الفصل الأول
الجزء الأول
أغاممنون – أركاس
أغاممنون
:
نعم أنا أغاممنون المليك. تعالَ واعرف الصوت الذي يناديك.
أركاس
:
هو أنت يا مولاي تناديني. لقد أسرعت في التبكير، فلأي أمر تنبهني والليل هادٍ
والجيش هاجع لا أيقاظ بهِ سوانا. هل أوجست شيئًا من عدو؟ أم هاجت الريح وثار
البحر؟ بل أرى الكل في سكون وهدوءٍ.
أغاممنون
:
ويلاه قد عظمت عليَّ المصائب وأحاقت بي النوازل حتى صرت وأنا في عزة الملك
وأبهة الدولة أحسد الفقير على حياته والميت على مماته.
أركاس
:
ما الذي دعاك يا مولاي إلى هذا اليأس والقنوط وأنت في مقام الملوك ولذة
الإباء وشرف القران؟ ثم أنت مالك رقاب اليونان. وسليل جوبتير وملك الملوك وأمير
الجيش، وقد ساق لك القدر أشيل الفارس البطل، وهو عازم على أن يقترن بفتاتك
إيفيجنيا ويجعل مهرها افتتاح ترواده المنيعة التي أنت ذاهب لحصارها وقتالها، ثم
إنك يا مولاي تأمر على هذه الألوف من السفن المواخر المتجمعة على هذا الشاطئ،
تنتظر مهب الريح لتقلع إلى ساحات القتال ونيل العلا. نعم لا أنكر يا مولاي أن
سكون الريح قد أخرك عن هذه الغزوة، وأنه قد مضى عليك ثلاثة أشهر في هذا الميناء
أوجبت لك اليأس والكدر حتى كدت تقطع أملك من النجاح والسفر، ولكن صبرًا يا سيدي
صبرًا فلا بد لكل شيءٍ من انتهاء … مولاي ما بالك تبكي؟! أي كدر في هذه الرسالة
يجري دموعك ويمنع هجوعك؟ هل نفذ القضاء في ابنك أورست؟ أم أنت تبكي امرأتك
كليتمنستر أم فتاتك إيفيجنيا أم ماذا كتب لك؟ ويلاه ما هذه الشجون؟
أغاممنون
:
لا لا. لا تموتي إن ذلك لا يكون.
أركاس
:
مولاي ما هذا …؟
أغاممنون
:
أنت ترى اضطرابي ولست تعلم سبب مصابي، ولو علمتَ لعذرتني على انتحابي. أنت
تعلم أنه في يوم تجمعت مراكبنا في أوليد، كانت الريح تهب عاصفة بنا؛ تدعونا
للمسير ونحن نستعد لنزال ترواده ولقاء الأبطال فيها وإذا بالريح قد سكنت، كأن
الآفاق أغلقت أبوابها والجهات الأربع سدلت حجابها فالتزمنا الإقامة بعد العزم
على المسير وهدأ البحر بالسفن فلا موج ولا هدير حتى ألجأني الأمر إلى أن أستشير
آلهة هذا المكان؛ عساني أن أقف منها على خفايا هذا الشان. فذهبت إليها يتبعني
مينيلاس ونستور وعولس، وذبحت لها الذبائح وقدمت القرابين والدماء، ولكن اسمع ما
كان جوابها يا أركاس على لسان الكاهن كلكاس. اسمع وارتجف خوفًا ورعبًا كما
أرتجف أنا؛ قالت: «باطلًا تتعب فيما نويت من حرب ترواده ما لم تسفك على مذبحي
دمًا زكيًّا من دم الآلهة من سلالة هلينا، فإذا أردت أن تهب عليك الريح وتثير
حربًا عوانًا. فقدم ابنتك إيفيجنيا على مذبحي قربانًا.»
أركاس
:
ابنتك يا مولاي …؟!
أغاممنون
:
فوقع ذلك الكلام في أذني موقع السهم في قلبي، ولبثت صامتًا لا أعيد ولا أبدي،
ثم تصاعدت زفراتي وعلا نحيبي وجمد الدم في عروقي، ثم جعلت أعاتب القدر، وأذم
السفر، وأحلف بالعصيان، وأناجي نفسي بالكفران، بل كيف أسمح بفلذة كبدي، وأذبح
ابنتي بيدي، فدار بي عولس يخوفني الخذلان، ويذكرني خدمة الأوطان، ثم طافت بي
الملوك تعذلني وتلومني وتقول: أتبخل بدم فتاة وتسمح بفشل رجال أبطال؟! فثارت بي
عزة الملك ونخوة الفوارس وانصرفت إلى مضربي حزينًا كئيبًا لا أفيق ولا أعي، ثم
لم يغمض جفني حتى أتتني الآلهة في الخيال تحذرني سوء العقبى وغائلة الفشل، ثم
ألحَّ عليَّ عولس وزاد في التشديد والطلب حتى وعدته بابنتي وأجبته إلى قتلها
وقد نفذ الوعد وتم الكلام … ويلاه كيف أنزعها من أمها وهي شديدة الحنوِّ
عليها؟! بل كيف أنزعها من حبيبها أشيل وهو كثير الميل إليها؟! وأنا قد انتحلت
اسمه وإنه هاج به الغرام، وكتبت لها باسمه أستقدمها من أيام وأقول لها إنه يريد
أن يصير حليلها، فلا يسافر معنا إلا وهو زوج لها، وأنا أريد بذلك أن أستقدمها
إلى هذا المكان لأنفذ قتلها.
ويلاه من حزني ومن كمدي
إني سأقتل ابنتي بيدي
ويلاه من دهر يجور بنا
ظلمًا فيقسو والد الولدِ
عظمت عليَّ مصائبي فغدا
في الموت من أعبائها جلدي
أهون عليَّ بأن أموت ولا
أرْدي التي هي فلذة الكبد
أأكون قاتلها كذا وأنا
لم يتصل ظلمي إلى أحد
ويكون وعدي بالقران لها
عنه ينوب القتل بالنكد
هذا نهاية ما يكون به
ظلم تجاوز غاية الأَمد
أفما حرام أن تموت كذا
ظلمًا بلا ثأرٍ ولا قوَد
وهي الحبيبة في الأنام ولم
تبدي اجترامًا قط أو تعد
الله أكبر إن قاتلها
يغدو أنا ما دار في خلدي
إني أرى في قتلها أسفًا
يغدو على كبدي إلى الأبد
أركاس
:
كيف لم تخش يا مولاي هذا العاشق البطل؟ أتظن أنه يسمح بها والخطب في أمرها
جلل؟ أتراه يسمح بقتلها ويسلمك إياها؟
أغاممنون
:
لا، فإن أشيل لم يعلم بذلك؛ فقد كان غائبًا عن المعسكر إذ دعاه أبوه لقتال
عدوٍّ له فمضى ولم يعد إلا أمس بعد أن بدد شمل العدو الذي دعي لقتاله، أما
المصيبة العظمى والطامة الكبرى فهي أن ابنتي قادمة في الطريق تظن أنها قادمة
للعرس لا للقتل والموت.
وأنت يا أركاس لقد اخترتك موضع سرِّي ومؤتمني، فخذ رسالتي هذه إلى الملكة في
مسينا وسر لا تلوي على شيء حتى تؤدي الرسالة إليها، وامنعها من المجيء وإياك أن
تقدم فإن دخلت ابنتي أرض أوليد هلكت لا محالة وكنتُ ملجأً لأن أنفذ فيها أمر
المقدور بما يستحثني لذلك من أقوال الملوك والأمراء المطغين بي. اذهب بالله،
وخلص ابنتي مني مسرعًا وإياك أن تكاشفها بما أخبرتك به من البلاء الذي نويته لي
ولها. أما الذي كتبته إليها في هذه الرسالة، فهو أن أشيل قد عدل عن رأيه في
زواجها الآن إلى أن نعود من حرب ترواده التي نحن ذاهبون إليها، وزد على ذلك أن
قدرت أنهم ينسبون فتور أشيل من نحوها إلى أنه يحب تلك الفتاة إريفليا التي جاء
بها أسيرة من ليبوس وهي مع ابنتي الآن. ذلك قصارى ما تقول في هذا الشأن وإياك
وزيادة الشرح في حقيقة ما كان، بل احرص ما استطعت على الكتمان. اذهب فقد لاح
النهار وبدت حركة الجيش … يا رب هذا أشيل فسر بالله وهذا عولس يتلوه فلا حول
ولا قوة إلا بالله.
ويلاه إني لست أندب كونها
بنتي وكوني في الأنام أباها
لكنما أبكي على أخلاقها
وحنوِّها وجمالها وبهاها
أبكي على حسناتها وفعالها
وشديد طاعتها وحسن رضاها
أبكي على أني سأنكث عهدها
وأذيقها عوض القران رداها
يا رب لا تسمح بذاك فأنت لا
ترضى بأن تقضي كذا بصباها
يا رب خلصها وخلصني من الـ
ـحزن الشديد بقتلها وأذاها
الجزء الثاني
أغاممنون – أشيل – عولس
أغاممنون
:
سرعانَ ما عدت يا مولاي وسرعانَ ما أتيح لك النصر، فلله أنت من فارس بطل
تطيعك الأقدار ويعنو لك الانتصار.
أشيل
:
لقد بالغت يا مولاي فيما لا يستحق ذكرًا ولا يكاد يُدعى لقلته نصرًا، فاعدل
بحقك عن هذا المديح وادعُ لنا الله بهبوب الريح؛ لنمضي إلى نصر أعظم وأعلى،
وقتال تكون جائزته أثمن وأعلى. ولقد زادني سرورًا ما سمعته عن قدوم ابنتك إلى
هذا المكان، حتى أكون بها عن قريب أسعد إنسان.
أغاممنون
:
ابنتي …؟! ومن قال لك إنها آتية قريبًا؟
أشيل
:
وعلامَ هذا الدهش؟ هل ترى في الأمر شيئًا غريبًا؟
أغاممنون
:
ويلاه يا عولس! هل تراه عارفًا بالأمر وحقيقة السبب؟
عولس
:
ليس أغاممنون ملومًا في دهشه؛ فإن في أمرك ما يقضي بالعجب. كيف تعجل في طلب
الاقتران وأنت ترى في أية حال نحن الآن؟! ألم ترَ سكون الريح وهدوء البحر وضجر
الجيش وملل الملوك؟ ألا تعلم أن ذلك شأن يستوجب الدعاء، بل يقضي بتقديم الدماء؟
فكيف تسعى أنت في إتمام هذا القران وأنت ترى ما نحن عليه من التأخر في هذا
المكان؟ أكذلك تكون النفوس الأبية، والغيرة على الخدمة الوطنية؟
ما كنت آمل يا أشيل منك أرى
ما لم يكن قط معهودًا بأبطال
أتستميلك أهواء النساء عن الكفا
ح إذ أنت رأس الجيش في الحال
وتنثني نحو عسال اللما طربًا
عن كل فجر بدا في كل عسال
وتغتدي بحسام اللحظ منكسرًا
وأنت تكسر ضربًا كل نصال
أشيل
:
كفى يا عولس، فلا تكثر عليَّ الملامة والأقوال فقد تركت لكم أمر التدبير،
وفوضتكم في جميع الأحوال فافعلوا ما أشارت به الآلهة عليكم، واذبحوا ما أردتم،
وأتمُّوا نعمة الله عليكم، ودعوني أنظر في أمر نفسي وأدبر شأن عرسي، فما الذي
يضركم من ذلك وهو عمل تفرح له الآلهة من سمائها، ويكون مهره ما سأريقه من دماءِ
أعدائها؟
أي شيءٍ يعيقني عن قتالٍ
حين تصلى الوغى بضرب النصالِ
أنا في السلم عاشق ذائب القلـ
ـب غرامًا وفي الوغى كالجبالِ
لا تلمني دعني أفي الحب في السلـ
ـم وأقضي حق العلا في القتالِ
أغاممنون
:
ويلاه كيف أكتم عنه الأمر، وأكون عقبةً في طريقه إلى النصر؟! هل يسمح الله
بسيف هذا البطل أن يسل عليَّ بعد أن كان مجردًا لنصري بين يديَّ؟ يا رب هل أرجع
بالجيش على أعقابه؟ هل أرد سيف كل رجل إلى قرابه؟
أشيل
:
ماذا تقول …؟
أغاممنون
:
أقول: إنه يجب على كل منكم أن يرجع برجالهِ ويقطع من هبوب الريح حبال آماله،
فإني أرى الآلهة تحمي تلك المدينة منا، حتى تعرضت لنا لتمنع طريقها عنا.
أشيل
:
ما الذي بلغك عنها، ودعاك لقطع آمالك منها؟
أغاممنون
:
ذلك أمر لاحق بك تفسيره، فإنه راجع إليك وأنت عضده ونصيره، وأنت تعلم أن
الآلهة قد ناطت إليك ذلك الأمر. ووقفت على حسامك آية النصر، حتى ظفرت بتلك
الحرب التي دعيت إليها. وكنت عونًا لأبيك إذ ساعدته عليها. أما حرب ترواده فقد
خط لك بها القلم، إنك صائر فيها إلى العدم، ومن استرعى الذنب فقد ظلم.
أشيل
:
مولاي ما هذا؟ أتسمح أن ترتد كل هؤلاء الملوك بعدما أصبحت طوع زمامك وتترك
باريس ظافرًا بمشتهاه يتنعم بأخت امرأتك كما يميل به هواه؟!
إن كنت تقعد عن حرب العدا مللا
فلست أقعد عنهم لا وربي لا
أحببت بنتك حبًّا ظلَّ ينشدني
أحيي وأيسر ما قاسيت ما قتلا
إذا أنا لم أنل منها الزفاف فلا
زفَّ الحسام إلى مجدي سنًا وعلا
وأنت يا من لها لا ألتقي مثلا
لكنها صيرتني في الهوى مثلا
وحق عينيك والسيف الصقيل لقد
تشابها في فؤادي حيثما نزلا
إني أرى الموت تحت السيف أيسر لي
من أن أموت هوًى لا أبلغ الأملا
ولا أرى سبلًا غير الحسام له
يغدو به النصر مهرًا والفخار حلى
أغاممنون
:
مكانك يا أشيل، فقد كفانا من بأسك انتقامًا وكفى الأعداء من حربك موتًا
زؤامًا، فقد كان لك فيهم مواقع ما جرت بمثلها العادة، قذفَ البحر أجساد القتلى
منها إلى شطوط ترواده، وفوق ذلك فإن أهلها لا يزالون يندبون الفتاة التي
أسرتها، وهي فتاة ذات جمال بديع، يختفي تحته سرٌّ يقال إنه مريع، وإن في سكوتها
وطول صبرها ما يجعلني أن أرتاب في حقيقة أمرها، فهي لا شك من سلالة علياء يجلب
علينا أسرها ما لا نحسبه من البلاء.
أشيل
:
لقد بالغت يا مولاي في التكهن، وأكثرت من التشاؤم والتيمن. ومعاذ الله أن
أرتاع لكلامك، أو أرجع عن فتح أناله بحد حسامك؛ فقد عزمت عزمًا ورأيت رأيًا،
وأبت المروءة أن أرجع عن عزمي أو أنصرف عن همي، ولي في شرف آبائي المجد الباذخ
والشرف العالي، يقودني إلى لقاء العلا والتقاء العوالي.
ذلك مجد يليق بالأبطال، ويشرف بدم الرجال، ولست أبلغه إلا في ترواده، فلا بد
أن أسير إليها، وأطبق بالمراكب والرجال عليها، فإن لم تتبعني ذهبت وحدي، وجعلت
نصيري حسامي وزندي، ولكن لا فقد ناط الله إليك ذلك الأمر، ووقف لنا على حسامك
سبيل النصر، فاذهب ونحن على آثارك نساعدك في انتقامك وأخذ ثأرك، إلا أن عشقي
لابنتك يقضي عليَّ بتعجل قرانها، حتى أكون على عوني لك من أخص أعوانها.
فلا تحسبنْ أني أخاف من الوغى
وأن سكون الريح يسكن من عزمي
ولي صارم إن لاحَ صارم حكمه
فما تنزل الأيام إلا على حكمي
كذا أنا في حب المفاخر والعلا
ويوم اللهو والمجد والحرب والسلم
عشق غدا فؤادي وهو لي أمل
وهو القنوط ولكن ما به ملل
عشق سأسعى إليه لو سفكت دمي
ودون نيل الأذى لا يجتنى العسل
فأبشر بنصري في حرب سعيت لها
نصر تقود إليه البيض والأسل
واسمح بأن أمضي كي أرى عجلًا
ما يفعل الجيش إني راق لي العجل
الجزء الثالث
أغاممنون – عولس
عولس
:
أسمعت يا مولاي ما قد قاله
وبأيِّ عزم قد نوى أفعاله
ولذا تراه نحو ترواده غدا
ينوي المسير ويبتغي إعجاله
ويود إسراع الرحيل ولو جنى
فيه وزاد عناءه وكلاله
لكن نخاف إذا كشفنا السر أن
يهتاج منه لقطعنا آماله
ونكون في هذا كساعٍ في امرئ
يجني عليه بعد أن أمسى له
أغاممنون
:
ويلاه كيف ترى بهذا الأمر …
… … … …
عولس
:
فعد يا مولاي إلى رأيك فما وعدت به هؤلاء الملوك من فتح ترواده حتى أجابوك
إليه فتركوا أوطانهم ونساءهم وأولادهم وناطوا إليك النصر، وفوَّضوا إليك جميع
الأمر، حتى إذا خالف أحدهم كان نصيبه القتل أو الأسر، وأنا أخاف أن تشتهر
بالمخالفة فيتغيروا عليك، أو أن يتمادوا في الأمر فيمدوا سلاحهم إليك، ثم لا
نأمن بعد ذلك أن تكون الآخرة شرًّا من الأولى، فانتصح بالذي قلته لك وأطعني
فذلك أولى، ولا تجلب عليك غضبًا أنت غنيٌّ عنه، ولا تسبب لنفسك عارًا أنت خليٌّ
منه، بل كيف ترى الملوك بين يديك خاضعة، وأنفسها بالطاعة لك باخعة، وهي تبذل في
سبيل نصرك دماءها، وتلقي على حدِّ حسامك أملها ورجاءها وأنت — أغاممنون الباسل
— تمنعهم هذا الشرف والعلاء، وتضنُّ في سبيل نجاحهم بقليل من الدماء؟! إن هذا
عجيب أن يبدو منك، بل لم أكن أحسب قط أنه يصدر عنك. أتريد أن ينصرف الجيش عن
التسليم إليك، إلى النفور منك والعصيان عليك؟!
… … … … لا
رأي لديَّ به أبين حاله
لكن عجيب كيف عدت عن الذي
قد قلته وعدًا تشدُّ حباله
ماذا أصابك هل فؤادك قد وهت
منه القوى وأجاز فيك محاله
أولست تدري أن حولك ههنا
جيشًا عليه الريح سدَّ مجاله
وبغير بنتك لا خلاص له فإن
ضنت بها يمناك تتلف حاله
وإذا دروا بالأمر هاج غليلهم
فيتممون لربهم أقواله
ويصوبون إليك كل مهند
كانوا لديك يحدِّدون نصاله
أترضى أن يصيبك كل هذا
بمنعك ما ترى أم تستجيبُ؟
فإن إطاعة الأهواء جهلٌ
ومن يعصي الهوى فهو اللبيبُ
أغاممنون
:
كفى كفى فأنت لا تدري بشقائي أنت لا تعلم مصائبي وبلائي، ولكن ضع نفسك مكاني
من شدة أسفي وحزني، وتصوَّر أنهم يطلبون ابنك تليماك قربانًا كما تطلب مني. إذن
والله لمتَّ حزنًا قبل أن يقع بك هذا البلاء، ولاستبدلت الملامة بالدموع ومزجت
الدموع بالدماء. فارْثِ — رعاك الله — لأحزاني، وأشفق على قلبي العاني، وتوسط
في الأمر بيني وبين الكاهن كلكاس، قبل أن يشيع الخبر وتدري به الناس. أنت تعلم
أني وعدت وإن وَعْد الملوك بلا مطال، وإن ابنتي إذا قدمت إلى هذا المكان قتلت
في الحال. ولكن إذا أسعدها التوفيق، وتعوَّقت في الطريق، فاسمح هداك الله أن
أكون عنها بديلًا وأنفذ حكم الآلهة بسفك دمي وإن يكن قليلًا، فعساني بذلك أن
أكون لها الفداء، عساني أن أفديها بدمي وأخلِّصها من هذه الداهية الدهماء، فإني
أرى لنصائحك سلطانًا على قلبي، وأشعر أن لكلامك تأثيرًا ونفوذًا في لبي، ويلاه
ما أشدَّ مصائبي وأعظم كربي!
الجزء الرابع
أغاممنون – عولس – أربات
أربات
:
يا مولاي …
أغاممنون
:
ويحكِ ماذا جرى؟
أربات
:
لقد سبقتني الملكة بالوصول إليك، وهي قادمة بابنتها لتلقيها بين يديك، وها هي
الآن مقيمة في هذه الغابة العظيمة.
أغاممنون
:
ويلاه ما هذه المصيبة الأليمة؟
أربات
:
وهي آتية أيضًا بتلك الفتاة إريفيليا أسيرة أشيل التي لا تعرف حقيقة ولادتها
زاعمةً أنها تطلب من الكاهن عساه أن يدري أصل سلالتها، وقد انتشر خبر وصولهنَّ
في هذا المكان وأشدهنَّ سرورًا ابنتك إيفيجنيا بما هي آتية إليه من القران، وقد
أطاف الجيش بالملكة يهنئها بلقياك وكلهم يقولون لك طوباك، فلا ملك سعيد
سواك.
أغاممنون
:
أربات يكفي، فدعنا الآن فإني ناظرٌ ما سيكون في هذا الشان.
الجزء الخامس
أغاممنون – عولس
أغاممنون
:
يا رب كيف بلوتَ حظي بالكمد
وصببت كل الحزن فوقي والنكد؟
قطعت آمالي فأي رجًا ترى
أرجو وأنت غدوت لي الخصم الألد
أنت الذي حوَّلت سعدي للشقا
فبمن ألوذ ومن به أرجو المدد
ويلاه إني لست أمتلك البكا
فأنوح نوح الثاكلات على الولد
بل إنني أخشى افتضاح السر من
نوحي وأخشى فيه يبصرني أحد
لله ما أشقى الملوك بحزنهم
يبدون من جلد ويخفون الكمد
لا يقدرون على بيان مصابهم
والجيش حولهمُ تجمع واحتشد
يا رب هبني الصبر لكن آه لا
يجدي فإن الصبر مني قد نفد
عولس
:
إنني مثلك يا أغاممنون أب شفوق يسهل عليَّ أن أجعل نفسي مكانك، وأن أصوِّر
لها مصائبك وأحزانك، ومعاذ الله أن ألومك على بلائك، بل أنا أكاد أبكي رحمةً
لبكائك، ولكن أنت تعلم أن الآلهة أمرت بذبح بنتك على لسان الكاهن، فإن تأخرت
بها شُهِرَ أمرك بين الناس، وقالوا بأنك خائن، فأسرع بما تقول لك الآلهة، وابكِ
على ابنتك ما جاد جفنك بالبكاء، وانظر في عاقبة أمرك، وتصور ما يعده لك القتال
من المجد والعلاء، وأنك ستخلص هيلانا من يد خاطفها وتفتح ترواده على رحى الحرب
وأنهر الدماء، ثم تعود بهذه المراكب مكللة بالزهر وأنت متوَّج بالانتصار ومسربل
بالمجد والفخر، فيكون لك صيت كلما مرَّ ذكره يحلو، وانظر عند ذلك أيرخص دم
ابنتك أم يغلو؟
أغاممنون
:
إليك يا عولس عني؛ فقد بلغ بي الحزن والبلاء، وها أنا خاضع لله فافعل ما تشاء
واذهب فسأتبع بك ابنتي إلى مذبح الدماء، ولكن اجهد في منع الكاهن عن الإباحة
والإفشاء، وساعدني على كتمان الأمر لنبعد أمها عنها؛ فإنني أخاف عليها
منها.