عجائز بوشنج
القاعدة المطردة في هذا البلد أنَّ الرجل إذا ابتسم له دهره من الأيام فنقله من أرض الخصاصة والفقر إلى سماء الثروة والغنى، بنى بينه وبين ماضيه سدًّا محكمًا لا تنال منه المعاول، ولا تعصف به العواصف، ثم ألقى وراء ذلك السد جميع متعلقات ذلك الماضي، زيه وهيأته ولغته، ولهجته، ومناخه ومسكنه، وعاداته وأخلاقه، وأصحابه وعشراءه، وجميع صلاته وعلائقه، ولو استطاع أن يلقي بالأثرين الوحيدين الباقيين له: صورته واسمه لفعل.
يريد أنه قد أصبح إنسانًا غير ذلك الإنسان الأول، لا صلة له به، ولا شأن له معه، وأنه قد خلق خلقًا جديدًا.
إنها لخَلَّة رديئة جدًّا ما رأيت في الخلال أقبح منها.
إنه يفعل ذلك؛ لأنه يعتقد أنَّ الفقر عيب وعار، والفقر ليس بعيب ولا عار. فإن كان لا بد له أن يرى ذلك فليعلم أنه قد قضى على أبويه وأهله وعشيرته وأصدقائه، بل على السواد الأعظم من أمته، بل على نفسه أيضًا؛ لأنه قضى عصر شبابه — والشباب هو الحياة من مبدئها إلى منتهاها — في الفقر والخصاصة، والعدم والإقلال.
ولا أدري ماذا يكون شأنه غدًا إذا استرد الدهر هبته منه؟ وكثيرًا ما يسترد الدهر هباته وعطاياه، بل لا يكاد يهب هبة، أو يمنح منحة حتى يستردها. عَذَرْتُهُ في ثوبه الذي خلعه، وقلت: قد لبس لكل حالة لبوسها، وفي داره التي هجرها، وقلت: لا بدَّ أن يكون هناك فرق بين حياة السعة وحياة الضيق، وفي لهجته التي غيرها؛ لأنه يعيش في قومٍ غير القوم الذين كان يعيش فيهم، وفي خده الذي صَعَّرَهُ وصدره الذي أبرزه، وأنفه الذي شمخ به؛ لأن للثروة طغيانًا كطغيان الشراب، لا سبيل إلى دفعه والخلاص منه. ولكنني لا أستطيع بحالٍ من الأحوال أن أعذره في زوجه التي طلقها واستبدل بها سواها.
إنها رفيقة حياته، وعشيرة صباه، وشريكته في سرائه وضرائه، ويسره وعسره، وشبعه وجوعه، وريه وظمئه، وأحسب أنها كانت إذا خلت بنفسها وخلا لها وجه السماء بسطت يديها بالدعاء إلى الله تعالى أن يبدل عسره يسرًا، وضيقه سعةً، وشدته رخاءً، فليس من الرأي ولا من الوفاء أن يخلعها فيما يخلع من أثوابه وأرديته، وأن يلقيها وراء ذلك السد كما يلقي نعله وأداته.
إنها شاركته في شدته فيجب أن تشاركه في رخائه، واحتملته والدهر مدبرٌ عنه، فيجب أن يحتملها والدهر مقبلٌ عليه، وأقرضته الصبر على عشرته، فيجب أن يوفيها الصبر على عشرتها إن كان يرى أنها عبءٌ ثقيلٌ عليه.
أيريد أن يتمنى النساء جميعًا لأزواجهن دوام الفقر والفاقة حتى لا يستبدلوا بهن يوم يجدون السبيل إلى ذلك؟
إنهن يتمنين ذلك فعلًا، بل يسعين له سعيهن؛ لأنهن يجدن الأمان على أنفسهن في ضاحية الفقر أكثر مما يجدنه في ظلال الغنى، فيا للفظاعة والهول! ويا للمعيشة النكدة المريرة! ويا للشقاء الذي يهدد الحياة الزوجية وينذرها بالمحو والفناء!
حدثني من أثق به أنه دعي إلى وليمة أقامها أحد أولئك الحديثي النعمة، فلما قضوا ليلتهم وانصرفوا لفت نظرهم منظر امرأة بائسة واقفة تحت جدار البيت تتحدث إلى بعض الناس وتقول لهم: إنها سيدة هذا البيت بالأمس، وإن زوجها طلقها وطردها هي وطفلها الصغير في اليوم الذي أنعم الله فيه عليه بنعمة الغنى، وليته صنع بها ما يصنع الكريم بأهله فكفاها مئونة العيش، وحماها عادية الشقاء، بل تركها في قريتها وحيدةً منقطعةً، لا يعود عليها بقليلٍ من المال ولا بكثير، ولا ذنب لها ولا لولدها عنده سوى أنه أصبح ذا زوجةٍ جديدة وولد جديد. وقالت: إنها تحاول منذ ساعتين أن تدخل المنزل لتقابله وتسأله المعونة والمساعدة فيمنعها الخدم.
إنه لموقف مؤلمٌ جدًّا أن تقف امرأةٌ على باب البيت الذي كانت سيدته بالأمس موقف السائل المتكفف، فلا تجد من يمنحها ما يمنح السائلين المتكففين.
لا يجد المرء لذة الطعام إلا إذا ذكر الجوع، ولا لذة الماء إلا إذا ذكر الظمأ، ولا لذة السعادة إلا إذا تمثل أمام عينيه عهد الشقاء، فما أحوجه إذا انتقل من عذاب الفقر إلى نعيم الغنى إلى أصدقاء عهده الأول وعشرائه، ليجلس إليهم من حينٍ إلى حينٍ، ويتحدث معهم عن ماضيه وحاضره، فيشعر بلذة الانتقال من حالٍ إلى حالٍ. وما أحوجه إلى زوجه التي قضى معها عهد شقائه أن تبقى معه في عهد سعادته ليرى في مرآة وجهها صورتيه القديمة والحديثة، فيعلم حين يقارن بينهما أنَّ فضل الله عليه كان عظيمًا.
وتعجبني كثيرًا قصة خالد بن برمك جد البرامكة، وكان رجلًا أعجميًّا من قريةٍ من قرى فارس اسمها «بوشنج»، وفد إلى بغداد وحظي عند الخليفة، فولاه الوزارة، فلما ركب في الموكب الذي اعتاد أن يركب فيه الوزراء يوم العهد إليهم بذلك المنصب العظيم، وقف الناس له صفوفًا على جانبي الطريق، وأطل عليه النساء من نوافذ الدور والقصور، وهو مطرق واجم، فقال له أحد أصدقائه وكان يسير بجانبه: ألا ترى هؤلاء النساء الجميلات المشرفات عليك من نوافذ قصورهن؟ قال: نعم أراهن، ولكنني كنت أفضل أن أرى بدلًا منهن عجائز «بوشنج».
أي أنه كان يتمنى أنَّ العيون التي رأته بالأمس وهو وضيع، تراه اليوم وهو رفيع.