تأبين فولتير
في مثل هذا اليوم — منذ مائة عام — مات الرجل العظيم، مات الرجل الخالد، مات فولتير.
ما مات فولتير حتى احْدَوْدَبَ ظهره تحت أثقال السنين الطوال، وأثقال جلائل الأعمال، وأثقال الأمانة العظمى التي عُرضتْ على السموات والأرض فأبينَ أن يحملنَها فحملها وحدَه، وهي تهذيب السريرة الإنسانية، فهذَّبها فاستنارتْ فاستقامَ أمرُها.
مات فولتير مَرْذُولًا محبوبًا في آنٍ واحد، يبغضه الماضي لأنه يجهله، ويحبه الحاضر لأنه عرفه.
إنَّ في هاتين العاطفتين — البغض والحب — سرًّا عظيمًا من أسرار المجد العظيم لذلك الرجل العظيم.
كان وهو على سرير الموت محفوفًا بعاطفتين مختلفتين شكلًا متفقتين معنى؛ لأنهما جميعًا في سبيل مجده وفَخاره، كان ينظر أمامه، فَيَسُرُّهُ منظر التبجيل والتعظيم من حاضره ومستقبله، ويلتفت وراءه، فيطربه مشهد البغض والازدراء والحقد الذي يُكِنُّهُ الماضي في صدره لأولئك الرجال البواسل الذين حاربوه فانتصروا عليه.
كان فولتير رجلًا وأكبرَ من رجل، كان وحدَه أمةً كاملة، إنه عاهد نفسه على إنجاز عملٍ عظيم فأنجزه ولم يُخْلِفْ وعدَه، وكأنَّ الإرادة الإلهية المتجلية في الشرائع تَجَلِّيَها في الطبائع، نثرت كنانة هذا المجتمع الإنساني وعَجَمَتْ عِيدانَه، فوجدت فولتير أصْلَبَهَا عُودًا، فاختارته للقيام بالعمل الذي قام به فأتمَّه.
إنا أتينا هنا لفصل الخطاب في المسائل الاجتماعية، جئنا لنرفع شأن المدنية ونكرم الفلسفة إكرامًا ينفعها ويفيدها، جئنا لنتلو على القرن الثامنَ عشرَ رأيَ القرن التاسعَ عشرَ فيه، جئنا لنكرم المجاهدين والعاملين المخلصين، اجتمعنا لِنُمَهِّدَ الطريقَ للوحدة الإنسانية التي يسعى إليها العلماء والعاملون، والصناع المجدون. وجملة القول: إنَّا ما اجتمعنا هنا إلا لنمجد العاطفة الشريفة السامية، عاطفة السلام العام.
إنَّا نمجد السلام حبًّا في المدنية وحرصًا على رونقها وروائها؛ فإنَّ السلام فضيلة المدنية والحربَ رذيلتها.
نحن في هذه الساعة العظيمة، في هذا الموقف الرهيب، نجثو على الرُّكَبِ ونعفِّر جباهنا بين يدي الشريعة الأدبية، ونقول للعالم الذي يُنصت لسماع صوت فرنسا: «لا قوةَ إلا قوة الضمير، ولا مجدَ إلا مجدُ الذكاء.» ذلك في سبيل العدل، وهذا في سبيل الحق.
لقد كان شأن المجتمع الإنساني قبل الثورة الفرنساوية على هذا المثال: الشعب في المنزلة الدنيا، وفوق الشعب الدين والقضاء، هذا يمثله القضاة، وذاك يمثله «الإكليروس»
أتدرون كيف كان الشعب؟ وكيف كان الدين؟ وكيف كان القضاء في ذلك العهد؟ كان الشعب جَهْلًا، والدين رياءً، والقضاء ظُلْمًا.
إن كنتم في شكٍّ مما أقول، فإني أقصُّ عليكم حادثتين من حوادث ذلك التاريخ أرى فيهما غناءً ومُقْتَنَعًا: في ١٣ أكتوبر سنة ١٧٦١ وُجِدَ شابٌّ مصلوبًا في الطبقة الأرضية من بيت في مدينة «طولوز» فهاج الشعب ولغط «الإكليروس» وبحث القضاة، فكانت النتيجة أن كان الشاب منتحرًا فَسُمِّيَ قتيلًا، وكان والده بريئًا فَسُمِّيَ قاتلًا.
هكذا أراد الدين وأرادتْ مصلحتُه أن يَهْلِكَ والد الفتى؛ لأنه كان بروتستانيًّا، ولأنه كان يمنع فتاه أن يتديَّن بالكثلكة، إنها لجناية عظيمة جِدًّا ينكرها الدين ويُحيلها العقل، ولكن هان عليهم أمرها ولم يحفلوا بالشريعتين: شريعة القلب وشريعة العقل، فحكموا أنَّ الشيخ الكبير قتل ولده الصغير.
هكذا قضى القضاء، وهكذا كانت النتيجة فاستمعوها: في شهر مارس سنة ١٧٦٢ سِيقَ إلى الميدان العام شيخٌ أبيض الشعر — هو «جان كالاس» — ثم جُرِّدَ من ثيابه وطُرِحَ على دولاب العذاب، وشُدَّتْ به أطرافه وتُرِكَ رأسُه مُتَدَلِّيًا.
ثلاثة رجال تلوثت أيديهم بدم القتيل، كاهنٌ يحمل الصليب، وجلَّادٌ يحمل القضيب، وقاضٍ يحمل في صدره عهد القوم إليه بالتنكيل والتعذيب.
لم يكن الشيخ المسكين، وقد شقَّ الخوف مرارته وتمشَّى قلبُه في صدره، لينظرَ إلى الصليب في يد الكاهن، بل إلى القضيب في يد الجلاد.
رفع الجلاد القضيبَ وضرب ذراع الشيخ ضربةً كاسرةً صاح على أثرها صيحةً مؤلمة، ثم أُغْمِيَ عليه، فتقدَّم القاضي الرحيم وأمر له بالمنبهات فانتعشَ، فضربه الجلاد الضربة الأخرى فوق الذراع الآخر، فعاد إلى صرخته وإغمائه، فعادوا إلى تنبيهه وإنعاشه، وهكذا حتى تمَّ لكل ذراع من ذراعيه ضربتان وصدعتان، فكأنما قَتَلُوه قبل موته ثمانيَ مرات.
في الإغماء الثامن — بعد مرور ساعتين من العذب — تقدَّم الكاهن ومد إليه الصليب ليقبله فحول وجهه عنه، وكذلك تبلغ القسوة الدينية من نفوس المتدينين، فأقبلَ الجلَّاد وسدَّد إلى صدره الطرف الغليظ من القضيب الحديد وضربه ضربةً أَلْصَقَتْ صَدْرَهُ بظهره، فكانت القاضية.
على هذه الصورة مات «جان كالاس».
وما هي إلا أيام قلائل حتى عَرَفَ الناسُ أنَّ الفتى مات منتحرًا لا مقتولًا، فحكموا ببراءة الشيخ بعد أن نَفَذَ سهم القضاء فيه، وماذا يعنيه بعد الموت أمات جانيًا أم بريئًا؟
أما الحادثة الأخرى فهي عِبْرَةُ الشباب كما كانت الأولى موعظة الشيخوخة: بعد مُضِيِّ ثلاث سنين من تاريخ الحادثة الأولى، وجدوا في إيفيل — في ليلة عاصفة — صليبًا عتيقًا أكل السوس أحشاءه حتى عَافَ البقاء فيه مُطَّرَحًا فوق الجسر، بعد أن عاش فوق السور ثلاثة قرون.
من ألقى به من أعلى السور؟ من أهانه؟ من ذا الذي دنَّس هذا الأثر المقدس؟ من ذا الذي أجرم هذا الجُرْمَ العظيم؟
ربما عَصَفَتْ به ريحٌ، أو عبث به عابر طريقٍ، أو هوى به ضعف الشيخوخة وإعياء الهرم … لا لا، كل ذلك لم يكن؛ لأن الدين أبى إلا أنْ يُوجِدَ مجرمًا، هنالك أعلن مطران «إميان» براءةً من غفران الله ورحمته لكل مؤمن عَلِمَ أو ظَنَّ أنه عَلِمَ شيئًا عن هذه الحادثة فكتمه.
إنَّ الحرمان في الكَثْلَكَةِ جريمةٌ فظيعة قاتلةٌ، متى أوحى به التعصُّب الذميم إلى الجهل العظيم، كان هذا الحرمان سببًا في أنَّ القضاء عرف — أو ظن أنه عرف — أنَّ ضابطين اسم أحدهما: «لابار»، والآخر: «ديتالون»، مرَّا على جسر إيفيل في تلك الليلة المشئومة يترنحان سُكْرًا ويُنْشِدَانِ نَشِيدًا عسكريًّا، مَرَّا بالجسر وأنشدا النشيد؛ فَهُمَا المجرمان. وكانت المحكمة مَقْدَسَ إيفيل، ولم تكن بأقل عدلًا وإنصافًا من مجلس الكابيتول في طولوز، فأمرت بالقبض على الرجلين فاختفى ديتالون وقُبِضَ على لابار وأُسْلِمَ إلى القضاء، فاعترف بالنشيد وأنكر المرور على الجسر، فحكمت عليه محكمة إيفيل بالإعدام، وأيَّدَ حكمها برلمان باريس، فدنت الساعة المخيفة الهائلة: لقد تفننوا في تعذيب لابار وإرهاقه ليكشفوا عن سرِّ فَعْلَتِهِ، وعن شركائه في جريمته؛ أي جريمة المرور على الجسر وإنشاد النشيد.
لقد عذبوه عذابًا أليمًا، حتى إنَّ الكاهن الذي جِيءَ به ليسمعَ اعترافه أُغْمِيَ عليه حينما سمع قرقعة عظام ركبتيه.
مضى هذا اليوم وجاء اليوم الثاني وهو يوم ٥ يونيو سنة ١٧٦٦، وجِيءَ بالشاب المظلوم إلى ساحة إيفيل الكبرى حيث تشتعل نار العذاب وتضطرم اضطرامًا، فأسمعوه نصَّ الحكم، ثم بتروا يده، ثم اسْتَلُّوا لسانه بقابضٍ من الحديد فاستأصلوه، ولكنهم رحموه بعد ذلك فقطعوا رأسه وألقَوا به في النار.
على هذه الصورة مات الشيفاليه دي لابار كما مات من قبله جان كالاس!
أحزنك هذا المنظر يا فولتير وآلم نفسك وملك عليك شعورك ووجدانك، فَصِحْتَ صيحةَ الرُّعب والجزع، فكانت تلك الصيحة الحجرَ الأول في بناء مجدك العظيم الخالد.
هنالك انْبَعَثَتْ نفسُك إلى النزول في ميدان المجتمع الإنساني لِتَكُفَّ عادية الظالمين، وتُقَلِّمَ أظفار الوحوش الضارية، وجلست في منصة القضاء لِتُحَاكِمَ الماضي على جرائمه، وتنتصف منه للمستقبل، فَانْتَصَفْتَ وانْتَصَرْتَ وكنت من المحسنين.
فيا أيها الرجل العظيم، طِبْتَ حيًّا وميتًا.
حدثتْ تلك الحوادث التي ذكرتُها على مشهدٍ من المجتمع المهذَّب الراقي، وفي حياة حافلة بالسعادة، مغتبطة بالهناء، يغدو إليها الإنسان لاهيًا، وبروح ساهيًا، لا يرفع رأسه فيعلم ما فوقه، ولا يخفضها فيرى ما تحته.
حدث ذلك وأيام البلاط أعياد و«فرسايل» تتلألأ حسنًا وبهاءً، ورونقًا وماءً، وظرفاء الشعراء مثل «سان أولاير» و«بوفلير» و«جنتيل برنار» لاهون بالغزل الرقيق والوصف الجميل.
حدث ذلك وباريس تتجاهل ما يجري حولها، فاستطاع القضاء الظالم بمعونة القسوة الدينية أن يُمثِّل بالشيخ ذلك التمثيلَ الفظيعَ بذلك القضيب الحديد، وأن يَسْتَلَّ لسان الفتى لأنه أنشد الأناشيد.
كان المجتمَع في ذلك التاريخ مُؤَلَّفًا من قوًى عظيمة هائلة، قوة البلاط، وقوة الأشراف، وقوة المال، وقوة الشعب المائج المتدفِّع، وقوة الحكومة التي كانت أسدًا على الرعية ونعامةً بين يدي الملك، تجثو أمامه خاضعةً صاغرة، إلا أن جُثِيَّها كان على جُثَّةِ الشعب، وقوة الإكليروس المُؤَلَّف من الرياء الكاذب والتعصب الأعمى.
تقدَّم فولتير وحدَه وأثار حربًا عَوَانًا على هذا العالم المؤلَّف من تلك القوى المختلفة المخيفة، ولم يره أكبر من أن يَنْخَذِلَ، ولم يرَ نفسه أصغر من أن ينتصر.
أتدري ما كان سلاحه؟ ما كان له سلاح غيرُ تلك الأداة التي تُجاري العاصفة في هبوبها، وتسبق الصاعقة في انقضاضها، ما كان له سلاحٌ غيرُ القلم، فبالقلم حارب وبالقلم انتصر.
انتصر فولتير، بعد أنْ وقف وحدَه تلك المواقف المشهودة، فولتير أدار وحدَه رَحَى تلك الحروب الهائلة: حرب العلم والجهل، والعدل والظلم، والعقل والهوى، والصلاح والفساد، فتمَّ على يديه الغَلَبُ للخير على الشر، وفاز فوزًا مبينًا.
كان فولتير قلبًا وعقلًا، كان له رِقَّةُ الفتاة في غِلالتها، وشدة الأسد في لِبدته.
فولتير محا الخرافات الدينية والعادات الفاسدة وأرغم أنفَ الكبرياء، وأذلَّ عِزَّ الرؤساء، ورفع السُّوقِيَّ إلى حيث لا يصل إليه ظُلْمُ القاضي وتنطُّع الكاهن.
عَلَّمَ ومدَّن وهذَّب، ولَقِيَ في سبيل ذلك من الشدائد والمحن والنفي والقهر ما يَكْسِرُ سَوْرَةَ النفس، فلم تَنْكَسِرْ سَوْرَتُهُ، ولم تَفترْ عزيمته، بل كان يلقى الاستبداد بالسخرية، والغضب بالاستخفاف، والقوة القاهرة بالابتسامة المؤثرة.
أقف هنا قليلًا إجلالًا لابتسامة فولتير.
فولتير هو الابتسامة، والابتسامة هي فولتير.
أفضل مزايا الرجل الحكيم أن يَمْلِكَ نفسه عند الغَضَبِ، وكذلك كان فولتير.
كان عقله ميزانَ أعماله، فما غلبه حتى الغضب للحق.
كنت تراه عابسًا مُقَطِّبًا، فما هي إلا كَرَّةُ الطرْف حتى ترى فولتيرَ الضاحك المبتسم في مكان فولتير العابس المقطِّب.
يكاد يكون ابتسامه ضَحِكًا لولا حزن الحكيم، وَهَمُّ العاقل. كان ابْتِسَامُهُ كبارقة السيف يرتاع لها الأعداء، ويرتاح لها الأولياء.
كان يبتسم للقويِّ فيُخجله بتهكُّمه واستخفافه، وللضعيف فيسرُّه بتحنُّنه وانعطافه.
فَلْنُمَجِّدْ تلك الابتسامة التي كانت أشعتها كأشعة الفجر تمحو الظلام وتبعث الأنوار.
نِعْمَ الابتسامُ ابتسامٌ أنار الطريقَ للعدل والحق والصلاح، وبدَّد ظلمات التقليد!
إنَّ ابتسامة فولتير أنشأت هذه الهيئة الاجتماعية، وزَيَّنَتْهَا بالإخاء والمودة والحرية والمساواة، فنالَ العقلُ منزلتَه من الإجلال والإعظام، سواء أَسَكَنَ القصرَ الكبير أم الكوخ الحقير، ولبس المعلِّم تاج الملك فتصرَّف في العقائد الباطلة والعادات الفاسدة والخرافات الدينية تَصَرُّفَ الحاكم القدير، ونشر السلامُ أجنحته البيضاءَ على المجتمع الإنسانيِّ فَقَرَّتِ السيوف في الأغماد، وهدأتِ الدماء في العروق والأرواح في الأجسام، وكلُّ ذلك بِفَضْلِ ابتسامة فولتير، ولسوف يأتي ذلك اليوم العظيم يوم الرحمة بالضعفاء والعفو عن الخاطئين، فيبتسم فولتير في السماء ابتسامةً تَتَلَأْلَأُ بين لَأْلَاء النجوم.
فلنمجد ابتسامة فولتير كلَّ التمجيد، ولنُكبرها كلَّ الإكبار. هل كان فولتير يحلم دائمًا فلا يَسْتَخِفُّ حِلْمَهُ الغضبُ؟ كلَّا بل كان يغضب أحيانًا في سبيل الحق.
إنَّ التوسط وحفظ الموازنة بين الأخلاق هو القانون العقليُّ للإنسان، حتى لا تهبط به كِفَّةٌ وتعلو به أخرى، وحتى لا يَهْلِكَ بين عاطفتي الحب والبغض، وإنَّ الفلسفة هي الاعتدال وإظهار الحقائق واضحةً من مؤتلفات الأعمال والأقوال، ولكن أرى أن حبَّ الحق يجب أن يكون في مرتبة الغلو حتى تَهُبُّ عاطفته هبوبَ العاصفة فتذهب بالأقَذَاءِ والأقذار.
يعيش المرء بين سعادتين من حاضره ومستقبله، أمَّا الأولى فيكفلها العدل، وأما الثانية فيحرسها الرجاء والأمل؛ لذلك يحب الناس القاضيَ العادل، والكاهنَ الصالح؛ لأن الأول صورة العدل، والثاني مِثَالُ الرجاء. فإذا انقلب العدل ظلمًا والأمل يأسًا عافهما الإنسان ولوى وجهه عنهما، وقال للقاضي: «لا أحب قانونك.» وللكاهن: «لا أعتقد بِدْعَتَكَ.» وهناك يهبُّ الفيلسوف الغيور غاضبًا، فَيُحَاكِمُ القضاءَ أمام العدل، والكهنوتَ أمام الله، وكذلك فعل فولتير فكان من المحسنين.
إنَّ الرجل العظيم لا يَظهر في المجتمع وحيدًا إلا قليلًا، وكلما كَثُرَ العظماء حوله ارتفع شأنه وعلا ذكره، فهو كالشجرة تكون في نَظَرِ الناظر أَطْوَلَ في الغابة الشَّجْرَاءِ منها في التُّرْبَةِ الجرداء؛ لأنها تكون في منبتها ومستقرِّها. وكان فولتير في غابة من العقول الكبيرة — روسُّو، وديدرو، وبوفون، وبورماشه، ومونتسكيو — أولئك القوم المفكرون هم الذين علَّموا الناس النظر في حقائق الأشياء والتفكُّر الموصل إلى إتقان الأعمال، وعلَّموهم أنَّ صَلَاحَ القلب أثر من آثار صلاح العقل، فأجادوا وأفادوا.
مات أولئك القوم العظام وَهَوَتْ من أُفقها كواكبُهم، ولقد كانوا في حياتهم جسدًا وروحًا، أمَّا الجسدُ فقد طواه القبر، وأما الروح فهي الثورة التي تركوها من بعدهم.
أجل، إنَّ الثورةَ روحهم الظاهر الساطع المتلألئ بحكمتهم ومبادئهم.
هم في الحقيقة أبطال الثورة المقدسة التي هي خاتمة الماضي وفاتحة المستقبل.
إنك تراهم بعين بصيرتك في كل مواقفها ووقائعها، إذا اخْتَرَقَتْ أشعَّةُ العقل حِجَابَ المسببات ونَفَذَتْ إلى الأسباب ترى في نور الثورة الساطع أنَّ ديدرو كان واقفًا وراء دانتون، ورسُّو وراء روبسبير، وفولتير وراء ميرابو، ونجد أنَّ أبطال الثورة صنيعة أبطال الفلسفة.
إنَّ الكلمة الأخيرة التي أَنْطِقُ بها في هذا الموقف هي دُعاء المجتمع البشري إلى التقدُّم بهدوء وسكون وثبات ووقار.
قد وجد الحق ضالته التي كان ينشدها: وهي الإخاء الإنساني والتعارف النفسي، فَمِنَ العبث أن تشغل القوةُ بعد ذلك مكانًا من هذا المجتمع، فإن فعلت كان أليق الأسماء بها الاستبداد.
إنَّ المجتمع الإنساني أنكر على القوة حقها المزعوم وضاق صدره بجرائمها وآثامها، فقاضاها بين يدي التمدين، ووضع بين يديه جريدة المتهمين من الرؤساء والزعماء، وأتى بالتاريخ شاهدًا على دعواه فقضى التمدينُ له عليها، وجاء الحق وزهق الباطل إنَّ الباطل كان زهوقًا.
شَفَّ ثوبُ الرياء عمَّا تحته، وظهرت الحقيقة بيضاءَ ناصعةً لا غُبَار عليها، ولم يصبح الأبطال والمجرمون في نظر الإنسان سواء.
لقد هَدَمَ التمدُّنُ تلك القاعدة الفاسدة، وهي أنَّ الجُرْمَ العظيمَ أصغرُ من الجُرْمِ الصغير، فأدرك الإنسان أنَّ قتل الشعوب أكبرُ إثمًا وأعظم جريرةً من قتل الأفراد، واستكبرَ أن يعتبرَ الحربَ مجدًا وهو يعتبر السرقةَ عارًا. وبالجملة عرف أنَّ الجريمة جريمةٌ حيث حَلَّتْ، وفي أيِّ مظهرٍ ظهرَت، وأنَّ القاتل لا يُغني عنه من الله شيئًا أن يُسَمَّى القيصرَ أو يُدْعَى الإمبراطور، ولا يخفى على الله من أمره شيءٌ، سواءٌ أُلْبِسَ تاج الملك أم قلنسوة الإعدام.
فلنصرخ بالحقيقة المقرَّرة الواضحة، ولنحقر الحرب أشد الاحتقار.
إنَّ الحرب المباركة لا أثر لها في الوجود.
إنَّ منظر الدماء والأشلاء أفظع منظر.
لا يعقل أن يكون الشر طريق الخير، وأن يكون الموت وظيفة الحياة.
أيتها الأمهات الجالسات حولي، خَفِّفْنَ من أحزانكن، فقد أوشكت يد الحرب أن تكفَّ عن اختلاس أفلاذ أكبادكن.
أنْ تشقَى المرأة فتلدَ، ويَغْرِس الزارع فيكسو الأرض بساطها الأخضر، ويجهد العامل فيملأ الخزائن ذهبًا وفضة، ويأتي الصانع بعجائب المصنوعات وغرائب المدهشات، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وفاخرتِ السماءَ بنجومها وكواكبها، وذهبنا لرؤية معرضها العام، وجدناه ساحة القتال!
لا، لا … إنا لا نستطيع أن نخدع أنفسنا وننكر أنَّ الساعة التي نحن فيها تشتمل على بضع دقائق محزنةٍ تُكدِّر صفوها وتنتقص من سرورها.
لا تزال في مرآة السماء الصافية سحابةٌ سوداء.
إنَّ الشعب لم يقضِ كل أَرَبِهِ من السعادة؛ لأن الحرب لم تزل باقية.
فلنذكرْ عند ذكر ملوك الحرب فولتيرَ، وجان جاك، وديدرو، ومونتسكيو، ملوك السلام، ولنوجه وجهتنا إلى تلك الروح العالية، إلى تلك الحياة العظيمة، إلى ذلك الدفين المقدس، إلى فولتير، ولنركعْ أمام قبره عسى أن يمدنا بروح منه ويَهدينا إلى حظيرة السلام، فإنه بعد مرور قرنٍ على موته لم يزل في الأحياء الخالدين.
ولنقف في طريق الدماء المتدفقة لنقول للسفاكين بصوتٍ عالٍ: «كفى، كفى، إنها همجيةٌ! إنها تشوه وجه المدنية الجميل.»
إنَّ أسلافنا من الفلاسفة هم رسل الحق إلى البشر، فلنضرع إليهم في تَذكارهم هذا أن يتداركوا الفتنة قبل وقوعها، وينادوا أنَّ الحياة مِلْكٌ للإنسان، وعظيمٌ عليه أن تسلب منه، وأنَّ التمتع بالحرية حقٌّ من حقوق العقول والأفكار.
إنَّ النور لا أثر له بين أضواء القصور، فَلْنَطْلُبْهُ بين ظلمات القبور!