بعدنا.
إنكم لا تذهبون في الحقيقة إلى هذه الأماكن وحدكم، بل يذهب إليها معكم إخوانكم وأخواتكم، وبقية أفراد أسركم؛ لأنكم تقصون عليهم عند عودتكم منها ما شاهدتم، وتروون لهم ما سمعتم، فكأن سكان البلد جميعًا رجالًا ونساء، كبارًا وصغارًا، يجتمعون في هذه البؤر الفاسدة في ساعة واحدة. فهل يستطيع متصورٌ أن يتصور خطرًا على الأمة وعلى أخلاقها وآدابها أعظم من هذا الخطر؟
إنني لا أدعوكم إلى الامتناع عن الإلمام بهذه المقاذر العامة من أجل أنفسكم فقط، بل من أجل إخوتكم وأخواتكم اليوم، ومن أجل أبنائكم وأحفادكم غدًا، ومن أجل مستقبل الأمة المصرية كلها، الذي أعتقد أنه أمانة في أيديكم، ووديعة موكولة إلى كرم نفوسكم، وشرف ضمائركم.
اهدموا هذه الأماكن هدمًا بالإعراض عنها واحتقارها، ثم قفوا بعدُ على أطلالها البالية هاتفين صائحين صياح الظافر المنتصر قائلين: ها قد نجت الأمة من خطر عظيم، وها نحن أولاء قد قمنا جميعًا بالواجب علينا لوطننا.