مدرسة الغرام
كنت لا أسأل الله تعالى إلا تقدم هذه الأمة وارتقاءها، وبلوغها في المدنية مبلغًا يؤهلها لمجاراة الأمم الغربية في عظمتها وسلطانها، فأصبحت أسأله ألا يستجيب دعائي، وألا ينيلها من تلك المدنية فوق ما أنالها.
أصبحت أعتقد أنَّ مفاسد الأخلاق والمدنية الغربية شيئان متلازمان وأخوان متحابان، لا افتراق لأحدهما عن صاحبه إلا إذا افترقت نشوة الخمر عن مرارتها، فكيف أتمناها لأمةٍ هي أعز عليَّ من نفسي التي بين جنبي؟!
قرأت حوادث الانتحار في الغرب، فقلت: «قومٌ ضعفت قلوبهم عن احتمال حوادث الدهر وأرزائه فلم يستطيعوا الوقوف بين يديها وقفة الشجاع المستقتل، ففروا من وجهه إلى حيث يجدون الراحة الدائمة في كسور القبور، وما أكثر الجبناء في مواقف الحروب!»
قرأت حوادث المبارزة هناك، فقلت: «قومٌ عجزت يد المدنية الحاضرة أن تستل من بين جنوبهم ما كانوا يعتقدونه في عهد الهمجية الماضية من أن العرض إناءٌ إذا ألم به القذى لا يغسله إلا الدم المسفوح، وكثيرًا ما أوردت العقائد النفوس موارد الحتوف.»
قرأت حوادث عشاق الموتى الذين يتسللون تحت ستار الليل إلى المقابر، فينبشونها عن رفات الفتيات المقبورات، شوقًا إلى لثمةٍ من خد يرشح صديده، أو رشفةٍ من ثغر يتناثر دوده، حتى إنه ليروقهم من منظر الساكنات تحت الرجام، فوق ما يروقهم من منظر المقصورات في الخيام، وقرأت أنَّ الحكومة طاردتهم عن أمنيتهم، وحالت بينهم وبين مواطن غرامهم، ومعاهد عشقهم وهيامهم، فأرادوا أن يحتالوا على الإلمام بأولئك الموتى خيالًا لما فاتهم الإلمام بهم حقيقة، فأنشئوا لأنفسهم تحت الأرض قاعةً كبرى كسوا حيطانها بالأستار السوداء، ووضعوا في وسطها صندوقًا من صناديق الموتى تنام فيه فتاة حية تتصنع الموت باصفرار لونها، وإسبال جفونها، وسكون أعضائها، وتعليق أنفاسها! فإذا لج بأحدهم الشوق إلى قضاء حاجةٍ من فتاة ميتة نزل إلى تلك القاعة السوداء وعالج مخيلته على أن يتصورها قبرًا مظلمًا موحشًا يضم بين أقطاره فتاةً ميتة لا حراك بها، فَيلمُّ بها وهو يسمع نغمات الأحزان من قيثارةٍ أعدت وراء القاعة لتجسيم ذلك الخيال.
قرأت هذا، وقرأت أنَّ من الناس ناسًا في تلك الديار تجاوزوا ذلك الحد إلى الغرام ببعض أنواع الحيوان، حتى إنهم نصبوا لأنفسهم مواخير خاصة يلمون فيها بالدجاج إلمام غيرهم بالنساء البغايا، فقلت: «لا عجب في ذلك، وهل هو إلا فنٌ من فنون الجنون التي لا يجد المرء إلى حصرها سبيلًا؟»
- يوم الأحد: دروس استعدادية.
- يوم الإثنين: الغزل.
- يوم الثلاثاء: المطارحة.
- يوم الأربعاء: صناعة التقبيل والتجميش.
- يوم الخميس: فلسفة الدلال والتصبي.
- يوم الجمعة: انتقاء مواعيد اللقاء.
- يوم السبت: الامتحان.
هذه هي المدرسة الغرامية، وهذا نظامها، فهل سمعت في حياتك أن أمة من الأمم المتوحشة التي يسمونها بالأمم البهيمية — إشارة إلى ما بينها وبين البهائم من الشبه في حب الشهوات، والاستهتار فيها — بلغت في تهتكها وفساد أخلاقها مبلغ تلك الأمة التي يقولون عنها: إنها زهرة المدنية الحديثة وتاجها المرصع؟
لماذا نسمي قبائل الزنوج قبائل متوحشة، ونحن نعلم فيما نعلم من أخلاقهم أنهم لا يتركون عزابهم ينامون وسط البيوت مخافة أن يكون لهم سبيلٌ إلى مخالطة النساء، فيأخذونهم جميعًا إلى مكان خاص بهم خارج القرية، يبيتون فيه فوق هضبةٍ مرتفعة، ينثرون حولها ترابًا مُعَبَّدًا، حتى إذا أراد أحدهم أن يختلس من ظلام الليل غرة نَمَّ أثره عليه؟ كما نعلم أنهم يخيطون فروج العذارى من نسائهم حتى لا يحدث أحدٌ من الرجال نفسه بقرع ذلك الباب إلا مالكه وصاحب الحق فيه! ولماذا نسمي الأمة الأمريكية أمة متمدينة، وها هي ذي تفتح المواخير باسم المدارس حتى لا تكون في نفس أحدٍ من الناس غضاضةٌ في دخولها، والأخذ بنصيبه من لذائذها وشهواتها؟
إن كان توحش الأولين لإغراقهم في صون الأعراض، فالآخرون أكثر منهم توحشًا لإغراقهم في هتكها وابتذالها، ولإغراق في الخير خيرٌ من الإغراق في الشر.
فيا أيها الزنجي المسكين، لقد ظلمك من سماك متوحشًا، ويا أيها الأمريكي المتوحش، لقد كذبك من سماك متمدينًا.
أيها الزنجي الأسود، إن كنت أسود اللون، فالفضيلة أشرف عنصرًا من أن تتنزل لاعتبار السواد ذنبًا تنفر منه وتأبى أن تأوي إليه، وإن كنت جاهلًا، فهل استفاد صاحبك من علمه إلا إمتاع نفسه بشهواتها ولذائذها، والتفنن في فجور الحياة وفسوقها تفننا لا أحسبك تحن إليه، أو تتقطع نفسك حسراتٍ عليه، وإن كنت عاريًا، فربما لبست من الفضيلة ثوبًا يحسدك عليه لو يعقل ذاك الذي يفخر عليك بخزِّه وديباجه، ودمقسه وحريره: