ملحق
منذ صدور الطبعة الأولى من هذا الكتيب، أو بالأحرى، في ذات اليوم الذي صدرت فيه، نُشر على الملأ خطاب الملك في هذه المدينة. ولو كانت روح النبوة هي التي توجه هذا العمل، لما اختارت مناسبة أوفق، أو وقتًا أكثر إلحاحًا. فالعقلية الدموية للخطاب أظهرت بجلاء ضرورة اتباع المبدأ الذي نادى به هذا الكتاب. لقد قرأ الناس كتابي بقصد الانتقام من خطاب الملك. أما الخطاب فبدلًا من أن يبث الرعب فقد مهد الطريق أمام مبادئ الاستقلال الشجاعة.
إن الاحتفاء، وحتى الصمت — أيًّا كان الدافع الذي ينبعان منه — يتسمان بنزعة مؤلمة عندما يمنحان أدنى قدر من التكريم لسلوك خبيث وبغيض؛ لذا إذا سلمنا بهذا المبدأ، فستكون النتيجة الطبيعية هي أن خطاب الملك — باعتباره تحفة من الخسة المطلقة — يستحق اللعن من قبل الكونجرس والشعب. غير أنه لما كان السلام المحلي للأمم يعتمد بشدة على «عفة» ما يمكننا أن نسميه على نحو مناسب «الأخلاقيات الوطنية»، فكثيرًا ما يكون تجاهل بعض الأمور بازدراء صامت أفضل من اللجوء إلى الوسائل الحديثة في التعبير عن الاستهجان. وربما يعود الفضل الأكبر في تلك الرقة المتعقلة إلى أن خطاب الملك لم يتعرض قبل الآن لرفض شعبي حاسم كالذي قوبل به هذه المرة. فالخطاب — لو جاز لنا أن نسميه خطابًا — ليس أكثر من افتراء باطل وقح ومتعمد على الحقيقة والخير العام والوجود الإنساني ذاته؛ وهو أسلوب فظ ومتغطرس لتقديم قرابين بشرية على مذبح كبرياء الطغاة. غير أن هذه المذبحة الجماعية للإنسانية هي إحدى امتيازات الملوك، وعاقبة وجودهم المؤكدة؛ لأنه كما أن الطبيعة «لا» تعرفهم فإنهم أيضًا «لا يعرفونها»، ومع أنهم مخلوقات من جنس البشر الذي ننتمي إليه، فإنهم «لا يعرفوننا» كذلك، فقد تحولوا إلى آلهة لمن صنعهم ووضعهم على عروشهم. غير أن الخطاب به سمة جيدة واحدة وهي أنه لم يحاول خداعنا، وما كان لنا أن ننخدع به، حتى لو شئنا هذا. إن الوحشية والطغيان ظاهران فيه بلا مواربة؛ وهو لا يترك لنا مساحة للشك أو الحيرة: وكل سطر فيه يقنعنا — منذ لحظة قراءتنا له — أن الهندي العاري البدائي الذي يجوب الأحراش بحثًا عن فريسة أقل وحشية من ملك بريطانيا.
في كتابه المحتال المليء بالنحيب والمسمى زورًا «كلمة من شعب إنجلترا إلى سكان أمريكا»، وصف لنا مؤلفه المزعوم السير جون دالريمبل — ربما بدافع من افتراض مزهو فارغ أن الناس هنا في أمريكا سوف يفزعون من عظمة الملك ووصفه (مع أن تلك كانت حماقة شديدة من جانبه) — الشخصية الحقيقية للملك الحالي؛ إذ يقول: «ولكن إذا كنتم تميلون إلى إسباغ الثناء على إدارة ما، وهو أمر لا يثير سخطنا» (يقصد ماركيز روكينجهام فيما يتعلق بإلغاء قانون الطوابع) «فمن الظلم والجور من جانبكم أن تحجبوا هذا الثناء عن هذا الملك الذي لا يُسمح لأحد بفعل أي شيء سوى بإشارة منه.» إنه الانحياز الأعمى للملك! والوثنية بلا حجاب: وأي إنسان يستطيع سماع هذا القول واستيعابه دون أن يفقد هدوءه يكون قد خسر ادعاءه العقلانية وكفر بالإنسانية؛ ويجب اعتباره ليس فقط ممن تخلوا عن كرامة الإنسان وإنما ممن نزلوا بأنفسهم إلى ما دون مرتبة الحيوانات، وزحفوا في مهانة كالديدان في هذا العالم.
- أولًا: مصلحة أمريكا تكمن في الانفصال عن بريطانيا.
- ثانيًا: أي الخطتين هي الأسهل والأكثر عملية: «المصالحة أم الاستقلال»؟ مع بعض التعليقات المتفرقة.
- أولًا: لأن الأمر سينتهي إلى ذلك عاجلًا أو آجلًا.
- ثانيًا: لأنه كلما طال تأخيره أصبح تحقيقه أكثر صعوبة.
كثيرًا ما كنت أتسلى وسط جماعات عامة أو خاصة بالتعليق الصامت على الأخطاء الخادعة الماكرة لأولئك الذين يتحدثون دون تدبر فيما يقولون. ومن بين الأقوال العديدة التي سمعتها، يبدو لي أن القول التالي هو الأكثر انتشارًا بين الناس، وهو أنه لو حدث هذا الانفصال بعد أربعين أو خمسين عامًا، بدلًا من أن يحدث «الآن»، لصارت القارة آنذاك أكثر قدرة على التخلص من تبعيتها ونيل استقلالها. وأرد على هذا بالقول إن قدراتنا العسكرية، «في وقتنا هذا»، نابعة من الخبرة التي اكتسبناها خلال الحرب الأخيرة، وسوف تتلاشى كليًّا بعد أربعين أو خمسين عامًا من الآن. فالقارة في ذلك الوقت، لن يتبقى لها جنرال أو حتى ضابط عسكري واحد؛ وسنكون نحن، أو أولئك الذين سيأتون من بعدنا، جاهلين بالشئون العسكرية كالهنود القدماء. وهذا الوضع وحده — إذا أوليناه عنايتنا — سوف يثبت دون أدنى شك أن الوقت الحالي هو أفضل الأوقات جميعًا. وهكذا تصبح الحجة كالتالي: مع نهاية الحرب الأخيرة، صرنا نمتلك الخبرة، ولكننا نفتقر إلى الأعداد الكافية؛ وبعد أربعين أو خمسين عامًا من الآن، سوف نمتلك الأعداد، لكن دون خبرة؛ لذا فإن النقطة الزمنية المناسبة لا بد أن تقع في لحظة معينة بين هذين الطرفين، إذ عندها يتبقى لنا ما يكفي من الخبرة وتتحقق لنا زيادة مناسبة في الأعداد: وتلك النقطة الزمنية هي الوقت الحاضر.
أرجو أن يغفر لي القارئ هذا الاستطراد، إذ إنه لا يندرج على نحو ملائم تحت النقطة التي بدأت بها، والتي أعود إليها مجددًا من خلال الرأي التالي:
لو رُممت العلاقات مع بريطانيا، وظلت هي السلطة الحاكمة المهيمنة على أمريكا (وهو ما يعني التخلي عن تلك النقطة تمامًا، حسبما تشير الأحوال الراهنة)، فسوف نحرم أنفسنا من ذات الوسيلة التي يمكننا بها تسديد ديوننا، أو ما قد نلجأ إلى استدانته. إن قيمة الأراضي الداخلية غير المأهولة بالسكان التي حرمت منها بعض الأقاليم سرًّا، نتيجة للتوسع الجائر لحدود كندا — مقدرة بسعر خمسة جنيهات استرلينية فقط لكل مائة فدان — تساوي مبلغًا يتجاوز خمسة وعشرين مليونًا من عملة بنسلفانيا؛ وتصل قيمتها الإيجارية بسعر بنس واحد للفدان إلى مليونين سنويًّا.
وعن طريق بيع تلك الأراضي يمكن تسديد الديون، دون تحميل أي جهة بالأعباء، وسوف تسهم القيمة الإيجارية المحتفظ بها لتلك الأراضي دومًا في دعم النفقات الحكومية السنوية، والوفاء بها بالكامل مع مرور الوقت. ولا يهم طول المدة الزمنية التي سنظل فيها نسدد الديون، طالما أننا سنسددها عند بيع الأراضي، ولتنفيذ ذلك سيكون الكونجرس خلال تلك المدة هو الوصي على القارة.
وأنتقل الآن إلى النقطة الثانية، وهي: أي الخطتين هي الأسهل والأكثر عملية، «المصالحة أم الاستقلال»؟ مع بعض التعليقات المتفرقة.
إن من يتخذ الطبيعة دليلًا هاديًا لا يسهل دحض حجته، وعلى هذا الأساس، أجيب بوجه عام: «أنه لكون الاستقلال خطًّا واحدًا بسيطًا موجودًا بالفعل داخل أنفسنا؛ وكون المصالحة أمرًا مربكًا ومعقدًا على نحو مبالغ فيه، وسوف يتدخل فيه ملك غادر متقلب الأهواء، فإن الإجابة واضحة بلا شك».
إن الحالة الراهنة لأمريكا مفزعة بحق لكل إنسان قادر على التفكر والتدبر؛ فأمريكا دون قانون، ودون حكومة، ودون أي شكل للسلطة سوى ما هو قائم على الإذعان أو ممنوح بالتفضل. إنها متماسكة بواسطة شعور متماثل لدى الجميع على نحو لا مثيل له، لكنه مع ذلك عرضة للتغير، ويسعى كل عدو خفي لتبديده. إن وضعنا الراهن يتلخص في تشريع بلا قانون؛ وحكمة بلا خطة؛ ودستور بلا اسم؛ وعلى نحو مدهش وعجيب، استقلال تام يناضل من أجل التبعية. إنه نموذج غير مسبوق؛ فهي حالة لم يسبق لها مثيل في التاريخ؛ ومن ذا الذي يمكنه أن يعرف ما قد يحدث؟ ليس هناك أمان لممتلكات أحد في ظل النظام المتداعي الحالي. وعقول عامة الجماهير هائمة على غير هدى، لا ترى أمامها هدفًا ثابتًا تسعى نحوه، فهي تطارد سرابًا. لا شيء مُجرَّم؛ ولا يوجد شيء يسمى خيانة؛ لذا فإن كل إنسان يعتقد أنه حر في التصرف كما يحلو له. فما كان مؤيدو الملك ليجرءوا على الاجتماع معًا بصورة استفزازية، لو كانوا يعلمون أن قوانين الدولة ستعاقبهم بالموت نتيجة تصرف كهذا. ولا بد من التمييز بين جنود إنجليز يؤخذون أسرى في معركة، وبين سكان في أمريكا يُلقى القبض عليهم. فالفئة الأولى أسرى حرب، أما الثانية فخونة. ويجب أن تخسر الأولى حريتها، وتفقد الأخرى حياتها.
بالرغم من حكمتنا يوجد وهن واضح في بعض إجراءاتنا على نحو يغري مثيري الفتن. فالحزام القاري في حالة ارتخاء شديد. وإذا لم نفعل شيئًا في الوقت المناسب، فسوف يفوت أوان القيام بأي شيء، وسوف نسقط في حالة لن تصلح معها لا «المصالحة» ولا «الاستقلال». إن الملك وحاشيته التافهة يمارسون لعبتهم القديمة في تقسيم القارة، وهم لا يعدمون متعاونين من بيننا منهمكين في نشر أكاذيب مضللة. والخطاب المتزلف الخادع الذي ظهر منذ بضعة أشهر على صفحات اثنتين من صحف نيويورك، وصحيفتين أخريين، لهو برهان على أن هناك رجالًا يفتقرون إما إلى حسن التقدير وإما إلى النزاهة.
من السهل الاختباء في الجحور والأركان والتحدث عن المصالحة، ولكن هل يفكر مثل هؤلاء الناس بجدية في مدى صعوبة المهمة، ومدى الخطورة التي تنطوي عليها، لو أن القارة انقسمت؟ هل ينظرون إلى جميع الأحوال المختلفة لرجال يجب النظر إلى مواقفهم وظروفهم بعين الاعتبار؟ هل يضعون أنفسهم مكان أصحاب المعاناة الذين فقدوا «بالفعل كل ما يملكون»، ومكان الجندي الذي ترك وراء ظهره «كل شيء» من أجل الدفاع عن بلده؟ فإذا كان اعتدالهم غير المناسب أو الحصيف يلائم أوضاعهم الخاصة وحدهم، بصرف النظر عن الآخرين، فإن واقع الحال سوف يقنعهم بأنهم «يحسبون حسابات جزافية وهم لا يعلمون».
يقول البعض فلنرجع إلى الوضع الذي كنا عليه عام ثلاثة وستين: وأرد على هذا بأنه لم يعد بمقدور بريطانيا الآن الإذعان لهذا الطلب، كما أنها لن تعرضه بالطبع؛ ولكن لو عرضناه، بل ولو نال القبول أيضًا، فإني في هذه الحالة أطرح سؤالًا منطقيًّا: ما الوسيلة التي سترغم هذا البلاط الفاسد الغادر على الالتزام بتعهداته؟ إن برلمانًا قادمًا، بل حتى البرلمان الحالي، يمكن أن يلغي هذا الالتزام ويبطله فيما بعد بحجة أنه أُبرم بواسطة العنف، أو أنه هبة طائشة؛ وفي هذه الحالة، كيف سنعالج الأمر؟ إن الأمم لا تلجأ إلى القوانين؛ فالمدافع وحدها هي محاميو الملوك؛ وسيف الحرب — لا سيف العدالة — هو الذي يحسم مثل تلك القضايا. ولكي نعود إلى الوضع الذي كان قائمًا عام ثلاثة وستين، لا يكفي أن تعود القوانين وحدها إلى ما كانت عليه؛ وإنما يجب أن تعود ظروفنا وأحوالنا أيضًا إلى ما كانت عليه؛ أي أن تُرمم بلداتنا المحترقة والمدمرة أو يُعاد بناؤها، وأن نُعوض عن خسائرنا الشخصية، وأن تُلغى ديوننا العامة (التي استدناها من أجل الدفاع عن أنفسنا)؛ وإلا فإن حالنا سيصبح أسوأ ملايين المرات مما كنا عليه في تلك الفترة المرغوبة. إن طلبًا كهذا، لو استُجيب له منذ عام مضى، لفاز بقلب وروح هذه القارة؛ لكن أوانه قد فات الآن؛ «لقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة».
إضافة إلى هذا فإن حمل السلاح لا لشيء سوى إلغاء قانون مالي لهو أمر يبدو محظورًا في الشريعة الإلهية، ومنفرًا للمشاعر الإنسانية، تمامًا كحمل السلاح لفرض الإذعان لتلك الشريعة ذاتها. فالغاية في أي من الحالتين لا تبرر الوسيلة؛ لأن حياة البشر أغلى من أن نهدرها من أجل ذلك. إن العنف الذي تعرضنا له وهدد حياتنا، وتدمير ممتلكاتنا على يد قوة مسلحة، وغزو بلادنا بالحديد والنار هو ما يمكن أن يبرر لضمائرنا حمل السلاح؛ وفي اللحظة التي أصبح فيها هذا الوضع الدفاعي ضرورة حتمية، كان لا بد أن تتوقف جميع مظاهر الخضوع لبريطانيا؛ وكان لا بد من التفكير في إعلان استقلال أمريكا واستهلال عصر استقلالها وإعلان بدايته «مع أول رصاصة أُطلقت ضدها». هذا هو الخط المستقيم الذي لم يرسمه الهوى، ولم يمده الطموح؛ وإنما رسمته سلسلة من الأحداث التي لم تكن المستعمرات هي من صنعتها.
وأختتم تلك الملاحظات بالتلميحات التالية التي أظنها تأتي بنية طيبة وفي الوقت المناسب. علينا أن نفكر في أن هناك ثلاثة سبل مختلفة يمكن بواسطتها تحقيق الاستقلال؛ وأن «واحدًا» من تلك «الثلاثة» سيكون في يوم من الأيام مصير أمريكا، وتلك السبل هي: من خلال الصوت الشرعي للشعب في الكونجرس؛ أو عن طريق قوة عسكرية؛ أو عن طريق تمرد الغوغاء. وقد لا يحدث دائمًا أن يكون جنودنا مواطنين، أو تكون عامة الشعب مجموعة من العقلاء؛ فالفضيلة — كما ذكرت من قبل — ليست وراثية ولا أبدية. ولو تحقق الاستقلال من خلال السبيل الأول من السبل المذكورة، فستتاح لنا كل الفرص وكل التشجيع لصياغة أنبل وأنقى دستور على وجه الأرض. إن بمقدورنا الآن أن نعيد كتابة تاريخ العالم من جديد. فلم تكن البشرية في وضع مشابه للوضع الحالي منذ زمن النبي نوح. لقد حان الوقت لميلاد عالم جديد، ولتنال سلالة من البشر — ربما يماثل عددها عدد جميع سكان أوروبا — حظها من الحرية في غضون بضعة أشهر. سيكون الانتكاس أمرًا مريعًا؛ ومن وجهة النظر هذه، كم تبدو الاعتراضات الواهية السخيفة التي يرفعها بعض الضعفاء أو أصحاب المصالح تافهة وبائسة عند مقارنتها بقضية ستحدد مصير العالم.
ولو تجاهلنا الفترة الراهنة المواتية والمشجعة، ثم تحقق الاستقلال بعد ذلك بأي سبيل آخر، فعلينا أن نتحمل العواقب ونتهم أنفسنا، أو بالأحرى نتهم أصحاب النفوس الحقيرة والمتحيزة الذين دأبوا على معارضة هذا السبيل دون تفكر أو تدبر. هناك أسباب يمكن أن نسوقها لتأييد الاستقلال، وهي أسباب ينبغي على الرجال أن يفكروا فيها بينهم وبين أنفسهم لا أن تُقال لهم على الملأ. فلا ينبغي أن نكون منشغلين الآن بالجدل حول نيل الاستقلال من عدمه، وإنما متلهفين لنيله على أساس راسخ وآمن ونبيل، وقلقين ومهمومين لأننا لم نبدأ بعد في العمل على ذلك. إن كل يوم يمضي يزيدنا قناعة بضرورته. وحتى أنصار الملك (إن كان بيننا حتى الآن أمثال هؤلاء) عليهم — من بين جميع الناس — أن يكونوا الأكثر إلحاحًا في الترويج له؛ فلو أن التعيين في اللجان هو ما وقاهم الغضب الشعبي في البداية، فإن شكلًا متعقلًا جيد التنظيم للحكومة سيكون هو الوسيلة الوحيدة المؤكدة لكي يظلوا في أمان. لذا فإن كانوا لا يتمتعون بما يكفي من الفضيلة ليكونوا «أحرارًا»، فعليهم أن يتسموا بما يكفي من الحصافة ليتمنوا الاستقلال.
باختصار، الاستقلال هو «الرباط» الوحيد الذي يمكن أن يجمع بيننا ويحافظ على وحدتنا. وبعدها سوف نرى هدفنا، وسوف نصم آذاننا بصورة مشروعة عن سماع مشاريع عدو غادر ومتوحش. وعندئذ أيضًا سوف نكون في وضع ملائم للتعامل مع بريطانيا؛ لأن هناك أسبابًا تدعونا للاعتقاد أن كبرياء ذلك البلاط الملكي سيكون أقل تضررًا عند التعامل مع الولايات الأمريكية من أجل وضع بنود سلام عنه عند التعامل مع من يعتبرهم «رعايا متمردين» لوضع بنود تسوية. إن تأجيلنا للأمر هو ما يشجع بريطانيا على أن تأمل في الغزو، وتراجعنا لا يؤدي إلا إلى إطالة أمد الحرب. وكما أوقفنا تجارتنا للحصول على تعويض عن خسائرنا وما لحق بنا من أضرار — دون أن نحقق من وراء ذلك أي نتيجة تذكر — فلنجرب الآن الحل البديل، بتعويض تلك الخسائر والأضرار بأنفسنا بصورة مستقلة، ثم نعرض فتح باب التجارة من جديد. سيظل الجانب التجاري والعقلاني من إنجلترا مؤيدًا لنا؛ لأن السلام مع التجارة أفضل من الحرب دون تجارة. وإذا لم يحظ هذا العرض بالقبول، فيمكن التقدم به إلى ممالك أخرى.
على هذه الأسس أرسي القضية. ولما لم يتقدم أحد بعد بعرض يفند به المبدأ الذي احتوته الطبعات السابقة من هذا الكتيب، فهذا دليل على أن المبدأ غير قابل للتفنيد، أو أن الحزب المؤيد له أكثر عددًا وغلبة من أن يمكن معارضته. لذا، بدلًا من أن يحدق بعضنا في بعض بشك أو فضول مرتاب؛ فليمدد كل منا يد الصداقة إلى جاره بود وإخلاص، ولنتحد معًا لنرسم خطًّا يكون أشبه بعفو ندفن به كل إساءة سابقة وننساها. دعونا نمحُ من بيننا مسميات مثل «حر» و«ملكي»؛ ودعونا لا نسمح بأن نسمع سوى كلمات من قبيل «مواطن صالح»، و«صديق مخلص موطد العزم»، و«مؤيد فاضل لحقوق الإنسانية وللولايات الأمريكية الحرة والمستقلة».
وإلى ممثلي الجمعية الدينية الأهلية المسماة «كويكرز» (جمعية الأصدقاء)، أو إلى كثيرين منهم اهتموا بإذاعة المنشور الأخير الذي حمل عنوان: «خطاب موجه لعموم الشعب حول تجديد الحجة الأزلية ومبادئ طائفة الكويكرز، فيما يتعلق ﺑ«الملك» و«الحكومة»، وبشأن «الفتن» المنتشرة الآن في تلك المنطقة وغيرها من مناطق أمريكا»، أقول:
إن كاتب هذه السطور هو واحد من قلة لا تتعرض للدين بسوء قط، سواء بالسخرية أو الاعتراض تحت أي مسمى. والناس كافة سيحاسَبون على ما يدينون به أمام الله، وليس أمام بشر. لذا فإن هذه الرسالة ليست موجهة لكم بوصفكم جماعة دينية، وإنما بوصفكم هيئة سياسية تقحم نفسها في شئون تأمركم تعاليم الصمت المعلنة ضمن مبادئكم بعدم التدخل فيها. ولما كنتم قد وضعتم أنفسكم — دون سلطة ملائمة تخولكم ذلك — في موضع الممثل لسائر جماعة الكويكرز، فإن كاتب هذه السطور — لكي يتخذ منزلة مكافئة لمنزلتكم — يجد نفسه مرغمًا على أن يعتبر نفسه ممثلًا لجميع من يصادقون على الكتابات والمبادئ التي استخدمتم حجتكم لتفنيدها: وقد اختار الكاتب هذا الوضع الاستثنائي الشاذ لعلكم تكتشفون من خلاله معنى انتحال الشخصيات الذي لا تستطيعون رؤيته في أنفسكم؛ فلا أنتم ولا كاتب هذه الكلمات يملك حق ادعاء «التمثيل السياسي» أو لقبًا يخوله ذلك.
عندما يحيد الناس عن الصراط القويم لا عجب في أن يتعثروا ويسقطوا. ويتجلى بوضوح في الأسلوب الذي تعاملتم به مع حجتكم أن السياسة ليست السبيل الأمثل لكم؛ فمع أنها قد تبدو لكم منقحة بإتقان فإنها ليست أكثر من مزيج من الصالح والطالح وُضعا معًا على نحو يفتقر إلى الحكمة، والاستنتاج الذي خلصتم إليه منها هو استنتاج متكلف وجائر في آن واحد.
إننا نسلم لكم بما جاء في أول صفحتين من حجتكم (التي تقع إجمالًا في أقل من أربع صفحات) ونتوقع منكم أدب المعاملة بالمثل، لأن حب السلام والرغبة فيه ليسا حكرًا على أتباع الكويكرية، فتلك هي الأمنية الفطرية والدينية لجميع طوائف البشر. وعلى هذا الأساس فباعتبارنا أناسًا يكدون لوضع دستور مستقل خاص بنا، فإننا نفوق سائر الباقين من البشر في أملنا وغايتنا ومرادنا. «إن خطتنا ترمي إلى تحقيق سلام يدوم إلى الأبد». لقد سئمنا النزاع مع بريطانيا، ولا نرى نهاية حقيقية لهذا النزاع سوى في انفصال نهائي عنها. إننا نتصرف باستقامة ونزاهة، لأننا في سبيل تحقيق سلام دائم مستمر نتحمل نوائب وأعباء الوقت الحاضر. إننا نسعى وسنظل نسعى بثبات نحو الانفصال وفك عرى علاقة ملأت أرضنا بالدماء بالفعل؛ وهي علاقة، إن بقي منها ولو اسمها، سوف تصبح السبب وراء وقوع أضرار مستقبلية فادحة لكلا البلدين.
إننا لا نقاتل من أجل انتقام أو فتح؛ ولا بدافع من كبرياء أو شهوة؛ ولا نهين العالم بأساطيلنا وجيوشنا، ولا ندمر الأرض طمعًا في الغنائم. فنحن نتعرض للهجوم تحت ظلال كرماتنا؛ وبداخل منازلنا وعلى أراضينا، يُستخدم العنف ضدنا. إننا نرى أعداءنا في صورة قاطعي طرق ولصوص منازل، ولما كنا لا نجد الحماية لأنفسنا في القانون المدني، فإننا مضطرون إلى معاقبتهم بالقانون العسكري، وأن نستخدم السيف في نفس الحالة التي استخدمتم أنتم فيها المشانق من قبل؛ ربما كنا نشعر بآلام ومعاناة المعذبين في كافة أرجاء هذه القارة، بقدر من الشفقة التي لم تعرف بعد طريقها إلى صدور بعضكم. ولكن احرصوا على ألا تخلطوا بين سبب حجتكم وأساسها. لا تسموا برودة الروح دينًا؛ ولا تضعوا «المتعصب» في موضع «المسيحي».
وبكل أسف يبدو لنا من خلال النزعة المحددة لبعض أجزاء حجتكم — وأجزاء أخرى من سلوككم — وكأن جميع الخطايا تجسدت وتجمعت في «خطيئة حمل السلاح»، وذلك فقط إذا كان الشعب من يحمله. ويبدو لنا أنكم خلطتم بين التحيز والضمير؛ لأن التوجه العام لتصرفاتكم يفتقر إلى الاتساق؛ ومن الصعب جدًّا علينا أن نقتنع أو نسلم بكثير من هواجسكم المصطنعة؛ لأننا نراها هواجس لنفس الرجال الذين يصرخون معترضين على الجشع في هذا العالم، ومع ذلك فإنهم في ذات اللحظة يقتفون أثره بخطى ثابتة كالزمن، وشهية متقدة كالموت.
إن الاقتباس الذي أوردتموه من الأقوال المأثورة في الصفحة الثالثة من حجتكم، والذي يقول إنه «عندما يرضى الرب عن سبل إنسان، فإنه يجعل حتى أعداءه يسالمونه»، هو اقتباس اختير بحماقة شديدة من جانبكم؛ لأنه بمنزلة برهان على أن سبل الملك (الذي تتحمسون لتأييده) لا تُرضي الرب، وإلا لعم السلام خلال حكمه.
وأنتقل الآن إلى الجزء الأخير من حجتكم، الذي يبدو إزاءه كل ما سبق مقدمة ليس إلا، والذي تقولون فيه:
«لقد كان رأينا ومبدأنا دائمًا منذ نهضنا لنشر نور يسوع المسيح، الذي يظهر في ضمائرنا حتى يومنا هذا، أن تنصيب الملوك والحكومات وخلعهم هو حق خالص لله وحده؛ ولأسباب لا يعلمها حقًا إلا هو؛ وأنه ليس من شأننا أن تكون لنا يد أو حيلة في الأمر؛ وأننا يجب ألا ننشغل بما يقع خارج نطاق إدراكنا، وألا نتآمر أو ندبر الحيل من أجل هدم أو قلب نظام الحكم، وإنما علينا أن نتضرع من أجل الملك، ومن أجل سلامة أمتنا، ومن أجل الخير للناس كافة؛ وذلك لكي نحيا حياة مطمئنة ملؤها السكينة بكل تقوى وأمانة «في كنف الحكومة التي شاء الله أن يوليها علينا».» فإذا كانت تلك هي مبادئكم حقًا، فلم لا تمتثلون لها؟ لماذا لا تتركون الرب يمارس ما تسمونه حقه؟ إن تلك المبادئ ذاتها تأمركم بأن تنتظروا بصبر وتواضع نتيجة ما ستسفر عنه إرادة العامة، وأن تتلقوا هذه النتيجة باعتبارها مشيئة الرب فيكم. لذا ما الذي دعاكم لأن تعرضوا علينا «حجتكم السياسية» إذا كنتم تؤمنون حقًّا بما جاء فيها؟ إن نشر تلك الحجة يثبت أنكم إما لا تؤمنون بما تقولون وإما تفتقرون إلى الفضيلة الكافية لتعملوا بما تؤمنون.
إن مبادئ الكويكرية تنزع مباشرة إلى جعل الإنسان خاضعًا ساكنًا مسالمًا لأي حكومة «تولى عليه». وإذا كان تنصيب الملوك والحكومات وخلعهم حقًا يختص به الله وحده، فما من شك أنه لن يسمح لنا بأن نسلبه ذلك الحق: وهكذا فإن مبدأكم نفسه يؤدي بكم إلى قبول أي شيء حدث من قبل، أو يمكن أن يحدث، للملوك باعتباره من صنع الله. لذا فإن أوليفر كرومويل يتقدم لكم بالشكر؛ فهو إذن لم يقتل الملك تشارلز وإنما قتلته مشيئة الله؛ وعندما يلقى مقلده الحالي المتغطرس المتباهي نفس مصيره قبل أوانه، فسيكون على مؤلفي وناشري هذه الحجة أن يتقبلوا تلك الحقيقة راغمي الأنوف. إن الملوك لا تخلعهم عن عروشهم معجزات، كما أن تغيير الحكومات لا يحدث بأي وسيلة سوى وسائل عادية وبشرية؛ كتلك التي نستخدمها الآن. حتى شتات اليهود، مع أنه تحقيق لنبوءة لمخلصنا، فإنه لم يحدث إلا بقوة السلاح. لذا إذا كنتم ترفضون أن تكونوا الوسيلة من جانب، فعليكم ألا تتوسطوا من جانب آخر؛ وعليكم الانتظار في صمت؛ وما لم تستطيعوا أن تأتونا بسلطان إلهي تبرهنون به على أن الرب القدير، الذي خلق هذا العالم الجديد واختار له أبعد موضع ممكن — شرقًا وغربًا — عن جميع بقاع العالم القديم، لا يرضى عن استقلال ذلك العالم عن بلاط بريطانيا الفاسد المنبوذ، أقول إنكم إن لم تستطيعوا أن تأتوا بسلطان كهذا، فكيف يمكنكم — استنادًا إلى مبادئكم — أن تبرروا إثارة الناس وتحريضهم على «التوحد بقوة لرفض كل تلك الكتابات والإجراءات التي تدل على رغبة وعزم على قطع أواصر الصلة الهانئة التي جمعتنا حتى يومنا هذا بمملكة بريطانيا العظمى، وعلى التخلي عن خضوعنا الصائب والحتمي للملك، وأولئك الذين ولاهم السلطة الشرعية ويعملون تحت وصايته». ويا لها من صفعة! فأولئك الذين تخلوا بسكينة واستسلام في الفقرة السابقة مباشرة عن مهمة تنظيم وتغيير وخلع الملوك والحكومات وتركوا الأمر لمشيئة الله وحده، ينبذون الآن مبادئهم ويتقدمون لنيل نصيبهم من المشاركة في الأمر. فهل يمكن بأي حال أن يؤدي المبدأ المنصوص عليه إلى الاستنتاج الذي توصلنا إليه هنا على نحو منطقي ومنصف؟ إن التناقض أوضح من أن تخطئه العين؛ والسخافة أعظم من ألا تثير الضحك؛ ولا يمكن أن يصدر هذا إلا من أناس أظلمت مفاهيمهم بفعل الروح المشاكسة المنغلقة لحزب سياسي أصابه القنوط؛ إذ لا يمكن اعتباركم تتحدثون بلسان سائر جماعة الكويكرز وما أنتم سوى فرقة ضئيلة متعصبة منها.
- أولًا: لأنها تنزع إلى الانتقاص من قدر الدين والحط من شأنه، كما أنه من الخطر الشديد على المجتمع جعل الدين طرفًا في النزاعات السياسية.
- ثانيًا: لأنها تظهر جماعة من الناس على أنهم معنيون بها ومتفقون مع ما جاء فيها، مع أن أعدادًا كبيرة منهم تتبرأ من نشر الحجج السياسية.
- ثالثًا: لأنها تنزع إلى إفساد التناغم القاري والصداقة التي تجمع أهل القارة والتي مددتم أنتم أنفسكم أيديكم من قبل لإقامتها وترسيخها من خلال تبرعاتكم السخية والخيرية؛ التي يعد الحفاظ عليها أعظم نتيجة نسعى جميعًا لتحقيقها.
وإلى هنا أودعكم بلا أدنى شعور بالغضب أو السخط. وأتمنى مخلصًا أن تنعموا دائمًا بصفتكم بشرًا ومسيحيين بكامل حقوقكم المدنية والدينية غير منقوصة؛ وأن تكونوا بدوركم أداة تكفل تلك الحقوق للآخرين؛ غير أنني أتمنى أيضًا أن «يتبرأ كل فرد من سكان أمريكا» من القدوة السيئة التي قدمتموها على نحو يفتقر إلى الحكمة بخلطكم الدين بالسياسة.