الآداب العامة
يتحدث كثيرٌ من الناس عن فئةٍ من الشبان المصريين المتعلمين قد ظهروا في هذه الأيام، واتخذوا لأنفسهم في حياتهم العامة طريقًا غير الطريق اللائقة بهم وبكرامتهم وبمنزلة العلم الذي يزاولونه، فأصبحوا متبذلين في شهواتهم، مستهترين في ميولهم وأهوائهم، ينتهكون حرمات الأعراض ما شاءوا وشاءت لهم نزعاتهم، ويعبثون بها في كل مكانٍ عبث الفاتك الجريء الذي لا يخاف مغبةً، ولا يخشى عارًا، وأهول ما يتحدثون به عنهم في هذا الشأن أنهم يغررون الطالبات الصغيرات اللواتي لا يزلن يختلفن إلى مدارسهن، أو اللواتي انقطعن عنها منذ عهد قريب إلى منازلهن، وينصبون لهن صنوف الحبائل وأنواع الأشراك لاصطيادهن وإسقاطهن في هوة الإثم والعار، وهذا ما أريد أن أتكلم عنه قليلًا.
أصحيحٌ ما يقولون عنكم أيها الفتيان التعسون أنكم تتخذون صلة العلم — التي هي أشرف الصلات وأكرمها — صلة فسادٍ بينكم وبين أولئك الفتيات الضعيفات، وأن الحبالة التي تنصبونها لهن لاصطيادهن إنما هي حبالة القلم الذي هو أفضل أداةٍ للخير، وأعظم وسيلةٍ للفضيلة، وخير واسطة للأدب والكمال؟
أصحيح ما يقولون عنكم أنكم تكتبون إليهن ليكتبن إليكم، وتهدون إليهن صوركم ليهدين إليكم مثلها، فإذا امتلأت حقائبكم وجيوبكم بصورهن ورسائلهن أخذتم تنشرونها في كل مكانٍ وتعرضونها في كل معرضٍ، وأخذ بعضكم يفاخر بعضًا بكثرة ما يملك منها، أو بجماله ورونقه، كما يفخر المرء بأفضل المزايا وأشرف الخصال؟
أصحيحٌ أنكم تقفون لهن بكل طريقٍ، وتأخذون عليهن كل سبيلٍ، وتضايقونهن في مغداهن ومراحهن، وحيث ذهبن إلى عملٍ، أو خرجن لزيارةٍ، أو برزن في مجتمعٍ، فإذا عجزتم عنهن في الطريق أرسلتم وراءهن الرسل في منازلهن يخادعنهن ويخاتلنهن، وربما توسلتم إليهن بأخواتكم وبنات أعمامكم ليسفرن بينكم وبينهن، ويداخلنهن مداخلة الأصدقاء حتى يجتذبنهن إلى منازلكم؟
أصحيحٌ أنكم تقضون أكثر لياليكم مكبين على كتابة رسائل الغرام، وأكثر أيامكم حائمين حول المنازل تنتظرون خدمها الذين اصطنعتموهم ليحملوا رسائلكم إلى ساكنيها، وربما جلستم على أبوابها بجانب البوابين والحوذيين ترقبون نوافذها وكواها علها تنفرج لكم عمن تحبون؟
أصحيحٌ أنكم أصبحتم لا تقنعون في أمر أولئك الفتيات البائسات اللواتي يقعن في مخالبكم بإفساد أخلاقهن حتى تسجلوا عليهن ذلك الفساد تسجيلًا موقعًا عليه بتوقيعاتهن، مستشهدًا عليه بصورهن وخطوطهن، لتملكوا عليهن أمرهن بعد ذلك، وتحولوا بينهن وبين التفلت من أيديكم، والحياة بعيدًا عنكم، في جو غير جوكم، وجوارٍ غير جواركم، عذارى أو متزوجات؟
أصحيحٌ أنكم لا تكتفون بإفساد نفوسهن وضمائرهن، حتى تفسدوا عليهن عقولهن وصحتهن، فتشركوهن معكم في شرب الخمر وتناول المخدرات سائلها وجامدها، فلا تلبث أن تنتهي حياتهن بما تنتهي به حياة النساء الساقطات اللواتي يلفظن أنفاسهن الأخيرة في أقبية الحانات أو بين جدران المواخير؟
أصحيحٌ أنكم فقدتم في تلك السبيل التي تسلكونها خلق الرجولة والشهامة، فأصبحتم تتجملون للنساء بأخلاق النساء، وتزدلفون إليهن بمثل صفاتهن وشمائلهن، وأصبح الرجل منكم لا هم له في حياته إلا أن يتجمل في ملبسه، ويتكسر في مشيته، ويرقق من صوته، ويلون ابتساماته ونظراته بألوان التضعضع والفتور، ويقضي الساعات الطوال أمام مرآته متعهدًا شعره بالترجيل، وبشرته بالتنضير، وثناياه بالصقل والجلاء، حتى صار ذلك عادة من عاداتكم التي لا تنفك عنكم، وحتى سرى التأنث من أجسامكم إلى نفوسكم، فلم يبقَ فيكم من صفات الرجولة وأخلاقها غير الأسماء والألقاب؟
إن كان حقًّا ما يقولون كله أو بعضه فرحمة الله عليكم أيها الفتيان المساكين، وسلامٌ على الفضيلة والشرف سلام من لا يرجو عودةً، ولا ينتظر إيابًا.
إنَّ هذه الفتاة التي تحتقرونها اليوم وتزدرونها وتعبثون ما شئتم بنفسها وضميرها، إنما هي في الغد أم أولادكم، وعماد منازلكم، ومستودع أعراضكم ومروءاتكم، فانظروا كيف يكون شأنكم معها غدًا، وكيف يكون مستقبل أولادكم وأنفسكم على يدها.
أين تجدون الزوجات الصالحات في مستقبل حياتكم إن أنتم أفسدتم الفتيات اليوم؟ وفي أي جو يعيش أولادكم ويستنشقون نسمات الحياة الطاهرة إن أنتم لوثتم الأجواء جميعها وملأتموها سمومًا وأكدارًا؟
لا تتكون أخلاق الفتاة في عهد طفولتها أو في عهد شيخوختها، بل في عهد شبابها، فإذا سلم لها ذلك العهد فقد سلم لها كل عهدٍ بعد ذلك، فدعوها تجتزْ هذه المرحلة الوحيدة من مراحل حياتها شريفة طاهرةً، تجدوا فيها بعد قليلٍ من الزمن خير زوجةٍ للزوج، وخير أم للولد، وخير سيدةٍ للمنزل.
لا تعجلوا عليها وانتظروا بها قليلًا لتستطيعوا أن تجدوها غدًا زوجة طاهرةً شريفةً في منازلكم، بدلًا من أن تجدوها فتاةً ساقطةً مزدراةً مطرحة على أعتاب المواخير والحانات.
لا تزعموا بعد اليوم أنكم عاجزون عن العثور بزوجاتٍ صالحاتٍ شريفات يحفظن لكم أعراضكم، ويحرسن سعادتكم وسعادة منزلكم، فتلك جناية أنفسكم عليكم، وثمرة ما غرست أيديكم، ولو أنكم حفظتم لهن ماضيهن لَحَفِظنَ لكم حاضركم ومستقبلكم، ولكنكم أفسدتموهن، وقتلتم نفوسهن، ففقدتموهن عند حاجتكم إليهن.
إنني لا أفرغ في أمركم إلى القانون، فالقانون في هذا البلد مدني لا أدبي، ولا إلى الحكومة، فالحكومة مشغولةٌ بشأن نفسها عن شأن غيرها، ولا إلى الدين، فقد ضعف شأنه في نفوسكم حتى هان أمره عليكم، ولا آبائكم وأولياء أموركم، فقد عجزوا عنكم، وأصبحوا يبكون مع الباكين عليكم. بل أفزع في أمركم إلى ضمائركم التي هي الأمل الباقي لنا بعد فقد جميع آمالنا فيكم، فأصغوا إلى صوتها ساعةً تسمعوا منها هذا الرجاء الذي نرفعه إليكم، وصوت الضمير أقوى من كل صوتٍ في العالم.
أصغوا إليه تسمعوه يقول لكم: إنَّ هؤلاء الفتيات اللواتي لا تستحيون أن تمدوا إليهن أعينكم وأيديكم إنما هن أخواتكم الحميمات، يجمعكم وإياهن أب واحد وهو النيل، وأم واحدة وهي البلد، وشرف الأخوة هو الملجأ الأمين لأعراض الأخوات وشرفهن.
يجب ألَّا يفتح قلب الفتاة لأحدٍ من الناس قبل أن يفتح لزوجها، لتستطيع أن تعيش معه سعيدةً هانئةً لا ينغصها ذكرى الماضي، ولا تختلط في مخيلتها الصور والألوان، ولا أعرف فتاةً في هذا البلد بدأت حياتها بغرام قط فاستطاعت أن تتمتع بعده بحب شريف.
ولا أزال أذكر حتى اليوم حادثة ذلك الفتى الذي أهدت إليه حبيبته رسمها موقعًا بتوقيعها، فلما تزوجت — وكان لا يحب ذلك منها — أراد الانتقام منها فقطع رأس الصورة ووضعها على جسم عارٍ بتلك الطريقة الفنية المعروفة، ثم أرسلها مع كتاب وشايةٍ إلى زوجها ليلة عرسها، فما لبثت أن خسرت في لحظةٍ واحدةٍ سمعتها وسعادتها.
وحدثني من أثق به أنَّ كثيرًا من الفتيات الفاسدات لا يتزوجن إلا بعد أن يأخذن على أنفسهن عهدًا أمام أخلائهن أن يكنَّ لهم بعد الزواج؛ أي بعد أن يصبحن مطلَقاتٍ من قيود العذرة وروابطها. وقلما تتزوج فتاة ذات صلاتٍ فاسدة من رجل إلا وردت عليه ليلة البناء بها أو في صبيحتها كتب الوشاية بها من الأشخاص الذين اتصلت بهم، وأخلصت إليهم، فانتهى أمرها في حياتها الجديدة بالشقاء والعار.
نحن في حاجة إلى أن نعلم بناتنا؛ لأننا لا نريد أن يعشن جاهلاتٍ متأخرات، فتنحوا عن طريقهن أيها الغواة المفسدون ليستطعن أن يختلفن إلى مدارسهن آمناتٍ مطمئناتٍ على نفوسهن وأعراضهن، ولا تزعجوهن بفضولكم وإسفافكم، فإننا لم نبعث بهن في تلك السبيل ليفسدن شرفهن وعفتهن، بل ليضفن إلى فضيلة الأدب والكمال فضيلة العلم والمعرفة.
أفسحوا الطريق لهن، وأفسحوا للعاملة الخارجة في طلب رزقها، والأرامل المسترزقة لبنيها، والفقيرة العاجزة عن قضاء حاجتها إلا بنفسها، والذاهبة لصلة رحمها، والسائرة لزيارة قبر فقيدها، ولا تكونوا حجر عثرة في سبيل حرية المرأة في ذهابها وجيئتها واضطرابها في مذاهب الأرض سعيًا وراء رزقها، وقضاء مصالحها، فإن أبيتم عليها ذلك فاعترفوا أنكم أعداؤها القساة المتوحشون؛ لأنكم تأبون عليها إلا إحدى الخطتين القاتلتين: إما الجهل الدائم، أو السقوط العظيم.
الفضيلة الفضيلة أيها القوم! فهي العزاء الوحيد لهذه الأمة المسكينة عن جميع آلامها ومصائبها، والأمل الباقي لها إن ضاعت — لا قدر الله — جميع آمالها وأمانيها. والشرف الشرف! فربما جاء يوم ندير فيه أعيننا من حولنا فلا نجد مما تملك أيدينا شيئًا سواه.