الزوجتان
حَدَّثَ أحد الأصدقاء قال: «سَأَقُصُّ عليك قصةً ليست من خيالات الشعراء ولا أكاذيب القصاصين.
إنك لا بدَّ تعلم تاريخ زواجي منه منذ ثلاثة أعوامٍ، وأنَّ أبي لم يبتغِ به بدلًا عن كثرة الخاطبين إليه من عِلْيَةِ القوم وجِلَّتِهم، وأنا لا ألومه على ذلك — رحمة الله عليه — فما أراد بي شرًّا ولا اعتمد أن يُسيء الاختيار لي، ولكنه كان رجلًا أبيض السريرة طاهر القلب، فخدعه الخادعون عني، ومن ذا الذي لا يُخْدَعُ بشابٍّ متعلمٍ مهذب من ذوي المناصب الكبيرة والرتب العالية؟ وكيفما كان الأمر، فقد تم عقد الزواج بيننا فاغتبطت به واغتبط بي برهةً من الزمان، حسبتها دائمةً لا انقطاع لها حتى يفرق بيننا الموت. وكنت امرأة أجمع في نفسي جميع ما يمتُّ به النساء إلى الرجال، فما خنته، ولا ضِقتُ ذرعًا بأمره، ولا قَطَّبتُ في وجهه مرة، ولا أتلفتُ له مالًا، ولا نقضتُ له عهدًا؛ فجازاني سوءًا بالإحسان، وكَفَرَ بنعمة الله بعد الإيمان، وخان وُدِّي، ونَقَضَ عهدي، لا لذنب أتيته، أو وصمة يَصِمُنِي بها، وكلُّ ما في الأمر أنه رجلٌ ملولٌ، ولا تغضب يا سيدي إن قلت لك: إنَّ قلب الرجل متقلبٌ متلوِّن، يسرع إلى البغض كما يسرع إلى الحب، وإنَّ هذه المرأة التي تحتقرونها وتزدرونها وتضربون الأمثال بخفَّة عقلها وضعفِ قلبها أوثقُ منه عقدًا، وأمتن وُدًّا، وأوفى عهدًا، ولو وَفَى الزوج لزوجته وفاءها له ما استطاع أن يفرِّق بين قلبيهما إلا رَيْبُ المنون.
قلت: «أنا لا أغضب لشيءٍ إلا للإنسانية أن يُنْقَضَ عهدُها، ويُخْفَرَ ذِمامُها، ثم ماذا تم بعد ذلك؟» قالت: «مات أبي كما تعلم وخلَّف لي مالًا أمكنت منه زوجي فأَتْلَفَهُ بين الخمر والقَمْرِ، فكنت أغضي على هفواته رحمةً به وشفقةً عليه واستبقاءً لِوُدِّه، حتى إذا صَفِرَتْ يدي وأقفر رَبْعِي أحسست منه مللًا كان يدعوه إلى سوء عشرتي وتعذيب جسمي ونفسي، وكان كثيرًا ما يتهكَّم بي ويقول: «إني لا أحب المرأة الجاهلة التي لا تفهمني ولا أفهمها.» وآونة كان يعرِّض بي قائلًا: «إنَّ الرجل السعيد هو الذي يُرْزَقُ زوجةً متعلمةً تقرأ له الجرائد والمجلات، وتفاوضه في المسائل الاجتماعية والسياسية.» بل يتجاوز التعريضَ إلى التصريح، فيقول كلَّما دَخَل عليَّ مُتَأففًا متذمرًا: «ليت لي زوجةً كفلانة فإنها تُحْسِنُ الرقص والغناء والتوقيع على البَيَان!» فكنت أشكُّ في سلامة عقله وأقول في نفسي: كيف يفضل الزوجة المتبذِّلة المستهترة على الحيية المحتشمة؟! ووالله ما تمنيت مرة أن أكون على الصفة التي يحبها ويرضاها مع ما كنت أبذل في رضاه من ذات اليد وذات النفس.
وبعد، فما زال الملل يدِبُّ في نفسه دبيب الصهباء في الأعضاء، حتى تحوَّل إلى بغضاء شديدة، فما كان يلحظني إلا شَزْرًا، ولا يدخل المنزل إلا لتناول غرضٍ أو قضاء حاجة، فكنت أحتمل كلَّ هذا بقلبٍ صبورٍ، وجَنانٍ وقور. ثم عَرض له بعد ذلك أن نُقِلَ إلى منصبٍ أرقى من منصبه في بلدٍ آخر، على ما تعلم، فسافر وحده وتركني في المنزل وحيدةً لا مؤنسَ لي غيرُ طفلتي، فلبثت أترقَّب كتابًا منه يدعوني فيه إلى اللحاق به، فما أرسل كتابًا ولا رسولًا ولا نفقةً. فاستكتبت إليه الكتاب بعد الكتاب فما أسلس قيادُه، ولا طاوع عنادُه، فسافرت إليه مُخاطِرةً بنفسي غير مُباليةٍ بغضبه؛ لأعلم غاية شأنه وشأني معه، فما نزلت من القطار حتى قيض الله لي من وَقَفَنِي على حقيقة أمره، وأعلمني أنه تزوج من فتاةٍ متعلمة تقرأ له الجرائد والروايات، وتفاوضه في المسائل الاجتماعية والسياسية، وتحسن الرقص والغناء والتوقيع على «البيان» فداخلني من الهمِّ ما الله به عليم، وجزعت ولكن أيَّ ساعة مَجْزَعٍ! ولا أظن إلَّا أنَّ العدل الإلهيَّ سيحاسبه على كلِّ قطرة من قطرات الدموع التي أَرَقْتُها في هذا السبيل حسابًا غير يسير.
وكأنه شعر بمكاني، فجاء إليَّ يتهددني ويتوعدني، فتوسَّلت إليه ببكاء طفلته التي كنت أحملها بين يديَّ، وذكَّرته بالعهود والمواثيق التي تعاقدنا عليها، وذهبت إلى استعطافه كل مذهبٍ، فكنت كأنني أخاطب رَكودًا صماء، أو أستنزل أُبُودًا عصماءً، ثم طردني وأمر من حملني إلى المحطة، فعدت من حيث أتيت.
فما وصلت إلى المنزل حتى خلعتُ ملابسي، ولبست هذه الثياب، وجئتك متنكرة في ذِمام الليل؛ لأني وحيدةٌ في هذا العالم لا قريبَ لي ولا حميمَ، ولأني أعلم كرمك وهمتك وما بينك وبين ذلك الرجل من الوُدِّ والاتصال؛ عسى أن ترى لي رأيًا في التفريق بيني وبينه، علَّني أجد في فضاء الحرية منفذًا كَسَمِّ الخِياط أرتشف منه ما أتبلَّغ به أنا وطفلتي حتى يبلُغ الكتابُ أجلًه.»
فأحزنني من أمر تلك الفتاة البائسة ما أحزنني، ووعدتها بالنظر في أمرها بعد أن خفَّفت كثيرًا من أحزانها ولواعجها، فعادت إلى منزلها، وعدتُ إلى مضجعي أفكر في هذه الحادثة الغريبة وقد اكتنفني همَّان: هَمُّ تلك البائسة التي لم أرَ في تاريخ شقاء النساء قلبًا أشقى من قلبها، ولا نجمًا أنحس من نجمها، وهم ذلك الصديق الذي ربحته سنين طوالًا وخسرته في ساعةٍ واحدة، فقد كنت أغبط نفسي عليه، فأصبحت أُعَزِّيها عنه، وكنت أحسبه إنسانًا، فإذا هو ذئبٌ عَمَلَّس تستره الصورة البشرية، وتواريه البشاشة والابتسام.»
سيدي
يَهُمُّني كثيرًا أنْ أرى بين كتب التهنئة التي ترد إليَّ كتابًا منك؛ لِأُسَرَّ بمشاركتك إِيَّاي في سروري وهنائي.
إنك لا بدَّ تذكر تلك القصة التي كنت قصصتها عليك منذ عامٍ في تلك الفتاة البائسة التي خانها زوجها «فلان» وغدر بها وهجرها إلى أخرى غيرها، بعدما جرَّدها ممَّا كانت تملك يدُها، وما كان من أمر مجيئها عندي وبثِّ شكواها إليَّ. وربما كنت لا تعلم بما تم من أمرها بعد ذلك، فاعلم أنها دفعت زوجها إلى موقف القضاء، فضاق بأمرها ذرعًا فطلقها، وكنت أفكر في ذلك التاريخ في الزواج — كما تعلم — من زوجٍ صالحةٍ أجد السعادة في العيش بجانبها، وما كنت لأجد زوجةً أشرف نفسًا ولا أكرم جوهرًا ولا أذكى قلبًا منها، فتزوجتها، فأمتعت نفسي بخير النساء، وأنقذت الإنسانية المعذبة من شقوتها وبلائها، وأبشرك أنَّ الله قد انتقم لهذه الفتاة المظلومة من ذلك الرجل الظالم انتقامًا شديدًا؛ فقد حدثني من يعلم دَخِيلَة أمره أنه يعاني اليوم من زوجه الجديدة الموت الأحمر، والشقاء الأكبر، وأنها امرأة قد أخذت التربية الحديثة من نفسها مأخذًا عظيمًا، فحوَّلتها إلى فتاةٍ غريبة في جميع شئونها وأطوارها، والرجل شرقيٌّ بفطرته، أما غربيته فهي متكلفةٌ متعمَّلة يدور بها لسانه ولا أثر لها في نفسه، فهو لا يزال رجلًا غيورًا شريفًا، ولا يزال يقاسي اليوم من تلك المرأة الخرقاء أضعاف ما كانت تقاسيه منه أشرف النساء، والسلام.