الزهرة الذابلة
أنا تلميذ في السابعة عشرة من عمري، حصلت على شهادة الدراسة الابتدائية، ثم تقدمت لامتحان الكفاءة فلم أفلح، غير أني عزمت على الكد للعام المقبل، وما دريت ما يخفي الغيب في سره حتى فوجئت بمرض «الحمى» العضال الذي ضعضعني، وما كدت أشفى منه بعد مدة حتى أصابني «الصمم» الكامل. فضاعت بذلك آمالي، وأظلمت الأرض في وجهي، فرأيت أن أستغيث بك لعلك تسدي إليَّ جميلًا بكلمة تعزيةٍ من عندك، وأنا أحق الناس بالعزاء، والسلام.
لا أستطيع أن أعزيك عن مصابك يا بني، فهو فوق ما يحتمل المتحمل ويطيق الجَلْدُ الصبور، ولو أنني حاولت ذلك منك لكذبتك وغششتك، ولكان شأني معك شأن أولئك الهازلين العابثين الخادعين من المعزين الذين يختلفون ليلهم ونهارهم إلى منازل المنكوبين والمرزوئين ليقولوا للثاكل ولده: «لقد قدمت بين يديك شفيعًا يشفع لك يوم حسابك بين يدي ربك.» وللباكي أباه: «ما مات من خلف مثلك.» وللباكي أخاه: «إنَّ في الباقي عزاءً عن الماضي.» وللباكية زوجها: «الشباب غض والرجال كثير.» وللفاقد بصره: «حسبك مما فقدت من نور بصرك ما أبقى الله لك من نور بصيرتك.» وللمحتضر المشرف: «إنَّ في لقاء ربك عوضًا عن لقاء الدنيا.» ولمن حلت به نكبةٌ مثل نكبتك: «لقد كفاك الله بما ابتلاك سماع أقوال الكذب وكلمات السوء.» كأنما هم يحسبون أنَّ الفواجع والرزايا صفقات تجارية إذا قاس فيها المرء ربحه بخسرانه ووازن بين دخله وخرجه هان عليه هذا لذاك، واغتفر ما فات لما هو آتٍ، ولا يعلمون أنَّ الحزن على الذاهب المفقود إنما هو زفرةٌ من زفرات الحب، أو نفثة من نفثات الوفاء، ولا دخل للحساب والمعاوضة في شيء من ذلك، وأن أقسى الآباء قلبًا وأصلبهم فؤادًا لو ساومه مساومٌ في فلذة كبده ووضع تحت قدميه خزائن الأرض والسماء لكان رأيه في ذلك رأي ابن الرومي في قوله:
وأنَّ الأم تبكي وحيدها كما تبكي عاشر عشرةٍ من أولادها، والصديق يبكي فراق صديقه وإن كثر أصدقاؤه في كل محلةٍ يحل بها، والزوجة تبكي زوجها وإن كان تحت كل نافذةٍ من نوافذ منزلها خطيبٌ يترقبها، وأنَّ البائس المسكين الذي يعيش من دنياه في مثل جحر الضب ضنكًا وبؤسًا يضن بحياته الضن كله إذا أحس بوشك فراقها وإن علم أنه سينتقل منها إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض. فهم في الحقيقة يسخرون من مصائب الناس وأرزائهم، ويؤلمون نفوسهم فوق ألمها باحتقار أحزانهم وازدرائها وتصغير شأنها في أعينهم، ويلقون في نفوسهم اليأس من أن يجدوا بجانب قلوبهم قلوبًا تحس بإحساسها، وتشعر بشعورها، من حيث يظنون أنهم يخففون عنهم آلامهم ويأخذونهم بنسيانها.
وأعوذ بالله أن أكون يا بُنَيَّ من الكاذبين في تعزيتك، أو الغاشين لك فيها، ولو أردت نفسي على ذلك لما استطعت. وكيف يستطيع أن يعزيك عن مصابك من لا يستطيع أن يعزي نفسه عن مصابه فيك، فلقد ترك كتابك هذا بين جنبيَّ لوعةً من الحزن لا أحسب أنها دون لوعتك التي تعتلج بين جنبيك من الحزن على نفسك، حتى صرت كأني أنا الذي ابتليت بما ابتليت به، وكأن الذي أصابك من البلاء قد أصابني من دونك. فلقد انقطع عنك بفقد سمعك أيها البائس المسكين كل ما كان بينك وبين الناس جميعًا من سببٍ وصلة، فأصبحت وأنت في دار الأنس والاجتماع، وبين ضوضاء الحياة وضجيجها، كأنك تعيش من وحشتك وكآبتك في مدينةٍ متحجرةٍ من مدن التاريخ القديم، لا تأنس فيها بأحدٍ ولا يأنس بك فيها أحد، ولا ترى بين يديك إلا نصبًا ماثلةً، وتماثيل جامدة.
ولا يرفه عن نفسك في ساعةٍ من ساعات ضيقك وضجرك نغمة غناءٍ، ولا رنة حداءٍ، ولا خرير نهرٍ، ولا تغريد طيرٍ، ولا حفيف شجرٍ، ولا رفيف ريحٍ، ولا ثغاء شاةٍ، ولا نقيق ضفدع، ولا صرير جندبٍ. سواءٌ لديك ليلك ونهارك، وصبحك ومساؤك، ويقظتك ومنامك، فإن فررت من وحشتك هذه إلى مجتمع من المجتمعات العامة فجلست إلى الناس ساعة تتفرج فيها مما بك، لا تسمع شيئًا مما يقولون، ولا يعنيهم أن يسمعوا شيئًا مما تقول. فإن قلبت نظرك في وجوههم لتتسقط حرفًا من حروفهم، أو تتفهم حركةً من حركات شفاههم، أو إشارةً من إشارات أيديهم، أنكروا عليك نظراتك، وسخروا منك فيما بينهم وبين أنفسهم. لا بل ربما صارحوك بكلمتهم التي يضمرونها في أنفسهم، ورموا بها في وجهك من حيث لا تعلم. فإن رأوا منك أنك تقتضب الأحاديث اقتضابًا، وتذهب منها في أوديةٍ غير أوديتهم، وأنك تحدثهم فلا تحسن تقدير صوتك على مقياس أسماعهم؛ فتعلو به عليها أو تنزل به دونها، وأنك تبتسم في موضع التقطيب وتقطب في موضع الابتسام، أصبحوا ينظرون إليك بتلك العين التي ينظرون بها إلى الأطفال الصغار، والبله الأغرار. فإن ألممت بسر نظرتهم هذه إليك ألمَّ بك من الحزن والهم ما لا طاقة لك باحتماله، وأصبحت ترتاب بكل نظرةٍ تتجه إليك، وكل ابتسامة تتراءى لك، واعتادك سوء الظن بكل جالسٍ يجلس إليك من أصدقائك وعشرائك، بل من أبويك وأهليك، فلا يكاد يسلم لك صديق، أو يصفو لك حميم.
فإن فررت من الناس نجاةً بنفسك من لؤمهم وقسوتهم، فررت إلى خلوةٍ موحشة قاتمة تتراءى لك فيها خيالات الذكرى المؤلمة كلما وازنت بين حاضرك وماضيك، وقارنت بين ما كنت ترجو لنفسك في أيامك الأولى، وما انتهى إليه أمرك في أيامك الأخرى، فلا تنفعك خلوة، ولا يؤنسك اجتماع.
وأخوف ما أخاف عليك إن استمرَّ بك هذا الشأن — ولا أسأل الله دوامه — وظللت تنطق ولا تسمع، وتقول ولا تفهم ما يقال، أن تصبح في يوم من أيامك لا سامعًا ولا ناطقًا، فالسماع مادة النطق التي يستمد منها قوته وحياته، ومن لا يسمع لا يحسن النطق، ومن لا ينطق لا يحسن التفكير.
وكثيرٌ عليك يا بني وأنت زهرةٌ يانعة في روض الشباب وابتسامةٌ لامعةٌ في ثغر الآمال، وفجر مشرق في سماء الحياة، أن تصعد على هذه الربوة الزاهرة المخضلة من ربا الحياة، فلا تلبث إلا قليلًا حتى يمر بك فارس الدهر فيختطفك من مكانك ثم لا يعدو بك إلا قليلًا حتى يلقيك على هذه الصخور الصماء.
فوا رحمتاه لك يا بني مما بك اليوم، ومما يستقبلك به الدهر غدًا! فأسأل الله تعالى لك أن يرفع عنك محنتك، أو يمنحك عينًا ثرةً من الدمع لا ينضب معينها، تسكب منها صباح كل يوم ومساءه سَجلًا على فؤادك الملتاع فتبرد غلته، وتفثأ لوعته، فالدموع هي الرحمة العامة التي يلجأ إليها المنكوبون والمحزونون يوم لا يجدون لأنفسهم في مذهب من مذاهب الأرض، ولا في سبيل من سبل السماء ناصرًا ولا معينًا، والسلام عليك — من الراثي لك، الباكي عليك — ورحمة الله.