الانتقام
١
قضى المسيو «كابريني» برهةً طويلة من أيام حياته سعيدًا مغتبطًا بزوجةٍ جميلة وثروةٍ صالحة وخلقٍ طيب شريف يحببه إلى الناس جميعًا. ثم نكبه الدهر نكبةً عظيمة ذهبت بماله وبزوجته، فبكاهما ما شاء الله أن يفعل، ثم بلَى حزنه كما تبلَى جميع الأحزان في قلوب الناس، ولم يجد بدًّا من أن يعيش لابنته «إيلين» ليتولى تربيتها وإسعادها.
فالتحق بمصرفٍ من المصارف المالية بمرتب قليل، ثم لم يزل يجد ويجتهد في خدمة العمل الذي وكل إليه حتى أصبح بعد مدة قصيرة وكيلًا لذلك المصرف. فكان يعمل فيه سحابة نهاره ثم يعود ليلًا إلى منزله فيرى ابنته منهوكةً مضعضعة لكثرة ما كانت تبذل من الجهد في خدمة المنزل ومناظرة شئونه. فرأى أن يتزوج ليخفف عنها بعض متاعبها وآلامها، ففعل. وكان سيئ الحظ في اختياره، فتزوج من امرأةٍ فاسدةٍ خليعة، لا همَّ لها في حياتها سوى ترفيه عيشها، وتدليل نفسها، والتقلب بين أعطاف شهواتها ولذائذها. فلم ينتفع منها بشيء، بل زادت همومه وآلامه وأثقال عيشه. ولكن ماذا يعمل وقد وضعت السلسة في عنقه وانتهى الأمر، وأصبحت ابنته — بعد أن كانت سيدة بيتها وأميرة نفسها — أسيرةً في يد امرأةٍ قاسية داهية، تسومها أنواع الخسف وألوان العذاب. فكانت تحتمل ذلك كله بصبرٍ وجلدٍ، وكانت تكتمه أباها كتمانًا شديدًا ضنًّا براحته وسكونه. بل كانت تكتم عنه علائق زوجته وصلاتها بمعارفها وأصدقائها، رحمةً به وإشفاقًا عليه.
وكثيرًا ما كان يعود إلى منزله في بعض لياليه حاملًا بعض دفاتر المصرف في يده ليتمم فيها العمل الذي أعجله الوقت عن إتمامه هناك. فيجلس إلى مكتبه ساهرًا ليله، مكبًّا على عمله، ذائدًا النوم عن عينيه حتى يغلبه على أمره، فينام في مكانه والقلم معلقٌ بين أصابعه في الساعة التي تكون فيها زوجته بين جمع من أصدقائها وعشرائها في بعض الملاعب أو الحانات راقصةً لاهيةً، عابثةً بجميع الفضائل الإنسانية. فإذا استيقظت ابنته أثناء الليل ورأته على هذه الحالة مشت إليه برفق وهدوء، وجلست على كرسي أمامه، واجتذبت إليها الدفتر الذي بين يديه وأتمت فيه العمل من حيث قطعه. ثم توقظه بعد ذلك لينام في فراشه، فيشكر لها يدها ومعونتها، ثم يسألها سؤال الممتعض المتمرمر: ألم تعد فلانة حتى الآن؟ فتجيبه أن لا، فيذهب إلى سريره حاملًا بين جنبيه من الهم والألم ما الله به عليم.
وجملة القول أنَّ الرجل كان شقيًّا منحوسًا، يسير من شئون حياته في ظلمةٍ داجية لا ينتهي بصره فيها إلى مدًى، ولا يرى في سمائها نجمًا يتنوره إلا ذلك النجم الضئيل الذي كان يلمع من حين إلى حين في جبين ابنته الراحمة الشفوقة، فيتنفس أمامه تنفس الراحة، ويأذن لفمه أن يبتسم في ضوئه ابتسامة الغبطة والسرور.
فإنه لجالس ذات يومٍ في غرفة مكتبه من المصرف إذ دعاه إليه مديره وأعطاه ورقةً مالية، قيمتها خمسة آلاف فرنك ليودعها الخزينة، ويسجلها في دفاتر المصرف. فتناولها منه وعاد بها إلى غرفته، ووضعها على مكتبه، وتناول الدفتر ليقيدها، فما أمسك القلم بيده حتى دخل عليه بواب المصرف وقال له: إنَّ فتاةً من هيئتها كيت وكيت واقفةٌ بالباب تسأل عنك، وهي تكتم اسمها، وتأبى الدخول إلى هنا. فاضطرب اضطرابًا شديدًا، ومر بخاطره أنها ابنته، وأنَّ حادثًا عظيمًا حدث بالمنزل دعاها إلى الحضور إليه في المصرف وما حضرت إليه قبل اليوم. فترك كل شيءٍ في مكانه وخرج مسرعًا ليراها، فإذا هي بعينها واقفة بجانب الجدار وقفة الحياء والخجل، وإذا بيدها كتاب تحمله إليه من زوجته، فاختطفه منها وقرأه، فإذا هي تقول له فيه: إنها تريد أن يرسل إليها في هذه الساعة أربعة آلاف فرنك لتبتاع بها حليةً جميلةً رأتها في بعض المخازن، وإنها إن فاتها أن تبتاعها اليوم فربما لا تجدها غدًا. فانفرجت شفتاه عن ابتسامة الغيظ والألم، وأخذ ابنته ناحية وقال لها: بلغيها أنني لا أملك هذا المبلغ اليوم ولا غدًا، ولا أستطيع ذلك العام كله. ثم ألقى عليها نظرة العاتب لحضورها إليه في المصرف، وكان لا يحب ذلك منها، فأطرقت برأسها، ولم تقل شيئًا؛ لأنها لا تستطيع أن تقول له: إن زوجته هي التي أرغمتها على ذلك، فتزيد همومه همًّا جديدًا، ثم عادت أدراجها.
وكان بين عمال المصرف عامل سيئ الأخلاق، فاسد النفس والضمير، ما زال مذ دخل هذا المكان يرصد الغفلة من مديره أو وكيله، علَّه يتوصل إلى اختلاس شيءٍ من المال. فدخل غرفة الوكيل في اللحظة التي خرج فيها لمقابلة ابنته ليقدم إليه بعض الأوراق فلم يجده، ولمح الورقة المالية التي تركها على المكتب، فحدثته نفسه باختلاسها، فدار بنظره هاهنا وهاهنا ثم انقض عليها ووضعها في جيبه، وخرج متسللًا لم يشعر أحدٌ بدخوله ولا بخروجه، وما هي إلا لحظة حتى عاد المسيو «كابريني» وفي يده الكتاب الذي أرسلته إليه زوجته فمزقه وألقى به في السلة، ثم ألقى نظره على المكتب فلم يرَ الورقة المالية حيث تركها، فذعر ذعرًا شديدًا، وأخذ يفتش عنها في كل مكانٍ فلم يجدها، فاشتد حزنه وهمه، وأخذ يسأل العمال والخدم عمن دخل غرفته في غيابه فلم يعترف له بذلك أحد. فظل يصرخ صرخاتٍ عظيمةً تقيم المصرف وتقعده، فسمع المدير الضوضاء، فحضر ليرى ماذا حدث، فأفضى إليه الرجل بالقصة كما هي لم يكتمه منها شيئًا، إلا أنه لم يشأ أن يخبره بموضوع الرسالة التي جاءت بها ابنته ضنًّا بأسراره البيتية أن يعلمها أحدٌ غيره. فارتاب به الرجل، وما كان يعتد عليه بسيئة قبل اليوم، ولا يعرف له ماضيًا مريبًا، ولكنه كان يعلم أنه فقيرٌ مقلٌّ، فظن به الظنون.
وقديمًا كان الفقر ينبوع التهم، ومثار الشكوك والريب، وتركه مكانه وخرج إلى العمال والخدم يحادثهم في هذه الشأن علَّه يصل إلى معرفة الحقيقة، فأخبره البواب أنَّ الفتاة التي حضرت إليه كانت تحمل في يدها كتابًا، وأنه أخذها جانبًا وأسرَّ إليها حديثًا لم يسمع منه شيئًا، فازداد شكه وارتيابه، وعاد إليه فوجده واقفًا في مكانه مذهولًا يقلب كفيه. فلم يقل له شيئًا، وأخذ يدور بعينيه في أنحاء الغرفة ويقلب بيده الأوراق علَّه يعثر بذلك الكتاب الذي أخبره به البواب فلم يجده، فألقى نظره على السلة فرأى تلك المزق الصغيرة فجمعها فإذا هي الكتاب الذي يريده. فقرأه ثم ألقى على الرجل نظرةً شزراء وقال له: إني أتهمك يا مسيو كابريني بأنك اختلست تلك الورقة وأرسلتها إلى زوجتك مع ابنتك لتبتاع بها الحلية الجميلة التي أعجبتها، فدهش الرجل دهشةً عظيمةً، وورد عليه ما طار بلبه وأخذ عليه أنفاسه، فصمت لحظةً، وبعد لأيٍ ما استطاع أن يقول له: نعم إنها أرسلت إليَّ هذا الكتاب ولكنني لم أحفل به، ولم أرسل إليها شيئًا، بل رددتها ردًّا فبيحًا؛ لأنني رجل فقير لا أملك هذا المقدار، ولأنني رجل شريف لا أختلسه. فلم يحفل المسيو «لورين» بدفاعه ولم يرثَ لضراعته واسترحامه، ولم يلبث أن رفع أمره إلى القضاء. فما أتى آخر النهار حتى كان الرجل في السجن، وكانت ابنته المسكينة في حال من الهم والحزن تستثير الأشجان، وتستذرف العبرات. أما زوجته فلم يكن يهمها في تلك الساعة شيء سوى السعي للحصول على ثمن الحلية الجميلة من طريقٍ غير هذا الطريق.
لم ينفع الرجل دفاعه عن نفسه، ولا دفاع ابنته عنه، ولا شهادة الذين شهدوا بشرفه واستقامته من جيرانه وأصدقائه؛ لأن القضاة لا يستطيعون أن يصدقوا أنَّ رجلًا عظيمًا سريًّا مثل المسيو «لورين» صاحب المصرف المشهور يكذب أو يلفق، أو يخطئ في فراسته وتقديره، وأنَّ رجلًا فقيرًا مقلًّا مثل المسيو كابريني يتعفف عن اختلاس المال الذي يقع تحت يده متى وجد السبيل إلى ذلك. وكثيرًا ما ساقت أمثال هذه الأقيسة الفاسدة والنظرات الطائشة الحمقاء الأبرياء والأشراف إلى أعماق السجون، وقضت عليهم وعلى أهليهم القضاء الأخير، كما قضت على هذا الرجل المسكين اليوم. فإن قاضي التحقيق لم يلبث أن سمع شهادة خصمه عليه وعرف قصة الكتاب الذي أرسلته إليه زوجته حتى اقتنع بإجرامه وأحاله إلى محكمة الجنايات.
فاستطير عقل «إيلين» وجنَّ جنونها فلم تجد بدًّا من أن تذهب إلى المسيو لورين لتستعطفه لأبيها، وتضرع إليه أن يساعدها على خلاصه، فذهبت إليه في منزله فاستأذنت عليه فأذن لها فدخلت، فدهش دهشة عظيمة حين رأى أمامه فتاةً جميلةً بارعة، بل آية من آيات الحسن والجمال، لا عيب فيها إلا أنها نحيلة صفراء متضعضعة. وقد يكون الضعف والفتور عند بعض الناس حلية من حلي الجمال، فافتتن بها حين رآها، إلا أنه أخطأ في الحكم عليها كما أخطأ من قبل في الحكم على أبيها، فظن أنه يستطيع أن يستثمر لنفسه ضرورتها وحاجتها، فأخذ يحدثها في الشأن الذي جاءت من أجله، ثم ذهب معها في الحديث مذاهب أخرى لم تفهم غرضه منها إلا بعد حين؛ لأنها لم تألف سماع مثلها قبل اليوم، فأخذ وجهها يَرْبَدُّ شيئًا فشيئًا، ثم انتفضت انتفاضة الليث في غيله، وألقت عليه نظرةً هائلة لو ألقتها على رجل غيره لَصُعِقَ في مكانه. ولكنه كان رجلًا وقاحًا متبلدًا فلم يحفل بنظرتها، وتقدم نحوها وحاول أن يغلبها على أمرها، فدافعت عن نفسها دفاعًا شديدًا حتى عجزت، فأرادت الفرار من بين يديه فاعترض طريقها، فدارت بنظرها في أنحاء الغرفة تتلمس سبيلًا إلى الخلاص، فوقع نظرها على مسدس كان فوق مائدته، فاختطفته لتهدده به، فانطلقت منه رصاصة خطأ فأصابته في ذراعه، فصرخ صرخةً عظيمة، وما هي إلا لحظات قلائل حتى قبض عليها، وسيقت إلى السجن بتهمة أنها دخلت على المسيو «لورين» في منزله لتسأله أن يساعدها على تبرئة والدها فلم يحفل بها؛ فأخرجت مسدسًا كانت تخفيه في طي ردائها، وأطلقته عليه لتقتله، فلم تصبه إلا في ذراعه.
وقد كان في استطاعه المسيو لورين أن يعترف بالحقيقة التي يعرفها حق المعرفة فلم يفعل، ولو فعل لما ضره ذلك شيئًا، وما هي إلا أيام قلائل حتى حكمت عليها محكمة الجنايات بالسجن خمس سنين، وكانت قد حكمت على أبيها قبل ذلك بالسجن عامين.
٢
دخلت «إيلين» سجن النساء لتقضي فيه المدة المقدرة لها، ووضعت في غرفةٍ واحدةٍ مع امرأةٍ عجوز ساقطة، قضت جزءًا عظيمًا من حياتها في هذا المكان المظلم القاتم، حتى ألفته وجمدت نفسها عليه، فلم تعد تحفل بشيء في هذا العالم، ولا تفكر إلا في الساعة التي يُقدَّم فيها إليها الطعام فتلتهمه التهامًا، وهي تضحك وتتغنى كأنما هي سعيدة هانئة، وكأنها أبعد الناس عن الهموم والأحزان. فذعرت إيلين حين رأتها ذعرًا شديدًا، وتسللت إلى زاويةٍ من زوايا الغرفة فقبعت فيها، واستسلمت لهمومها وأحزانها، ولم تدع قطرة من الدموع في عينها إلا ذرفتها، وأبت أن تتناول الطعام الذي قدمه إليها السجان، فوضعه بين يديها وتركها وشأنها. فبكت ما شاء الله أن تفعل حتى هدأ بعض ما بها، فعمدت إلى كتابٍ صغير من كتب الأخلاق كانت لا تزال تحمله في جيبها ما تفارقه، فأخرجته وأخذت تتلهى بتقليب صفحاته، فكان أول ما وقع نظرها عليه من كلماته هذه الكلمة «العفو أشد أنواع الانتقام.» فانتفضت عند قراءتها انتفاضًا شديدًا، وعلق نظرها بها ما ينتقل عنها، وأخذت تراجع الحوادث التي مرت بها وتستعرضها واحدةً بعد أخرى، وتفكر في المظالم التي نالتها ونالت أباها، وما اقترفا ذنبًا، ولا جنيا على أحدٍ حتى أوردتهما هذا المورد من الشقاء. فشعرت بدبيب الشر في نفسها للمرة الأولى في حياتها، وظلت تقول في نفسها: إنَّ الذين مرت على ألسنتهم أمثال هذه الكلمات إنما كانوا يعيشون في عصر غير هذا العصر، وبين ناس غير هؤلاء الناس، ولو أنهم عاشوا بيننا لكان لهم في العالم وأهليه رأيٌ غير هذا الرأي، ولما اجترءوا على المجازفة بتدوين هذه الأفكار في كتبهم؛ لأن العفو لا يكون انتقامًا إلا من أصحاب الضمائر الطيبة الطاهرة التي يقلقها الذنب ويخجلها العفو والتي تصدر عنها سيئاتها زلاتٍ وهفوات، أما الضمائر القاسية المتحجرة التي لا تعبأ بشيءٍ، ولا تخجل من شيءٍ، فلا يزيدها العفو والصفح إلا تمردًا وطغيانًا.
وإنها لذاهبةٌ هذه المذاهب الغريبة في تصوراتها وخيالاتها إذ دنت منها جارتها العجوز تختلس الخطى اختلاسًا حتى وقفت وراءها ونظرت في الصفحة التي تنظر فيها، فوقع نظرها على تلك الكلمة التي تنعم النظر فيها، فقهقهت ضاحكة بصوتٍ عالٍ غريب، فارتعدت «إيلين» والتفتت وراءها صارخة: ماذا تريدين يا سيدتي؟ قالت: لا تخافي يا بنيتي ولا تراعي، فما أنا بمجنونة كما ظننت وكما يظن سكان هذه الدار، ولكني رأيتك مستغرقةً في هذا الكتاب لا ترفعين نظرك عنه فجئت لأقول لك: دعي الكتب وشأنها لا تحفلي بها، ولا تعولي علي شيءٍ فيها، فإن أصحابها الذين وضعوها غرباء عن هذا العالم لا يفهمون من شئونه شيئًا إلا كما نفهم نحن من شئون عالم الجن أو سكان المريخ، بل هم قوم معتوهون ممرورون، قضوا أيام حياتهم في معتزلاتهم الخاصة المظلمة التي لا توجد فيها نافذة واحدة تشرف على العالم وما فيه، فملوا وسئموا، وأرادوا أن يروحوا عن أنفسهم ويتلهوا بما يسري عنهم مللهم وسآمتهم، فأخذوا يدونون هذه المبادئ التي انتزعوها من جوانب أدمغتهم لا من طبيعة المجتمع الذي يحيط بهم، ويقررون الآراء التي يستحسنونها ويعجبون بها، لا التي تتفق مع طبيعة الكون وخصائصه، فهم ينصحون المجرم أن يقلع عن إجرامه، ثم يخيل إليهم أنه قد أقلع ونزع، فيطلبون إلى من أجرم إليه أن يعفو عنه، قائلين له: «إنَّ العفو أشد أنواع الانتقام.» كأن الفضيلة عندهم هي الحالة الأساسية للنفوس، وكأن الإجرام عرض من أعراضها الطارئة عليها، لا تلبث أن تهب عليه نسمة من نسمات العظة والاعتبار حتى تذهب به. فما أسخف عقولهم، وما أقصر أنظارهم، وما أبعدهم عن فهم حقائق الحياة وطبائع النفوس! دعي الكتب يا بنيتي لا تنظري فيها، وانزعي عنك همومك وأحزانك، وكلي الطعام الذي يقدم إليك هانئةً مغتبطةً لا تلوين على شيءٍ مما وراءك، فسيأتي قريبًا أو بعيدًا ذلك اليوم الذي يفتح لك فيه هذا الباب الموصد دونك، فتخرجين إلى الانتقام من الرجل الذي أساء إليك وساقك إلى هذا المكان، وتنالين منه فوق ما نال منك، كما سأفعل أنا يوم خروجي بالرجل الذي ساءني وأفسد عليَّ حياتي، فليس العفو أشد أنواع الانتقام كما يقولون، بل الانتقام أعظم ملاذِّ الحياة.
فهدأت نفس «إيلين» قليلًا، واستطاعت أن تتناول شيئًا من الطعام الذي قدم إليها، إلا أنها كانت إذا جاء الليل رأت أباها في منامها يقاسي أنواع العذاب وصنوف الآلام في سجنه، فتصبح باكية نادبةً، لا يهون عليها آلامها بعض التهوين إلا ثرثرة تلك العجوز وهذيانها. حتى نامت ذات ليلة فرأته ميتًا على سرير من أسرة مستشفى السجن، تحيط بجثته شمعتان مضيئتان، فاستيقظت فزعةً مذعورةً تبكي وتنتحب، وما هي إلا هنيهة حتى دخل عليها السجان يدعوها لمقابلة مدير السجن، فذهبت إليه، فأبلغها أن أباها توفي الليلة في المستشفى، فصعقت صعقةً كادت تذهب بنفسها، ثم استفاقت فإذا هي في غرفة سجنها. فإذا هي أشد عباد الله بؤسًا، وأعظمهم شقاء.
٣
قضت «إيلين» سنواتها الخمس في سجنها ثم خرجت فمشت معها رفيقتها العجوز تشيعها إلى الباب وتقول لها: لا تنسي يا بنيتي أن تنتقمي من عدوك الذي أساء إليك، وتنكلي به تنكيلًا عظيمًا، وسأتبعك على الأثر عما قريب لأنتقم من عدوي مثلك، وهل لمثلي ومثلك في هذه الحياة الشقية البائسة عزاءٌ غير عزاء الانتقام؟
فودعتها وانصرفت، لا تعلم أين تذهب، ولا أي طريق تسلك، بل لا تعلم أين تجد قوت يومها، أو المضجع الذي تأوي إليه سواد ليلتها، فقد انقطعت صلتها بالعالم كله بعد موت أبويها، وطبع على جبينها «المجرمة» التي خرجت به من سجنها.
ولم تزل سائرةً عدة ساعات حتى شعرت بالتعب والنصب، وأحست بالجوع يعبث بأحشائها، فحدثتها نفسها بالانتحار فرارًا من الألم، وزهدًا في الحياة وظلت تترجح ساعة بين الأنس بهذا الخاطر والنفور منه حتى غلبها على أمرها، فأخذت طريقها إلى النهر، وكانت الليلة داجيةً مكفهرة، تلمع بروقها، وتهطل غيومها، وتدمدم رعودها، وتعصف رياحها، فاستمرت أدراجها حتى إذا لم يبقَ بينها وبين النهر إلا بضع خطوات سمعت قعقعة مركبةٍ مقبلة نحوها من بعدٍ يمزق نور مصباحيها المشتعلين أحشاء الظلمات، فتريثت هنيهة في مكانها حتى مرت المركبة بها فإذا المسيو «لورين» جالسًا بين بضع فتيات خليعاتٍ يعابثهن ويداعبهن، ويقهقه قهقهةً عالية ترن في أجواز الفضاء، فاختبأت وراء بعض الأشجار حتى مر، ثم برزت من مخبئها تحدث نفسها وتقول: ها هو ذا المجرم سعيدٌ في حياته، مغتبط بحظه، يتقلب في أعطاف العيش الناعم لا ينغص عليه عيشه منغصٌ، ولا يكدر حياته مكدر، وهأنذا البريئة الطاهرة التي لم ألوث يدي في حياتي بجريمة، ولم أقترف بيني وبين ضميري إثمًا، أهيم في هذا الوادي الفسيح على وجهي، لا أعرف لي ملجأ، ولا مأوًى، ولا أعرف سبيلًا للعيش ولا مذهبًا، ولو عرفت لما استطعت أن أنتفع بمعرفتي؛ لأنني عند الناس مجرمة قاتلة، ومن ذا الذي يأمن على نفسه أن يتصل بالقتلة المجرمين أو يعطف على بأسائهم وضرائهم؟
لا لا، لا بدَّ أن أعيش، ولا أبد أن أنتقم، وما دامت الشرائع الإلهية والقوانين الوضعية قد عجزت عن أن تنتصف للناس من الناس فلينتصف الناس بأنفسهم لأنفسهم.
وانحدرت من طريق النهر إلى طريق المدينة، وقد ودعت في تلك اللحظة جميع خواطر الخير التي ملأت فضاء نفسها طول حياتها، وخلعت ذلك الثوب الجميل المتلألئ الذي لبسته مذ برزت إلى الوجود حتى اليوم — ثوب الشرف والكرامة والطهارة والأدب — واستحالت نفسها الطاهرة الكريمة إلى نفسٍ أخرى غيرها لا صلة لها بها، فلم ينحدر برقع الظلام عن وجه الصباح حتى رآها الناس مع أحد العمال المريبين هادئةً ساكنة، باسمةً متطلقة، لم يبقَ في وجهها من دم الحياء إلا قطرات، قد أخذ لونها يستحيل شيئًا فشيئًا إلى لون البياض لتلحق بأخواتها.
٤
وكذلك هوت تلك الفتاة المسكينة البائسة في تلك الهوة التي حفرها المجتمع الإنساني لأمثالها من الفتيات البائسات، فظلت تنتقل من يدٍ إلى يد، ومن مضجعٍ إلى مضجع، وكأن الحظ الذي فارقها وتجهم لها في حياة الطهارة والعفة أقبل عليها بوجهه الباسم المتهلل في حياة السقوط والفساد، فما هي إلا أيام قلائل حتى طلعت في سماء باريس نجمًا ساطعًا متلألئًا تنير كل أفق تشرق فيه، وتعطر كل أرض تخطر بأرجائها، وتعبث بألباب الرجال عبث النسائم بأوراق الأشجار.
فإنها لجالسة ذات ليلة في مقصورةٍ من مقاصير بعض الملاعب التمثيلية في جمع من أصدقائها المفتتنين بها، إذ وقع نظرها على خصمها المسيو «لورين» جالسًا في المقصورة المقابلة لها مع إحدى خليلاته، فانتفضت حين رأته، وثارت في نفسها ثائرة الغيظ والحنق، وظلت تردد النظر في وجهه طويلًا، فلمحها وهي تنظر إليه، فأعجبه منظرها البارع الجميل، إلا أنه لم يعرفها، فقد تغير كل شيءٍ فيها حتى ملامحها وشمائلها. فما انتهى الفصل الأول من الرواية حتى نهض من مكانه مسرعًا وذهب يرود حول مقصورتها حتى التقى بأحد أصدقائه في دهليز المقاصير فسأله عنها، فأخبره أنها السيدة «لوسي» المارسيلية الحسناء، أجمل فتاة وفدت إلى باريس في هذا العام. فتوسل إليه أن يقدمه إليها ففعل، فأحسنت ملتقاه، وقد أضمرت له في نفسها شر ما يضمر عدوٌّ لعدوه، وأقبلت عليه تحدثه وتتلطف به، وتمد له الحبالة التي اعتادت أن تمدها كل يوم لأمثاله، فما لبثت أن وقعت من نفسه، وملكت عليه جميع مشاعره، ثم رفع الستار فاستأذنها إلى مقصورته، وقد حلت من قلبه محلًّا لم يحله أحدٌ قبلها.
وفي صباح اليوم الثاني أرسل إليها مع بعض رسله باقةً جميلة من الزهر قد دس بين أوراقها عقدًا بديعًا من اللؤلؤ الثمين، فابتهجت به حين رأته، لا لأنها في حاجة إلى العقود والدمالج؛ بل لأنها علمت أنها قد وضعت يدها على الزمام الذي تقوده به إلى الهلاك. ثم زارها على الأثر وخر جاثيًا تحت قدميها مقدمًا لها قلبه وحياته، وكل ما تملك يده؛ أي إنه جثا تحت قدمي تلك الفتاة البائسة المسكينة التي جثت تحت قدميه منذ سنواتٍ تسأله أن يساعدها على فكاك أبيها من سجنه وتضرع إليه أن يغفر له ذنبه إليه، إن كان يعتقد أنه مذنب، فلم يفعل، ولو أنه فعل لابتاع بثمنٍ قليلٍ لا يوازي ربع ثمن العقد الذي قدمه الآن إليها قلبًا طاهرًا نقيًّا، لم تلوثه الذنوب والآثام، ولم تعبث به الأهواء والشهوات، وعاش عيشًا طاهرًا شريفًا مع خير الزوجات وأفضلهن خلقًا وخُلُقًا. ولكن هكذا قدر لهؤلاء المساكين الضعفاء أن يضنوا بالنزر اليسير من أموالهم على ابتياع القلوب الشريفة الطاهرة، حتى إذا لوثتها الذنوب والآثام وأصبحت نهبًا مقسمًا في أيدي الشهوات، بذلوا في سبيل الوصول إليها جميع ما تملك أيديهم، حتى شرفهم وحياتهم، فقد ابتاع المسيو «لورين» لخليلته الجديدة قصرًا جميلًا أثثته أثاثًا حسنًا، ونزل على حكمها في كل ما تريد وتشتهي، حتى أنفق عليها في عام واحد كل ما تملك يمينه، ثم اضطر أن يعبث بودائع الناس المودعة في مصرفه، فمشى في ذلك المزلق المنحدر مدًى بعيدًا أشرف منه على الخطر العظيم.
ثم حدث بعد ذلك أن فتحت سوقٌ للإحسان في باريس، وكانت «لوسي» إحدى النساء اللواتي وقع عليهن الاختيار لبيع الأزهار فيها، وكان تجار تلك السوق أجمل نساء باريس على الإطلاق، فجلست في حانوتها المعد لها، وقد أمسكت بيدها زهرةً تعرضها للبيع، وتعد من يبتاعها منها أن يتناولها بفمه من فمها، فازدحم حولها كثيرٌ من الأغنياء يتزايدون في ثمن تلك الزهرة، حتى برز رجل من بينهم اسمه الكونت «مارسيال» فعرض فيها خمسمائة فرنك، فقالت: لا أبيعها إلا بألف، فأمسك الكونت، وأمسك الناس جميعًا، وإنهم لكذلك إذ بالمسيو «لورين» يتقدم بهدوء وسكون وفي يده ورقة بألف فرنك، فوضعها بين يدي لوسي، وقال لها: لا يبتاع منك زهرتك يا سيدتي أحدٌ سواي، فوضعتها بين ثناياها، فتناولها منها بفمه بأسلوب رقيق حسده عليه مزاحموه جميعًا، وخاصة الكونت مارسيال، فقد انصرف من موقفه هذا وهو يقول: ما رأيت في حياتي صاحب مصرفٍ يذهب في حياته هذا المذهب من البذخ والإسراف، ويبعثر المال بلا حيطةٍ ولا حذرٍ كهذا الرجل، وما أحسب أن ثروته الخاصة تتسع لكل هذا، فلا بدَّ أن يكون لصًّا دنيئًا يسرق ودائع الناس ويبددها، فويل للمساهمين في مصرفه، ورحمة الله على أموالهم جميعًا. وكان يتكلم بصوت عالٍ يسمعه الناس جميعهم، وليس بين الأحاديث حديثٌ أسيَر ولا أذيَع من حديث السوء! فمشت كلماته في المجتمعات العامة والخاصة، فاضطرب لها المساهمون وأصحاب الودائع اضطرابًا عظيمًا، ووصل الخبر إلى أعضاء مجلس إدارة المصرف، فهالهم الأمر، وأشفقوا على سمعة مصرفهم أن تنال منها هذه الأراجيف فيسقط سقطة لا قيام من بعدها، فقرروا الاجتماع في يوم معين لمراجعة حسابه، وتفقد أمواله.
فلما علم ذلك المسيو «لورين» أخذ يزوِّر في الصكوك، ويعبث بدفاتر الحساب. طلبًا للخلاص من التبعة، فلم يُجدِه ذلك شيئًا، فقد فهم مجلس الإدارة كل شيءٍ، فلم يرَ بدًّا من أن يرفع الأمر إلى القضاء، ففعل. والمسيو «لورين» مستغرق في شهواته ولذاته، جاثٍ ليله ونهاره تحت قدمي خليلته، لا يشعر بشيء مما يجري حوله. لولا أن أحد أصدقائه من المحامين وقف على جلية الخبر فزاره في منزله ليخبره به فلم يجده، فذهب إلى منزل «لوسي» فوجده، فأخبره أنَّ الأمر قد صدر بالقبض عليه، وأنه إن لم يبادر بالسفر في الحال فقد هلك إلى الأبد. فأشار إلى «لوسي» أن تعد له حقيبة ملابسه، وأن تهيئ نفسها للسفر معه، وهو أعظم الناس ثقة بها، وبحبها وإخلاصها، فتظاهرت بالإذعان لأمره والرثاء له، ولكنها لم تلبث أن خرجت من الغرفة حتى هرعت إلى غرفة «التليفون» وبلغت رئيس الشرطة خبر عزمه على الهرب، وأشارت عليه بإرسال من يقبض عليه في الحال.
ثم أمرت الخدم بإغلاق الأبواب والوقوف في وجهه إن أراد الفرار، ثم عادت إليه، فسألها: هل أعددت كل شيء؟ فنظرت إليه نظرةً غريبةً لم يفهم معناها، ثم انفجرت ضاحكةً بصوتٍ عالٍ، فدهش وسألها ما بالها، قالت: لا شيء سوى أنك ستبقى سجينًا هنا حتى يأتي رئيس الشرطة للقبض عليك، ثم ألقت عليه نظرةً مخيفةً هائلة، فعجب لأمرها، ولم يعلم أمازحة هي، أم نزل بها عارض من عوارض الجنون، ووثب من مكانه مسرعًا ودنا منها وقال لها: ماذا عرض لك يا لوسي؟ فقد طلبت إليك أن تهيئي نفسك للسفر معي، فهل فعلت؟ لقد دنت الساعة، ولسنا الآن في موقف مزاح وأخاف أن تفاجئنا الشرطة الساعة فتفوت الفرصة، فضحكت ضحكةً أخرى، وقالت: قد بلغت رئيس الشرطة أنك عازم على السفر، وأشرت عليه أن يبادر بإرسال الجنود ليقبضوا عليك، وأمرت الخدم بإغلاق الأبواب حتى لا تتمكن من الهرب قبل حضورهم. فجنَّ جنونه، وقد بدأ الريب يدب في نفسه، وإن لم يفهم لما يرى سببًا، فركض إلى الباب ليتحقق الأمر بنفسه، فوجده مغلقًا، فأمرها أن تفتحه، فأبت، فهجم علها هجمةً شديدةً وهو يصيح: أين المفتاح أيتها العاهرة؟ فقالت: أتريد أن تقتلني كما قتلت أبي بالأمس؟ فلم يفهم معنى كلمتها، ووقف في مكانه ذاهلًا يقول لها: لم أفهم من أمرك شيئًا، ماذا تريدين؟ ومن هو أبوك؟ قالت: هو المسيو «كابريني» — وكيل مصرفك بالأمس — الذي اتهمته ظلمًا وعدوانًا بالسرقة، وأنت تعلم أنه رجلٌ شريف مستقيم لو علم أنَّ شرب الماء يفسد مروءته ما شربه، فكانت نهاية أمره أن مات في سجنه ميتة الأشقياء البؤساء، لا يعوده من أهله عائدٌ، ولا يحتضنه إلى صدره في ساعة نزعه محتضن، ولا يوجد بجانب مضجعه من يسمع منه وصيته الأخيرة.
فاصفر وجه «لورين» وظل جسمه يرتعد ارتعادًا شديدًا وأخذ يحدق النظر في وجهها، ويتراجع شيئًا فشيئًا، ويقول بصوت مضطرب متقطع: إذن أنت لست … فقاطعته وقالت: نعم لست حبيبتك «لوسي» كما تعتقد، بل عدوتك «إيلين» التي تريد أن تنتقم منك لفجيعتها في أبيها وفي نفسها، أنا إيلين التي جثت تحت قدميك منذ سبعة أعوام تسألك أن ترحم أباها وترحمها، فأبيت إلا أن تساومها في عرضها، فلما ضنت به عليك أردت النكاية بها فاتهمتها بتهمة القتل كذبًا وافتراءً كما صنعت بأبيها من قبلها، فصدق القضاة الأغبياء دعواك، فحكموا عليها بالسجن خمس سنوات، كابدت فيها من صنوف العذاب وأنواع الآلام ما لا يستطيع أن يحتمله بشرٌ. ثم خرجت من سجنها مصفرة اليد من كل شيءٍ، من بيتها وأهلها وكرامتها وشرفها، وكل ما تملك يدها من القوت الذي تقيم به صلبها بياض يومها وسواد ليلتها. وكان لا بدَّ لها من المغامرة بنفسها في إحدى الهوتين: إما هوة الموت لترتاح من هموم الحياة وآلامها، أو هوة الفساد لتنتقم لنفسها من عدوها الذي نكبها، وأفسد عليها حياتها، فآثرت الانتقام على الموت؛ لأن نفسها الطاهرة الطيبة قد استحالت إلى نفسٍ شريرة حاقدة لا تريد أن تسمح لعدوها أن يبني سعادته على أنقاض شقائها، وأن يفلت من العقوبة التي هي النتيجة الطبيعية للذنوب والآثام، وها هي ذي قد انتقمت لنفسها، وروحت عنها همومها وآلامها.
فنكس رأسه مليًّا ثم رفعه وقال: إذن ما أحببتني قط يا لوسي؟ قالت: نعم، بل ما اتصلت بك إلا لأسوقك إلى هذا المصير الذي صرت إليه اليوم، أنت الآن متألم جدًّا، بل لا يوجد في العالم كله ألم مثل الألم الذي يعتلج في أعماق نفسك: لأنك فقدت في يوم واحدٍ شرفك وكرامتك، ومالك وحريتك، وموضوع حبك، ووجهة آمالك في حياتك، وهذا ما كنت أريده وأرجوه، وهذه هي الساعة الوحيدة التي شعرت فيها بلذة العيش وهنائه من بين ساعات حياتي.
فنظر إليها نظرةً منكسرةً دامعةً وقال لها: ما كنت لأحفل بخسران شيء في الحياة لو أنني ربحتك يا لوسي، أما وقد أصبحت يدي صفرًا منك فلا خير في العيش من بعدك، ثم تهافت على مقعد بجانبه وانفجر باكيًا ما تهدأ دموعه، ولا يفتر نشيجه، حتى حضر الجند فاعتقلوه، وساقوه إلى سجنه وهو صامت واجمٌ لا يرفع طرفه، ولا يلتفت وراءه، وإيلين تشيعه بنظرات السرور والاغتباط حتى انقطع أثره.
٥
نعم، إنَّ الانتقام لذيذ جدًّا كما يقولون، ولكنه اللذة التي يعقبها الندم والأسف، وتأتي على أثرها الحسرات والآلام، وما استطاع منتقم قط أن يزن عمله بميزان العدل والحكمة فتهدأ نفسه ويستريح ضميره بعد فراغه من انتقامه كما تبدأ نفس القاضي العادل بعد صدور حكمه بالعقوبة التي يراها، والفرق بينهما أنَّ القاضي يصدر في رأيه عن نفسٍ هادئة مطمئنة، قادرة على الروية والأناة والمقارنة والمقابلة، والوزن والتقدير، والمنتقم يصدر في عمله عن روح هائجةٍ محتدمة لا همَّ لها إلا أن تلتهم وتستأصل، وتأتي على كل ما تستطيع الإتيان عليه. فهو يقضي قضاءه لا ليعاقب المجرم على جريمته، ولا ليدفع عن المجتمع شروره وآثامه، بل ليجرح نفسه ويؤلمها، وينال منها أقصى ما يرى أنه كافٍ لشفاء حقده وإطفاء غلته، فيجازي على الشتم بالضرب، وعلى الضرب بالقتل، وعلى القتل بالتشويه والتمثيل. ولا يأبى أن يأخذ البريء بذنب المجرم، والجار بذنب الجار، فالانتقام جريمة كيفما كان الباعث عليه، والدافع له، وكل جريمة تترك في نفس صاحبها نصيبًا من الألم والحسرة بمقدارها، ما من ذلك بد، ولقد صدق الذي يقول: إنَّ العفو مرارة ساعة، ثم النعيم إلى الأبد، وإنَّ الانتقام لذة ساعة، ثم الشقاء الدائم الذي لا يفنى.
عادت «إيلين» إلى غرفتها بعد ذهاب «لورين»، وكان الليل قد أظلها، فجلست تراجع فهرس حياتها الماضية، وتقلب صفحاتها صفحةً صفحة، فشعرت بدبيب السآمة والملل في نفسها، وخيل إليها أنها ستعيش بعد اليوم عيشةً تافهةً مملولةً لا طعم لها، ولا لذة فيها، ورأت كأن سحابةً سوداء من شقاء الحياة وبؤسها تدنو منها شيئًا فشيئًا، وأخذت تسائل نفسها: هل أصابت فيما فعلت أم أخطأت؟ وهل سعدت بالانتقام أم شقيت؟ وهل كان خيرًا لها أن تلقي بنفسها في عباب الماء عندما فكرت في ذلك يوم خروجها من سجنها، أم تعيش لتضحي بعرضها وكرامتها في سبيل انتقامها؟ وهل خرجت من المعركة التي خاضتها ظافرةً تمام الظفر، أم نالها من الخسران فيها ما يذهب ببهاء ذلك الانتصار الذي انتصرته؟
ولم تزل تسائل نفسها هذه الأسئلة فلا تسمع جوابًا يرضيها، حتى مضى الليل إلا أقله، فحاولت أن تأوي إلى مضجعها فلم تستطع، وأن تسري عن نفسها بعض همومها فأعجزها ما أرادت، فلم تنقضِ دولة الظلام حتى كانت قد حكمت بنفسها أنها مجرمةٌ آثمة، وأنها لم تستفد من كل ما عملت سوى أنها باعت عرضها بأبخس الأثمان وأدناها، وأنها لم تسئ إلى الرجل الذي أرادت الانتقام منه بقدر ما أساءت إلى نفسها فقررت الالتحاق بأحد المستشفيات الخيرية لتكفر عن ذنبها بخدمة المرضى ومواساتهم طول حياتها، حتى يوافيها أجلها.
٦
دخلت المستشفي، وأخلصت إلى الله في عملها، فسهرت على المرضى وأحسنت مواساتهم، وبذلت في ذلك الجهد ما يعجز غيرها عنه، حتى أصبحت مضرب المثل في صلاحها وتقواها، ورحمتها وإحسانها.
وكانت المحكمة قد حكمت على المسيو «لورين» بالسجن عامين، فلقي في سجنه من المتاعب والآلام ما لا طاقة لمثله باحتماله، فسقط مريضًا لا يحفل به أحد، ولا يواسيه مواسٍ، حتى اشتد به المرض، وأشرف على الهلاك، فنقلوه إلى المستشفى الذي كانت تعمل فيه «إيلين» فعرفته حين رأته برغم تغير صورته، واستحالة حالته، فلم تستطع أن تملك عينيها من البكاء، وأخذت نفسها بتمريضه والعناية به، وظلت على ذلك عدة أيام وهو ذاهل مستغرق لا يشعر بشيء مما حوله، حتى استفاق في ليلةٍ من الليالي فرآها واقفة بجانب سريره تمد إليه يدها بالدواء، فظل يحدق النظر في وجهها طويلًا حتى عرفها، فتناهض من مكانه، وأكب على يدها يقبلها، ويسألها العفو عن ذنبه إليها، فازداد نشيجها وبكاؤها، وقالت له: إنني أنا التي أسأت إليك، وأنا التي أطلب منك العفو والصفح، وكأن حياتها الجديدة التي انتقلت إليها قد أنستها حياتها الأولى وأكاذيبها وأباطيلها، فلم يبقَ في قلبها أثرٌ للبغض والموجدة، وأصبحت سريرتها بيضاء نقيةً لا تجول فيها غير خواطر الخير والإحسان، ولا تنطوي إلا على حب الإنسانية وحب الله.
وهكذا ظلت تعالج هذا المسكين بإخلاص لا تضمر مثله الأم لواحدها، وتقوم على خدمته ليلها ونهارها، ما تهدأ ولا تفتر، ولكن الداء كان قد تمكن منه، فلم يغن عنه العلاج شيئًا، وما هي إلا أيام قلائل حتى حضره الموت، فجلست بجانبه تعزيه وتواسيه، وتلقي في روعه أنَّ الله قد غفر له جميع سيئاته في حياته بما كابد فيها من العلل والأسقام، والهموم والآلام، وأنَّ جوار الله في دار جزائه خيرٌ له من جوار هذه الحياة الباطلة الفانية، حتى أسلم روحه بين ذراعيها.
وفي صباح اليوم الثاني رآها الناس سائرةً بهدوءٍ وسكونٍ في طريق الدير، وقد لبست مسوحها وسوادها، وعلقت صليبها على صدرها، حتى بلغته، ففتح بين يديها بابه العظيم الذي لا يخرج منه داخله إلى الأبد، فدخلته، وكان هذا آخر عهدها بالعالم وما فيه.