سحر البيان
رأيت في إحدى روايات شكسبير — وهي الرواية المعروفة برواية «يوليوس قيصر» — موقفًا لبطلين من أبطال الفصاحة، وفارسين من فرسان البيان، قد وقف كلٌّ منهما من صاحبه موقف اللاعب من اللاعب، ووقف الشعب الروماني بينهما موقف الكرة بين مضارب الأقدام، تعلو بها حينًا وتسفل أحيانًا، فلا تثبت صاعدةً ولا تستقر هابطةً، فعلمت أنَّ العامة عامةٌ في كل عصرٍ، والشعب شعبٌ في كل مصرٍ، وأنَّ سواد الأمة تحت صرح فرعون مثله تحت عرش قيصر، وأنه في رأس التاريخ اليسوعي مثله في ذَنَبِ التاريخ المحمدي، تدنو به كلمة وتنأى به أخرى، وتجذبه دمعة وتدفعه ابتسامة، وتطير بِلُبِّه الشعريات والخيالات طيران الريح الهوجاء بذرات الهباء.
علم بروتس الشريف الروماني أنَّ يوليوس قيصر قد استعبد الشعب الروماني وأذل نفسه ذلًّا ملك عليه حواسه ومشاعره، حتى ما يكاد يشعر بمرارته، وكذلك الذل إذا نزل بالنفوس سلبها كل شيءٍ حتى الشعور بنزوله بها. وعلم أنَّ حياة ذلك الشعب في موت ذلك القيصر، فهان عليه أن يقتل صديقه وسيده افتداءً لأمته، فطعنه طعنةً نجلاء سلبته نفسه، فهاج الشعب الروماني على القاتل وأعوانه هياج الأمواج المتدفعة على السفن المبعثرة في أكناف الدأماء، فوقف الرجل خطيبًا في وجه هذا الشعب المائج المحتدم حزنًا على خلاصه من يد قاتله وقفةَ المستبسل المستميت، وكان لا بدَّ له في موقفه من أحد المصيرين: إما نصرٌ يعلو به إلى مدار الأفلاك، أو خذلانٌ يهوي به إلى مقر الأسماك، ومن أحد المخرجين: إما مخرجه مرفوعًا على محفة الأبطال، أو محمولًا على أعناق الرجال، فبعد لَأْيٍ ما استطاع بعض الناس أن يسكن ثائرة الثائرين ويستدرجهم إلى سماع دفاع القاتل عن نفسه، أو التفكُّه بمنظر هذيانه وهو يتلمس في هذه الظلمة الحالكة المخرج من جُرمه.
الخُطبة
أنا لا أريد أن أخدعكم عن أنفسكم، ولا أن أعبث بعقولكم وأهوائكم، بل أريد منكم أن تنظروا إلى قضيتي نظرَ المستيقظ الحَذِر الذي لا يعطي هوادةً ولا يسلس قيادًا، ولا ينام عن شاردةٍ ولا واردة؛ لأني لا أعتقد أنَّ في زاويةٍ من زوايا قضيتي هذه كمينًا أخاف أن تقع عليه العيون.
أيها الرومانيون، إن كان بينكم صديقٌ لقيصر يحبه ويتهالك وَجْدًا عليه فليسمح لي أن أقول له: «أيها الصديق الكريم، إنَّ بروتس قاتل قيصر كان يحبه أكثر من حبك إياه.»
أيها القوم، والله لو كذَبتُ الناس جميعًا ما كذَبتُكم، فاعلموا أني ما قتلت قيصر لأني كنت أبغضه، بل لأني كنت أحب رومة أكثر منه.
كان قيصر يحبني فأحببته، وكان شجاعًا فاحترمته، ولكنه كان طماعًا فقتلته، ففي ساعة واحدة منحته دمعي وقلبي وخنجري.
أنا لا أصدق أنَّ بينكم من يحزن لموت قيصر، فأنتم رومانيون، والرومانيُّ لا يحب أن يعيش ذليلًا.
من منكم يكره أن يكون رومانيًّا؟ من منكم يكره أن يكون حرًّا؟ من منكم يحتقر نفسه؟ من منكم يزدري وطنه؟ إن كان بينكم واحد من هؤلاء فليتكلم؛ لأنه هو الذي يحق له أن يثأر لنفسه مني؛ لأني لم أسئ إلى أحدٍ سواه.»
(وما وصل بروتس من حديثه إلى هذا الحد حتى دخل أنطونيوس صديق قيصر، ورأس الناقمين على قتَلَتِه، والطالبين بثأره هو وآخرون، ومعهم جثة قيصر لتأبينه في هذا المجمع الحاشد، فاستأنف بروتس الكلام، وقال):
ها هي ذي جثة قيصر، وها هو ذا صديقه أنطونيوس قد جاء ليُؤبِّنه فاستمعوا له، واعلموا أنَّ قيصر المذنب غير قيصر الماجد، وقد سمعتم ما قيل عن الأول فاسمعوا ما قيل عن الثاني، واسمحوا لي أن اقول كلمة أختم بها خطابي.أيها الرومانيون، إنَّ الخنجر الذي ذبحتُ به قيصر في سبيل رومة لا يزال باقيًا عندي لذبح بروتس في سبيل قيصر إذا أرادت رومة ذلك.»
تأثير الخُطبة
وهنا خرج بروتس والقلوب طائرة حوله، والعيون حائمة عليه، وقد نال بتأثير خطابه من نفوس الشعب الروماني ما أراد، ثم صعد أنطونيوس على منبر الخطابة، فهزأ الشعب بموقفه، ولولا كلمة من بروتس ما ثبت في موقفه لحظة واحدة، ثم أنشد قصيدة التأبين المشهورة التي هي آية الآيات في اللغة الإنكليزية فصاحةً وبيانًا، والتي لا يكاد يوجد إنكليزيٌّ لا يحفظها ولا يمجدها تمجيد الأمم المتعبدة بآيات الكتب المقدسة.
القصيدة
أيها القوم، ما من أحدٍ من الناس إلا وله في حياته أعمالٌ حسنة وأخرى سيئة، أما حسناته فتموت بموته، وأما سيئاته فتبقى من بعده خالدة إلى يوم يبعثون.
كذلك كان قيصر في حياته ومماته، وحسناته وسيئاته.
أيها القوم، ما كنت لأستطيع أن أقف موقفي هذا بينكم ولا أن أقول كلمة مما أريد أن أقول لولا أنَّ بروتس قاتل قيصر أمرني بالوقوف، وأمرني بالكلام، وها أنتم أُولاء ترون أنني قد أطعته واستمعت له؛ لأنه رجلٌ شريف.
أيها القوم، يقول الشريف بروتس: إنَّ قيصر كان رجلًا طماعًا، وأنا لا أستطيع أن أخالفه فيما يقول؛ لأنه رجلٌ شريف.
أنا لا أستطيع أن أقول: إنَّ قيصر كان رجلًا قانعًا عادلًا أمينًا؛ لأن الشريف بروتس يقول غير هذا.
كل ما أستطيع أن أقوله: إنَّ الفدية التي افتدى بها أعداؤنا أَسراهم الذين جاء بهم قيصر إلى رومة قد ملأت الخزانة العامة حتى فاضت بها.
كل ما أستطيع أن أقوله: إني رأيت قيصر بعيني يبكي لبكاء الفقراء، ويحزن لحزنهم، ويبيت الليالي ذوات العدد ساهرًا لا يغتمض له جفنٌ حَدَبًا بهم وعطفًا عليهم.
كل ما أستطيع أن أقوله: إني عرضت بنفسي تاج الملك على قيصر في لوبر كال ثلاث مراتٍ فأباه زهدًا فيه وازدراءً له.
كنت أستطيع أن أقول: إنَّ الطمع لا يسكن قلبًا مثل هذا القلب، ولا يخالط فؤادًا مثل هذا الفؤاد، لولا أنَّ بروتس يقول: إنَّ قيصر رجلٌ طماع. وأنا لا أستطيع مخالفته؛ لأنه رجل شريف.
أيها الرومانيون، إنكم أحببتم قيصر قبل اليوم حبًّا جمًّا، فما الذي يمنعكم اليوم من البكاء عليه؟
إن لم تبكوه لصفاته الكريمة فابكوه لأنكم كنتم تحبونه، ابكوه لأنه كان بالأمس ينطق الكلمة فتدوي في صدور العظماء دويَّ الرعد في آفاق السماء، فأصبح اليوم مُطرحًا في ظل هذا الحائط لا يجد بين الناس من يأبه له، ولا من ينظر إليه.
أيها العقل الإنساني، كيف حالت حالك وتغيرت آيتك؟! وكيف انتقلت من الصدور الإنسية إلى الصدور الوحشية؟! وكيف ضللت سبيلك، وعميت عليك مذاهبك فحسبت الخير شرًّا، والشر خيرًا، واختلط عليك الأمر بين الحسنات والسيئات والمكارم والجرائم؟
أيها الرومانيون، عفوًا إنْ هذيت بينكم، أو أسأت إليكم، واعلموا أنَّ الحزن قد قسم فؤادي قسمين: قسمٌ على هذا المنبر، وقسمٌ في ذلك النعش.
أيها الأصدقاء، إنَّ بين جنبيَّ قلبًا يخفق بحبكم والعطف عليكم والرأفة بكم، ولولا مخافة أن تنفجر صدوركم حزنًا وجزعًا لقلت لكم: إنَّ قيصر قتل مظلومًا.
إنني أعتقد أنَّ بروتس ورفاقه قومٌ شرفاء عظماء؛ لذلك أحب أن أسيء إلى نفسي وإلى قيصر وإليكم قبل أن أقول: إنهم أخطئوا في قتل قيصر فأسيء إليهم.»
(وهنا أرسل أنطونيوس من جفنيه قطراتٍ من الدموع).
الانقلاب
(فنزل أنطونيوس ومشى حتى وصل إلى جثة قيصر وهو لا يزال في ملابسه التى قتل فيها، ولا تزال طعنات الخناجر ظاهرة في قبائه، ثم قال):
إنكم جميعًا تعرفون هذا القَباء، ولكنكم لا تعرفونه كما أعرفه أنا، أنا أعلم أنَّ قيصر لبسه أول مرةٍ في مساء اليوم الذي انتصر فيه على «الدفى» ذلك الانتصار الباهر الذي نالت به رومة فخرًا عظيمًا.»
(ثم وضع يده على الثقوب التي في القباء وقال):
«في هذا القباء الشريف تمزقت جثة هذا الفاتح العظيم، في هذا الثقب طعنه بروتس طعنته، ومن هذا الثقب أطلَّ دم قيصر ليرى بعينه وجه الضارب، وأحسب أنَّ أفراد النوع الإنساني جميعهم قد مروا بخاطر قيصر فردًا فردًا قبل أن يمر بخاطره بروتس.عرف قيصر أنَّ قاتله هو صديقه وصنيعة إحسانه، ففترتْ همته وعجز عن المقاومة؛ لأن الطعنة التي أصابته في جسمه لم تكن أقلَّ من الطعنة التي أصابته في قلبه، ولم يكن منظر المُدَى والخناجر أبشع في نظره من منظر الخيانة والغدر، هنالك عجز قيصر عن أن يقول شيئًا غير الكلمة التي ودَّع بها قاتله الوداع الأخير: وأنت أيضا يا بروتس؟!
وهنالك تحت تمثال بومباي وُجد قيصر قتيلًا، وقد لفَّ وجهه بقبائه حتى لا تتألم نفسه مرة ثانية بمنظر كفر النعمة ونكران الجميل، ها أنتم أُولاء تبكون على قيصر، فشكرًا لكم على هذه الدموع الكريمة التي طهَّرتم بها ما لوَّث به الخونة تربة الأرض من الدماء.
إنكم تبكون لمنظر قباء قيصر الممزق، فكيف بكم لو شاهدتم ما تمزق من جثته؟!»
(ثم دنا وكشف القباء عن جسمه وقال):
«إنَّ في كل جرح من هذه الجروح لسانًا يشكو إليكم فاستمعوا له، فهو أنطق من لسان الرثاء.»لولا أني أوثر الإبقاء عليكم، ولولا أني أحب تخفيفَ ما ألمَّ بقلوبكم من الحزن على فقيدكم، لَتَلَوْتُ عليكم وصيته لتعلموا أنَّ الرجل كان يحبكم، وأنه ما كان خليقًا أن يقتل بينكم وفيكم عينٌ تطرف وفؤادٌ يخفق.»
(ثم خرج الشعب يتدفق في شوارع رومة تدفق الأمواج الثائرة في القاموس المحيط).
وهكذا استطاع أنطونيوس في موقفٍ واحدٍ أن يستعبد الشعب الرومانيَّ لنفسه، وما كاد يَخلُص من استعباد قيصر … وهكذا الأمم الضعيفة، لا مفرَّ لها من العبودية لحملة التيجان، أو حملة البيان!