من الشيوخ إلى الشبان
لا نستطيع أن ننكر عليكم معشر الأبناء أنَّ شبابكم أعظم قوةً ونشاطًا، وأبعد همةً، وأقوى عزيمةً من شيخوختنا، وأنَّ أيدينا الشاحبة المعروقة لا تستطيع أن تصل إلى ما تصل إليه أيديكم الفتية المقتدرة، وأنَّ آراءكم وأفكاركم وجميع تصوراتكم وآمالكم التي تتلون بها شبوبيتكم أكثر حدةً وحرارةً، وأبعد غورًا وعمقًا من آرائنا وتصوراتنا. ولكن الذي ننكره عليكم، ونعتب عليكم فيه أشد العتب هو زرايتكم علينا واحتقاركم لنا، ورميكم إيانا بالجمود مرةً والخرف أخرى كلما اختلفنا معكم في شأن من الشئون. كما أننا ننعى عليكم كبرياءكم وخيلاءكم واعتدادكم بأنفسكم هذا الاعتداد العظيم الذي يخيل إليكم معه أنَّ هذه الألوان الجملية التي تتلون بها حياتكم الحاضرة إنما هي خاصة بكم، ووقف عليكم، لم تمر بعصر غير عصركم، ولم يَزْهُ بها شباب غير شبابكم، وأنكم أنتم أصحاب الفضل الأول في ابتكارها، وافتراع عذرتها. ولو أنكم استطعتم أن تحملوا أنفسكم على الروية والأناة، وأن تنتقلوا بأنظاركم من الحاضر إلى الماضي — وإن لم يكن ذلك من طبيعة الشباب ولا من خصائصه — لعلمتم أنَّ هذا العهد الذي يمر بكم اليوم، والذي تفاخروننا به، وتدلون علينا بأحلامه وأمانيه، وتصوراته وخيالاته، قد مر بنا مثله في زماننا. فقد كان لنا شباب مثل شبابكم نتصور فيه كما تتصورون، ونفكر كما تفكرون، ونردد في أنفسنا وأحاديثنا وعلى أسلات أقلامنا جميع هذه الآراء والأفكار التي ترددونها اليوم. حتى انطوى ذلك العهد وزالت معالمه، وهدأت على أثره تلك الثورة النفسية الهادئة التي كانت تعترك بين جوانحنا، ودخلنا غمار الحياة الحقيقية؛ حياة الجد والعمل، والنظر والتأمل، والخبرة والتجربة. فاستطعنا أن نرجع إلى نفوسنا، ونثوب إلى رشدنا، وأن نهبط بهدوء وسكون إلى أعماق قلوبنا، ونستعرض تلك الآراء والأفكار، والأحلام والآمال بإمعان وتدقيق. فاستطعنا أن نميز صالحها من فاسدها، وصادقها من كاذبها، ومعقولها من موهومها، وأن نقلب الأشياء على جميع وجوهها، ونرى وجوه الحسن فيها ووجوه القبح، ونوازن بين هذه وتلك. فأخذنا بما أربت حسناته على سيئاته، فلا فضل لكم في الحقيقة في هذا الذي تزعمون أن لكم الفضل فيه وحدكم من دون الناس جميعًا، إنما الفضل للشباب ومزاجه وطبيعته وحدته، ولا علاقة للعلم والجهل والذكاء والغباوة والتقدم والتأخر بشيء من ذلك.
وللشباب خصائص كثيرة وصفات متعددة، وأخص صفاته قصر النظر، وسرعة الحكم، والعجز عن إحكام الصلة بين أدوار الزمان الثلاثة: ماضيه وحاضره ومستقبله؛ فهو لا يستطيع أن يتصور تصورًا ثابتًا متينًا أنَّ الماضي أساس الحاضر ومنبع وجوده، لا يشرق إلا من مطلعه، ولا ينبت إلا من تربته، وأنَّ المستقبل بيد الطبيعة القاسية وقوانينها الصارمة. وليس أقرب إليه من أن يتصور أنَّ في استطاعته أن يمحو بيده في لحظة واحدة وجه الكون بأرضه وسمائه، ثم يخلقه خلقًا جديدًا على الصورة التي يريدها ويتصورها، وأنَّ في إمكانه أن يحيل الترب أمواهًا والأمواه تربًا. وأن يحجب بيده وجه الشمس فلا ينبعث لها شعاع إلا بإرادته، وأن يرغمها متى أراد أن تمزق حجاب الليل وتبرز في سمائه، ولا يزال يتخبط في أمثال هذه التصورات والأحلام التي لا فائدة فيها ولا نتيجة لها، حتى تطلع في رأسه أول طليعةٍ من طلائع الشيخوخة فتهدأ ثورته، وتفتر حدته، ثم لا يلبث أن يسقط جاثيًا بين يدي القوة الإلهية والقوى الطبيعية معترفًا بعجزه وقصوره وفراغ يده من كل حولٍ وقوةٍ هاتفًا: إنَّ للكون إلهًا لا أستطيع محادته، وللطبيعة سنةً لا أستطيع تبديلها.
كنا نفكر كثيرًا في شأن المرأة كما تفكرون اليوم، ولا نجد حديثًا ألذ ولا أطرب من الحديث عنها. وكنا لشدة إعجابنا بها، واهتمامنا العظيم بترفيهها وتدليلها، والوقوع من نفسها موقعًا جميلًا، ندافع عنها ضد أنفسنا، ونطلب لها من النفوذ والسيطرة علينا أكثر مما تطلبه لنفسها. ونتمنى بجدع الأنف لو أننا رأيناها متمتعة بالحرية إلى أقصى حدودها، فتتبرج كما تشاء، وتسفر كما تريد، وتجلس إلى الرجل جنبًا لجنب في المجتمعات العامة والخاصة بدون أن يعارضها معارض، أو يكدر عليها صفوها مكدر. بل كنا نذهب في مجاملتها ومحاسنتها إلى أكثر من ذلك؛ فكنا نغتفر لها سيئاتها الأدبية ونسميها سقطات — أي هفوات فردية لا أهمية لها — ونغريها بمحاسبة زوجها حسابًا شديدًا على خيانته لها، ومقابلة فعلاته بمثلها؛ لأننا كنا نقرر لها مبدأ المساواة بينها وبينه، ونقول لها: ليس من العدل أن يغضب الزوج من خيانة زوجته إذا كان هو يخونها. وكنا نظن أنَّ هذه الآراء آراء حقيقية راسخة في نفوسنا، صادرة من أعماق قلوبنا، ثم علمنا بعد ذلك أننا كنا مخدوعين فيها، وأنها آراء الشباب وخواطره، وأحلامه وتصوراته، ولا يثقل على الشباب في ريعانه شيءٌ مثل ذلك الحجاب المسبل على وجه المرأة، وذلك الجدار القائم بينها وبينه.
وكنا نبتهج بكل جديدٍ كما تبتهجون، وننفر من كل قديم كما تنفرون. ونعد الأول آية الآيات مهما سخف واستبرد، والثاني نكبة النكبات مهما غلت قيمته ونفس قدره، لا لأننا وازنا بينهما، وفاضلنا بين مزاياهما فحكمنا عليهما؛ بل لأننا كنا قريبي عهدٍ بزمن الطفولة، والطفل سريع الملل، كثير السآمة، لا يصبر على لعبته أكثر من يوم واحد ثم يملها فيكسرها ويستبدل منها غيرها.
وكنا مولعين بالتقليد ولعكم به، لا نكاد نعرف لأنفسنا صورةً خاصةً ترتكز عليها أعمالنا في الحياة، بل كانت تمر بنا جميعًا الصور على اختلاف أنواعها وألوانها فنلتقطها بأسرع مما يلتقط «الفيلم» صوره كأن فضاء حياتنا معمل لتجاريب الحياة واختباراتها.
وكان العارف منا بلغةٍ أجنبية لا يلبث أن يفتتن بها وبأصحابها افتتانًا شديدًا ربما حمله على احتقار لغته وتاريخها، فيترفع عن ذكر رجالها وعظمائها في أحاديثه واستشهاداته، ويسخر منهم كلما جرى ذكرهم على لسان أحدٍ غيره، لا لأنه يفهمهم أو يفهم غيرهم؛ بل لأنه كان بسيطًا غريرًا يحتقر كل ما في يده، ويستعظم كل ما في يد غيره.
ولم نعرف إلا بعد زوال ذلك العهد أننا كنا مخطئين في جميع هذه التصورات والأفكار، وأنها لم تكن عقائدها راسخةً في نفوسنا، بل أشباحًا وصورًا تتراءى في سماء حياتنا، فنعجب بها، ونستطير فرحًا وسرورًا بجمال منظرها، وبهجة ألوانها، فأصبحنا معتدلين في آرائنا، متئدين في أحكامنا، نحب حرية المرأة، ولكنا نكره فسقها وفجورها، ونأخذ مواد المدنية والحضارة من الأمم المتمدينة، ولكنا لا نقلدها، ونحب أدب الغربيين ونعجب بأدبائهم وعلمائهم، ولكنا لا نحتقر من أجل ذلك رجالنا وتاريخنا.
نحن لا نطلب منكم — معشر الأبناء — وأنتم في ثورة الشباب ونشوته أن تكونوا معتدلين في أحكامكم وتصوراتكم، أو هادئين في مطامعكم وآمالكم، فليس من الرأي أن نطلب عندكم ما لم نكن نطلبه عند أنفسنا. ولكن أمرًا واحدًا كنا نحرص عليه في عهدنا أشد الحرص، هو الذي نطلب إليكم أن تحرصوا عليه مثلنا، وتضنوا به ضنَّنا.
كنا نعتقد مثلكم أننا خيرٌ من آبائنا وأجدادنا، وأوسع منهم علمًا وأقوى إدراكًا، وربما اعتقدنا في الكثير منهم — كما تعتقدون فينا اليوم — أنهم جاهلون أو مخرفون، أو متأخرون أو جامدون، إلا أن ذلك لم يكن يمنعنا من أن نحفظ لهم منزلة الأبوة وكرامتها، فلا نلقبهم من هذه الألقاب التي تلقبوننا بها، ولا نذكرهم في حضورهم أو غيبتهم بكلمة سوء تنغص عليهم ما قدر لهم أن يقضوه بيننا من أيام حياتهم. وكان شأننا معهم في برهم وإكرامهم واحترام عقائدهم ومذاهبهم — مع اتساع مسافة الخلف بيننا وبينهم — شأن خالد بن عبد الله القسري أمير العراق؛ إذ كان مسيحيًّا فأسلم وحسن إسلامه، وكان أبوه لا يزال على دينه، فطلب إليه أن يبني له بيعةً في قصره يقوم فيها بأداء واجباته الدينية، فبناها له كما أراد، ولم يَنْعَ عليه شأنًا من شئونه طول أيام حياته حتى ذهب إلى ربه.
ذلك ما نضرع إليكم فيه أن تحفظوه لنا كما حفظناه من قبلكم لآبائنا وأجدادنا. واذكروا أن سيأتي عليكم ذلك اليوم الذي أتي علينا، وأنكم ستكرهون فيه أن يعاملكم أبناؤكم وأحفادكم بمثل ما تعاملوننا به اليوم، فاتقوا الله فينا وفي شيخوختنا، فنحن آباؤكم الذين ولدناكم، وأساتذتكم الذين ربيناكم، ومن أكبر العار عليكم وعلى تاريخكم أن تسبوا أساتذتكم وآباءكم وأن ترموهم في وجوههم بالجهل والجمود، وما هم بجاهلين ولا جامدين، ولكنهم شيوخٌ عاجزون.