شيءٌ في الغابة
سِرت بخطى واسعة عبر الشجيرات التي كانت تكسو سلسلة التلال الموجودة خلف المنزل، دون أن أكترث إلى أين أذهب، وتابعت المسير عبر ظلال تجمع كثيف لأشجار مستقيمة السيقان فيما وراء تلك التلال، فوجدت نفسي بعد قليل بطريقة ما على الجانب الآخر لهذه السلسلة، هابطًا نحو نهير يجري عبر وادٍ ضيق. توقفت وأنصتّ. كانت المسافة التي قطعتها، أو الأجمة الكثيفة الفاصلة، قد أخمدت أي صوت يمكن أن يصدر من داخل المنطقة المسيجة. كان الهواء ساكنًا. سمعت بعد ذلك حفيفًا، وظهر أمامي أرنب، فركضت فارًّا أعلى المنحدر الموجود أمامي. ترددت، وجلست على حافة المكان الظليل.
كان المكان ساحرًا، الغدير تحجبه النباتات وافرة النماء الموجودة على ضفافه، فيما عدا جزء واحد حيث لاحظت بقعة مثلثة الشكل من مائه المتلألئ. على الجانب الآخر رأيت من بين سديم ضارب إلى الزرقة كتلة متشابكة من الأشجار والنباتات المتسلقة تحت زرقة السماء الباهرة. وتبدت في أماكن متفرقة آثار بيضاء وقرمزية لتبرعم بعض النباتات الهوائية المتدلية. أخذت أتفقد ذلك المنظر بعض الوقت، ثم بدأت أفكر ثانيةً في السمات العجيبة لرفيق مونتجومري. لكن حرارة الجو حالت دون استغراقي في التفكير، فحلَّت عليّ حالة من السكينة ما بين النعاس واليقظة.
أفقت من تلك الحالة بعد فترة لا أعلم مداها على حفيف يصدر من بين النباتات الخضراء على الجانب الآخر من النهير. لم أتمكن لحظة من رؤية أي شيء سوى القمم المتحركة لنباتات السرخس والخيزران، ثم فجأة ظهر شيء ما على ضفة النهير. لم يكن بوسعي في بادئ الأمر تمييز ملامحه. طأطأ ذلك الشيء رأسه باتجاه الماء، وأخذ يشرب. لاحظت بعد ذلك أنه رجل يسير على أطرافه الأربعة كالحيوانات!
كانت ملابسه من قماش لونه ضارب إلى الزرقة، وبشرته نحاسية اللون وشعره أسود. بدا لي أن القبح الشنيع كان سمة ثابتة لسكان تلك الجزيرة. كان بوسعي سماع صوت ارتشاف شفتيه للمياه.
انحنيت للأمام لأتمكن من رؤيته جيدًا، تفككت قطعة من الحمم البركانية بجانب يدي، وانزلقت على المنحدر محدثة صوتًا خافتًا، فنظر لأعلى نظرة توحي بأنه يشعر بالذنب، والتقت عيوننا. هبَّ واقفًا على قدميه، وأخذ يمسح فمه بيديه القبيحتين، وينظر إليّ. كان طول ساقيه نصف طول جسده تقريبًا. وهكذا، ظل كلٌّ منا يحدق في الآخر في حالة من الارتباك ربما مدة دقيقة، ثم توقف لينظر خلفه مرة أو مرتين، وانسل خلسة بين الشجيرات الموجودة عن يميني، وسمعت حفيف الأوراق يخفت على بُعد حتى سكن تمامًا. كان يحدق فيِّ بإمعان بين الحين والآخر. ظللت جالسًا أحدق في الاتجاه الذي سلكه بعد أن اختفى عن نظري بفترة طويلة. وتبددت تلك السكينة التي كنت أشعر بها نتيجة النعاس.
فاجأني صوت من خلفي، وعندما استدرت فجأة رأيت ذيلًا أبيض متحركًا لأرنب اختفى صاعدًا المنحدر، فانتفضت واقفًا.
قضى ظهور هذا المخلوق المفزع شبه الحيواني فجأة على ما كنت أتمتع به من هدوء بعد الظهيرة. نظرت حولي بقدر من العصبية، وشعرت بالندم أني لست مسلحًا. فكرت بعد ذلك في أن الرجل الذي رأيته للتو كان يرتدي ملابس مصنوعة من قماش لونه ضارب إلى الزرقة، وليس عاريًا مثل المتوحشين، وحاولت إقناع نفسي بأنه في نهاية الأمر شخص مسالم، وأن الوحشية غير الواضحة لملامحه تعكس انطباعًا خاطئًا عنه.
لكنني انزعجت للغاية برؤيته. سرت نحو اليسار على طول المنحدر، مديرًا رأسي حولي ومنعمًا النظر في هذا الطريق، وذاك بين سيقان الأشجار المستقيمة. لماذا يسير رجل على أطرافه الأربعة، ويرشف الماء بشفتيه؟ سمعت في تلك اللحظة أنين أحد الحيوانات ثانيةً، واعتقدت أنها أنثى الكوجر. استدرت، وسرت في اتجاه معاكس تمامًا عن ذلك الذي يصدر منه الصوت، فأدى ذلك إلى نزولي للنهير الذي عبرته وسلكت طريقي إلى أعلى متجاوزًا الشجيرات الموجودة بعده.
أفزعتني بقعة كبيرة من اللون القرمزي الزاهي على الأرض، وعندما وصلت إليها اكتشفت أنها نوع عجيب من الفطر متفرع ومتغضن مثل حزاز الصخر المورق، لكنه يتحول إلى مادة لزجة عند لمسه. عثرت بعد ذلك بين ظلال بعض السرخس وافر النماء على شيء كريه؛ لقد كان جسد أرنب ميت مغطى بذباب لامع، لكنه لا يزال دافئًا ورأسه مفصول عن جسده. وقفت مدهوشًا أمام منظر الدم المتناثر. في تلك البقعة كان يرقد زائر للجزيرة جرى التخلص منه!
لم تكن هناك أي آثار أخرى للعنف حوله، فبدا كما لو كان قد جُذب لأعلى فجأة وقُتل. عندما حدقت في الجسد الصغير المكسو بالفرو، أخذت أفكر في صعوبة ارتكاب تلك الفعلة. وأثناء وقوفي في ذلك المكان ازدادت حدة ذلك الخوف الغامض الذي انتابني منذ رؤيتي للوجه غير الآدمي للرجل عند النهير. وبدأت أدرك مدى جرأة تجولي بين هؤلاء الغرباء. اتخذت الأجمة من حولي صورة مختلفة في خيالي، وصارت الظلال أكثر من مجرد ظلال؛ صارت كمائن، وكل حفيف أصبح يمثل تهديدًا. وبدا الأمر كما لو كانت هناك أشياء غير مرئية تراقبني.
قررت العودة إلى المنطقة المسيجة الموجودة على الشاطئ، فابتعدت فجأة واندفعت بعنف — بل ربما باهتياج — بين الشجيرات، متلهفًا للوصول إلى مكان خالٍ من حولي ثانيةً.
توقفت في اللحظة المناسبة حتى لا أظهر في مكان مفتوح. كان المكان أرض فضاء كوَّنها الخريف، وقد بدأت نبتات صغيرة تكافح لتحتل مكانًا لها في ذلك الفضاء، ومن خلفها كان النمو الكثيف للسيقان، والنباتات المعترشة المتشابكة والفطر والورود المتناثرة تسد الطريق ثانيةً. كان أمامي ثلاثة بشريين قبيحين، جالسين القرفصاء معًا على البقايا الفطرية لشجرة ضخمة منهارة، وغير مدركين بعد لاقترابي منهم. كان من الجلي أن بينهم أنثى، والاثنان الآخران رجلان. كانوا عراة، خلا أربطة من قماش قرمزي عند الخصر، وبشرتهم ذات لون قرنفلي شاحب لم أرها في أي همجيين من قبل. كانت وجوههم ضخمة وممتلئة وبلا ذقون، وجباههم مرتدة للخلف، وعلى رءوسهم القليل من الشعر الخشن. لم يسبق لي في حياتي قط رؤية مخلوقات على هذا القدر من البشاعة.
كانوا يتبادلون الحديث، أو على الأقل كان أحد الرجلين يتحدث للاثنين الآخرين، وبلغ اهتمام ثلاثتهم بالحديث ما جعل اقترابي منهم لا يسترعي انتباههم. أخذوا يُميلون رءوسهم وأكتافهم من جانب لآخر، واتسمت كلمات المتحدث بالغلظة وعدم الوضوح، وبالرغم من تمكني من الاستماع إليهم بوضوح، فما كان بوسعي تبيُّن ما كان يقوله ذلك الرجل. بدا لي أنه يلقي ببعض الكلام المبهم المعقد. صار تلفظه بالكلام بعد ذلك أكثر وضوحًا، وهبَّ واقفًا على قدميه مع بسط يديه.
بدأ الآخران حينذاك في النطق بكلام غير مفهوم في آن واحد، وهبَّا على أقدامهما أيضًا، باسطين أيديهما ومتمايلين بجسميهما في تناغم مع إيقاع أنشودتهم. لاحظت حينها القِصر غير الطبيعي لأرجلهم وأقدامهم الهزيلة القبيحة. أخذ الثلاثة يدورون ببطء مع رفع أقدامهم ثم ضرب الأرض بها، والتلويح بأذرعهم. وظهر شيء من النغم في إنشادهم الإيقاعي، ولازمة بدت كأنها «ألولا» أو «بالولا». بدأت أعينهم تبرق، وأوجههم القبيحة يعلوها تعبير من المتعة الغريبة، واللعاب يسيل من أفواههم عديمة الشفاه.
وبينما كنت أشاهد حركاتهم الغريبة وغير القابلة للتفسير، فجأة أدركت بوضوح للمرة الأولى ما أزعجني بشأنهم، وما خلَّف لدي انطباعين متناقضين ومتعارضين من الغرابة المطلقة والألفة الغريبة للغاية في الوقت نفسه. فقد اتسمت المخلوقات الثلاثة — التي انهمكت في ذلك الطقس — بهيئة بشرية، لكن سيماهم كانت توحي على نحو شديد الغرابة بسمات حيوان مألوف. امتزج كل كائن من تلك الكائنات — بالرغم من هيئتها البشرية، والأسمال البالية التي تغطي أجسامها، والخصائص البشرية لبنيتها الجسمانية — في داخله وفي تحركاته وتعبيرات وجهه وحضوره بوجه عام بطابع خنزيري لا يقاوَم، وبتشابه مع الحيوانات لا يمكن لأحد أن يخطئه.
وقفت مصعوقًا بذلك الإدراك المذهل، ثم أخذتْ أكثر الأسئلة بشاعةً تتوارد سريعًا على ذهني. بدأت المخلوقات الثلاثة في القفز في الهواء، واحدًا تلو الآخر، وهم يصيحون وينخرون. انزلق بعد ذلك أحدهم، فوقف للحظة على أطرافه الأربعة، ثم استعاد وضعه منتصبًا في الحال. لكن اللمحة الوامضة العابرة للطبيعة الحيوانية الحقيقية لهؤلاء الوحوش كانت كافية.
استدرت باذلًا أقصى جهدي لئلا أصدر صوتًا، واندفعت إلى الوراء وسط الأحراش، وجسمي يتخشب بين الحين والآخر من جراء الخوف من أن يُكشف أمري عند انكسار فرع أو صدور حفيف من إحدى الأوراق. ولم أجرؤ على التحرك بحرية إلا بعد فترة طويلة.
الفكرة الوحيدة التي سيطرت على ذهني آنذاك هي الابتعاد عن تلك المخلوقات الكريهة؛ كدت لا ألاحظ وصولي إلى طريق غير واضح بين الأشجار. وعند عبوري فجأة لأرض فضاء صغيرة، أفجعتني ملاحظة ساقين قبيحتين بين الأشجار تسيران بموازاتي دون أن تصدرا أي صوت، على بُعد نحو ثلاثين مترًا مني. أخفت مجموعة متشابكة من النباتات المتسلقة الرأس والجزء العلوي من الجسم. توقفت فجأة آملًا ألا يراني ذلك المخلوق، فتوقفت القدمان عند توقفي. وصلت حينها إلى درجة من العصبية جعلتي أسيطر بصعوبة شديدة على رغبتي في الفرار في الحال.
تبينت بعد ذلك عند النظر بإمعان عبر شبكة الأغصان المتداخلة رأس المخلوق الذي رأيته يشرب من قبل، وجسمه. حرك رأسه، وومضت عيناه بلون أخضر زمردي عند تحديقه فيّ من بين ظلال الأشجار؛ كان لونًا شبه براق تلاشى عندما أدار رأسه ثانية. لم يحرك ساكنًا للحظة، ثم بدأ في الركض دون أن يصدر صوتًا بين النباتات المتشابكة. وفي غضون لحظة أخرى كان قد اختفى بين بعض الأحراش. لم أستطع رؤيته، لكنني شعرت أنه توقف، وأخذ يراقبني ثانيةً.
ما هذا الشيء، أهو رجل أم حيوان؟ ماذا أراد مني؟ ليس معي سلاح، ولو عصا. كان الفرار بمنزلة جنون آنذاك. على أي حال، كان ذلك «الشيء» — أيًّا كانت ماهيته — يفتقر إلى الشجاعة اللازمة لمهاجمتي. سرت نحوه مباشرة، والعزم قد ارتسم على وجهي. حاولت جاهدًا ألا أُظهر الخوف الذي اقشعر له بدني. اندفعت عبر مجموعة متشابكة من أجمة طويلة ذات زهور بيضاء، فرأيته على بعد عشرين مترًا ينظر وراءه باتجاهي مترددًا. تقدمت خطوة أو اثنتين للأمام محدقًا بثبات في عينيه.
قلت: «من أنت؟» فحاول أن ينظر إليّ في المقابل.
قال فجأة: «لا!» ثم استدار، وأخذ يقفز مبتعدًا عني بين الشجيرات. استدار بعد ذلك، وحدق فيّ ثانيةً. لمعت عيناه على نحو براق وسط الظلام أسفل الأشجار.
كنت أرتجف خوفًا، لكنني شعرت أن فرصتي الوحيدة قد تبدت أمامي، فسرت بخطى ثابتة نحوه. واستدار هو ثانية، واختفى في الظلام. مرة أخرى اعتقدت أنني رأيت وميضًا في عينيه، وانتهى الأمر عند ذلك الحد.
أدركت للمرة الأولى كيف يمكن لتأخر الوقت أن يؤثر علي. كانت الشمس قد غربت آنذاك منذ بضع دقائق، والغسق الاستوائي السريع بدأ يخبو في السماء الشرقية. أخذت فكرة رئيسية تراودني في هدوء، وهي أنه يجب عليّ الإسراع عائدًا إلى المنطقة المسيجة، إذا لم أكن أرغب في قضاء الليل بين المخاطر المبهمة لتلك الغابة الغامضة.
كانت فكرة الرجوع إلى ذلك المأوى الذي يعج بالآلام مقيتة للغاية، لكن فكرة أن يباغتني الظلام، وما يمكن أن يخفيه، في ذلك الخلاء كانت أكثر مقتًا. ألقيت نظرة أخرى على الظلال الزرقاء التي اختفى بينها ذلك المخلوق الغريب، ثم عدت أدراجي بنزولي المنحدر متجهًا نحو النهير، لأرجع — حسب تقديري — من حيث أتيت.
جدَدْت في السير متحيرًا من كل تلك الأمور، وسرعان ما وجدت نفسي في مكان مستوٍ بين مجموعة من الأشجار المتناثرة. كان الصفاء عديم الألوان الذي تلا توهج الغروب قاتمًا. أخذت ظلمة السماء الزرقاء تشتد كل لحظة، والنجوم الصغيرة تظهر واحدة تلو الأخرى في الضوء الآخذ في الخفوت. أما المسافات بين الأشجار، والفُرج بين النباتات الأخرى، التي كانت تتمتع بلون أزرق ضبابي في ضوء النهار، فصارت سوداء وغامضة.
تابعت المسير وقد اختفت الألوان من حولي. بدت قمم الأشجار في السماء الزرقاء المضيئة كظلال حالكة السواد، في حين انصهر كل شيء أسفل ذلك الحد في ظلمة عديمة الشكل. صارت الأشجار آنذاك أقل عددًا، والشجيرات الكثيفة أكثر وفرة. كانت هناك بعد ذلك مساحة مقفرة تغطيها الرمال البيضاء، ثم رقعة فسيحة أخرى من الأجمة المتشابكة.
عذبني حفيف خافت يصدر عن يميني. ظننت في بادئ الأمر أنه من نسج خيالي، فكنت كلما أتوقف، يسود الصمت فيما عدا نسيم المساء عند قمم الأشجار. وعندما واصلت السير، كان هناك صدى صوت لوقع أقدامي.
ابتعدت عن الأجمة، ملتزمًا بالمسير في المناطق المكشوفة على نحو أكبر، ومحاولًا بين الحين والآخر مباغتة ذلك الشيء فجأة — هذا إن كان موجودًا — وهو يتسلل خلسة خلفي. لم أر شيئًا لكن شعوري بكيان آخر حولي أخذ يزداد. أسرعت في خطاي، ووصلت بعد بعض الوقت إلى سلسلة تلال غير مرتفعة، عبرتها واستدرت بحدة ناظرًا إليها بثبات من الجانب الآخر. بدت سوداء اللون واضحة المعالم في السماء المظلمة.
أخذ آنذاك نتوء عديم الشكل يتبدى كل لحظة في الأفق، ثم اختفى ثانيةً. وأيقنت في ذلك الوقت أن غريمي ذا البشرة السمراء كان يطاردني خلسة من جديد. وصاحب ذلك إدراك آخر مزعج، وهو أنني قد ضللت الطريق.
أخذت أُسرع بعض الوقت متحيرًا في يأس، ومُلاحَقًا من ذلك الكائن المختلس. أيًّا كان ذلك الشيء، فقد افتقر للشجاعة اللازمة لمهاجمتي أو كان ينتظر الفرصة لمباغتتي في لحظة ضعف من جانبي. التزمت بالسير في أماكن مكشوفة. وفي بعض الأحيان كنت أستدير وأنصت، وأقنعت نفسي حينذاك إلى حد ما أن متعقبي قد توقف عن ملاحقتي، أو أنه لم يكن سوى نتاج خيالي المضطرب فحسب. سمعت بعد ذلك صوت البحر، أسرعت في خطاي إلى حد وصل إلى الركض، وسمعت على الفور خطوات متعثرة من خلفي.
استدرت فجأة، وحدقت في الأشجار التي يغلفها الغموض ورائي. وبدت الظلال السوداء بعضها يلاحق بعضًا. أنصتُّ متخشبًا من الخوف، فلم أسمع شيئًا سوى جريان الدم في أذني. وظننت أن أعصابي كانت متوترة، وخيالي يخدعني، فاستدرت بعزم نحو صوت البحر ثانيةً.
وفي غضون دقيقة أو نحو ذلك صارت الأشجار أقل عددًا، ووصلت إلى لسان منخفض أجرد من الأرض يمتد في المياه المظلمة. كانت ليلة هادئة صافية، يتلألأ فيها انعكاس ضوء النجوم المتزايدة في العدد على أمواج البحر الهادئة. وتألق من بعيد تلاطم الأمواج على مجموعة غير منتظمة من الشعب المرجانية بضوء باهت. رأيت غربًا امتزاج الضوء البروجي مع البريق الأصفر لكوكب الزهرة. ابتعدت عن الشاطئ الموجود شرقًا، الذي كان يغطيه من ناحية الغرب جانب اللسان. تذكرت حينذاك أن شاطئ مورو كان يقع ناحية الغرب.
انكسر أحد الأغصان خلفي، وأصدر حفيفًا. استدرت، ووقفت مواجهًا الأشجار المظلمة. لم أر شيئًا، أو بالأحرى رأيت الكثير. كان كل شكل مظلم في تلك العتمة ينذر بالسوء، ويدعو للاحتراس واليقظة. لذا وقفت نحو دقيقة، ثم استدرت ناحية الغرب لأعبر اللسان، ولا يزال نظري موجهًا ناحية الأشجار. وأثناء سيري تحرك أحد الظلال المتربصة بي ليتبعني.
تسارعت ضربات قلبي. صار آنذاك امتداد الخليج الشاسع ناحية الغرب واضحًا لي. توقفت ثانيةً، وتوقف الظل — الذي لا يصدر أي صوت — على بعد عشرات الأمتار مني. سطعت بقعة ضوء صغيرة على المنعطف البعيد للمنحنى، وبدا الامتداد الرمادي للشاطئ الرملي خافتًا تحت ضوء النجوم. ربما بعدت تلك البقعة الضوئية الصغيرة ميلين. ولكي أصل إلى الشاطئ كان يلزم علي المرور عبر الأشجار التي تسللت فيها الظلال، ثم النزول على منحدر كثيف الأشجار.
صار بإمكاني حينذاك رؤية ذلك الشيء على نحو أكثر وضوحًا. لم يكن حيوانًا، فقد وقف منتصبًا. فتحت فمي عندئذٍ لأتكلم، لكن انحبس صوتي. حاولت ثانيةً، وصحت: «من هناك؟» لكن لم يُجب أحد. تقدمت خطوة للأمام. ولم يتحرك ذلك الشيء؛ لكن ضم جسمه فقط. اصطدمت عندئذٍ قدمي بإحدى الصخور.
أوحى لي ذلك بفكرة. ودون أن أرفع بصري عن الشكل الأسود الموجود أمامي، انحنيت لألتقط تلك الصخرة. لكن عند تحركي استدار ذلك الشيء بغتة كما الكلب، وانسل خلسة في مسار متعرج بعيدًا في الظلام. تذكرت حينئذٍ حيلة كان يتبعها تلاميذ المدارس مع الكلاب الضخمة، فلففت الصخرة في منديلي، ولوحت بها نحوه. سمعت بعد ذلك صوت حركة بعيدًا بين الظلال كما لو كان ذلك الشيء يتراجع، ثم انهرت نتيجة للانفعال الشديد، وتعرق جسمي على نحو مفرط وسقطت مرتجفًا، فقد هزمت غريمي، وأنا ممسك بذلك السلاح في يدي.
لم أتمكن من استجماع شجاعتي لاتخاذ قرار بالنزول عبر الأشجار والشجيرات على جانب اللسان وصولًا إلى الشاطئ إلا بعد بعض الوقت. وفي النهاية، فعلت ذلك سريعًا، وعندما خرجت من بين الأجمة لأصل إلى الرمال سمعت صوت جسم آخر يأتي مسرعًا خلفي.
عندئذٍ أفقدني الخوف صوابي تمامًا، وبدأت أركض على الرمال. سمعت في الحال وقعًا سريعًا لأقدام رشيقة تلاحقني. صرخت فزعًا، وضاعفت سرعتي. أخذت أشياء ذات لون أسود باهت وحجم يصل إلى ثلاث أو أربع مرات حجم الأرانب تجري وتقفز على الشاطئ متجهة نحو الشجيرات عند مروري بها. سيظل الرعب الذي انطوت عليه تلك المطاردة عالقًا في ذهني ما حييت. ركضت بالقرب من حافة المياه، وسمعت بين الحين والآخر ترشاش المياه الناتج عن وقع الأقدام التي كانت تقترب مني. بعيدًا … بعيدًا على نحو يبعث على اليأس، كان هناك ضوء أصفر، والليل من حولي يغلفه السواد والسكون. أوحى صوت ترشاش المياه المتلاحق باقتراب الأقدام التي تطاردني أكثر وأكثر. شعرت بانقطاع في أنفاسي، فقد كنت أفتقر تمامًا إلى لياقتي البدنية؛ أخذت أشهق وشعرت بألم يشبه وخز السكاكين في جانبي. وقد أدركت أن ذلك الشيء سيدركني قبل أن أصل إلى المنطقة المسيجة بوقت طويل، كان اليأس قد بلغ مني مبلغه، وأخذت أنشج محاولًا التقاط أنفاسي؛ واستدرت نحوه لأضربه عند وصوله إليّ. ضربته بكل قوتي، فخرجت الصخرة من المنديل عند قيامي بذلك.
عندما استدرت هبَّ ذلك الشيء — الذي كان يجري على أطرافه الأربعة — على قدميه، وأصابت الصخرة صدغه الأيسر. دوى صوت جمجمته عاليًا، وأخذ ذلك الرجل الحيوان يتخبط في خطاه باتجاهي، دفعني للخلف بيديه، ثم ترنح بجانبي ليسقط برأسه على الرمال ووجهه في الماء. وظل هناك بلا حراك.
لم أستطع الاقتراب من ذلك الشيء الأسود المُكوَّم أرضًا، فتركته هناك، والمياه تترقرق من حوله تحت النجوم الساكنة. وبعد أن ابتعدت عنه بمسافة كافية، واصلت المسير نحو الضوء الأصفر المنبعث من المنزل. وصدر — في تلك اللحظات ما كان له أثر إيجابي يبعث على الارتياح — أنين أنثى الكوجر المثير للشفقة، وهو الصوت الذي دفعني في الأصل للابتعاد عن ذلك المكان مستكشفًا تلك الجزيرة الغامضة. عندئذٍ، وبالرغم من شعوري بالوهن والإعياء الشديد، استجمعت كل ما أوتيت من قوة، وبدأت في الركض نحو الضوء. بدا الأمر كما لو أن صوتًا يناديني.