ارتداد البشر الحيوانات
وهكذا أصبحت واحدًا من جماعة البشر الحيوانات على جزيرة الدكتور مورو. وعندما استيقظت كان الظلام قد حلَّ من حولي. كانت ذراعي تؤلمني في الضمادات المحيطة بها. جلست متسائلًا في البداية عن المكان الذي أوجد فيه. سمعت بعد ذلك أصواتًا جشة تتحدث بالخارج، ثم لاحظت أن المتراس الذي صنعته قد أُزيل، وأن مدخل الكوخ صار فارغًا. كان المسدس لا يزال في يدي.
سمعت صوت أنفاس، ورأيت شيئًا رابضًا بالقرب مني. حبست أنفاسي، محاولًا تبين ماهيته. بدأ يتحرك ببطء دون توقف، ثم مر شيء أملس ودافئ ورطب على يدي.
انقبضت جميع عضلات جسمي، فسحبت يدي سريعًا. كدت أطلق صيحة ارتياع، لكنها اختنقت في حلقي. أدركت حينها فقط ما قد حدث مما جعلني أُبقي أصابعي على المسدس.
قلت هامسًا بصوت أجش، ولا يزال المسدس موجهًا في يدي بثبات: «من هناك؟»
– «أنا يا سيدي.»
– «من أنت؟»
– «إنهم يقولون إنه ما من سيد الآن، لكنني أعلم … نعم أعلم. لقد حملت الجثث إلى البحر … تلك الجثث التي ذبحتها، أيها السائر في البحر. أنا عبدك يا سيدي.»
سألته: «هل أنت من التقيته على الشاطئ؟»
– «بعينه يا سيدي.»
كان من الجلي أن ذلك المخلوق مخلص بما فيه الكفاية، فكان بإمكانه الانقضاض عليّ أثناء نومي. قلت له، وأنا أمد يدي ليقبلها قبلة أخرى وهو يلعقها: «حسنًا». بدأت أدرك ما كان يعنيه وجوده، وأخذتني الشجاعة فسألت: «أين الباقون؟»
قال الرجل الكلب: «إنهم مجانين وحمقى. يتبادلون الآن أطراف الحديث هناك، ويقولون: «السيد قد مات، وحامل السوط قد مات أيضًا، والسائر في البحر صار حاله من حالنا. لم يعد لدينا سيد، أو أسواط، أو دار للألم. هناك نهاية. نحن نحب القانون، وسنحافظ عليه، لكنه ما من ألم أو أسياد أو أسواط بعد الآن.» هذا ما يقولونه. لكنني أعلم يا سيدي، أنا أعلم.»
تلمست طريقي في الظلام، وربتُّ على رأس الرجل الكلب، وقلت له ثانيةً: «حسنًا.»
رد الرجل الكلب: «ستذبحهم جميعًا الآن، أليس كذلك؟»
أجبته: «الآن؟ كلا، سأذبحهم جميعًا … لكن بعد عدد معين من الأيام وانقضاء بعض الأحداث. وبعد ذلك سيُذبح الجميع فيما عدا من أعفو عنه … جميعهم سيُذبحون.»
قال الرجل الكلب وقد شاب صوته بعض الرضا: «من يرغب السيد في قتله فسيقتله.»
قلت له: «وإذا زادت خطاياهم فسأدعهم يعيشون في جهلهم إلى أن يحين موعد حسابهم. لندعهم غافلين عن كوني السيد.»
قال الرجل الكلب بلباقته الحاضرة النابعة من طبيعته الخانعة: «مشيئة السيد جيدة.»
قلت: «لكن إذا أذنب أحدهم فسوف أقتله أينما التقيته. وعندما أقول لك: «هذا هو»، فعليك بالانقضاض عليه. والآن، سأذهب إلى الرجال والنساء المجتمعين معًا.»
للحظة، أظلم مدخل الكوخ بخروج الرجل الكلب، ثم اتبعته ووقفت في البقعة نفسها التي كنت أقف فيها عندما سمعت مورو وكلب الصيد أثناء ملاحقتهما لي. لكن الآن، فقد كان الوقت ليلًا، وخيم الظلام على الوادي بجوه الخانق أمامي. وخلفه، بدلًا من المنحدر الأخضر المشمس، رأيت نارًا حمراء أخذت الكائنات المحدبة المشوهة تتحرك أمامها جيئة وذهابًا. وفيما بعد ذلك أشجار كثيفة أشبه بكومة سوداء يحفها من فوق شريط أسود من الأغصان العلوية. كان القمر يبزغ لتوه من حافة الوادي، والبخار المتدفق باستمرار من فوهات البراكين الموجودة على الجزيرة يتصاعد أمامه كما لو كان قضيبًا يخترقه.
قلت مستجمعًا شجاعتي: «سِر بجانبي»، وسرنا جنبًا إلى جنب في الطريق الضيق، دون أن نلقي بالًا للأشياء المبهمة التي كانت تحدق فينا من الأكواخ.
لم يحاول أحد من الموجودين حول النار إلقاء التحية علينا، وتجاهلنا معظمهم في تفاخر. نظرت حولي بحثًا عن الرجل الضبع الخنزير، لكنه لم يكن موجودًا. كان حول النار نحو عشرين من البشر الحيوانات جاثمين يحدقون في النار أو يتحدثون معًا.
سمعت صوت الرجل القرد عن يميني يقول: «لقد مات … مات … السيد مات. ودار الألم، لم تعد هناك دار للألم.»
قلت بصوت مرتفع: «إنه لم يمت، ولا يزال يراقبنا حتى الآن.»
روعهم ذلك فجأة، وصارت عيونهم تحدق فيّ.
قلت: «اختفت دار الألم، لكنها ستعود. والسيد لم يعد بإمكانكم رؤيته، لكنه يسمعنا في هذه اللحظة من فوقنا.»
قال الرجل الكلب: «صحيح … صحيح!»
أصابهم تأكيدي بالذهول. قد يكون الحيوان ضاريًا وماكرًا، لكن الكذب من شيم البشر بحق. قال أحد البشر الحيوانات: «ينطق الرجل ذو الذراع المضمدة بكلام غريب.»
قلت: «لقد أخبرتكم بحقيقة الأمر. سيعود السيد، وستعود دار الألم من جديد. والويل لمن سيخرق القانون!»
نظر كلٌّ منهم إلى الآخر في حيرة. وبشيء من اصطناع اللامبالاة بدأت في ضرب الأرض أمامي بكسل باستخدام بلطتي. ولاحظت أنهم ينظرون للشقوق العميقة التي أحدثتها في طبقة العشب.
تشكك الساتير بعد ذلك فيما كنت أقوله؛ فأجبته، ثم اعترض واحد من الكائنات المرقطة، فبدأت مناقشة حادة حول النار. وبمرور كل لحظة، كنت أزداد اقتناعًا بالأمان الحالي الذي أتمتع به. فصرت أتحدث دون أن أشعر بالانقطاع في أنفاسي الذي كان يزعجني في السابق نظرًا لشدة انفعالي. وفي غضون حوالي ساعة، كنت قد أقنعت بالفعل العديد من البشر الحيوانات بصدق ما كنت أؤكده لهم، وأقنعت الآخرين الذين كانت تراودهم الشكوك. ظللت متيقظًا في بحثي عن عدوي الرجل الضبع الخنزير، لكنه لم يظهر مطلقًا. وكنت أشعر بين الحين والآخر بحركة مريبة تفزعني، لكن ثقتي أخذت تزداد سريعًا. ومع بدء اختفاء القمر أخذ المستمعون يتثاءبون واحدًا تلو الآخر (لتظهر من أفواههم أغرب أسنان يمكن رؤيتها في ضوء النار التي بدأت تخمد)، وانسحبوا بعد ذلك باتجاه الوكر الموجود في الوادي. وذهبت معهم لخوفي من السكون والظلام وعلمي بأن الوجود مع عدد كبير منهم أكثر أمانًا من البقاء مع أحدهم فحسب.
على هذا النحو بدأ الجزء الأكبر من إقامتي على جزيرة الدكتور مورو. لكن منذ تلك الليلة حتى النهاية، لم يحدث ما يستحق التحدث عنه سوى أمر واحد، ذلك باستثناء سلسلة من التفاصيل الصغيرة العديدة المزعجة، والاضطراب الناتج عن القلق الدائم. لذا فإنني أفضل ألا أسرد ما حدث في تلك الفترة الزمنية خلا واقعة رئيسية واحدة فقط في الشهور العشرة التي قضيتها مقرَّبًا من تلك الحيوانات الشبيهة بالبشر. هناك العديد من الأمور العالقة في ذاكرتي يمكن أن أكتبها؛ أمور يمكن أن أضحي بأغلى ما عندي لأنساها. لكنها لا تفيد في رواية قصتي. وبالنظر إلى الماضي من الغريب تذكر كيف اعتدت أساليب هؤلاء الوحوش، واكتسبت ثقتي مرة أخرى بهذه السرعة. كنت أدخل في مشاجرات بالطبع، وعلى جسمي في الوقت نفسه بعض آثار أسنان، لكن سرعان ما صاروا يحترمون حيلتي في رمي الحجارة والتأثير القوي لبلطتي. وقد كان ولاء الرجل الكلب التابع لي ذا نفع كبير لي. توصلت إلى أن مقياسهم البسيط للمقام الرفيع يعتمد أساسًا على القدرة على إحداث جروح بليغة. ويمكنني القول بالتأكيد — دون تكبر كما آمل — إنني قد احتللت مكانة رفيعة بينهم. وقد حمل واحد أو أكثر ممن ألحقت بهم جروحًا بالغة ضغينة نحوي، لكنها كانت لا تظهر إلا من وراء ظهري، وعلى بُعد آمن من أسلحتي، على هيئة تقطيب للوجه.
تجنب الرجل الضبع الخنزير مواجهتي، وكنت دائمًا متأهبًا له. وكان الرجل الكلب الملازم لي يكرهه ويهابه كثيرًا. ولدي اقتناع تام أن ذلك كان سببًا رئيسيًّا لتعلق ذلك الرجل الكلب بي. وسرعان ما اتضح لي أن ذلك الوحش قد تذوق الدماء، واتبع نهج الرجل الفهد، فأقام لنفسه مخبأ في مكان ما بالغابة، وانزوى عن الآخرين. حاولت في إحدى المرات حث البشر الحيوانات على اصطياده، لكنني افتقرت للسلطة التي تجعلهم يتعاونون لتحقيق غاية واحدة. حاولت مرارًا وتكرارًا الاقتراب من عرينه، والانقضاض عليه على حين غرة، لكنه كان دائم الحذر مني، فكان يراني دومًا أو يروعني ثم يهرب. وقد جعل كذلك جميع الطرق بالغابة خطيرة لي ولحلفائي بما كان يقيمه من كمائن خفية. ونادرًا ما كان الرجل الكلب يجرؤ على الابتعاد عني.
طغت الطبيعة البشرية إلى حد بعيد على البشر الحيوانات خلال الشهر الأول أو نحوه، وذلك بالمقارنة بحالتهم السابقة. وإلى جانب صديقي الشبيه بالكلب، لقيت تسامحًا وديًّا من واحد أو أكثر من أولئك البشر الحيوانات؛ فأظهر الكائن الوردي الصغير الشبيه بالكسلان عاطفة غريبة تجاهي، وأخذ يتبعني. أما الرجل القرد، فكان مصدر إزعاج لي بافتراضه أنه ندٌّ لي نظرًا لما يتمتع به من أصابع خمسة، وكان دائمًا يثرثر بكلام غير مفهوم معي؛ لغو بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لكن ثمة شيئًا بشأنه كان يسليني قليلًا؛ فكان يمارس حيلة رائعة لصياغة كلمات جديدة. كانت لديه فكرة، على ما أعتقد، أن الثرثرة بالأسماء التي لا معنى لها هي الاستخدام المناسب للخطاب. وكان يطلق عليها «الأمور العِظام» ليميزها عن «الأمور البسيطة» المتمثلة في اهتمامات الحياة اليومية العقلانية. وكان إذا ما علقت تعليقًا لا يفهمه يمتدحه كثيرًا ويطلب مني أن أردده، فيحفظه عن ظهر قلب، وينطلق مكررًا إياه، مُخطِئًا في كلمة أو اثنتين، أمام الرجال الحيوانات الأكثر اعتدالًا. وكان لا يلقي بالًا لما هو واضح ومفهوم. وقد اخترعت بعض «الأمور العِظام» المثيرة للغاية لاستخدامه الخاص. وأعتقد الآن أنه أكثر المخلوقات التي قابلتها سذاجة؛ فقد طور بأكثر الطرق براعة السذاجة المميزة للإنسان دون أن يفقد مثقال ذرة واحدة من حماقة القرود الطبيعية.
كان ذلك خلال الأسابيع الأولى من إقامتي وحيدًا بين تلك الوحوش. وفي تلك الفترة كانوا يحترمون العُرف الذي ينص عليه القانون، وينهجون سلوكًا لائقًا بوجه عام. عثرت في إحدى المرات على أرنب آخر ممزق إربًا، وكنت متيقنًا أن الرجل الضبع الخنزير هو الفاعل. لكن فيما عدا ذلك، كان كل شيء على ما يرام. ولم أدرك إلا في شهر مايو/أيار للمرة الأولى وبوضوح التغير المتزايد في حديثهم ومشيتهم، والخشونة التي تتزايد حدتها في نطقهم، ونفورهم المتزايد من الكلام؛ فصار الرجل القرد أعلى صوتًا في ثرثرته التي تراجعت إمكانية فهمها وازداد تشابهها بأصوات القرود شيئًا فشيئًا. وبدأ بعض الآخرين في فقدان قدرتهم على الحديث، وإن ظلوا يفهمون ما كنت أقوله لهم أثناء تلك الفترة. هل يمكنك تصور الأمر: لغة واضحة ودقيقة تضعف وتهزل لتفقد شكلها ومضمونها، ولا تصير إلا مجموعات من الأصوات مرة أخرى؟ هذا فضلًا عن ازدياد صعوبة سيرهم منتصبي القامة. وبالرغم من خجلهم من أنفسهم، كنت بين الحين والآخر أرى واحدًا أو أكثر منهم يجري على أصابع قدميه ويديه، ويكون غير قادر على استعادة وضع الانتصاب. وصاروا يحملون الأشياء على نحو أكثر خُرقًا، ويمصون ما يشربونه، ويقرضون ما يأكلونه، وازداد سلوكهم ابتذالًا. وأدركت بشكل قاطع أكثر من أي وقت مضى ما أخبرني به مورو بشأن معاودة الطبيعة الحيوانية بداخلهم في الظهور ثانية. لقد كانوا يرتدون سريعًا للغاية إلى تلك الطبيعة.
بدأ بعض منهم، وعلى رأسهم الإناث — وهذا ما لاحظته بشيء من الدهشة — في إهمال الوصية المتعلقة باللياقة، وكانوا يفعلون ذلك عن عمد في أغلب الأحيان. بل وحاول آخرون أيضًا انتهاك حرمة القانون الذي ينص على الزواج الأحادي. وصار من الجلي أن تعاليم القانون قد بدأت تفقد قوتها. لا يمكنني متابعة الحديث عن هذا الموضوع الكريه. وقد تراجع الرجل الكلب كذلك إلى طبيعته ككلب ثانية؛ فصار يزداد غباءً وتشابهًا بذوات الأربع يومًا بعد يوم، هذا فضلًا عن تزايد كثافة الشعر الذي يغطي جسمه. وكدت لا ألحظ تحوله من رفيق يسير على يميني إلى كلب يترنح بجانبي. ومع تزايد الإهمال واختلال النظام بمرور الأيام صار الممر الذي يحتوي على أماكن إقامة البشر الحيوانات — الذي لم يتسم في أي وقت مضى بالجمال — كريهًا للغاية، الأمر الذي دفعني إلى مغادرته والانتقال إلى الجانب الآخر من الجزيرة. فصنعت لنفسي كوخًا من الأغصان وسط البقايا السوداء لمنطقة مورو المسيجة. واكتشفت أن بعض ذكريات الألم قد جعلت ذلك المكان الأكثر أمانًا لي من البشر الحيوانات.
من المحال ذكر كل خطوة من خطوات تراجع أولئك الوحوش إلى طبيعتهم الأولى بالتفصيل، وكيف قل تشابههم بالإنسان يومًا بعد يوم، وتركهم للضمادات والأربطة إلى أن تخلوا في النهاية عن كل قطعة ملابس على أجسامهم، وكيف بدأ الشعر ينتشر على أطرافهم العارية، وتراجعت جباههم وبرزت وجوههم، وكيف صار تذكر الألفة شبه الآدمية التي سمحت لنفسي بها مع بعضهم في أول شهر من إقامتي وحيدًا بينهم أمرًا مرعبًا.
كان التغير بطيئًا وحتميًّا؛ فلم يكن صادمًا سواء لي أو لهم. ولم أزل أتجول بينهم في أمان، وذلك لأنه لم تحدث صدمة مفاجئة في منزلق ارتدادهم للطبيعة الأولى بحيث توقظ داخلهم شحنة زائدة من الطبيعة الحيوانية المتفجرة التي أخذت تحل محل الطبيعة البشرية يومًا بعد يوم. لكنني بدأت أخشى من اقتراب حدوث تلك الهزة الآن بلا شك. لحق بي الكلب إلى المنطقة المسيجة، وتمكنت بفضل يقظته من النوم مطمئنًا في بعض الأحيان. وقد صار الكائن الوردي الصغير الشبيه بالكسلان خجولًا، وتركني ليعود إلى حياته الطبيعية ثانيةً بين أغصان الأشجار، فكنا نعيش حالة من التوازن التي تبقى في أقفاص الحيوانات التي يعرضها مروضوها إن تركها هؤلاء المروضون على حالها إلى الأبد.
لم ترتد بالطبع تلك المخلوقات إلى الحيوانات التي يراها القارئ في حدائق الحيوان، أي إلى دببة وذئاب ونمور وثيران وخنازير وقرود طبيعية. لكن ظل هناك شيء ما غريب في كل منهم؛ لقد مزج مورو في كلٍّ منهم بين حيوانين؛ فغلب على أحدهم طبيعة الدببة، وعلى الآخر طبيعة القطط أو البقر، لكن اتسم كلٌّ منهم في الوقت نفسه بسمات كائن آخر. وطغت سمات حيوانية عامة على الطباع المختلفة. لكن ظلت بقايا الطبيعة البشرية المتراجعة تفاجئني بين الحين والآخر متمثلة في ارتداد سريع للقدرة على التحدث، أو براعة غير متوقعة في استخدام القوائم الأمامية، أو محاولة بائسة للسير بانتصاب.
ومما لا شك فيه أنني أيضًا قد تعرضت لتغيرات غريبة، فصارت ملابسي تتدلى على جسدي كأسمال بالية صفراء اللون تتبدى من بين شقوقها بشرتي التي سفعتها الشمس، كما صار شعري طويلًا وأشعث. ولا يزال يخبرني الناس حتى الآن أن عيني بهما بريق غريب وتنبه سريع للحركة.
في البداية كنت أقضي ساعات النهار على الشاطئ الجنوبي منتظرًا ظهور أي سفينة، بل آملًا وداعيًا أن تظهر. كنت أتوقع عودة «إبيكاكوانا» بانقضاء العام، لكنها لم تأت. وقد رأيت مراكب شراعية خمس مرات، ودخانًا ثلاث مرات، لكن ما من شيء وصل إلى الجزيرة في أيٍّ من تلك المرات. كنت مستعدًّا دائمًا بإشعال النار، لكن بالتأكيد كانت تلك النار تعزى إلى الطبيعة البركانية التي اشتهرت بها الجزيرة.
لم أفكر في صنع طوف إلا في شهر سبتمبر/أيلول أو أكتوبر/تشرين الأول. بحلول ذلك الوقت كانت ذراعي قد شُفيت، وصار بإمكاني استخدام كلتا يدي. كان شعوري بالعجز في البداية مروعًا، فلم أقم من قبل بأي أعمال نجارة أو شيء من هذا القبيل. قضيت أيامًا متتالية بين الأشجار في محاولات لقطع أخشابها وربطها. لم تكن لديّ أي حبال، ولم تقع يداي على أي شيء يمكن بواسطته أن أصنع حبالًا؛ فلم تبد أيٌّ من النباتات المتسلقة الكثيفة لدنة أو قوية بما فيه الكفاية لذلك الغرض، كما لم يسعفني أيٌّ مما تبقى لديّ من معرفة علمية في صنعها. قضيت أكثر من أسبوعين أنبش بين البقايا السوداء للمنطقة المسيجة وعلى الشاطئ حيث احترق القاربان، باحثًا عن مسامير أو أي قطع معدنية أخرى متناثرة يمكن أن تكون ذات جدوى. بين الحين والآخر كان واحد من البشر الحيوانات يراقبني ثم يتراجع سريعًا عندما أنادي عليه. تعرضت الجزيرة لفترة من العواصف الرعدية والأمطار الغزيرة مما أعاق عملي كثيرًا، لكنني في النهاية أتممت صنع الطوف.
كنت سعيدًا به، لكن افتقاري للحس العملي — الذي كان مصدر الأذى لي دائمًا — جعلني أصنعه بعيدًا عن البحر بنحو ميل أو أكثر، وقبل أن أتمكن من سحبه على الشاطئ، كان قد تفكك إلى قطع منفصلة. وربما أكون قد أُنقذت في الوقت نفسه من إنزاله إلى الماء وهو بتلك الحالة. لكنني كنت تعسًا للغاية في ذلك الوقت بسبب فشلي حتى إنني كنت أمضي أيامًا أتسكع على الشاطئ محدقًا في الماء ومستغرقًا في التفكير في الموت.
لكنني لم أرغب في الموت. وقع حادث أنذرني على نحو جلي بحماقة أن أدع الأيام تمر وأنا على هذه الحال حيث كان كل يوم جديد مشحونًا بخطر متزايد من جانب الحيوانات المتوحشة. كنت مستلقيًا في إحدى المرات في ظل جدار المنطقة المسيجة محدقًا في البحر الممتد أمامي عندما روعني شيء بارد يلمس عقب قدمي. وعندما أنعمت النظر حولي رأيت المخلوق الوردي الصغير الشبيه بالكسلان ينظر في وجهي بعينين طارفتين نصف مفتوحتين. كان قد مر وقت طويل على فقدانه القدرة على الكلام والتحرك بنشاط، وصار شعره المسترسل يزداد كثافة بمرور الأيام، ومخالبه القصيرة البدينة صارت أكثر انحرافًا. أصدر صوت عويل عندما رأى أنه قد جذب انتباهي، وسار بعض خطوات ناحية الأجمة، ثم نظر إلي ثانيةً.
لم أعِ الأمر في البداية، لكنني سرعان ما أدركت أنه كان يريدني أن ألحق به، وهذا ما فعلته في النهاية، لكن ببطء نظرًا لحرارة الجو في ذلك اليوم. وعندما وصل إلى الأشجار تسلقها لأن حركته كانت أيسر بين النباتات المتسلقة العالقة من تلك الأشجار مقارنة بحركته على الأرض.
فجأة، وفي منطقة سبق وطؤها، رأيت مشهدًا مروعًا. كان الكلب التابع لي يرقد ميتًا على الأرض، وبالقرب من جثته يجثم الرجل الضبع الخنزير ممسكًا بمخالبه المشوهة اللحم المرتعش لضحيته، ناخرًا إياه ومزمجرًا في بهجة. وعندما اقتربت رفع الوحش عينيه المحملقتين بغضب لتلتقيا بعينيَّ، وارتعشت شفتاه لتظهر من تحتها أسنانه الملطخة بالدماء، وزمجر مهددًا إياي. لم يكن خائفًا أو خجلًا؛ اختفى آخر أثر للطبيعة البشرية لديه. تقدمت خطوة أخرى، ثم توقفت، وأخرجت مسدسي. وأخيرًا، صرنا وجهًا لوجه.
لم يُبد الحيوان أي أثر للتراجع، لكن أذنيه ارتدتا للخلف، وشعره انتصب بخشونة، وانحنى جسمه. صوبت بين عينيه وأطلقت النار. وأثناء قيامي بذلك وثب ذلك المخلوق فجأة ليقف أمامي، فسقطت على الأرض في الحال. تشبث بي بيده العاجزة، وضربني في وجهي. أدى ارتداده إلى اندفاعه بعيدًا عني. سقطت تحت الجزء الخلفي من جسمه، لكن لحسن الحظ كنت قد أصبته كما أردت، فمات أثناء وثبه. زحفت من تحت جسده القذر، ووقفت مرتعشًا ومحدقًا في ذلك الجسد المرتعش. لقد انتهى ذلك الخطر على الأقل. لكنني كنت أعلم أن ذلك ما هو إلا أول حلقة في سلسلة من الانتكاسات الحتمية.
حرقت الجثمانين على محرقة من الأغصان المقطوعة. وأدركت آنذاك أنني إذا لم أترك الجزيرة، فموتي هو بالتأكيد مسألة وقت فحسب. بحلول ذلك الوقت كانت الحيوانات — باستثناء واحد أو اثنين — قد تركت الوادي، وأقامت لأنفسها مخابئ وفقًا لأذواقها بين الأجمة الموجودة على الجزيرة. كان عدد قليل منهم يطوف الجزيرة خلسة أثناء النهار، لكن أغلبهم كان ينام فتبدو الجزيرة مهجورة لأي وافد جديد. أما الليل، فكان مرعبًا بصياحه وعوائه. كدت أذبحهم جميعًا بإقامة الأشراك أو مقاتلتهم بسكيني. وإذا كان لدي ما يكفي من الخراطيش، لما ترددت لحظة في البدء في قتلهم. لم يتجاوز عدد من تبقى من آكلي اللحوم الخطيرين عشرين؛ أكثرهم شجاعة كانوا قد ماتوا بالفعل بحلول ذلك الوقت. بعد موت كلبي المسكين، آخر صديق لي، اعتدت أنا أيضًا إلى حد ما على النوم أثناء النهار لكي أتمكن من حراسة نفسي أثناء الليل. أعدت بناء ما اتخذته وكرًا لي بين جدران المنطقة المسيجة مع جعل فتحته ضيقة بحيث إذا حاول أي كائن الدخول، فسيُحدِث بالضرورة قدرًا كبيرًا من الضوضاء. فقدت تلك الكائنات أيضًا ألفتها مع النار، وعادت لخوفها منها. عدت، بمزيد من الحماس تلك المرة، لقطع الأوتاد والأغصان وجمعها معًا لصنع طوف أهرب فيه.
واجهتني العديد من الصعوبات؛ فأنا رجل أخرق للغاية — وتعليمي انتهى قبل تطبيق نظام التعليم المهني — لكنني تمكنت في النهاية من توفير كل ما تطلبه صنع الطوف على نحو غير مباشر بطريقة أو بأخرى، واهتممت تلك المرة بمتانته. كانت العقبة الوحيدة أمامي التي لم أتمكن من التغلب عليها هي عدم وجود إناء أملؤه بالماء الذي سأحتاجه في حال خوضي تلك البحار المجهولة. فكرت في الفخار، لكن لم يكن بالجزيرة أي طين لصناعته. فأخذت أتسكع على الجزيرة مستغرقًا في التفكير محاولًا بكل ما أوتيت من قوة التوصل إلى حل بشأن هذه العقبة الأخيرة. وكنت أنفس في بعض الأحيان عن حالات غضب عنيف، فأكسِّر وأمزِّق أي شجرة تعيسة أمامي في نوبة غضبي المفرط. لكنني لم أتوصل إلى أي حل.
حلَّ بعد ذلك يوم رائع قضيته مبتهجًا؛ رأيت شراعًا ناحية الجنوب الغربي، وكان صغيرًا كأشرعة المراكب الشراعية الصغيرة، فأشعلت في التو كومة كبيرة من الأغصان المقطوعة، ووقفت بجانبها في ظل حرارتها وحرارة شمس منتصف النهار، مراقبًا الشراع. أمضيت اليوم بأكمله في مراقبة الشراع دون أن أتناول أو أشرب أي شيء، فأصبت بالدوار. وكانت الحيوانات تأتي وتحدق فيّ، وقد بدا عليها أنها تتساءل عما كنت أفعله، ثم تغادر. كان القارب لا يزال بعيدًا بحلول الليل الذي أخفاه. أخذت أكد طوال الليل لأبقي لهب النار التي أوقدتها ساطعًا وعاليًا، وكانت عيون الحيوانات تلمع وسط الظلام في اندهاش. اقترب القارب أكثر ببزوغ الفجر، فرأيت أنه كان شراعًا متسخًا رباعي الأضلاع لقارب صغير. أجهدت المراقبة عيني، فكنت أمعن النظر فيما أمامي مع عدم تصديق لما أراه. كان هناك رجلان في القارب يجلسان على مستوى منخفض، أحدهم عند مقدمة القارب والآخر عند الدفة. لكن كان القارب غريبًا في إبحاره حيث لم تكن مقدمته تسير مع الرياح، بل تنحرف وتميل للأمام.
ومع سطوع ضوء النهار أخذت ألوح لهما بآخر خرقة متبقية من سترتي، لكنهما لم يلاحظاني، وظلا جالسين وجه أحدهما في وجه الآخر. ذهبت إلى أكثر البقاع انخفاضًا من اللسان المنخفض، وأخذت ألوح وأصيح. ولم يرد أحد عليّ، وظل القارب يسير في طريقه بلا هدف متجهًا ببطء شديد نحو الخليج. طار فجأة طائر أبيض كبير من القارب، ولم يحرك أيٌّ من الرجلين ساكنًا، أو ينتبه للطائر. أخذ الطائر يدور، ثم اندفع بخفة فوقهما فاردًا جناحيه القويين.
توقفت بعد ذلك عن الصياح، وجلست على اللسان مُسندًا ذقني على يديّ، وحدقت أمامي. مضى القارب ببطء ناحية الغرب، فكرت في أن أسبح وصولًا إليه، لكن شيئًا ما — خوفًا غامضًا — جعلني أحيد عن تلك الفكرة. وفي الظهيرة، دفعت الأمواج القارب على الشاطئ ليستقر على بعد مائة متر أو نحوها غرب بقايا المنطقة المسيجة.
كان الرجلان الموجودان في القارب ميتين، كانا كذلك منذ فترة طويلة حتى إن جسميهما تحلَّلا عندما أمَلْت القارب على جانبه، وسحبتهما منه. كان أحدهما ذا شعر أحمر أشعث مثل رُبان المركب الشراعي «إبيكاكوانا»، وكانت هناك قبعة بيضاء متسخة ملقاة في قاع المركب. وأثناء وقوفي بجانب القارب انسل ثلاثة حيوانات خلسة من بين الأجمة، وأخذوا يتشممون المكان من حولي، فأصابتني إحدى نوبات الاشمئزاز التي اعتدت عليها. دفعت القارب الصغير على الشاطئ، وصعدت عليه. تقدم اثنان من الحيوانات، وكانا ذئبين، للأمام بمناخر مرتعشة وعيون لامعة. أما الثالث، فكان مخلوقًا بشعًا يجمع بين الدب والثور.
عندما رأيتهم يقتربون من هاتين الجثتين البائستين سمعتهم يدمدمون أحدهم للآخر، ورأيت وميض أسنانهم، فحل رعب شديد محل ما كنت أشعر به من اشمئزاز. أدرت ظهري لهم، وأنزلت الشراع رباعي الأضلاع، وأخذت أجدف بالقارب في البحر. ولم يسعني حمل نفسي على النظر خلفي.
لكنني توقفت بين الحيد البحري والجزيرة في تلك الليلة، وتوجهت في الصباح التالي إلى النهير، وملأت برميلًا صغيرًا بالماء. وبقدر ما استطعت من صبر جمعت مجموعة من الفواكه، وتربصت بأرنبين وقتلتهما بآخر ثلاثة خراطيش معي. وأثناء قيامي بذلك تركت القارب راسيًا في منطقة داخلية بارزة من الحيد البحري، خوفًا من الحيوانات المتوحشة.