جرجي زيدان
لا أعلم أين تذهب نفس الإنسان بعد موته، ولا أين مكانها الذي تستقر فيه بعد فراق جسدها، ولا ما هي الصلة التي تبقى بين المرء وبين حياته الأولى بعد رحيله عنها? فإن كان صحيحًا ما يقولون من أن ساكن القبور يستطيع أن يجد بين صخورها ورجامها منفذًا يشرف منه على هذه الدار فيسره ما ترك وراءه فيها من ذكرٍ جميلٍ، وثناء عاطرٍ، وسيرةٍ صالحةٍ، ومجدٍ باقٍ، فإن نصيب جرجي زيدان اليوم من الهناء والغبطة بما ترك في حياته الأولى من جليل الآثار، وصالح الأعمال، أوفر الأنصبة وأجزلها.
ما أنعم الله على عبده نعمةً أسنى قيمةً، ولا أغلى جوهرًا، ولا أحسن أثرًا من نعمة اليقين بالجزاء الصالح على العمل الطيب، فهو يعتقد أنه مجزيٌ على عمله، مكافأٌ به، مؤمنًا كان أم ملحدًا، معترفًا بنعيم الآخرة أم منكرًا له. فإن كان الأول ساقه إلى العمل الصالح شغفه بجنة الخلد وحورها وولدانها، ولؤلئها ومرجانها، وروحها وريحانها، وإن كان الثاني ساقه إليه شغفه بالذكر الجميل، والسيرة الصالحة، والحياة الباقية في ألسنة الأجيال وبطون التواريخ، ولولا هاتان الجنتان — جنة المؤمنين وجنة الملحدين — ما جد في هذه الحياة جاد، ولا عمل فيها عامل.
إنَّ ميدان الحياة أضيق من أن يسع بين غايتيه العمل الصالح والجزاء عليه معًا، وكيف يسعهما والمرء لا يكاد يفرغ في حياته من عمله الذي يتوقع عليه الجزاء قبل أن تنطفئ ذبالة حياته، وتحترق فحمة شبابه، حيث تموت في قلبه لذة العظمة، وتنضب في فؤاده شهوة المجد، فإن فرغ منه قبل ذلك لا يترك له حساده ومنافسوه ساعةً من ساعات فراغه يستطيع أن يسكن فيها إلى نفسه ليستشعر برد الراحة ولذة الجزاء، فلا بد أن يكون للجزاء حياة أخرى غير هذه الحياة، إما حياة الأجر، أو حياة الذكر.
مات جرجي زيدان فنحن نبكيه جميعًا، أما هو فيبتسم لبكائنا ويرى في تفجعنا عليه والتياعنا لفراقه منظرًا من أجمل المناظر وأبهاها؛ لأنه يعلم أنَّ هذه الدموع التي نرسلها وراء نعشه أو نمطرها فوق ضريحه إنما هي ألسنةٌ ناطقة بحبه وإعظامه، والاعتراف بفضله، والثناء على عمله، وأنها المداد الإلهي النوراني الذي تكتب به في صحيفة تاريخه البيضاء آيات مجده الخالد، وعظمته الباقية، وذلك ما كان يريد أن يكون.
مات جرجي زيدان فبكاه صديقه؛ لأنه كان يحمد وده وإخاءه، وبكاه جاره؛ لأنه كان يجد في جواره لذة الأنس وجمال العشرة، وبكاه معتفيه؛ لأنه كان ينتفع بماله، وبكاه صنعيته؛ لأنه كان ينتفع بجاهه، وبكاه قارئ كتبه؛ لأنه كان يجد فيها من غزارة المادة وجمال الأسلوب وسهولة التناول ما لا يجد في غيرها، وبكاه قارئ رواياته؛ لأنه كان يجد في خيالها وبراعة تصوراتها عونًا له على هموم الحياة وآلامها، أما أنا فبكيته لأمرٍ فوق ذلك كله.
تطلع الشمس صباح كل يوم من مشرقها على هذه الكائنات؛ ناطقها وصامتها، ساكنها ومتحركها، جامدها وسائلها، فتستمد جميع ذراتها منها مادة حياتها التي تقومها، أو صورتها التي تتشكل بها، وتأخذ منها الأغراس نماءها، والأزهار ألوانها، والنار حرارتها، والأجسام الحية قوتها، والأجسام الجامدة صورتها، والأجواء طهارتها ونقاءها، والآفاق جمالها وبهاءها، وكذلك كان جرجي زيدان في سماء هذه البلد.
كان بطلًا من أبطال الجد والعمل، والهمة والنشاط، يكتب أحسن المجلات، ويؤلف أفضل الكتب، وينشئ أجمل الروايات، ويناقش ويناضل، ويبحث وينقب، ويستنتج ويستنبط، ويجيب السائل ويفيد الطالب في آنٍ واحد، لا يشغله شأن من تلك الشئون عن غيره، ولا يشكو مللًا ولا ضجرًا، ولا يستشعر خورًا ولا فتورًا، فكان القدوة الحسنة بين فريق المستنيرين من المصريين، يتعلمون منه أن قليلًا من العلم يتعهده صاحبه بالتربية والتغذية ثم يقوم على نشره وإذاعته بين الناس أنفع له ولأمته من العلم الكثير والعمل القليل.
ولو شئت أن أقول لقلت: إنَّ جرحي زيدان كان رئيس البعثة العلمية السورية التي وفدت إلى مصر في أواخر القرن الماضي فغيرت وجه العالم المصري تغييرًا كليًّا، وغرست في صحرائه القاحلة المجدبة أغراس الجد والعمل، والشجاعة والإقدام، والهمة والاستقلال، وعلمت أبناءه كيف يؤلفون ويترجمون، وينشئون الجرائد والمجلات، وكيف يتخذون من هذا العمل الشريف صناعةً يقومون بها حياتهم المادية وحياة أمتهم الأدبية، ويتقون بها مذلة الوقوف على أبواب الدواوين صباح مساء يتكففون رؤساءها ويسألونهم أن يتخذوهم عبيدًا لهم يخدمونهم على موائد عزهم وسعادتهم التي يجلسون عليها، فإما عطفوا عليهم فألقوا إليهم بالنزر الخسيس من فتات تلك الموائد، وإما طردوهم منها كما يطردون الكلاب العاوية.
وكان شريف النفس، بعيد الهمة، متجملًا بصفات المؤرخ الحقيقي الذي لا يتشيع ولا يتحيز، ولا يداهن ولا يجامل، ولا يترك لعقيدته الدينية مجالًا للعبث بجوهر التاريخ وحقائقه، فكتب — وهو المسيحي الأرثوذكسي — تاريخ الإسلام في كتبه ورواياته كتابة العالم المحقق الذي لا يكتم الحسنة إذا رآها، ولا يشمت بالسيئة إذا عثر بها، فاجتمع بين يديه في مجلس علمه من أبناء الأمة الإسلامية خاصتها وعامتها، عربها وعجمها، جمعٌ لم يجلس مثله بين يدي عالم من علماء الإسلام ولا مؤرخٍ من مؤرخيه في هذا العصر، فأقام بهذا العمل العظيم لهذا الدين القويم حجته أمام أولئك المتعصبين من الأوروبيين الذين لا يثقون في خبرٍ من أخباره ولا في بحثٍ من أبحاثه بحديث شيعته وأبنائه. وكان في تسامحه هذا القدوة الصالحة للمؤرخ، يتعلم منه كيف يكتب التاريخ بلسان التاريخ لا بلسان الدين، والمثل الأعلى للعالِم يتعلم منه كيف يستطيع أن يتجرد من عواطفه وميول نفسه وخواطر قلبه أمام الأمانة للعلم والوفاء بحقه.
وكان مستقيمًا في عمله، أمينًا في علائقه، لا يكذب ولا يتلون، ولا يخيس بعهده، ولا ينكث وعده، ولا يكسو بضاعته لونًا غير لونها ليزخرفها على الناس ويجملها في عيونهم، فتعلم منه العاملون أنَّ الكذب في المعاملة ليس شرطًا من شروط الربح، ولا سببًا من أسباب النجاح.
وكان واسع الصدر، فسيح رقعة الحلم، وقف له في طريق حياته — كما وقف لغيره من قبله ومن بعده — فريق المقاطعين في هذا البلد الذين لا ينطقون، ولا يسكتون عن مقاطعة الناطقين، فلبسوا ثوب الانتقاد ليشتموه، وكمنوا وراء أكمة الدين ليرموه فيصموه، وقالوا: إنه شوه وجه التاريخ الإسلامي، وعبث بحقائقه، ولم يسألوه من أين نقل؟ ولا كيف استند؟ بل سألوه لم لم يكتبه كما كتبوا، ويستنج منه مثل ما استنتجوا؟ كأنما لم يكفهم منه أن يروه بينهم مسيحيًا متسامحًا حتى أرادوا منه أن يكون مسلمًا متعصبًا، يكتب التاريخ بلسان الدين كما يكتبون، وينهج فيه كما ينهجون، فلما لم يجدوه حيث أرادوا رموه بسوء القصد في عمله، وخبث النية في مذهبه، ولم يستطيعوا أن يروضوا أنفسهم الجامحة على أن يقولوا: إنَّ الرجل باحثٌ مستنتج، يخطئ مرةً ويصيب أخرى. أو يقولوا: إنَّ له في تاريخ الإسلام حسنات تصغر بجانبها سيئاته فيه فلنغتفر هذه لتلك. وما أحسب أن أحدًا منهم كان يعتقد شيئًا مما يقول، ولكنهم كانوا يرون أنَّ الدين سلعةٌ تباع وتشترى، وأنَّ سلعته ملكٌ لهم ووقف عليهم، لا يجب أن تعرض في حانوت غير حانوتهم، وكانوا يظنون أنَّ الرجل تاجرٌ مثلهم يريد أن يفتح في سوقهم الحانوت التي يخافونها، فاستوحشوا منه وأنكروا مكانه، واستثقلوا ظله، وقالوا مرة: إنه مسيحي لا يؤمَن على الإسلام ولا على تاريخه، كأنما ظنوا أنه ينقل حوادث التاريخ ووقائعه من توراة موسى أو إنجيل عيسى، وقالوا أخرى: إنه سوريٌ دخيل وفد على هذا البلد مسترزقًا أو متجرًا، فما هو بمخلصٍ ولا بأمين، وفاتهم — عفا الله عنهم — أنه إن كان ضيفًا، فليس من أدب الضيافة ولا من خلال المروءة والكرم أن يمن المضيف على ضيفه بيده عنده، وأن يعد عليه لقيماته التي يطعمها على مائدته، وإن كان تاجرًا فقد باعهم بهذا النزر الخسيس من متاع الدنيا وزخرفها جوهر عقله، وينبوع ذكائه، ومادة حياته، فما كانوا من الخاسرين، ولا كان من الرابحين.
ووالله ما أدري كيف تتسع صدروهم للخمَّار الرومي واللص الإيطالي وللفاجر الأرمني أن يفتح كل منهم في كل موطئ قدم من مدنهم وقراهم حانًا يسلب فيه عقولهم، أو مقمرًا يسرق فيه أموالهم، أو ماخورًا يهتك فيه أعراضهم، فلا يطاردونه ولا يحاربونه، ولا يسمونه دخيلًا ولا واغلًا، ثم يضيقون ذرعًا بالعالم السوري أو العراقي أو المغربي ينزل أرضهم نزول الديمة الوطفاء بالصحراء المحرقة، فيعلمهم العلم، ويهذب نفوس أبنائهم، ويثقف عقول ناشئتهم، ويبعث في نفوس ضعاف العزائم منهم روح الهمة والنشاط، والشجاعة والإقدام.
ذلك هو شقاء الأمم، وهذا جواب السائلين عن أسباب سقوطها وانحطاطها.
لم يضق الرجل ذرعًا بهذا كله، بل كان شأنه معهم أن كان يعتب عليهم، ولا يشتمهم، وينبههم إلى أدب المناظرة وواجباتها ولا يؤنبهم، ويدعوهم إلى اتخاذ كلمة الحق سواء بينه وبينهم، ولا يمكر بهم. حتى انقلب عنهم يحمل لواء الفضيلة والحلم، وإن كان مخطئًا، وانقلبوا عنه يحملون فوق ظهورهم رذيلة التعصب والجهل وسوء الخلق وضيق العطن وإن كانوا مصيبين.
ولقد وضع بخطته هذه في مناظرة خصومه ومجادلتهم أول حجرٍ في بناء الأخلاق الفاضلة في هذه الأمة، فتعلم منه كثيرٌ من أدباء هذا البلد وعلمائه كيف يستطيعون أن يتناظروا ولا يتشاتموا، وأن يتعاونوا على الحقيقة المبهمة فيكشفوا الغطاء عن وجهها دون أن يريقوا في معاركهم قطرةً واحدة من دم الفضيلة والشرف. فإن تم لهذه الأمة في مستقبل حياتها حظها من شرف الأخلاق وعلو الهمة ونبالة المقصد في جميع شئونها وأغراضها، فلتذكر دائمًا أن جرجي زيدان كان أحد الذين أسسوا في أرضها هذه الدولة الفاضلة، دولة الآداب والأخلاق.
نحن لا تعوزنا المؤلفات ولا المترجمات، فالمؤلفون والمترجمون والحمد لله كثيرون، وإنما الذي يعوزنا روحٌ عاليةٌ تخفق في سماء هذه الأمة خفوق النجم في سمائه، وتشرق في نفوس أبنائها إشراق الشمس في دارتها؛ فتبعث العزيمة في قلب العاجز، والشجاعة في فؤاد الجبان، وتقوم من الأخلاق معوجها، وتصلح من الآداب فاسدها، وتثبت من العقول مضطربها، وتعلم كل صغيرٍ وكبيرٍ وقويٍّ وضعيفٍ أنَّ قيمة المرء في حياته أداء واجبه للإنسانية أولًا، ولأمته ثانيًا، ولنفسه أخيرًا. وأنَّ الحب سعادة الإنسان، والبغض شقاؤه وبلاؤه. وأنَّ الفرق بين الدين الخالص والدين المشوب أن الأول يتسع صدره لكل شيءٍ حتى لمخالفيه ومحاربيه، وأنَّ الثاني يضيق صدره بكل شيء حتى بنفسه، وأنَّ الله تعالى أوسع رحمة وأعلى حكمةً من أن يسد في وجوه عباده كل طريق للوصول إليه إلا طريق السيف والنار. وأنَّ هذه الأحقاد الدنيئة التي تلتهب في صدور الناس التهابًا لا تؤججها في صدروهم الأديان نفسها، بل رؤساء الأديان الذين يستخدمونها ويستثمرونها، ويتجرون بها في أسواق الغباوة والجهل. وأنَّ الذين يقدسون هذه الأحقاد ويباركونها ويعتبرونها جزءًا من ماهية الدين ومقومًا من مقوماته، إنما يقولون من حيث لا يشعرون: إنَّ الإلحاد في العالم، والفوضى الدينية فيه، وعبادة الشمس والقمر، والترب والحجر، أنفع للمجتمع الإنساني وأحسن عليه عائدةً من عبادة الإله المعبود.
ولقد كان جرجي زيدان روحًا من تلك الأرواح العالية تمنيناها برهةً من الزمان حتى وجدناها، فلم ننعم بها إلا قليلا ثم فقدناها أحوج ما كنا إليها؛ فذلك ما يبكينا عليه ويحزننا على فراقه.
•••
الكاتب كالمصور، كلاهما ناقلٌ، وكلاهما حاكٍ، إلا أن الأول ينقل مشاعر النفس إلى النفس، والثاني ينقل مشاهد الحس إلى الحس.
وكما أنَّ ميزان الفضل في التصوير أن تكون الصورة والأصل كالشيء الواحد، كذلك ميزان الفضل في الكتابة أن يكون المكتوب في الطرس خيال المكنون في النفس.
بهذه العين التي لا أزال أنظر بها دائمًا إلى الكتابة والكُتَّاب، وأوازن بها بين أقدارهم ومنازلهم، كنت أقرأ ذلك الأسلوب العذب البديع الذي كان يكتب به المرحوم جرجي زيدان كتبه ورواياته، فأتخيله مرآةً نقيةً صافيةً قد ارتسمت فيها صورة نفسه جليةً واضحة لا غموض فيها ولا إبهام.
وقليلًا ما كنت أجد في نفسي هذا الشعور عند النظر في كتابة كاتبٍ سواه؛ لأن الكاتب إن استطاع أن ينال ثناء الناس وإعجابهم ببلاغة لفظه، أو براعة معناه، أو سعة خياله، أو قوة حجته، فإنه لا يستطيع أن ينال الثقة من نفوسهم إلا إذا كان من الصادقين المخلصين.
كنت أرى عذوبة نفسه في عذوبة لفظه، وطهارة قلبه في طهارة لسانه، وصفاء ذهنه في وضوح أغراضه ومراميه، وجمال ذوقه في جمال ملاحظاته واستنتاجاته، وكان خير ما يعجبني منه ترفعه عن مجاراة المتكبرين من الكُتَّابِ في كبريائهم، ونزوله في كثير من مواقفه إلى منازل العامة ليحدثهم بما يفهمونه؛ لأنه كان من كُتَّابِ المعاني لا من كُتَّابِ الألفاظ، ولأنه كان يؤثر أن يتعلم عنه الجاهلون على أن يرضى عنه المتحذلقون.
وإنْ كان الرجل هو الأسلوب كما يقولون، فلا أعلم أنَّ أحدًا في هذا البلد كان أولى بوصف الكاتب من المرحوم جرجي زيدان، فوا رحمتاه له، ووأسفا عليه!