البشر الحيوانات يتذوقون الدماء
افتقاري للخبرة ككاتب جعلني أبتعد عن مسار الأحداث في قصتي. بعد تناولنا لوجبة الإفطار اصطحبني مونتجومري إلى الجانب الآخر من الجزيرة لتفقد فوهة البركان ومصدر ينبوع المياه الساخنة الذي خضت مياهه شديدة السخونة متخبطًا في ذلك اليوم المنصرم. كان كلانا يحمل سوطًا ومسدسًا محشوًّا بالأعيرة النارية. أثناء مرورنا عبر أجمة كثيفة الأوراق في طريقنا إلى هناك، سمعنا أرنبًا يصرخ صراخًا طويلًا حادًّا. توقفنا، وأنصتنا، لكننا لم نسمع شيئًا آخر، فواصلنا السير في الحال، ونسينا الأمر. لفت مونتجومري نظري إلى بعض الحيوانات الصغيرة وردية اللون ذات قوائم خلفية طويلة تثب بين الشجيرات. وأخبرني أنها كائنات من نسل البشر الحيوانات الذين صممهم مورو. كان مونتجومري يعتقد أنه يمكن استغلالها مصدرًا للحوم، لكن افتراسها لصغارها مثل الأرانب أحبط تلك الفكرة. لقد التقيت بالفعل بعضًا من هذه المخلوقات؛ مرة أثناء هروبي في الليلة المقمرة من الرجل الفهد، ومرة أخرى أثناء ملاحقة مورو لي في ذلك اليوم المنصرم. وبالمصادفة، دخل أحد تلك المخلوقات أثناء وثبه لكي يتجنبنا في حفرة ناتجة عن اجتثاث شجرة عصفت بها الرياح. وقبل أن يتمكن من تخليص نفسه تمكنا من الإمساك به. أخذ يتشاحن مثل القطط، ويخربش ويرفس بقوائمه الخلفية على نحو عنيف، لكن أسنانه كانت ضعيفة حتى إنها ما كانت لتسبب سوى لدغة غير مؤلمة. بدا لي مخلوقًا صغيرًا جذابًا، ونظرًا لما قاله مونتجومري عنه أنه لا يتسبب أبدًا في تلف الأعشاب عند حفره للجحور التي يعيش فيها، هذا فضلًا عن كونه نظيفًا للغاية في عاداته، اعتقدت أنه يمكن أن يكون بديلًا مناسبًا للأرنب العادي الذي يعيش في حدائق البشر.
رأينا أيضًا في طريقنا جذع شجرة منزوعًا عنه اللحاء في شكل شرائط طويلة ومتكسرًا إلى شظايا بداخله. لفت مونتجومري انتباهي لذلك، وقال: «محظور تمزيق لحاء الأشجار بالمخالب؛ هذا هو القانون. يلتزم الكثيرون منهم حقًّا بذلك القانون!» بعد ذلك، على ما أظن، التقينا بالساتير والرجل القرد. كان الساتير تجسيدًا لذكرى كلاسيكية وردت على ذهن مورو، فكان يشبه الغنم في تعبيرات وجهه، وصوته ثغاء أجش، وأطرافه السفلية خبيثة المظهر. كان يقضم في قشرة ثمرة تشبه قرن الفول أثناء مروره بنا. ألقى كلاهما التحية على مونتجومري.
قالا: «مرحبًا بالآخر حامل السوط!»
قال مونتجومري: «هناك شخص ثالث الآن يحمل سوطًا، لذا يتوجب عليكما توخي الحذر!»
قال الرجل القرد: «أليس مصممًا؟ لقد قال … قال إنه مصمم.»
تفحصني الرجل الساتير بعناية، وقال: «هذا الرجل الثالث ذو السوط، الذي يخوض أمواج البحر باكيًا، له وجه أبيض رفيع.»
قال مونتجومري: «إن معه سوطًا طويلًا رفيعًا.»
قال الساتير: «بالأمس، كان ينزف ويبكي. أنت لا تنزف ولا تبكي أبدًا، وكذلك السيد.»
رد مونتجومري: «أيها المتسول المصطنع! من سينزف ويبكي هو أنت إذا لم تحترس في حديثك.»
قال الرجل القرد: «إن لديه خمسة أصابع؛ إنه رجل ذو خمسة أصابع مثلي.»
قال مونتجومري ممسكًا بذراعي: «هيا يا برينديك، تعال معي!» فذهبت معه.
وقف الساتير والرجل القرد يراقباننا، ويتبادلان التعليقات الأخرى فيما بينهما.
قال الساتير: «إنه لا يتكلم، والبشر لهم أصوات.»
رد الرجل القرد: «لقد طلب مني بالأمس طعامًا، فهو لا يعرف.» ثم أخذا يتحدثان بكلام غير مسموع، وسمعت الساتير بعد ذلك يضحك.
وفي طريق عودتنا عثرنا على الأرنب المقتول. كان الجسد الأحمر لذلك الكائن البائس الصغير ممزقًا إربًا، والكثير من الأضلاع منزوع عنها اللحم تمامًا، والعمود الفقري مقضوم دون شك.
توقف مونتجومري عند الأرنب، وقال: «يا إلهي!» وهو ينحني لأسفل ويلتقط بعض الفقرات المحطمة ليفحصها عن كثب. كرر قوله: «يا إلهي! ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك؟»
جاء ردي بعد فترة قصيرة من الصمت: «واحد من تلك الحيوانات آكلة اللحوم، التي تحتفظان بها، تذكرَ عاداته القديمة. لقد تعرض هذا العمود الفقري بأكمله للافتراس.»
وقف محدقًا، وقد شحب وجهه، وتدلت شفته بانحراف. وقال بتروٍّ: «هذا الأمر لا يريحني.»
قلت له: «لقد رأيت شيئًا مماثلًا أول يوم أتيت فيه إلى هنا.»
– «اللعنة! حقًّا؟ وماذا كان؟»
– «كان أرنبًا منزوع الرأس.»
– «يوم أتيت إلى هنا؟»
– «نعم، يوم أتيت إلى هنا. كان ملقًى بين الشجيرات خلف المنطقة المسيجة، ورأيته عندما خرجت ذلك المساء. كان الرأس مهشمًا تمامًا.
أصدر صوت صفير خفيض طويل: «بل إن لدي فكرة أيضًا عن المتوحش الذي ارتكب تلك الفعلة. إنه مجرد شك، فقبل أن أعثر على الأرنب رأيت واحدًا من تلك المسوخ التي صممناها يشرب من النهير.»
– «أكان يمص ما يشربه؟»
– «نعم.»
– «محظور امتصاص المشروبات بالفم؛ هذا هو القانون. يلتزم الكثيرون منهم حقًّا بذلك القانون، أليس كذلك؟ خاصةً عندما لا يكون مورو موجودًا.»
– «كان هو نفسه المتوحش الذي لاحقني.»
قال مونتجومري: «بالطبع، فمن سمات آكلي اللحوم أنهم يشربون بعد قتل ضحاياهم. إنه مذاق الدم، كما تعلم.»
سألني: «كيف كان يبدو ذلك المتوحش؟ هل يمكنك التعرف عليه لو رأيته ثانيةً؟» ألقى نظرة خاطفة على المكان من حولنا، وهو يقف منفرج الساقين على أشلاء الأرنب الميت. كانت عيناه تتفقدان الظلال السواتر الخضراء، ومكامن الغابة ومخابئها التي تحيط بنا. وكرر قوله: «إنه مذاق الدم.»
أخرج مسدسه، وفحص الخراطيش الموجودة فيه، ثم أعاده إلى مكانه، وسحب شفته المتدلية للداخل ثانيةً.
«أعتقد أن بإمكاني التعرف على ذلك المتوحش عند رؤيته. لقد أفقدته صوابه، ومن المفترض أن تكون لديه كدمة واضحة على جبهته.»
قال مونتجومري: «لكن سيجب علينا حينئذٍ إثبات أنه قتل الأرنب. كم أتمنى لو أنني لم أحضر تلك الأشياء إلى هنا قط.»
واصلت المسير، لكنه ظل واقفًا في ذلك المكان يتأمل الأرنب المُمَثَّل به في حيرة. وفي أثناء ذلك وصلت إلى حيث كانت بقايا الأرنب الأول.
ناديت عليه: «تعال إلى هنا!»
استفاق في الحال، وتوجه نحوي. قال في صوت أقرب إلى الهمس: «أترى؟ من المفترض أن لديهم جميعًا فكرة ثابتة ضد أكل أي شيء يجري على الأرض. إذا تذوق أحد المتوحشين الدماء بالمصادفة، فسوف …»
تابعنا السير بعض الوقت في صمت، ثم تحدث مونتجومري إلى نفسه: «أتساءل ما يمكن أن يكون قد حدث؟» صمت مرة أخرى لبرهة، وقال: «لقد ارتكبت حماقة في أحد الأيام الماضية؛ فشرحت لخادمي كيفية سلخ الأرانب وطهوها … وقد رأيته يلعق يديه … لم يسبق أن حدث لي ذلك من قبل.»
استطرد مونتجومري: «لا بد أن نضع حدًّا لذلك. يجب عليّ إخبار مورو.»
لم يستطع التفكير في أي شيء آخر طوال طريق عودتنا.
أخذ مورو الأمر على محمل الجد أكثر من مونتجومري، ومن نافلة القول أن أقول إنني قد تأثرت بالذعر الذي بدا عليهما بوضوح.
قال مورو: «يجب أن نعاقب الجاني ليتعظ الباقون.»
– «ليس لديّ أدنى شك في أن الرجل الفهد هو الجاني. لكن كيف يمكننا إثبات ذلك؟ ليتك ما أطلعت أحدًا يا مونتجومري على اللحم الذي تتناوله. فما كنا لنتعرض لتلك المستجدات المثيرة. لقد أوقعنا أنفسنا في مأزق الآن.»
قال مونتجومري: «كنت أحمق حقًّا، لكن ما حدث قد حدث. وقد قلت من قبل إن بإمكاني تناول هذه الأرانب.»
رد مورو: «يجب أن نلقي نظرة على ذلك الأرنب في الحال. أعتقد أنه لو حدث أي شيء يمكن لميلينج أن يتدبر أمره.»
قال مونتجومري: «لست واثقًا إلى هذا الحد من ميلينج. أعتقد أنه كان يجدر بي معرفته على نحو أفضل.»
بعد الظهر ذهبت أنا ومورو ومونتجومري وميلينج إلى الأكواخ الموجودة في الوادي بالجانب الآخر من الجزيرة. كنا نحن الثلاثة مسلحين، في حين حمل ميلينج بلطة صغيرة كان يستخدمها في تقطيع الحطب، وبعض الأسلاك الملفوفة. حمل مورو بوقًا ضخمًا من أبواق رعاة البقر فوق كتفه. قال مونتجومري: «سترى جمعًا من البشر الحيوانات. ويا له من مشهد!» لم ينطق مورو بكلمة طوال الطريق، لكن بدا التكدر على وجهه الضخم المحاط بالشعر الأبيض.
تجاوزنا الوادي الذي كان يجري عبره نهير المياه الساخنة الذي تتصاعد منه الأدخنة، وسرنا في الطريق المتعرج بين أجمة الخيزران حتى وصلنا إلى منطقة واسعة مغطاة بمادة سميكة صفراء ناعمة، أظن أنها الكبريت. لاح البحر في الأفق من فوق ضفة النهير كثيفة الأعشاب. وصلنا بعد ذلك إلى مدرج طبيعي قليل العمق، فتوقفنا نحن الأربعة. نفخ مورو في البوق، فقطع الصمت الذي خيم على ذلك المكان الاستوائي في فترة ما بعد الظهر. كان يتمتع بلا شك برئتين قويتين، فقد أخذ صوت البوق يعلو أكثر فأكثر وسط الصدى الناتج عنه حتى وصل في النهاية إلى درجة من الشدة تخترق الآذان. قال مورو: «ها هم»، وأنزل البوق إلى جانبه ثانيةً.
سمعنا في الحال أصوات ارتطام بين الخيزران أصفر اللون، وأصوات كائنات بين الأجمة الخضراء الكثيفة التي كانت تحيط بالمستنقع الذي خضته ركضًا في اليوم السابق. ظهر بعد ذلك البشر الحيوانات بهيئاتهم القبيحة في ثلاث أو أربع مناطق على حواف المنطقة المغطاة بالكبريت، كانوا يهرعون نحونا. لم يسعني التحكم في الذعر الذي تسلل إلى نفسي عند إبصاري تلك المخلوقات، وهي تهرول، واحدًا تلو الآخر، من بين الأشجار أو أعواد الخيزران، ثم تمشي بتثاقل نحونا فوق الرماد الساخن. لكن مورو ومونتجومري وقفا بهدوء، ولزمت أنا جانبهما بحكم الضرورة. كان الساتير أول من وصل إلينا، بدا غير طبيعي على نحو غريب، فقد ألقى بظله على المكان، وقلَّب الرماد بحوافره؛ تبعه من بين الأجمة أخرق بشع الخلقة يجمع بين الحصان ووحيد القرن، كان يمضغ قشًّا أثناء توجهه نحونا. ظهرت بعد ذلك المرأة الخنزيرة، وامرأتان ذئبتان، ثم العجوز القبيحة التي تجمع بين الثعلب والدب بعينيها الحمراوين ووجهها الأحمر الشاحب، ومن بعدها آخرون يهرعون جميعًا في حماس. وأثناء تقدمهم نحونا أخذوا يتذللون في خنوع أمام مورو، ويغنون دون تناغم مقاطع من الجزء الثاني من ترتيلة القانون الخاص بهم: «يده هي التي تجرح، يده هي التي تداوي»، وما إلى ذلك.
ما إن اقتربوا، وصاروا على مسافة نحو ثلاثين مترًا، توقفوا. وأخذوا يقذفون بالرمل الأبيض فوق رءوسهم، وهم متخذون وضع السجود. حاول تخيل المشهد: ثلاثة رجال يرتدون ملابس زرقاء، ومعهم مُرافقهم المشوه ذو الوجه الأسود، يقفون في رقعة واسعة يغطيها الرماد الأصفر الذي تنعكس عليه أشعة الشمس تحت السماء الزرقاء المتوهجة، ومحاطون بهذه الدائرة من المسوخ الجاثمة على الأرض مؤدية تلك الحركات. بدا بعضهم شبيهًا بالبشر إلى حد بعيد، فيما عدا ما يتعلق بالتعبيرات والإيماءات الماكرة، وبعضهم مثل الكسحاء، في حين وصل آخرون في درجة تشوههم إلى الحد الذي أصبحوا لا يشبهون معه أي شيء سوى ما نراه في أكثر أحلامنا جموحًا. ومن وراء ذلك تمتد صفوف كثيفة من قصب الخيزران في أحد الجوانب، ومجموعة كثيفة متداخلة من أشجار النخيل بجانب آخر، لتفصلنا عن الوادي وما به من أكواخ. أما في الشمال، فيمتد المحيط الهادئ في الأفق الغائم.
أخذ مورو يحصي: «اثنان وستون، ثلاثة وستون … هناك أربعة غير موجودين.»
قلت: «لا أرى الرجل الفهد.»
نفخ مورو على الفور في البوق الضخم، وتلوى البشر الحيوانات ثانية عند سماعهم له، وتمرغوا في التراب. بعد ذلك حضر الرجل الفهد من خلف مورو، متسللًا من بين قصب الخيزران، ومائلًا نحو الأرض، محاولًا الانضمام لمجموعة الكائنات التي تتمرغ في التراب. لاحظت وجود كدمة بجبهته. كان الرجل القرد صغير الحجم آخر من حضر من البشر الحيوانات. رمقته الحيوانات التي سبقته — التي أثارها وأنهكها التمرغ في التراب — بنظرات قاسية.
قال مورو، بصوته العالي الحازم: «كفى!» فرجع البشر الحيوانات للوراء ليجلسوا على ركبهم، وتوقفوا عن تعبدهم.
سأل مورو: «أين الناطق بالقانون؟» فنكس الوحش الرمادي كثيف الشعر وجهه في التراب.
قال مورو: «لتقل الكلمات»، وأخذ الجميع يتغنون بترتيلهم الغريب مرة أخرى، وهم يجثمون على الأرض، ويتمايلون من جانب لآخر، ويتقاذفون الكبريت بأيديهم، رافعين يدهم اليمنى أولًا وبها نفحة من التراب، ثم اليسرى.
وعندما وصلوا إلى: «محظور تناول اللحم أو السمك؛ هذا هو القانون»، رفع مورو يده البيضاء الهزيلة، وصاح: «كفى!» فخيم الصمت المطبق على الجميع.
أعتقد أنهم كانوا جميعًا على علم بما سيحدث، ويخافونه. نظرت حولي في وجوههم الغريبة. وعندما أبصرت مفاجأتهم والخوف الكامن في عيونهم اللامعة، بدأت أتساءل كيف ظننت من قبل أنهم بشر.
قال مورو: «لقد خُرق هذا القانون.»
رد الكائن عديم الوجه ذو الشعر الفضي: «لا أحد يهرب.» وكرر ذلك من ورائه البشر الحيوانات الجاثمون على الأرض.
صاح مورو: «من هو؟» ونظر حوله في وجوههم، وهو يضرب بسوطه في الهواء. أعتقد أن الضبع الخنزير بدا مغمومًا، وكذلك الرجل الفهد. توقف مورو، مواجهًا هذا المخلوق الذي تصاغر أمامه وقد ملأت ذهنه ذكريات الذعر والألم اللامتناهي. كرر مورو بصوت مدوٍّ: «من هو؟»
ترنَّم الناطق بالقانون: «الآثم هو من يخرق القانون.»
نظر مورو في عيني الرجل الفهد، وبدا كما لو كان يستشف دخائل نفسه.
قال مورو مبتعدًا بنظره عن ضحيته ومستديرًا ناحيتنا: «من يخرق القانون …» بدا لي أن صوته يشوبه بعض الابتهاج.
صاحوا جميعًا: «… يعود إلى دار الألم … يعود إلى دار الألم، أيها السيد!»
ردد الرجل القرد، كما لو أن الفكرة قد طابت له: «يعود إلى دار الألم … إلى دار الألم.»
قال مورو، مستديرًا نحو المجرم: «هل تسمع؟ … أنت!»
بعد أن أبعد مورو نظره عنه نهض الرجل الفهد ليقف مستقيمًا على ركبتيه، وعيناه تقدحان بالشرر، وأنيابه السنورية الضخمة تلمع من تحت شفتيه المتجعدتين. قفز نحو معذبه. كنت موقنًا أن الجنون الناتج عن الخوف غير المحتمل هو ما دفع إلى ذلك الهجوم. بدا لي أن الوحوش الستين جميعهم المحيطين بنا قد نهضوا من حولنا؛ فأخرجت مسدسي. اصطدم الرجل الفهد بمورو، وأبصرت مورو يترنح للخلف إثر لكمة الرجل الفهد له. اشتد الصياح والعواء من حولنا، وأسرع الجميع في حركته. ظننت لحظة أنه عصيان عام.
مر وجه الرجل الفهد الغاضب سريعًا أمام وجهي أثناء ملاحقة ميلينج له، فأبصرت عيني الرجل الضبع الخنزير الصفراوين تتوهجان بالحماس، وبدا من الوضع الذي اتخذه أنه كاد يكون قد عقد العزم على مهاجمتي. حدق الساتير أيضًا فيّ من وراء كتفي الرجل الضبع الخنزير الحدباوين. سمعت صوت إطلاق الرصاص من مسدس مورو، ورأيت الوميض الوردي ينطلق بين الجمع المضطرب. استدار الجميع في اتجاه وميض النار، وتبعتهم أنا أيضًا لاإراديًّا. وفي غضون ثوانٍ ركضت بين الحشد المضطرب عالي الصيحات ملاحقًا الرجل الفهد الذي كان يحاول الفرار.
هذا كل ما يمكنني وصفه بوضوح، فقد رأيت الرجل الفهد يضرب مورو، ثم بدأ كل شيء يدور من حولي، إلى أن أخذت أركض سريعًا.
كان ميلينج في المقدمة، وعلى مسافة أقرب من الهارب. وفي الخلف كانت الإناث الذئبات يركضن بخطى واسعة واثبة، وألسنتهن متدلية. وتبعهن البشر الخنازير يصيحون في حماس، وكذلك الرجلان الثوران المضمدان بأربطة بيضاء. جاء بعد ذلك مورو محاطًا بمجموعة من البشر الحيوانات، وممسكًا بمسدسه في يده، وقد طارت من فوق رأسه قبعته القشية ذات الحواف العريضة، فانسدل شعره الأبيض الخفيف المسترسل. ركض الرجل الضبع الخنزير بجانبي، ملاحقًا إياي خطوة بخطوة، ومحدقًا فيّ خفية بعينيه الماكرتين. وجاء الآخرون خلفنا وهم يدمدمون ويصيحون.
انطلق الرجل الفهد بين أشجار الخيزران الطويلة التي ارتدت عند مروره بها لترتطم بوجه ميلينج. أما نحن، الذين كنا نركض خلفهما، فقد وجدنا طريقًا سبق وطؤه من قبل عند وصولنا إلى الأجمة. استمرت المطاردة عبر الأجمة مسافة نحو ربع ميل، اندفعنا بعد ذلك بين أحراش كثيفة أعاقت حركتنا إلى حد بعيد — مع أننا قد دخلناها معًا محتشدين — فكانت الأوراق تسفع وجوهنا، والنباتات المتسلقة خيطية الشكل تصل إلى أذقاننا أو تمسك بكواحلنا، والنباتات الشائكة تتعلق بنا، فتمزق كلًّا من ملابسنا وأجسادنا.
تحدث مورو لاهثًا، وكان قد وصل آنذاك أمامي مباشرةً: «لقد سار على أطرافه الأربعة طوال هذه المطاردة.»
قال الرجل الذئب الدب، ضاحكًا في وجهي من أثر ابتهاجه بالصيد: «لا أحد يهرب.»
انطلقنا ثانيةً بين الصخور، ورأينا طريدنا أمامنا راكضًا بخفة على أطرافه الأربعة، وهو ينظر خلفه نحونا مزمجرًا. وعند رؤية البشر الذئاب لذلك عووا بابتهاج. وبالرغم من ارتداء ذلك الكائن الملابس، ووجهه الذي بدا بشريًّا من بعيد، فإن سيره على أربع جعله شبيهًا بالقطط. هذا فضلًا عن أن التدلي الماكر لكتفه كان سمة واضحة لحيوان مطارد. قفز فوق بعض الشجيرات الشائكة ذات الزهور الصفراء، وتوارى عن الأنظار. كان ميلينج على بعد نصف المسافة بيننا وبين الطريد.
لم يعد معظمنا يركض بالقدر نفسه من السرعة التي بدأنا بها المطاردة، وصرنا نسير بخطى أكثر اتساعًا وثباتًا. ولاحظت عند تجاوزنا المنطقة المكشوفة أن المطاردين انتشروا ليصير بعضهم بجانب بعض بعد أن كانوا يركضون بعضهم خلف بعض. كان الرجل الضبع الخنزير لا يزال يركض بالقرب مني، مراقبًا إياي بين الحين والآخر أثناء ركضه، ثم مغضِّنًا خطمه وهو يضحك بدمدمة.
وعند حافة الصخور انعطف الرجل الفهد فجأة بين الشجيرات المتشابكة، بعد أن أدرك أنه يتجه نحو اللسان البارز في البحر، الذي تعقبني عليه ليلة وصولي. لكن مونتجومري لاحظ تلك المناورة، وجعله يستدير مرة أخرى.
وهكذا ساعدت في ملاحقة الرجل الفهد، الذي خرق القانون، بركضي لاهثًا ومتعثرًا في الصخور، وجسدي ممزق من علائق النباتات، والقصب والسرخس يعترضان سبيلي. وكان الرجل الضبع الخنزير يركض بجواري مطلقًا ضحكات بربرية. تابعت المسير مترنحًا، ورأسي متمايل، وقلبي ينبض بقوة شديدة حتى شعرت أنني أكاد أموت. لكنني ما كنت لأجرؤ على ترك المطاردة، خوفًا من أن أُترك وحيدًا مع ذلك الرفيق المرعب. أخذت أترنح للأمام برغم الإرهاق الشديد والحرارة المفرطة لتلك المنطقة الاستوائية في فترة ما بعد الظهيرة.
وفي النهاية خفت وطأة المطاردة، وحاصرنا ذلك البائس في أحد جوانب الجزيرة. كان مورو يقودونا جميعًا في خط غير منتظم ممسكًا السوط في يده. تقدمنا حينذاك ببطء، يصيح كلٌّ منا في الآخر أثناء تقدمنا، ونحن نضيق الحصار على ضحيتنا. أخذ ينسل دون أن يحدث صوتًا أو يراه أحد في الأحراش التي فررت عبرها أثناء ملاحقته لي في تلك الليلة المنصرمة.
صاح مورو: «ثبات! ثبات!» عند زحف الواقفين بنهاية الخط حول مجموعة الشجيرات المتشابكة، وحصارهم للحيوان المُطارد داخلها.
جاء صوت مونتجومري من وراء الأجمة: «احذروا حامل المسمار.»
كنت واقفًا على المنحدر فوق الأجمة، في حين ركض مونتجومري ومورو على الشاطئ في الأسفل. شققنا طريقنا ببطء وسط الفروع والأوراق المتشابكة، وكان طريدنا صامتًا.
صاح الرجل القرد بصوت كالعواء، وهو على بعد نحو عشرين مترًا ناحية اليمين: «يعود إلى دار الألم … إلى دار الألم … إلى دار الألم!»
عندما سمعت ذلك غفرت لذلك البائس المسكين كل الخوف الذي أثاره بداخلي.
سمعت صوت تهشم الأغصان الصغيرة، وحفيف تحرك الأفرع الكبيرة جانبًا أمام الكائن الذي كان يجمع بين الفرس ووحيد القرن، ويخطو بخطى بطيئة عن يميني. وفجأة رأيت المخلوق الذي كنا نطارده عبر مضلع من النباتات الخضراء في المكان شبه المظلم تحت النباتات الكثيفة. توقفت. كان جاثمًا في أصغر مساحة ممكنة، وعيناه الخضراوان اللامعتان استدارتا للنظر نحوي.
قد يبدو الأمر تناقضًا غريبًا بداخلي — ولا يمكنني في الواقع تفسيره — لكن في تلك اللحظة عند رؤيتي لذلك المخلوق بوضعية جسمه الحيوانية تمامًا، والضوء يبرق في عينيه، ووجهه البشري المعيب الذي شوهه الذعر، أدركت من جديد حقيقة طبيعته البشرية. في غضون لحظات سيراه أحد ملاحقيه، وسيتغلب عليه، ويأسره ليلقى مجددًا صور العذاب الرهيب داخل المنطقة المسيجة. أخرجت مسدسي فجأة، وصوبت بين عينيه المذعورتين، وأطلقت النار.
وعند قيامي بذلك رأى الرجل الضبع الخنزير ذلك المخلوق، فاندفع بقوة فوقه مطلقًا صيحة حماس، ومغرزًا أسنانه العطشى في رقبته. كانت جميع النباتات الخضراء بالأجمة الموجودة أمامي تتمايل وتتهشم مع قدوم البشر الحيوانات مسرعين معًا. وأخذ وجه كل منهم يظهر، واحدًا تلو الآخر.
صاح مورو: «لا تقتله، يا برينديك! لا تقتله!» ورأيته ينحني عند مروره تحت أوراق السرخس الكبيرة.
وفي لمح البصر رد الرجل الضبع الخنزير بقوة باستخدام مقبض سوطه، في حين كان يُبعد — هو ومونتجومري — البشر الحيوانات آكلي اللحم المهتاجين، وخاصةً ميلينج، عن الجسد المرتعش الراقد بلا حراك. جاء الكائن كثيف الشعر ذو البشرة الرمادية يتشمم الجثة الموجودة تحت ذراعي. دفعتني الحيوانات الأخرى، بحماسها الحيواني، للحصول على نظرة عن قرب.
قال مورو: «عليك اللعنة يا برينديك! لقد قتلته.»
رددت عليه: «آسف!» وإن لم أكن كذلك. واستطردت: «كان اندفاعًا مني.» كنت أشعر بالاعتلال من أثر الإجهاد والانفعال. استدرت، وشققت طريقي وسط البشر الحيوانات المحتشدين، وتابعت المسير وحدي صاعدًا المنحدر باتجاه الجزء العلوي من اللسان. وعند صياح مورو مصدرًا الأوامر سمعت الرجال الثيران الثلاثة المضمدين بالأربطة البيضاء يأخذون في سحب الضحية إلى أسفل باتجاه الماء.
أصبح من اليسير آنذاك أن أبقى بمفردي. أظهر البشر الحيوانات فضولًا إنسانيًّا تمامًا بشأن الجثة، ولحقوا بها في زمرة كبيرة، وهم يتشممونها ويزمجرون تجاهها أثناء سحب الرجال الثيران لها نحو الشاطئ. توجهت إلى اللسان، وشاهدت الرجال الثيران — الذين بدوا كظلال سوداء في مواجهة سماء المساء — أثناء حملهم للجثة تجاه البحر. أدركت فجأة العبثية المفزعة للأشياء الموجودة على الجزيرة. وعلى الشاطئ، بين الصخور الموجودة أسفلي، وقف الرجل القرد، والرجل الضبع الخنزير، والعديد من البشر الحيوانات الآخرين، حول مونتجومري ومورو. كانوا جميعًا لا يزالون منفعلين بشدة، وتغمرهم كافة تعبيرات الولاء للقانون. لكنني كنت متيقنًا تمام اليقين أن الرجل الضبع الخنزير كان متورطًا في قتل الأرنب. وشعرت بقناعة غريبة — بعيدًا عن الفظاظة التي بدا عليها الواقفون في الطابور، وغرابة هيئتهم — أن أمامي صورة مصغرة للتوازن الكامل للحياة البشرية؛ التفاعل الكامل بين الغريزة والعقل والقدر، في أبسط صوره. لقد هُزم الرجل الفهد، وكان هذا هو الفارق الوحيد.
يا للحيوانات المسكينة! بدأت أرى آنذاك الجانب الوضيع لقسوة مورو. لم أفكر من قبل في الألم والمعاناة اللذين لاقاهما هؤلاء الضحايا المساكين بعد ترك مورو لهم. كنت أرتعد خوفًا فقط عند التفكير في التعذيب الفعلي داخل المنطقة المسيجة. أما الآن، فيبدو ذلك الجانب الأهون. لقد كانوا في السابق حيوانات، وكانت غرائزهم تتلاءم بحق مع البيئة المحيطة بهم، وكانوا يشعرون بالسعادة كما يُفترض بجميع الكائنات الحية. أما الآن، فقد تعثروا في أغلال الطبيعة البشرية، وعاشوا في خوف لا نهاية له، يقلق راحتهم قانون لا يمكنهم فهمه؛ بدأ كيانهم البشري الزائف بألم مبرح، وكان صراعًا داخليًّا طويلًا، ورهبة متواصلة من مورو، وما الهدف من وراء كل ذلك؟ لقد كانت عبثية الأمر برمته هي ما يثير حفيظتي.
لو كان لدى مورو أي هدف مفهوم لتعاطفت معه على الأقل بعض التعاطف، فلست شديد الحساسية تجاه الألم في حد ذاته، ولكنت أيضًا سأغفر له قليلًا مما يفعله إن كانت الكراهية دافعه. لكنه كان يفتقر لأي حس بالمسئولية، وغير مبالٍ على الإطلاق. كان مدفوعًا بفضوله، وأبحاثه المجنونة التي لا هدف لها، فتُترك تلك الكائنات لتعيش سنة أو نحو ذلك تكافح وتتخبط، وتعاني، وتلقى حتفها في النهاية على نحو مؤلم. كانت تلك الحيوانات بائسة بداخلها، تدفعها سمة الكراهية في طبيعتها الحيوانية السابقة إلى إلحاق الأذى بعضها ببعض. وكان القانون يحول دون دخولها في أي صراع قصير محتدم، والوصول إلى نهاية حاسمة فيما يتعلق بضغائنها الطبيعية.
في تلك الأيام صار خوفي من هؤلاء البشر الحيوانات مماثلًا لخوفي الشخصي من مورو. انتابتني حالة من الاكتئاب الشديد المتواصل، بعيدًا عن الخوف الذي ترك آثارًا دائمة في ذهني. وعليّ أن أقر بأنني قد فقدت إيماني بعقلانية العالم عندما رأيت ما يشهده من فوضى مؤلمة في هذه الجزيرة. بدا الأمر كأن قدَرًا أعمى — أو آلية ضخمة عديمة الرحمة — يشكل هذا الوجود ويمنحه ملامحه، وأنا ومورو (بشغفه بالبحث) ومونتجومري (بشغفه بشرب الخمر) والبشر الحيوانات بغرائزهم وحدودهم الفكرية، تمزقنا وتحطمنا بلا رحمة وعلى نحو محتوم، بين التعقد اللانهائي لرحى تلك الآلية متواصلة الدوران. لكن هذه الحالة لم تنتابني فجأة … أعتقد أنني قد توقعت شيئًا منها عند التحدث عنها الآن.