الشيخوخة المتمردة
حدث منذ عهد قريب أنَّ أحد الوجهاء الريفيين كان يختلف إلى أسرةٍ كريمة ليخطب إليها فتاةً من فتياتها لابنه، ثم اتفق له أن وقع نظره على تلك الفتاة عرضًا فشغف بها حبًّا وخطبها لنفسه، فلم يرَ أهلها مانعًا من أن يزوجوها منه على تقدم سنه وإدبار أمره؛ لأنه أكثر من ابنه مالًا، وأوسع جاهًا وسلطانًا، فكانت نتيجة ذلك أن هجر الابن منزل أبيه هجرةً لا رجعة له من بعدها؛ لأنه كان يحب الفتاة حبًّا جمًّا، وأصاب الفتاة ذهول شديد لا يزال ملازمًا لها حتى اليوم، وأصبح الشيخ حزينًا بائسًا؛ لأنه أصبح بلا زوجة ولا ولد.
سمعت بهذه الحادثة فتألمت لها كثيرًا، ثم قرأت حادثةً أخرى وقعت في فرنسا في العام الماضي سأقصها عليك لتوازن بين الحادثتين كما وازنت، وتستنتج منهما ما استنتجت.
فجعت سيدة اسمها «مارجريت بونفيل» بوفاة زوجها وهي في الخامسة والثلاثين من عمرها، وكانت امرأةً بارعة الجمال، رائعة الحسن، لا يراها الرائي حتى يخيل إليه أنها الكوكب المشبوب رونقًا وبهاء، وأنها لا تزال في مستهل العقد الثالث من عمرها. فاستوحشت لوفاة زوجها استيحاشًا شديدًا، وبدأت تختلف إلى بعض الأندية العامة علَّها تروح عن نفسها وحشتها وكآبتها، فاتصلت هناك بفتًى من نبلاء الفتيان أعجبها منه جمال صورته وعذوبة أخلاقه وحلاوة سمره ورقة آدابه، فأحبته وافتتنت به. وأضمرت في نفسها أن تتذرع بكل ما تعرف من الوسائل للزواج منه، وإن كان أصغر منها سنًّا بنحو عشر سنين، فلم تزل تتودد إليه، وتستدني قلبه، حتى نزلت من نفسه المنزلة التي تريدها. وكانت إذا جلست إليه للحديث معه يرد على لسانها كثيرًا ذكر ابنتها التي خلفتها من زوجها المتوفى، فكان يخيل إليه أن تلك الابنة طفلة في الخامسة أو السادسة من عمرها، حتى زارها في منزلها يومًا من الأيام فحمل معه لطفلتها هدية من اللعب التي يحبها الأطفال ويطربون لها، فلما وقع نظر مرجريت عليه وعلى ما يحمل ضحكت وقالت: ما هذا الذي تحمل؟ قال: إنها هدية لماري أريد أن أقدمها إليها، وأين هي؟ فأرادت العبث به وقالت له: إنك تجدها في الجهة الشرقية من الحديقة على شاطئ الجدول، فاذهب إليها وقدم لها هديتك بنفسك.
فذهب حيث أشارت، فراعه أنه لم يجد أمامه طفلةً في السادسة من عمرها كما كان يظن، بل فتاة كاعبًا رائعة الجمال في السادسة عشرة، فوقف أمامها موقف الحائر الذاهل لا يدري ماذا يفعل، ولا ماذا يقول، حتى رنت من ورائه ضحكة مرجريت، وكانت قد تبعته من حيث لا يشعر، فارفض جبينه عرقًا، وتقدمت مرجريت نحو ابنتها وقالت لها: أقدم لك يا ماري صديقي جورج الذي حضر اليوم ليهديك حصانًا خشبيًا جميلًا، فهل تحسنين ركوب الخيل الخشبية؟ فابتسمت ماري وفهمت القصة، فأثر في نفسها خجل جورج وارتباكه، فمشت إليه ووضعت يدها في يده وقالت له: أشكر لك هديتك يا سيدي، وأتقبلها منك باغتباط وسرور، وأعدك أني سأحفظها لك عندي تذكارًا دائمًا لا أنساه، فسري عنه ما لحقه من الخجل، وجلسوا جميعًا يتحدثون ويسمرون، ومر لهم أطيب يوم مر لأحدٍ حتى أظلهم الليل، فاستأذن جورج وعاد إلى منزله.
وأصبح بعد ذلك يختلف إلى منزل مرجريت لا من أجل الأم وحدها، بل من أجل الأم والبنت، حتى حضر صباح أحد الأيام، وكانت الأم قد خرجت لبعض شأنها، فوجد ماري وحدها، فشعر في نفسه بشيء من الارتياح لم يكن يشعر بمثله من قبل، وكأنه كان يتمنى أن يجدها خاليةً فوجدها، وكانت جالسةً على شاطئ الجدول في المكان الذي رآها فيه أول ما رآها، فجلسا معًا يتحدثان حديثًا طويلًا ذهبا فيه مذاهب مختلفة، حتى أشرفا على ذلك المورد العذب من حديث الحب، فورداه، فإذا كل منهما يضمر لصاحبه من الوجد فوق ما تضمر الأفئدة والقلوب. وإنهما لمضطجعان وجهًا لوجه على ذلك البساط الأخضر الجميل ضجعةً يتمنى المصور أن يراها فيرسمها؛ فيرسم صورة السعادة الكاملة التي يفتش عنها الناس جميعًا فلا يجدونها، إذ وقفت بهما الأم من حيث لا يشعران، فرابها منظرهما، وخيل إليها أنهما يتحدثان في شأن غير الشأن الذي يأخذان فيه عادة أمامها، فأصغت إليهما، فألمَّت بطرفٍ من حديثهما، فدارت بها الأرض الفضاء دورةً كادت تصعق فيها، وتمثل لها أن صرح حياتها الشامخ العظيم قد خر بين يديها دفعةً واحدة، فثارت من حولها عبرةٌ قائمة حجبت عن عينيها كل شيء فامَّلست من مكانها امِّلاسًا، ومشت تتحامل على نفسها حتى وصلت إلى غرفتها فتهافتت على فراشها وبكت ما شاء الله أن تفعل حتى هدأ بعض ما بها. فمسحت عبرتها بيدها فإذا المرآة أمامها، وإذا شعراتٌ بيض سانحات في رأسها تهتف بها أن انقضى عصر شبابك أو كاد، وقد خطوت الخطوات الأولى إلى شيخوختك، فأخلي مكانك لابنتك، فهي أولى به منك، وحسبك من السعادة أن تفرحي لفرحها، وتهنئي لهنائها. واعلمي أنَّ للطبيعة حكمًا قاسيًا لا يختلف عليه مختلف ولا يتمرد عليه متمرد إلا هلك. ومرت بها على حالتها تلك ساعةٌ كانت عواطف قلبها ونوازعه تعترك فيها اعتراكًا، وكان يميل بها الميزان نحو نفسها مرة، فتثور ثائرتها، وتأبى إلا أن تتمتع بالحياة الطيبة كما يتمتع بها أمثالها، ونحو ابنتها أخرى، فتلين عريكتها، ويسلس قيادها وتقول في نفسها: إنها أولى به مني؛ لأنه خلق لها وخلقت له حتى غلبت نزعة الخير فيها على نزعة الشر، فخرجت من غرفتها باسمة متطلقة حتى وصلت إلى مكانهما، فرأتهما مستغرقين في شأنهما الذي كانا فيه لا يشعران بشيءٍ مما حولهما، فصاحت بهما: أأنتما هنا يا ولدي؟! فاضطربا إذ رأياها فابتسمت لهما ووضعت يدها على أيديهما وعادت بهما إلى غرفتها، وجلست تتحدث إليهما حديثًا طويلًا انتهى بعقد الخطبة بينهما. وما هي إلا أشهر قلائل حتى زُفَّت إليه. وولدت لهما بعد عام واحد طفلة كان نصيبها ذلك الحصان الخشبي الذي أهداه أبوها لأمها منذ عامين حين ظن أنها طفلة في السادسة من عمرها.
وكانت قد بقيت بقيةٌ من مرارة الألم في أعماق قلب مرجريت لم تزل تتضاءل شيئًا فشيئًا حتى رن في أذنها يومًا من الأيام صوت حفيدتها تدعوها «جدتي» فكان هذا آخر عهدها بها.
وكذلك استطاعت مرجريت أن تعيش بعد ذلك سعيدة هانئة في ظل سعادة ابنتها وهنائها.
ذلك ما فعل الرجل في السبعين من عمره، وهو يخطو إلى القبر خطوات حثيثة، وهذا ما فعلت المرأة وهي نَصَفٌ لا إلى الشيخوخة ولا إلى الشباب، فجوزي هو على تمرده على الطبيعة وخروجه عن سنتها شر الجزاء، وجوزيت هي على تعقلها ورزانتها وتأدبها بأدب الحياة أحسن الجزاء.