الإنسانية العامة
الجامعة الإنسانية هي الجامعة الكلية العامة التي يلجأ إلى كنفها هذا المجتمع الإنساني كلما أزمته أزمةٌ، أو نزلت به نازلةٌ، وهي المُطَّلعُ الذي تُشْرِق منه شمس الرحمة الإلهية على هذا الكون فتنير ظلماءه، وتكشف غماءه. وهي الحَكَمُ العدل الذي يفصل في قضايا المجتمعات البشرية حين تنفصم عروتها، ويدب دبيب العداوة والبغضاء بين أحيائها. وهي السلطان المطلق الذي يجلس في كرسي عظمته وجلاله، فتخر له جميع الجباه سُجَّدًا، وتبتدر يديه لثمًا وتقبيلًا.
الجامعة الإنسانية هي الجامعة الجوهرية الثابتة التي رأت طينة آدم أولًا، وسترى نفخة إسرافيل آخرًا، والتي تسير مع الإنسان حيث سار في بره وبحره، وسهله وحَزْنه، وحياته وموته، وتدور معه حيث دار في إيمانه وكفره، وصلاحه وفساده، واستقامته واعوجاجه، لا يتغير لونها، ولا يتحول ظلها، ولا تستحيل مادتها، ولا تبلى جِدَّتها على كرِّس الليالي ومر الأيام.
ما من جامعة من الجوامع القومية أو الجنسية أو الدينية أو الأهلية إلا وهي تعتمد على الجامعة الإنسانية في سيرها، وتستظل بظلها، وتهتدي بهديها، فالمجاهد الوطني يقول: «إني أدافع عن وطني وأحمي حوزته، وأقوم على ثغوره وعوراته مقام الذائد المناضل؛ لأني أعتقد أنني إن أغفلت ذلك وأغفله في وطني كلُّ مضطلع بمثل ما أنا مضطلعٌ به في وطني، تساقطت الحوجز القائمة في وجه المطامع البشرية، فجرى سيلها متدفعًا لا يقوم له شيءٌ حتى يأتي عليه.» والفاتح الديني يقول: «إني أعتقد أنَّ الإنسانية لا تزال معذبةً يأكل قويها ضعيفها، ويغتال كبيرها صغيرها، ويستضعف حاكمها محكومها حتى تدينَ بالدين الذي أدين به، فأنا إنْ حاربت البلاد وقاتلت العباد، فإنما أريد أن أخوض هذا البحر الأحمر من الدماء لأصل إلى سفينة الإنسانية المشرفة على الغرق، فأستخلصها من يد الموت الذي يساورها.»
هكذا يقول دعاة الدين، ودعاة الوطن، ودعاة كل جامعةٍ، وهكذا يجب أن يقولوا، فإن لم يفعلوا وأَبَوْا إلا أن يُغفلوا الجامعة الإنسانية في دعائهم إلى جوامعهم التي يدعون إليها، فليعلموا أنَّ الإنسانية مِلاك كلِّ شيءٍ، فإذا ذهبت ذهب بذَهابها كلُّ شيء.
ليس لساكن وطنٍ من الأوطان، أو صاحب دين من الأديان أن يقول لغيره ممن يسكن وطنًا غير وطنه، أو يدين بدين غير دينه: «أنا غيرك، فيجب أن أكون عدوك!» لأن الإنسانية وَحْدةٌ لا تَكَثُّرَ فيها ولا غَيْرِيَّةَ، ولأن هذه الفروق التي بين الناس في آرائهم ومذاهبهم ومواطن إقامتهم وألوان أجسادهم وأطوالهم وأعراضهم، إنما هي اعتباراتٌ واصطلاحات، أو مصادفاتٌ واتفاقات تعرض لجوهر الإنسانية بعد تكونه واستتمام خلقه، وتختلف عليه اختلاف الأعراض على الأجسام. ففي كل بلدٍ وفي كل يومٍ يستعجم العربي، ويستعرب الأعجمي، ويسلم المسيحي، ويتهود الوثني، ويلحد المؤمن، ويؤمن الجاحد، ويستشرق المغربي، ويستغرب المشرقي. ولو أشاء أن أقول لقلت: إنه لا يوجد فوق رقعة الأرض من لا يزال يمسك حتى اليوم بطرف سلسلة ينتهي طرفها الآخر بوطنٍ غير وطنه، ودينٍ غير دينه، وأمةٍ غير أمته.
إذا جاز لكل إقليم أن يتنكر لغيره جاز لكل بلدٍ أن يتنكر لكل بلد، بل جاز لكل بيتٍ أن ينظر تلك النظرة الشَّزْرَاءَ إلى البيت الذي يجاوره، بل جاز للأب أن يقول لولده، وللولد أن يقول لأبيه: «إليك عني، لا تمد عينيك إلى شيءٍ مما في يدي، ولا تطمع أن أُوِثرَكَ على نفسي بشيءٍ مما اختصصتها به؛ لأنني غيرك، فيجب أن أكون عدوك!» وهنالك تنحلُّ كلُّ عقدةٍ، وتنفصم كل عروةٍ، ويحمل كل إنسان لأخيه بين أضلاعه من لواعج البغض والشحناء ما يرنق عيشه، ويطيل سُهْدَه، ويقلق مضجعه، ويحبب إليه صورة الموت، ويُبغِّض إليه وجه الحياة، وهنالك يصبح الإنسان أشبه شيءٍ بذلك الإنسان الأول في وحشته وانفراده، يقلب وجهه في صفحات السماء، ويفتش بيديه في طبقات الأرض، فلا يجد له في الوحشة مؤنسًا ولا على الهموم معينًا.
الجامعة الإنسانية أقرب الجوامع إلى قلب الإنسان، وأعلقها بفؤاده وألصقها بنفسه؛ لأنه يبكي لمصاب من لا يعرف، وإن كان ذلك المصاب تاريخًا من التواريخ أو خيالًا من الخيالات؛ ولأنه لا يرى غريقًا يتخبط في الماء، أو محروقًا يتقلب في النار حتى تحدثه نفسه بالمخاطرة في سبيله، فيقف موقف الحزين المتلهف إن كان ضعيفًا، ويندفع اندفاع الشجاع المستقتل إن كان قويًّا. ويسمع وهو بالمشرق حديث النكبات بالمغرب، فيخفق قلبه وتطير نفسه؛ لأنه يعلم أنَّ أولئك المنكوبين إخوانه في الإنسانية، وإن لم يكن بينه وبينهم صلةٌ في أمرٍ سواها، ولولا أن ستارًا من الجهل والعصبية يُسْبِله كل يوم غلاة الوطنية والدين أو تجارهما على قلوب الضعفاء والبسطاء، لما عاش منكوبٌ في هذه الحياة بلا راحمٍ، ولا ضعيفٌ بلا معين.
لا بأس بالوطنية ولا بأس بالحمية الدينية، ولا بأس بالعصبية لهما والذياد عنهما، ولكن يجب أن يكون ذلك في سبيل الإنسانية وتحت ظلالها؛ أي أن تكون جميع دوائر المجتمعات باقية في أماكنها دائرةً حول نفسها، بحيث لا تخرج واحدة منها عن دائرة الإنسانية العامة التي تضمها جميعًا وتشتمل عليها. والوطنية لا تزال عملًا من الأعمال الشريفة المقدسة حتى تخرج عن حدود الإنسانية، فإذا هي خيالاتٌ باطلة وأوهام كاذبة، والدين لا يزال غريزة من الغرائز المؤثرة في صلاح النفوس وهداها، حتى يتمرد على الإنسانية ويعتزلها، فإذا هو شعبةٌ من شعب الجنون.
فإن كان لا بدَّ للإنسان من أن يحارب أخاه أو يقاتله، فليحاربه مدافعًا لا طاعنًا، وليقاتله مؤدِّبًا لا منتقمًا، وليقف أمامه في كل ذلك موقف المحق المنصف والشفيق الرحيم، فيدفنه قتيلًا ويعالجه جريحًا، ويكرمه أسيرًا، ويخلفه على أهله وولده بأفضل ما يخلف الرجل الكريم أخاه الشقيق، أو صديقه الحميم على ذُرِّيَّتِه من بعده، وليكن شأنه معه شأن تلك الفئة المتحاربة التي وصفها الشاعر في قوله: