الشعر
كتب إليَّ كاتبٌ يقول: «عرفناك قبل اليوم شاعرًا ما تكتب فقرةً، ثم رأيناك بعد ذلك كاتبًا ما تنظم بيتًا، فلم لم تكتب في عهدك الأول، ولم تنظم في عهدك الثاني؟» كأنما ظن — عافاه الله — أني أكتب اليوم بقلمٍ غير قلم الأمس، أو أهيم في وادٍ غير ذلك الوادي، وهل الشعر إلا نثارةٌ من الدر ينظمها الناظم إن شاء شعرًا، وينثرها الكاتب إن شاء نثرًا، أو نغمةٌ من نغمات الموسيقى يسمعها السامع مرةً من أفواه البلابل والحمائم، وأخرى من أوتار العيدان والمزاهر، أو عالمٌ من عوالم الخيال يطير فيه الطائر بقادمتين من عروضٍ وقافية، أو خافيتين من فِقَرٍ وأسجاعٍ.
الكاتب الخيالي شاعرٌ بلا قافية ولا بحر، وما القافية والبحر إلا ألوان وأصباغٌ تعرض للكلام فيما يعرض له من شئونه وأطواره، لا علاقة بينها وبين جوهره وحقيقته، ولولا أنَّ غريزةً في النفس أن يردد القائل ما يقول، ويتغنى بما يردد ترويحًا عن نفسه وتطريبًا لعاطفته، ما نظم ناظمٌ شعرًا ولا روى عروضيٌ بحرًا.
ما كان العربيُّ في مبدأ عهده ينظم الشعر، ولا يعرف ما قوافيه وأعاريضه، وما علله وزحافاته، ولكنه سمع أصوات النواعير، وحفيف أوراق الأشجار، وخرير الماء، وبكاء الحمائم، فلذ له صوت تلك الطبيعة المترنمة، ولذ له أن يبكي لبكائها وينشج لنشيجها، وأن يكون صداها الحاكي لرناتها ونغماتها، فإذا هو ينظم الشعر من حيث لا يفهم منه إلا أنه ذلك الخيال الساري المتمثل في قريحته، المتردد بين شدقيه، ولا من أوزانه وضروبه إلا أنها صورةٌ من صوره، ولونٌ من ألوانه.
ذلك منتهى نظر العربي إلى الشعر، وذلك ما دعاه إلى أن يسمي النبي الذي بعثه الله إليه شاعرًا، وهو يعلم كما يعلم غيره من الناس أنه ما قصَّد في حياته قصيدة، ولا رجَّز أرجوزةً، ولكنه سمع من كتاب الله وآياته المفصلات أبلغ الكلام وأفصحه وأعلقه بالنفوس، وآخذه بالألباب، وأملكه للعواطف والوجدان، وأجمعه لصنوف التشبيهات البديعة والاستعارات الدقيقة والمجازات الرائعة والكنايات المستطرفة، وأمثال تيك مما لا ينطق به الناطق في أكثر مناحيه ومنازعه إلا عند ذهابه مذهب الخيال الشعري، فشبه له، فسمى ما سمعه شعرًا، وسمى الناطق به شاعرًا، وما هو بشاعرٍ ولا ساحرٍ، ولا كاهن ولا مجنون.
ما كل موزونٍ شعرًا، ولا كل ناظمٍ شاعرًا، فالوزن ملكةٌ تعلق بالنفس من طول ترديد المنظوم، والتغني به مقطعًا تقطيعًا يوازن تفاعليه، فهو نغمةٌ موسيقيةٌ ولحن خاص من ألحان الغناء يتمثل في قول الملك الضليل:
كما يتمثل في قول الخليل: «فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن.» ويتراءى في أوتار الحلق الناطق، كما يتراءى في أوتار العود الصامت.
أما الشعر فأمرٌ وراء الأنغام والأوزان، وما النظم بالإضافة إليه إلا كالحلي في جيد الغانية الحسناء، أو الوشي في ثوب الديباج المعلَّم، فكما أنَّ الغانية لا يحزنها عطل جيدها، والديباج لا يزري به أنه غير معلَّم، كذلك الشعر لا يذهب بحسنه وروائه أنه غير منظومٍ ولا موزون.
ذلك هو الفرق بين الشعر والنظم، وهأنتذا ترى أنْ لا صلة بينهما إلا تلك الصلة الاصطلاحية التي لا سبب لها إلا اعتياد الناس أنهم ينظمون ما يشعرون. وتلك الصلة هي التي خلطت بينهما، وعمت على كثيرٍ من الناس أمرهما، وهي التي أدخلت النظامين في عداد الشعراء، وألقت عليهم جميعًا رداء واحدًا لا يستطاع معه التمييز بينهما إلا للقليل من الناقدين المستبصرين، فأصبحنا نقرأ لبعض المعاصرين القصيدة ذات المائة بيتٍ فلا نجد بيتًا، ونتصفح الديوان ذا المائة قصيدة فلا نعثر بقصيدة، وأصبحنا لا نكاد نجد بيننا قارئًا غير شاعر؛ لأنه لا يوجد في الناس شخصٌ واحد يعجزه تصور تلك النغمة العروضية وتصويرها حتى العامة والأميين.
ولقد كتب الكاتبون في تعريف الشعر وافتنُّوا في ذلك افتنانًا بَعُد به عن مكانه، وعندي أنَّ أفضل تعريف له أنه «تصويرٌ ناطقٌ»؛ لأن قاعدة الشعر المطردة هي التأثير، وميزان جودته ما يترك في النفس من الأثر، وسر ذلك التأثير أن الشاعر يتمكن ببراعة أسلوبه وقوة خياله ودقة مسلكه وسعة حيلته من هتك ذلك الستار المسبل دون قلبه، وتصوير ما في نفسه للسامع تصويرًا يكاد يراه بعينه ويلمسه ببنانه، فيصبح شريكه في حسه ووجدانه، يبكي لبكائه ويضحك لضحكه، ويغضب لغضبه ويطرب لطربه، ويطير معه في ذلك الفضاء الواسع من الخيال، فيرى الطبيعة بأرضها وسمائها، وشموسها وأقمارها، ورياضها وأزهارها، وسهولها وجبالها، وصادحها وباغمها، وناطقها وصامتها، من حيث لا ينقل إلى ذلك قدمًا، ولا يلاقي في سبيله نَصَبًا.
فإن سمع قول القائل:
خيل إليه أنه يخطر في ذلك الروض البليل، بين أنواره وأزهاره، خطران النسيم بين ظلاله وأشجاره، وأنه يرى بعينه أولئك العذارى السانحات، وقد راعهن منظر الحصباء اللامع فوق تلك الديباجة الخضراء، فتولَّهن وفزعن إلى جوانب عقودهنَّ يلمسنها بأطراف بنانهنَّ يحسبن أن قد وهت، فانتثرت جواهرها في ذلك الروض الأريض.
وإن سمع قول الآخر:
تمثل له كأنه مر في ضاحيةٍ من ضواحي بغداد بدارٍ موحشة، فسمع فيها أصوات قومٍ يلهون ويقصفون ويقرعون الكئوس بأمثالها، فاقترب منها وأطل من خَصَاصِ بابها، فرأى أولئك القوم مجتمعين حول دَنٍّ من الخمر قد تكاملت سِنُّهُ، وشيَّب الدهر فَوْدَيْه ففصدوه، فسال دمه الأحمر في كئوسٍ من الذهب منقوشةٍ نقوشًا فارسية، قد استقرت في قرارتها صورة كسرى فارس، ودارت في باطنها صور فرسانه متنكبي قسيهم، كأنما يطاردون بقر الوحش أمامهم، ورآهم يملئون الكئوس إلى ما يوازي أعناق أولئك الفرسان، ثم يمزجونها بالماء إلى ما يغطي رءوسهم، فتسلل من مكانه مغتبطًا بمجمعهم، وبما هيئ لهم من الهناء والنعمة فيه، ثم مرَّ بتلك الدار بعد أيام، فرآها مقفرةً من أهلها لا تسمع بها نغمة ولا نأمة، فدخلها، فلم ير فيها إلا أعواد ريحان قد يبس أكثرها مبعثرةً في جوانبها، وخطوطًا كانت رسمتها زقاق الخمر فوق تربتها في غدوها ورواحها بين أولئك الندماء، فانصرف حزينًا مكتئبًا يسمع صفير الريح الضاربة في جوانبها، فيردد قول القائل:
وإن سمع قول الآخر:
شعر كأن لهيب تلك الهاجرة يهب في وجهه، فيشيح عنه فرارًا من لفحاته، ويكاد يبكي رحمةً لذلك الشبح المصهور الذي ملكت عليه تلك التنوفة الحمراء سبيله، وحالت بينه وبين نفسه، فلا هو بصابرٍ إنْ رام صبرًا، ولا بناجٍ إن أراد نجاءً.
وإن سمع قول الآخر:
هملت عيناه وجدًا على ذلك الغريب الحائر، وتمنى أنْ لو رآه في بعض مذاهبه وعطف عليه وآنس وحشته، وخفض لوعته، ثم أخذ بيده فأنزله من نفسه منزلًا كريمًا، وأبدله أهلًا بأهلٍ وجيرانًا بجيران.
وإن سمع قول الآخر:
أكبر تلك المكرمة العظيمة وأجلها، ونظر إليها في علياء سمائها كما ينظر الفلكي إلى كوكبه، وشعر كأن نورها قد لمع فامتد شعاعه إلى جوانب نفسه، فأضاءها.
ولا غرو أن يبلغ الشعر من نفسه هذا المبلغ! فلطالما كان للشعر السلطان الأكبر على النفوس العظيمة، فقد نكب الرشيدُ البرامكةَ عندما دسَّ له أعداؤهم ذاك المغني الذي غناه هذا الصوت:
وأمر السفاح بقتل وجوه بني أمية بعدما قربهم وأدناهم عندما دخل عليه سديف مولاه، وأغراه في قوله:
بل عطف عمر بن الخطاب على الحُطَيْئَةِ وأطلقه من سجنه حين سمعه يقول:
بل سمع النبي ﷺ قول قتيلة بنت الحارث تعاتبه في قتله أخاها النضر بن الحارث على رحمه منه، واتصال نسبه به:
فبكى وقال وهو من لا ظنة في عدله، ولا ريبة في حكمه: «لو سمعتها قبل اليوم ما قتلته.»
لا مؤثر في نفس الإنسان غير الشعر، وما خضع الإنسان لشيء في جميع أدوار حياته إلا للشعر، وللشعر الفضل الأول في نبوغ الإنسان وارتقائه وبلوغه هذا المبلغ من الكمال. ولقد أحب الإنسان الشعر ناطقًا وصامتًا؛ أما الناطق فقد عرفته، وأما الصامت فالتماثيل التي يراد بنصبها تمثيل حياة عظماء الرجال شعرٌ، وهذه النغمات الموسيقية التي تصور خواطر القلوب ووجداناتها، فتهيج عاطفة الحب في نفس العاشق وعاطفة الحماسة في نفس الجندي شعرٌ، وهدير الأمواج شعرٌ؛ لأنه يمثل عظمة الجبارين، وظلام الليل شعرٌ؛ لأنه يطلق دموع الباكين، وحفيف أوراق الأشجار شعر؛ لأنه يمثل المناجاة في مواقف العشاق، وبكاء الحمائم شعر؛ لأنه يمثل فجعة البين ولوعه الفراق.
تلك النغمات الشعرية التي نسمعها من فم الإنسان مرةً، وفم الطبيعة مرةً أخرى، هي التي زخرفت لنا هذه الحياة وألبستها ذلك الثوب الناعم الأبيض من السعادة والهناء حتى أحببناها وولعنا بها وحرصنا عليها، وأعددنا العدد للبقاء فيها والسكون إليها، فكتبنا ودونا، وألفنا واخترعنا، وتعلمنا فعلمنا، وبنينا فشيدنا، وغرسنا فجنينا، وعملنا فربحنا، واجتهدنا فأثرينا، وأملنا فسعينا، وسعينا فبلغنا، فكأن الشعر سر هذه الحياة وعلة هذا الوجود، لا تطير إلينا الحقائق إلا على جناحيه، ولا يطيب لنا العيش إلا في جواره. فلنمجد الشعراء كل التمجيد، ولنكبرهم كل الإكبار؛ فهم مشارق شموس الحكمة، وأفلاك كواكب العلم والفضل، وهم الينابيع الصافية التي يترقرق ماؤها ثم يتسرب إلى الأفئدة والقلوب فيملؤها سعادةً وهناءً.