الباب الموصد
ربما سيدرك القارئ أن كل شيء من حولي كان في بادئ الأمر غريبًا للغاية، وأن موقفي كان نتاج مغامرات غير متوقعة على الإطلاق حتى إنني لم أفطن للغرابة النسبية التي كان عليها هذا الأمر أو ذاك. اتبعت اللاما على الشاطئ، ولحق بي مونتجومري الذي طلب مني عدم دخول المنطقة المسيجة بسياج صخري. لاحظت حينها أن قفص أنثى الكوجر وكومة المتاع قد وُضِعا خارج مدخل تلك المساحة رباعية الزوايا.
استدرت ورأيت أن القارب أُفرغ من حمولته، ونفدت ما به من مؤن ثانيةً، وسُحب إلى الشاطئ. كان الرجل ذو الشعر الأبيض يسير باتجاهنا. وجَّهَ حديثه إلى مونتجومري قائلًا: «نحن الآن بصدد مشكلة ذلك الضيف غير المدعو، فماذا سنفعل بشأنه؟»
قال مونتجومري: «لديه معرفة بالعلوم.»
قال الرجل الأشيب، مشيرًا برأسه إلى المنطقة المسيجة وعيناه تزداد لمعانًا: «كم أنا متلهف للعودة للعمل ثانيةً، مستخدمًا هذه الأغراض.»
رد مونتجومري بنبرة بعيدة تمامًا عن أي مشاعر ودية: «أنا موقن من ذلك.»
– «لا يمكننا إرساله إلى هناك، أو تخصيص الوقت لبناء كوخ جديد له. وبالتأكيد لا يمكننا أيضًا الوثوق به بعد.»
قلت: «أنا تحت تصرفكما.» ولم تكن لديّ أي فكرة عما كان يعنيه بعبارة «إلى هناك».
رد مونتجومري: «لقد كنت أفكر في الأمور نفسها. هناك غرفتي ذات الباب الخارجي …»
قال الرجل الأكبر سنًّا على الفور، وهو ينظر إلى مونتجومري: «بالضبط!» وتوجهنا جميعًا إلى المنطقة المسيجة. وأردف الرجل: «أستميحك عذرًا يا سيد برينديك، على هذا الغموض، لكنك يجب أن تتذكر أنك غير مدعو. تنطوي منشأتنا الصغيرة هنا على سر ما. الحقيقة أن الأمر ليس مفزعًا للغاية لأي شخص عاقل. لكن الآن، نظرًا لأننا لا نعرفك …»
وجاء ردي: «قطعًا! فمن الحماقة أن أشعر بالإهانة لعدم الثقة فيِّ.»
لوى فمه الكبير ليرسم ابتسامة باهتة على وجهه — كان شخصًا عابسًا يبتسم وجانبا فمه مائلان لأسفل — وانحنى تعبيرًا عن تقديره لكياستي. تجاوزنا المدخل الرئيسي للمنطقة المسيجة؛ كان بوابة خشبية ضخمة موصدة ومحاطة بإطار من الحديد، وحمولة القارب موضوعة خارجها، وعند الزاوية وصلنا إلى مدخل صغير لم ألاحظه من قبل. أخرج الرجل الأشيب مجموعة من المفاتيح من جيب سترته الزرقاء المشحَّمة، وفتح الباب، ودخل. الأمر الغريب الذي أدهشني هو تلك المفاتيح والإغلاق المحكم للمكان، بالرغم من أنه تحت نظره.
اتبعته لأجد نفسي في غرفة صغيرة، مؤثثة بأثاث بسيط ومريح في الوقت نفسه، وبابها الداخلي المفتوح جزئيًّا يُشرف على فناء مبلط. أغلق مونتجومري ذلك الباب الداخلي في الحال. كانت هناك أرجوحة شبكية معلقة في زاوية الغرفة الأكثر ظلمة، ونافذة صغيرة غير مصقولة يؤمنها قضيب معدني وتطل على البحر.
أخبرني الرجل الأشيب أن هذه ستكون غرفتي، وأن الباب الداخلي لها — الذي سيوصده من الجانب الآخر «خوفًا من الحوادث» — سيكون هو الحد الفاصل بيني وبين ما بالداخل. وأشار إلى وجود كرسي مريح قابل للطي أمام النافذة، ومجموعة كتب قديمة اكتشفت أن أغلبها عن الجراحة وإصدارات لأعمال كلاسيكية إغريقية ولاتينية — لغات تشق علي قراءتها — على رف بالقرب من الأرجوحة الشبكية. ترك الرجل الأشيب الغرفة من الباب الخارجي، كما لو كان يتجنب فتح الباب الداخلي مرة أخرى.
قال مونتجومري: «عادةً ما نتناول طعامنا هنا.» ثم غادر المكان بشيء من الارتياب في أعقاب الرجل الآخر. وسمعته ينادي: «مورو»، ولا أعتقد أنني لاحظت الأمر في تلك اللحظة، لكنني عندما تفحصت الكتب التي كانت على الرف تنبهت وتساءلت: أين سمعت اسم مورو من قبل؟
جلست أمام النافذة، وأخرجت البسكويت المتبقي معي، والتهمته بشهية مفتوحة. وأخذت أتساءل: «مورو؟»
عندما نظرت من النافذة رأيت أحد هؤلاء الرجال الغامضين الذين تغطي أجسامهم أربطة بيضاء وهو يسحب أحد صناديق التعبئة على الشاطئ. حجبه في تلك اللحظة إطار النافذة عن نظري، ثم سمعت صوت مفتاح يوضع في القفل الموجود خلفي، ويتحرك فيه. وبعد فترة قصيرة سمعت عبر الباب الموصد ضجيج كلاب الصيد التي أُحضرت الآن من الشاطئ. لم تكن تنبح، بل تتشمم وتزمجر على نحو غريب. تمكنت من سماع وقع خطواتها المتسارعة، وصوت مونتجومري وهو يهدئها.
تأثرتُ أيّما تأثر بالسرية الشديدة التي أحاط بها هذان الرجلان محتويات المكان، وأخذت أفكر بعض الوقت في ذلك الأمر، وفي الشعور غير القابل للتفسير بأن اسم مورو مألوف لي. لكن كم هي غريبة ذاكرة الإنسان! لم أتمكن حينذاك أن أربط بين الاسم الشهير وبين صاحبه. وانتقلت بفكري بعد ذلك إلى الغرابة غير المحددة لذلك الرجل المشوه المغطى بضمادات بيضاء على الشاطئ. لم أر في حياتي قط مثل تلك المشية أو الحركات الغريبة التي اتسم بها أثناء سحبه للصندوق. وتذكرت أن لا أحد من هؤلاء الرجال قد تحدث معي، مع أن معظمهم كانوا ينظرون إليّ خلسة بين الحين والآخر نظرات غريبة ومختلفة تمامًا عن التحديق الصريح لأي متوحش ساذج. أخذت أتساءل عن اللغة التي كانوا يتحدثون بها. بدوا جميعًا صموتين صمتًا لافتًا للنظر، وعندما يتحدثون تكون أصواتهم بالغة الغرابة. تُرى ما خطبهم؟ حينها تذكرت عيون مرافق مونتجومري الأخرق.
بينما كنت أفكر فيه إذ دخل إلى الغرفة. كان يرتدي تلك المرة ملابس بيضاء، ويحمل صينية صغيرة عليها بعض القهوة والخضراوات المسلوقة. لم أستطع أن أمنع نفسي من الانتفاض مرتعدًا عندما دخل — وهو ينحني تعبيرًا عن الود — ووضع الصينية أمامي على المائدة.
شلَّتني الدهشة عندما رأيت أذنيه اللتين تبدَّتا من تحت الخُصَل الخشنة لشعره الأسود! ظهرتا أمامي فجأة بالقرب من وجهي، فكانتا مدببتي الطرف ويغطيهما فراء بني ناعم!
قال: «إفطارك يا سيدي.» حدقت في وجهه دون أن أحاول الرد عليه. استدار، وتوجه نحو الباب وهو ينظر خلفه في اتجاهي على نحو غريب.
لاحقته بعينيّ إلى الخارج، وبينما كنت أفعل ذلك طرأت على ذهني فجأة عبارة أحدثها نشاط فكري لاشعوري بداخلي: «أهواء مورو»؟ «… مورو؟» وجدتها! أعادتني العبارة بالذاكرة عشرة أعوام إلى الوراء. إنها «أهوال مورو». لم أتذكر للحظة أين رأيت هذه العبارة، ثم أبصرتها في ذهني مكتوبة بحروف حمراء على كتيب بُنِّي فاتح كانت قراءته تقشعر لها الأبدان وترتعد لها الفرائص. استرجعت بعد ذلك بوضوح كل ما يتعلق بتلك العبارة، وتذكرت على نحو جلي تمامًا ذلك الكتيب الذي ظل غائبًا عن ذاكرتي فترة طويلة من الزمن. كنت صبيًّا صغير السن حينها، وكان مورو — على ما أظن — يبلغ من العمر نحو خمسين عامًا. كان اختصاصيًّا بارزًا وبارعًا في علم وظائف الأعضاء، ذاع صيته في الأوساط العلمية نظرًا لخياله الفذ وصراحته اللاذعة في الحوار. هل كان ذلك الرجل هو مورو نفسه؟ لقد نشر بعض الحقائق المذهلة للغاية فيما يتعلق بنقل الدم. واشتهر أيضًا بعمله القيِّم في حالات النمو المرضي. وفجأة توقف عن عمله، ولزم عليه الرحيل عن إنجلترا. فقد تمكن أحد الصحفيين من الدخول إلى معمله بصفته مساعدًا بالأعمال المعملية، عاقدًا العزم على فضح أمور مثيرة. وبفضل حادث مروع — هذا إن كان حادثًا في الأساس — اشتهر كتيبه البشع. وفي يوم نشره فر كلب بائس مسلوخ ومشوه من منزل مورو.
وقع ذلك في موسم الأخبار الصحفية العبثية، وناشد محرر بارز كانت تربطه صلة قرابة بمساعد المعمل المؤقت، ضمير الأمة. لم تكن تلك المرة الأولى التي ينقلب فيها الضمير على أساليب البحث، فطُرِد دكتور مورو من البلاد شر طردة. ربما يكون قد استحق ذلك، لكنني لا أزال أرى الدعم الضعيف له من زملائه الباحثين، وتخلي أغلب العاملين في المجال العلمي عنه، أمرًا مخزيًا. لكن بعض تجاربه — وفقًا لرواية الصحفي — كانت بالغة الوحشية. ربما كان بوسعه الحصول على راحته داخل المجتمع عن طريق التخلي عن أبحاثه، لكن من الجلي أنه آثر الخيار الثاني، شأنه في ذلك شأن معظم الرجال الذين وقعوا تحت تأثير السحر الخلاب لعالم البحث. كان أعزب، ولم يكن يشغل باله بالتأكيد سوى اهتماماته الخاصة …
كنت مقتنعًا أن هذا الشخص هو نفسه ذلك الرجل، فكل الدلائل تشير إلى ذلك. وصار واضحًا لي مصير أنثى الكوجر والحيوانات الأخرى التي أُحضرت مع غيرها من المتاع إلى داخل المنطقة المسيجة خلف المنزل. شعرت فجأة أنني أشم رائحة غريبة غير واضحة؛ رائحة شيء مألوف ظلت في خلفية وعيي حتى تلك اللحظة. كانت رائحة تعقيم غرف العمليات. سمعت زمجرة أنثى الكوجر عبر الحائط، ونباح أحد الكلاب كما لو أنه تلقى ضربة.
لكن من المؤكد — خاصةً لرجل علم آخر — أنه ليس هناك ما يُفزع في تشريح الحيوانات الحية بما يبرر تلك السرية. وبانتقال مفاجئ غريب في أفكاري عادت تتجلى أمامي بوضوح شديد صورة أُذنَي مرافق مونتجومري مدببتي الطرف وعينيه اللامعتين. نظرت أمامي محدقًا في البحر بمياهه الخضراء، وقد كساه الزبد تحت النسيم العليل، وأخذت تلك الأفكار وغيرها من الذكريات الغريبة للأيام القليلة الماضية تتلاحق سريعًا في ذهني.
ما الذي يعنيه ذلك؟ منطقة مسيجة مغلقة على جزيرة نائية، ومشرِّح حيوانات حية سيئ السمعة، وهؤلاء الرجال العُرجان المشوهون؟ …