العظمة
إن رأيت شاعرًا من الشعراء، أو عالمًا من العلماء، أو نبيلًا في قومه، أو داعيًا في أمته، قد انقسم الناس في النظر إليه وفي تقدير منزلته انقسامًا عظيمًا، وانفرجت مسافة الخُلف بينهم في شأنه، فافتتن بحبه قومٌ حتى رفعوه إلى رتبة الملك، ودان ببغضه آخرون حتى هبطوا به إلى منزلة الشيطان، فاعلم أنه رجل عظيم.
العظمة أمرٌ وراء العلم والشعر، والإمارة والوزارة، والثروة والجاه؛ فالعلماء والشعراء والنبلاء كثيرون، والعظماء منهم قليلون، وإنما هي قوةٌ روحية موهوبة غير مكتسبةٍ تملأ نفس صاحبها شعورًا بأنه رجل غريبٌ في نفسه ومزاج عقله ونزعات أفكاره وأساليب تفكيره غير مطبوع على غرار الرجال، ولا مقدود على مثالهم، ولا داخل في كلية من كليتهم العامة، فإذا نزلت نفسه من نفسه هذه المنزلة أصبح لا ينظر إلى شيءٍ من الأشياء بعين غير عينه، ولا يسمع بأذن غير أذنه، ولا يمشي في طريق غير الطريق التي مهدها بيده لنفسه، ولا يجعل لعقل من العقول مهما عظم شأنه وشأن صاحبه سلطانًا عليه في رأي أو فكرٍ أو مشايعة لمذهب أو مناصبةٍ لطريقةٍ، بل يرى — لشدة ثقته بنفسه وعلمه بضعف ثقة الناس بنفوسهم — أنَّ حقًّا على الناس جميعًا أن يستقيدوا له، وينزلوا على حكمه ويترسموا مواقع أقدامه في مذاهبه ومراميه، فترى جميع أعماله وآثاره غريبةً نادرةً بين آثار الناس وأعمالهم، تبهر العيون، وتدهش الأنظار، وتملأ القلوب هيبةً وروعةً. فإن كان شاعرًا كان مبتكرًا في معانيه أو طريقته، أو كاتبًا أخذ على النفوس مشاعرها وأهواءها، أو فقيهًا هدم من المذاهب قديمًا وبنى جديدًا، أو ملكًا شغل من صفحات التاريخ ما لم يشغله ملكٌ سواه، أو وزيرًا ساس أمته بسياسةٍ جديدة لا عهد لهم بمثلها من قبل، أو قائدًا ضرب الضربة البكر التي ترن في مسمع الجوزاء.
تلك هي العظمة، وهذا هو الرجل، ومن كان هذا شأنه كان فتنة الناس في خلواتهم ومجتمعاتهم، ومعترك أنظارهم وأفهامهم، ومثار الخلف والشقاق بينهم في استكناه أمره، وتقدير منزلته. فيعجب به الذين فطروا على الإعجاب بكل غريبٍ والافتتان بكل جديد، حتى ينتقل بهم الإعجاب به إلى الافتتان بأقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته، والإغراق في حبه، والمشايعة له، والسير بعجائبه وغرائبه في كل صقعٍ ونادٍ. فيقع ذلك من نفوس مناظريه وحاسديه والمتمردين على عبقريته ونبوغه موقعًا غير جميلٍ، فلا يجدون لهم بدًّا من مقابلة الإغراق في حبه بالإغراق في بغضه، على قاعدة المشادة والمعاندة. وهناك تحتدم المعركة الهائلة بين أنصاره وخصومه، فيهاجمه هؤلاء يحاولون استلاب عظمته منه، ويناضل عنه أولئك يريدون استبقاءها في يده، وهو واقف بينهم يدير أنظاره فيهم هانئًا مغتبطًا، لا يحزن ولا يبتئس؛ لأنه يعلم أنَّ جميع هذه الأصوات الصارخة الصاخبة حوله إنما هي أبواق شهرته وعظمته.
لا أريد أن أقول: إنَّ الرجل العظيم مصيب في كل ما يرى وما يفعل، وما ينتهج لنفسه وللناس من المناهج والخطط. فربما كان من هو أضعف منه قوةً وأخمل ذكرًا أسدَّ منه رأيًا وأصدق نظرًا، وإنما أريد أن أقول: إنَّ أحدًا من الناس لا يستطيع أن يشغل أقلام الكتاب، وعقول المفكرين، وألسنة الناطقين، وقلوب المحبين والمبغضين، إلا الرجل العظيم.
أحب عليًّا قومٌ حتى كفروا بحبه، وأبغضه آخرون حتى كفروا ببغضه. وسمى بعض الناس أبا بكر وعمر شيخي المسلمين، وأنكر بعضهم صحبتهما وإخلاصهما. وعاش محيي الدين بن العربي بين فئةٍ تراه قطب الأولياء، وأخرى تراه شيخ الملحدين. واغتبط فريقٌ من المسلمين بابن رشدٍ فسمَّوه فيلسوف الإسلام، ونقم عليه فريق فملئوا وجهه بصاقًا في المسجد الجامع. وسمى قوم صاحب كتاب «الإحياء» حجة الإسلام، ومزق آخرون كتابه ونثروه في مهاب الرياح. وعاش المعري بين رضا الراضين عنه ونقمة الناقمين عليه، يلثم الأولون مواطئ نعاله، ويسحبه الآخرون على وجهه في الطرقات العامة. وشرب سقراط كأس السم بين أفواهٍ باسمةٍ شماتةً به، وعيون دامعةٍ حزنًا عليه. وجرت الأقلام بمدح المتنبي تارةً فإذا هو سيد الشعراء، وبذمِّه أخرى فإذا هو أكبر المتكلفين. ورفع قومٌ شكسبير إلى مرتبة الكمال الإنساني، فقالوا: نابغة الدهر، وهبط به آخرون إلى أدنى منازل الخسة والدناءة، فقالوا: المنتحل الكذاب. وافتتن المفتتنون بنابليون الأول فَعَلَوا به إلى رتبة الأنبياء، وتنكر له خصومه وأعداؤه فسلكوه في سلك الحمقى والممرورين. وذاق كل من لوثر وكالفين وغليليو وفولتير ونيتشه وتولستوي كأسي الحب والبغض في حياته وبعد مماته إلى القطرة الأخيرة منهما. وما انقسم الناس في هذا البلد في هذا العصر في شأن رجل من الرجال انقسامهم في شأن جمال الدين، ومحمد عبده، وسعد زغلول، ومصطفى كامل، وعلي يوسف، وقاسم أمين.
وما كان واحد من هؤلاء في المنزلة التي يرفعه إليها المغرقون في حبه، أو ينزل به الغالون في بغضه، ولكنهم كانوا قومًا عظماء فانقسم الناس في شأنهم، وذهبوا في أمرهم هذه المذاهب البعيدة المترامية، ولا ينقسم الناس هذا الانقسام العظيم إلا في شأن الرجل العظيم.
ليس معنى الوجود في الحياة أن يتخذ المرء لنفسه فيها نفقًا يتصل أوله بباب مهده وآخره بباب لحده، ثم ينزلق فيه انزلاقًا من حيث لا تراه عينٌ ولا تسمع دبيبه أذن حتى يبلغ نهايته — كما تفعل الهوام والحشرات والزاحفات على بطونها من بنات الأرض — وإنما الوجود قرع الأسماع، واجتذاب الأنظار، وتحريك أوتار القلوب، واستثارة الألسنة الصامتة، وتحريك الأقلام الراقدة، وتأريث نار الحب في نفوس الأخيار، وجمرة البغض في قلوب الأشرار. فعظماء الرجال أطول الناس أعمارًا وإن قصرت حياتهم، وأعظمهم حظًّا في الوجود وإن قلت على ظهر الأرض أيامهم.
العظمة كالحقيقة يخدمها أعداؤها وأصدقاؤها، ويحمل أحجار هيكلها على رءوسهم هادموها وبُناتها، فحيث ترى سواد الأعداء فهناك سواد الأصدقاء، وحيث ترى الفريقين مجتمعين في صعيدٍ واحدٍ فاعلم أنَّ العظمة ماثلة على عرشها العظيم فوق أعناقهم جميعًا.
العظمة قصر مشيد مرفوع على ساريتين منحوتتين من حب الناس وبغضائهم، فلا يزال ذلك القصر ثابتًا في مكانه لا يتزعزع ولا يتحلحل ما بقيتا في مكانهما، فإذا سقطت إحداهما عجزت الأخرى عن الاستقلال به فسقطت بجانب أختها، فسقط هو بسقوطهما.
لا يعجبنك أن يتفق الناس جميعًا على حبك؛ لأنهم لا يتفقون إلا على حب الرجل الضعيف المهين الذي يتجرد لهم من نفسه وعقله ورأيه ومشاعره، ثم يقعي على ذنبه تحت أقدامهم إقعاء الكلب الذليل، يضربونه فيصطبر لهم، ويعبثون به فيبصبص بذنبه طلبًا لرضاهم، ويهتفون به فيقترب، ويزجرونه فيزدجر.
ولا يعجبنك أن يتفقوا على بغضك؛ لأنهم لا يتفقون إلا على بغض الخبثاء الأشرار الذين لا يحبون أحدًا من الناس فلا يحبهم من الناس أحدٌ.
وليعجبنك أن يختلفوا في شأنك، وينقسموا في أمرك، ويذهبوا في النظر إليك وتقدير منزلتك كل مذهب، فتلك آية العظمة، وذلك شأن الرجل العظيم.
كن القائد الذي تعترك الجيوش حوله من بين ذائدٍ عنه وعادٍ عليه، ولا تكن الجندي الذي يسفك دمه ليسقي به دوحة العظمة التي ينعم في ظلالها القائد العظيم.
كن الناطق الذي تحمل الريح صوته إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولا تكن الريح التي تختلف إلى آذان الناس بأصوات الناطقين من حيث لا يأبهون لها، ولا يعرفون لها يدها.
كن النبتة النضرة التي تعتلج ذرات الأرض في سبيل نضرتها ونمائها، ولا تكن الذرة التي تطؤها الأقدام، وتدوسها الحوافر والأخفاف.
كن زعيم الناس إن استطعت، فإن عجزت فكن زعيم نفسك، ولا تطلب العظمة من طريق التشيع للعظماء والتلصق بهم، أو مناصبتهم العداء والوقوف في وجههم، فإن فعلت كنت التابع الذليل وكانوا الزعماء الأعزاء