الضاد
إذا كان العرب الأولون يعبرون بالرأس عن مئينٍ من الأعضاء والعظام، والأعصاب والشرايين، فلم لا نعبر نحن بالضاد عن ثمانية وعشرين حرفًا؟ ونحن عربٌ مثلهم، تجري في عروقنا دماؤهم، كما تجري في عروقهم دماء آبائهم من قبل، فسهمنا في الضاد سهمهم، وحقنا فيها حقهم، فلم يضعون الألفاظ للتفاهم والتخاطب ولا نضعها مثلهم لمثل ما وضعوا وحاجاتنا أكثر من حاجاتهم، ومرافقنا أوفر عددًا من مرافقهم وأوسع فصولًا وأنواعًا؟
أين باديتهم الخلاء الجرداء المقفرة المصفرة إلا القليل من الخيام المبعثرة بين معاطن الإبل، ومراتع الشاء، ومرابض الوحش، ومغاور الجن، من مدائننا الفاخرة الزاخرة الحافلة بصنوف الموجودات، وأنواع الآلات والأدوات، وغرائب المصنوعات والمنسوجات، وأكثرها مستحدثٌ مستطرف لم تغبر في وجهه عواصف البادية، ولم تلوثه الإبل والأبقار بأبوالها وأرواثها؟
أليس من الظلم المبين والغبن الفاحش أن تضيق حاجاتهم عن لغتهم فيتفكهوا بوضع خمسمائة اسم للأسد، وأربعمائة للداهية، وثلاثمائة للسيف، ومائتين للحية، وخمسين للناقة، وتضيق لغتنا عن حاجاتنا، فلا نعرف لأداةٍ واحدةٍ من الآلاف المؤلفة من أدوات المعمل الواحد اسمًا عربيًّا إلا قليلًا من أمثال المسبر، والمبرد، والمنشار، والمسمار؟!
أيكون لسفينة البر — وهي لا تحمل إلا الرجل أو الرجل ورديفه — مائتا اسم، ومئينٌ من الأسماء لأعضائها وأوصالها ورحلها وكورها، ولا يكون لسفينة البحر، وهي المدينة المتنقلة في الدأماء قليل من ذلك الحظ الكثير؟!
كان لعرب الجاهلية الأولى مؤتمرٌ لغويٌ يعقدونه في كل عامٍ بالحجاز بين نخلة والطائف يجتمع فيه شعراؤهم وخطباؤهم، يتناشدون ويتساجلون ويتحاورون، ويعرضون أنفسهم على قضاةٍ من نوابغهم يوازنون بينهم، ويحكمون لمبرزهم على مقصرهم حكمًا لا يرد ولا يعارض. ولقد شعروا بضرورة عقد هذا المؤتمر عندما أحسوا بتفرق لغتهم بين اليمن والشام، ونجدٍ وتهامة؛ لصعوبة التواصل في تلك البقاع، وبُعد ما بين قاصيها ودانيها؛ فكان مطمح أنظارهم في ذلك المجتمع توحيد لغاتهم، وجمع شتاتها والرجوع بها جميعها إلى لغة قريش التي هي أفصح اللغات وأقربها مأخذًا، وأسهلها مساغًا وأحسنها بيانًا.
أيقدر هؤلاء العجزة الضعفاء في جاهليتهم الأولى على ما نعجز عنه نحن؟! إننا إلى مؤتمرهم أحوج منهم إليه؛ لأن تفرق اللغات في عصرهم لا يمكن أن يبلغ مبلغ تفرقها في عصرنا بين لغات العامة المتباينة، ولغة العلماء، ولغة الدواوين، ولغة القصاصين، ولغة الصحافيين.
إن كان الجاهليون في حاجةٍ إلى مجتمع لتوحيد اللغات المتفرقة، فنحن في حاجة إلى مجتمعاتٍ كثيرة: مجتمع لجمع المفردات العربية المأثورة جميعها، وشرح أوجه استعمالها الحقيقية والمجازية في كتابٍ واحد يقع الاتفاق عليه والإجماع على العمل به، ومجتمع دائمٍ لوضع أسماء للمسميات الحديثة — سواء كانت أعيانا أو معاني — بطريق التعريب أو النحت، أو الاشتقاق الكبير أو الصغير، وآخر للإشراف على الأساليب العربية المستعملة، وتهذيبها وتصفيتها من المبتذل الساقط والمستغلق النافر، والوقوف بها عند الحد الملائم للعصر الحاضر ولأذهان المعاصرين، وآخر للمفاضلة بين الكتاب والشعراء والخطباء ومجازاة المبرز منهم والمقصر، إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًّا فشر.