غدر المرأة
يقصون في القصص الخرافية أنَّ حكيمًا من حكماء اليونان كان يحب زوجته حبًّا ملك عليه عقله وقلبه. وأحاط به إحاطة الشعاع بالمصباح المتقد، وكان يمازج هناءه الحاضر شقاء مستقبل يسوقه إلى نفسه الخوف من أن تدور الأيام دورتها فيموت، ويفلت من أشراكه ذلك القلب الذي كان مغتبطًا باعتلاقه إلى صائدٍ آخر يعتلقه من بعده. وكان كلما أبث زوجته سره، وشكا إليها ما يساور قلبه من ذلك الهم حنت عليه، وعللته بمعسول الأماني، وأقسمت له بكل محرجةٍ من الأيمان أنها لا تسترد هبة قلبها منه حيًّا وميتًا، فكان يسكن إلى ذلك سكون الجُرْح الذَّرِب تحت ميزاب الماء البارد، ثم يعود إلى هواجسه ووساوسه. حتى مر في بعض روحاته إلى منزله في ليلةٍ من الليالي المقمرة بمقبرة المدينة، فبدا له أن يدخلها ليروح عن نفسه هموم الموت بوقفةٍ بين قبور الموت، وكثيرًا ما يتداوى شارب الخمر بالخمر، ويدفع الخوف الخائف إلى مبعث خوفه، ويلذ للجبان — وهو يرتعد فرقًا — الإصغاء إلى حديث الأفاعي وقصص الجان، فرأى في بعض مسالكه بين تلك القبور امرأةً متسلبةً جالسةً أمام قبرٍ جديد لم يجف ترابه، وبيدها مروحةٌ من الحرير الأبيض مطرزةٌ بأسلاك الذهب تحركها يمنةً ويسرة، لتجفف بها بلل ذلك التراب. فعجب لشأنها، وتقدم إليها، فارتاعت لمرآه، ثم أنست به حينما عرفته، فسألها ما شأنها، وما مقامها هنا، ومن هذا الدفين، وما الذي تفعل، فأبت أن تجيبه عما سأل حتى تفرغ من شأنها.
فجلس إليها، وتناول منها المروحة، وظل يساعدها في عملها حتى جف التراب، فحدثته أن هذا الدفين زوجها، وأنه دفن منذ ثلاثة أيام، وأنها منذ الصباح جالسةٌ مجلسها هذا لتجفف تراب قبره وفاءً بيمينٍ كانت أقسمتها له في مرض موته ألا تتزوج من غيره حتى يجف تراب قبره، وأنَّ هذه الليلة هي موعد بنائها بزوجها الثاني، فأبى لها وفاؤها لهذا الدفين الذي كان يحبها ويحسن إليها أن تحنث بيمين كانت أقسمتها له، أو تخيس بما عاهدته عليه. ثم قالت له: «هل لك يا سيدي أن تقبل هذا المروحة هدية مني إليك، وجزاءً لك على حسن صنيعك معي؟» فتقبلها منها شاكرًا بعد أن هنأها بزواجها الجديد، ثم انصرف وليس وراء ما به من الهم غاية. ومشى في طريقه مشية الرائح النشوان يحدث نفسه ويقول: إنه أحبها وأحسن إليها، فلما مات جلست فوق قبره، لا لتبكيه ولا لتذكر عهده، بل لتتحلل من يمين الوفاء التي أقسمتها له، فكأنما وهي جالسة أمام زوجها الأول تعد عدد الزواج من زوجها الثاني، وكأنما اتخذت من صفائح قبره مرآة تصقل أمامها جبينها، وتصفف طرتها، وتلبس حليتها بين سمعه وبصره للزفاف إلى غيره!
وما زال يحدث نفسه بمثل ذلك حتى رأى نفسه في منزله من حيث لا يشعر، ورأى زوجته ماثلةً أمامه مرتاعةً لمنظره المحزن، فقال لها: «إنَّ امرأةً خائنةً غادرة أهدت إليَّ هذه المروحة، فقبلتها منها لأهديها إليك؛ لأنها أداةٌ من أدوات الغدر والخيانة، وأنت أولى بها مني.» ثم أنشأ يقص عليها قصة المرأة حتى أتى عليها، فغضبت وانتزعت المروحة من يده ومزقتها، وأنشأت تسب تلك المرأة، وتنعى عليها غدرها وخيانتها، وتلقبها بأفحش الألقاب وأقبحها، ثم قالت: «ألا يزال هذا الوسواس عالقًا بصدرك ما دمت حيًّا؟ وهل تحسب أن امرأة في العالم ترضى لنفسها بما رضيت به لنفسها تلك المرأة الغادرة؟» فقال لها: إنك أقسمت لي ألا تتزوجي من بعدي، فهل تفين بعهدك؟» قالت: «نعم، ورماني الله بكل ما يرمي به الغادر إن غدرت.» فاطمأن لقسمها، وعاد إلى راحته وسكونه.
مضى على ذلك عام، ثم مرض الرجل مرضًا شديدًا، فعالج نفسه، فلم يجد العلاج حتى أشرف، فدعا زوجته، وذكرها بما عاهدته عليه، فادَّكرت، فما غربت شمس ذلك اليوم حتى غربت شمسه، فأمرت أن يسجى في قاعته حتى يحتفل بدفنه في اليوم الثاني، ثم خلت بنفسها في غرفتها تبكي عليه وتندبه، وإنها لكذلك إذ دخلت عليها الخادم وأخبرتها أن فتًى من تلاميذ مولاها حضر الساعة من بلدته لما سمع بأمر مرضه، وأنها حدثته حديث موته، فصعق في مكانه حزنًا ووجدًا، ولا يزال عند باب المنزل مطرحًا لا تدري ما تصنع في أمره! فأمرتها أن تذهب به إلى غرفة الأضياف، وأن تتولى شأنه حتى يستفيق، ثم عادت إلى بكائها ونحيبها. فلما مر الهزيع الثاني من الليل دخلت عليها الخادم مرة أخرى مرتاعةً مولهة، وهي تقول: «رحمتك وإحسانك يا سيدتي، فإن ضيفنا يعالج من آلامه وأوجاعه عذابًا أليمًا، وقد حرت في أمره، وما أحسبه إن أغفلنا أمره ساعةً واحدة إلا هالكًا.» فراعها الأمر، فقامت تتحامل على نفسها حتى وصلت إلى غرفة المريض، فرأته مسجًى على سريره والمصباح عند رأسه، فاقتربت منه ونظرت في وجهه، فرأت أبدع سطرٍ خطته يد القدرة الإلهية في لوح المقادير. فتخيلت أن المصباح الذي أمامها قبسٌ من ذلك النور المتلألئ في ذلك الوجه المنير، وتمثلت كأن أنينه نغمةٌ موسيقية محزنة ترن في جوف الليل البهيم. فأنساها الحزن على المريض المشرف الحزن على الفقيد الهالك، وعناها أمره، فلم تترك وسيلةً من وسائل العلاج إلا توسلت بها إليه حتى استفاق. ونظر إلى طبيبته الراكعة بجانب سريره نظرة الشكر والثناء، ثم أنشأ يقص عليها تاريخ حياته، فعرفت من أمره كل ما كان يهمها أن تعلمه، فعرفت مسقط رأسه، وصلته بزوجها، وأنه فتًى غريبٌ في قومه لا أب له ولا أم ولا زوجة.
وهنا أطرقت برأسها ساعةً طويلة عالجت فيها من هواجس النفس ونوازعها ما عالجت، ثم رفعت رأسها وأمسكت بيده وقالت له: «إنك قد ثكلت أستاذك وأنا ثكلت زوجي، فأصبح همنا واحدًا، فهل لك أن تكون عونًا لي وأن أكون عونًا لك على هذا الدهر الذي لم يترك لنا مساعدًا ولا معينًا؟» فألمَّ بما في نفسها، فابتسم لها ابتسامة الحزن والمضض وقال لها: «من لي يا سيدتي أن أكون عند ظنك بي، وهذا المرض الذي يساورني ولا يكاد يهدأ عني قد نغص عليَّ عيشي وأفسد عليَّ حياتي، وقد أنذرني الطبيب باقتراب ساعة أجلي إلا أن تدركني رحمة الله، فاطلبي سعادتك عند غيري، فأنت من بنات الوجود، وأنا من أبناء الخلود.» فقالت له: «إنك ستعيش، وسأعالجك، ولو كان دواؤك بين سحري ونحري.» قال: «لا تصدقي يا سيدتي، فأنا عالمٌ بدوائي، وعالمٌ بأني لا أجد السبيل إليه.» قالت: «وما دواؤك؟» فامتنع عليها هنيهةً لا يجيبها، فلما أعياه إلحاحها قال: «حدثني طبيبي أن شفائي في أكل دماغ ميت ليومه! ولقد علمت أن ذلك يعجزني، فأسجلت ألا دواء لي ولا شفاء.» فارتعدت وشحب لونها، وأطرقت طويلًا ثم رفعت رأسها هادئةً ساكنة، وقالت: «لا أزال أقول لك: إني سأعالجك، وإن كان دواؤك في ذهاب نفسي.» ثم أمرته أن يأخذ قسطه من الراحة، وخرجت من الغرفة متسللةً حتى وصلت إلى غرفة سلاح زوجها، فأخذت منها فأسًا، ثم مشت تختلس خطواتها اختلاسًا حتى وصلت إلى غرفة الميت، ففتحت الباب فدار على عقبه وصر صريرًا مزعجًا، فجمدت في مكانها، وقد امتلأ قلبها رعبًا وخوفًا، وذهبت بها الظنون كل مذهب، ثم عادت إلى سكونها، فتقدمت لشأنها حتى دنت من السرير، ورفعت الفأس، وما كادت تهوي بها حتى رأت الميت فاتحًا عينيه ينظر إليها، فسقطت الفأس من يدها، وسمعت حركةً وراءها، فالتفتت، فرأت الضيف والخادم واقفين يتضاحكان، ففهمت كل شيء.
وهنالك تقدم إليها زوجها وقال لها: «أليست المروحة في يد تلك المرأة الغادرة أجمل من الفأس في يدك؟! أليست التي تجفف تراب قبر زوجها بعد دفنه أفضل من التي تكسر دماغه قبل نعيه؟!» فصارت تنظر إليه نظرًا غريبًا، ثم شهقت شهقةً كانت فيها نفسها.