يوم العيد
أفضل ما سمعت في باب المروءة والإحسان أنَّ امرأةً بائسةً وقفت ليلة عيد من الأعياد بحانوت تماثيل في باريس يطرقه الناس في تلك الليلة لابتياع اللعب لأطفالهم الصغار، فوقع نظرها على تمثال صغير من المرمر هو آية الآيات في حسنه وجماله، فابتهجت بمرآه ابتهاجًا عظيمًا؛ لا لأنها غريرةٌ بلهاء يستفزها من تلك المناظر الصبيانية ما يستفز الأطفال الصغار، بل لأنها كانت تنظر إليه بعين ولدها الصغير الذي تركته في منزلها ينتظر عودتها إليه بلعبة العيد كما وعدته. فأخذت تساوم صاحب الحانون فيه ساعة، والرجل يغالي به مغالاةً شديدةً حتى علمت أن يدها لا تستطيع الوصول إلى ثمنه، وأنها لا تستطيع العودة بدونه، فساقتها الضرورة التي لا يقدرها إلا من حمل بين جنبيه قلبًا كقلب الأم، وفؤادًا مستطارًا كفؤادها، إلى أن تمد يدها خفيةً إلى التمثال فتسرقه من حيث تظن أنَّ الرجل لا يراها ولا يشعر بمكانها.
ثم رجعت أدراجها وقلبها يخفق في آنٍ واحدٍ خفقتين مختلفتين: خفقة الخوف من عاقبة فعلتها، وخفقة السرور بالهدية الجميلة التي ستقدمها بعد لحظاتٍ قليلة إلى ولدها. وكان صاحب الحانوت من اليقظة وحدة النظر بحيث لا تفوته معرفة ما يدور حول حانوته، فما برحت مكانها حتى تبعها يترسم مواقع أقدامها حتى عرف منزلها. ثم تركها وشأنها وذهب إلى مخفر الشرطة فجاء منه بجنديين للقبض عليها، وصعدوا جميعًا إلى الغرفة التي تسكنها، ففاجأها وهي جالسة بين يدي ولدها تنظر إلى فرحه وابتهاجه بتمثاله نظرات الغبطة والسرور. فهجم الجنديان على الأم فاعتقلاها، وهجم الرجل على الولد فانتزع التمثال من يده، فصرخ الولد صرخةً عظيمة لا على التمثال الذي انتزع منه، بل على أمه المرتعدة بين يديه، وكانت أول كلمة نطق بها وهو جاثٍ بين يدي الرجل: رحماك بأمي يا مولاي، وظل يبكي بكاء شديدًا. فجمد الرجل أمام هذا المنظر المؤثر، وأطرق إطراقًا طويلًا، وإنه لكذلك إذ دقت أجراس الكنائس مؤذنة بإشراق فجر العيد، فانتفض انتفاضةً شديدةً وصعب عليه أن يترك هذه الأسرة الصغيرة المسكينة حزينةً منكوبةً في اليوم الذي يفرح فيه الناس جميعًا، فالتفت إلى الجنديين وقال لهما: أظن أني أخطأت في اتهام هذه المرأة، فإني لا أبيع هذا النوع من التماثيل. فانصرفا لشأنهما، والتفت هو إلى الولد فاستغفره ذنبه إليه وإلى أمه، ثم مشى إلى الأم فاعتذر إليها عن خشونته وشدته. فشكرت له فضله ومروءته، وجبينها يرفض عرقًا حياء من فعلتها، ولم يفارقهما حتى أسدى إليهما من النعم ما جعل عيدهما أسعد وأهنأ مما كانا يظنان.
لا تأتي ليلة العيد حتى يطلع في سمائها نجمان مختلفان: نجم سعود، ونجم نحوس. أما الأول فللسعداء الذين أعدوا لأنفسهم صنوف الأردية والحلل، ولأولادهم اللعب والتماثيل، ولأضيافهم ألوان المطاعم والمشارب، ثم ناموا ليلتهم نومًا هادئًا مطمئنًّا تتطاير فيه الأحلام الجميلة حول أسرتهم تطاير الحمائم البيضاء حول المروج الخضراء. وأما الثاني فللأشقياء الذين يبيتون ليلتهم على مثل جمر الغضى يئنون في فراشهم أنينًا يتصدع له القلب، ويذوب له الصخر؛ حزنًا على أولادهم الواقفين بين أيديهم يسألونهم بألسنتهم وبأعينهم ماذا أعدوا لهم في هذا اليوم من ثياب يفاخرون بها أندادهم، ولعب جميلة يزينون بها مناضدهم، فيعللونهم بوعود يعلمون أنهم لا يستطيعون الوفاء بها.
فهل لأولئك السعداء أن يمدوا إلى هؤلاء الأشقياء يد البر والمعروف، ويفيضوا عليهم في ذلك اليوم النزر القليل مما أعطاهم الله ليسجلوا لأنفسهم في باب المروءة والإحسان ما سجل لصاحب حانوت التماثيل؟
إنَّ رجلًا يؤمن بالله ورسله، وآياته وكتبه، ويحمل بين جنبيه قلبًا يخفق بالرحمة والحنان، لا يستطيع أن يملك عينه من البكاء، ولا قلبه من الخفقان، عندما يرى في العيد — في طريقه إلى معبده، أو منصرفه من زياراته — طفلةً مسكينة بالية الثوب، كاسفة البال، دامعة العين، تحاول أن تتوارى وراء الأسوار والجدران خجلًا من أترابها وصواحبها أن تقع أنظارهن على بؤسها وفقرها، ورثاثة ثوبها، وفراغ يدها من مثل ما تمتلئ به أيديهن. فلا يجد بدًّا من أن يدفع عن نفسه ذلك الألم بالحنو عليها، وعلى بؤسها ومتربتها؛ لأنه يعلم أنَّ جميع ما اجتمع له من صنوف السعادة وألوانها لا يوازي ذرة واحدةً من السعادة التي يشعر بها في أعماق قلبه عندما يمسح بيده تلك الدمعة المترقرقة في عينيها.
حسب البؤساء من محن الدهر وأرزائه أنهم يقضون جميع أيام حياتهم في سجن مظلم من بؤسهم وشقائهم، فلا أقل من أن يتمتعوا برؤية أشعة السعادة في كل عامٍ مرةً أو مرتين.