أين الفضيلة؟
قرأت في بعض الروايات أنَّ فتًى قضى حقبةً من دهره مولعًا بحب فتاةٍ خيالية لم يرها مرةً واحدة في حياته، وإنما تخيل في ذهنه صورةً ألَّفها من شتى المحاسن ومتفرقاتها في صور البشر، فلما استقرَّت في مخيلته تجسَّمت في عينيه فرآها أحبها حبًّا ملك عليه قلبه وحال بينه وبين نفسه، وذهب به كلَّ مذهب، فأنشأ يفتش عنها بين سمع الأرض وبصرها أعوامًا طوالًا حتى وجدها.
لا أستطيع أنْ أُكَذِّبَ هذه القصة لأني أنا ذلك الفتى بعينه، لا فرق بيني وبينه إلا أنه يسمي ضالَّته: الفتاة، وأسميها: «الفضيلة». وأنه فتش عنها فوجدها وفتشت عنها حتى عييت بأمرها فما وجدت إليها سبيلًا.
فتشت عن «الفضيلة» في حوانيت التجار، فرأيت التاجر لصًّا في أثواب بائعٍ، وجدته يبيعني بدينارين ما ثمنه دينارٌ واحد، فعلمت أنه سارقٌ للدينار الثاني، ولو وُكِلَ إليَّ أمر القضاء ما هان عليَّ أن أعاقب لصوص الدراهم وأُغفل لصوص الدنانير ما دام كلٌّ منهما يسلبني مالي ويتغفَّلني عنه.
أنا لا أنكر على التاجر ربحه، ولكن أنكر عليه أن يتناول منه أكثر من الجزاء الذي يستحقه على جهد نفسه في جلب السلعة، وبذل راحته في صونها وإحرازها، وكل ما أعرف من الفرق بين حلال المال وحرامه أنَّ الأوَّل بدل الجِدِّ والعمل، والثاني بدل الغش والكذب.
فتشت عن «الفضيلة» في مجالس القضاء، فرأيت أنَّ أعدل القضاة من يحرص الحرص كلَّه على ألا يهفوَ في تطبيق القانون الذي بين يديه، هفوةً يحاسبه عليها من منحه هذا الكرسيَّ الذي يجلس عليه مخافةَ أن يسلبه إياه، أما إنصاف المظلوم والضرب على يد الظالم وإراحة الحقوق على أهلها وإنزال العقوبات منازلَها من الذنوب، فهي عنده ذيولٌ وأذنابٌ لا يأبه لها ولا يحتفل بشأنها إلا إذا أشرق عليها الكوكب بسعده فمشت مع القانون في طريقٍ واحد مصادفةً واتفاقًا. فإذا اختلفت طريقهما بين يديه حكم بغير ما يعتقد، ونطق بغير ما يعلم، ودان البريءَ وبرَّأ الجاني، فإذا عتب عليه في ذلك عاتبٌ كانت معذرته إليه حكم القانون عليه، كأنما يريد أن يجعل العقل أسير القانون، وما القانونُ إلا حسنةٌ من حسنات العقل وصنيعةٌ من صنائعه.
فتشت عن «الفضيلة» في قصور الأغنياء، فرأيت الغنيَّ إمَّا شحيحًا أو متلافًا؛ أما الأول، فلو كان جارًا لبيت فاطمة — رضي الله عنها — وسمع في جوف الليل أنينها وأنين وَلدَيْها من الجوع ما مدَّ أصبعيه إلى أذنيه؛ ثقةً منه أنَّ قلبه المتحجر لا تنفُذه أشعة الرحمة، ولا تمرُّ بين طياته نسمات الإحسان. وأما الثاني، فمالُه بين ثغر الحسناء، وثغر الصهباء، فعلى يد أيِّ رجلٍ من هذين الرجلين تدخل الفضيلةُ قصورَ الأغنياء؟!
فتشت عنها في مجالس السياسة، فرأيت أنَّ المعاهدة والاتفاق والقاعدة والشرط ألفاظٌ مترادفةٌ معناها الكذب، ورأيت أنَّ الملك في كرسيِّ مملكته، كالحوذيِّ في كرسيِّ عربته، لا فرق بينهما إلا أنَّ هذا ينقض «تعريفته» وذاك ينقض معاهدته، ورأيت أنَّ أعدى عدوٍّ للإنسان الإنسانُ، وأنَّ كل أمةٍ قد أعدت في مخازنها ومستودعاتها وفي بطون قلاعها وعلى ظهور سفنها وفوق متون طياراتها ما شاء الله أنْ تعدَّه لأختها من عُدَد الموت وأفانين العذاب، حتى إذا وقع بينهما الخلف على حد من الحدود أو لقبٍ من الألقاب لبس الإنسان فروة السبُع، واتخذ له من تلك العدد الوحشية أظفارًا كأظفاره وأنيابًا كأنيابه، فشحذ الأولى وكشر عن الأخرى، ثم هجم على ولد أبيه وأمه هجمةً لا يعود منها إلا به أو بنفسه التي بين جنبيه، وإنك لو سألت الجنديين المتقاتلين: ما خطبكما؟ وما شأنكما؟ وعلامَ تقتتلان؟ وما هذه الموجدة التي تحملانها بين جنبيكما؟ ومتى ابتدأت الخصومة بينكما وعهدي بكما أنكما ما تعارفتما إلا في الساعة التي اقتتلتما فيها؟ لعرفتَ أنهما مخدوعان عن نفسيهما، وأنهما ما خرجا من ديارهما إلا ليضعا دُرَّةً في تاج الملك، أو «نيشانًا» على صدر القائد.
فتشت عنها بين رجال الدين ورجال الصحف، فرأيت أنهما يتَّجران بالعقول في أسواق الجهل، ورأيت كلًّا منهما قد ثَغَر له في كل رأس من رءوس البشر ثُغرةً ينحدر منها إلى العقول فيفسدها، والقلوب فيقتلها ليتوسل بذلك إلى الذخائر فيسرقها، والخزائن فيسلبها، هذا باسم السياسة وذاك باسم الدين.
فتشت عنها في كل مكانٍ أعلم أنه تربتها وموطنها فلم أعثر بها، فليت شعري هل أجدها في الحانات والمواخير، أو في مغارات اللصوص، أو بين جدران السجون؟!
سيقول كثيرٌ من الناس: «قد غلا الكاتب في حكمه وجاوز الحد في تقديره، فالفضيلة لا تزال تجد في صدور كثير من الناس صدرًا رحبًا، وموردًا عذبًا.» وإني قائلٌ لهم قبل أن يقولوا كلمتهم: «إني لا أنكر وجود الفضيلة ولكني أجهل مكانها، فقد عقد رياء الناس أمام عيني سحابةً سوداء أظلم لها بصري حتى ما أجد في صفحة السماء نجمًا لامعًا، ولا كوكبًا طالعًا.»
كل الناس يدَّعي الفضيلة وينتحلها، وكلهم يلبس لباسها ويرتدي رداءها ويعد لها عُدَّتها، من منظرٍ يستهوي الأذكياء والأغبياء، ومظهر يخدع أسوأ الناس بالناس ظنًّا، فمن لي بالوصول إليها في هذا الظلام الحالك والليل الأَلْيَل؟
إن كان صحيحًا ما يتحدث به الناس من سعادة الحياة وطيبها وغبطتها ونعيمها، فسعادتي فيها أن أعثر في طريقي في يوم من أيام حياتي بصديقٍ يَصدُقني الود وأَصدُقه، فيقنعه مني ودي وإخلاصي، دون أن يتجاوز ذلك إلى ما وراءه من مآرب وأغراض، وأن يكون شريف النفس، فلا يطمع في غير مطمعٍ، شريف القلب فلا يحمل حقدًا ولا يحفظ وترًا، ولا يحدِّث نفسَه في خلوته بغير ما يحدث به الناس في محضره، شريف اللسان فلا يكذب ولا ينُمُّ ولا يُلِمُّ بِعِرضٍ ولا ينطق بهُجرٍ، شريفَ الحب فلا يحب غير الفضيلة ولا يبغض غير الرذيلة.
هذه هي السعادة التي أتمناها ولكني لا أراها، إني لأرى الرياض الغناء تهفو أشجارها، وترنُّ أطيارها، وأرى جداول الماء تنساب بين أنوارها وأزهارها انسياب الأفاعي الرقطاء في الرمال البيضاء، وأرى أنامل النسائم تعبث بمنثورات الأوراق عبث الهوى بألباب العشاق، وأسمع ما بين صفير البلابل وخرير الجداول نغماتٍ شجيةً تبلغ من نفس الإنسان ما لا تبلغ أوتار العيدان، فلا يسرني منها منظر ولا يطربني مسمع؛ لأني لا أرى بين هذه المشاهد التي أراها ضالَّتي التي أنشدها.
لقد سمج وجه الرذيلة في عيني، وثقل حديثها في مسمعي حتى أصبحت أتمنى أن أعيش بلا قلب، فلا أشعر بخير الحياة وشرها، وسرورها وحزنها.
ولولا صِغارٌ يفقدن بفقدي طيب العيش ونعيمه لفررت من هذا العالم الناطق إلى ذلك العالم الصامت، فأجد من الأُنس به والسكون إليه ما وجده الذي يقول: