الخطبة الصامتة
لما بلغ أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير نعي أخيه مصعب بن الزبير أمير العراق، صعد المنبر فجلس عليه، ثم سكت، فجعل لونه يحمر مرةً، ويصفر أخرى، فقال رجل من قريش لآخر بجانبه: ما له لا يتكلم فوالله إنه لَلْخَطِيبُ اللبيب؟! فقال له الرجل: لعله يريد أن يذكر مقتل سيد العرب فيشتد ذلك عليه، وهو غير ملوم إن جزع.
ووقف ليلة أمس سعد باشا زغلول في حفلة تأبين أخيه فتحي باشا زغلول، وأراد يقول كلمةً قصيرةً يشكر فيها القائمين بتلك الحفلة، فاختنق صوته بالبكاء وأرتج عليه، وهو الرجل الجلد الصبور الذي ما جزع في حياته قط، والخطيب المفوه الذي ما أرتج عليه مرةً في أصعب المواقف وأحرجها، وأذهبها بالعقول والألباب، فما أشبه هذا البطل الباكي، بذلك البطل الجازع.
وكذلك عظماء الرجال يضنون بدموعهم على نكبات الدهر وأرزائه أنفةً وإباءً، حتى إذا نزلت بهم كارثةٌ من الكوارث التي لا أمر فيها إلا الله وحده لا يستحيون أن يقفوا بين يديه باذلين من شئونهم ما كانوا يضنون به من قبل.
على أنَّ البكاء الذي حال بين سعد باشا وبين كلمته التي أرادها، لم يحل بينه وبين أن يكون أفصح القائلين في ذلك الموقف وأنطقهم، فقد خطب الخطباء وأنشد الشعراء من قبله ساعتين كاملتين، فكان كل ما كان لكلماتهم من الأثر في النفوس أن كان السامعون يتهامسون فيما بينهم بالإعجاب بفصاحة الفصيح، أو نباهة المؤرخ، أو بلاغة الشاعر، أو إبداع المبدع في معانيه، أو إحسان المحسن في إلقائه، حتى وقف هو وأرسل من جفنيه تلك الدمعة الحارة فبكى الناس جميعًا لبكائه كبارًا وصغارًا، شيوخًا وشبانًا، وكان مشهدًا مؤثرًا لم نرَ مثله في حفلة تأبين قبل اليوم، فكان لتلك الخطبة القصيرة الصامتة المتفجرة من قلب مصدوعٍ مكلوم من الأثر في النفوس ما لم يكن لتلك الخطب الناطقة الطوال.
ليس الذي يبكي صديقًا كان يأنس بحديثه، أو عالمًا كان ينتفع بعلمه، أو كريمًا كان يستظل بظلال مروءته وكرمه، كمثل الذي يبكي شظية قد طارت من شظايا قلبه.