عن الملكية والخلافة الوراثية
لما كان البشر خُلقوا جميعًا في الأصل سواسية، فلا يمكن هدم تلك المساواة فيما بينهم إلا بفعل بعض الظروف اللاحقة؛ ويمكن إلى حد بعيد تفسير التمايز بين الأغنياء والفقراء، وذلك دون حاجة للإشارة إلى أعلام الظلم والشح القساة البغضاء. فغالبًا ما يكون الظلم «نتيجة» للثراء ولكنه أبدًا أو نادرًا ما يكون «وسيلة» له؛ ومع أن الشح قد يحول بين المرء وبين فقر حتمي، فإنه بوجه عام يجعله أجبن من أن يكون غنيًّا.
لكن يوجد وجه اختلاف آخر وأعظم، وهو اختلاف لا يمكن تحديد سبب طبيعي أو ديني حقيقي له، وهو تمايز البشر إلى «ملوك» و«رعايا». فالاختلاف بين الذكور والإناث اختلاف طبيعي، والاختلاف بين الصالح والطالح اختلاف سماوي؛ ولكن كيفية مجيء سلالة من البشر إلى العالم سامية متعالية فوق باقي البشر، ومميزة عنهم وكأنها سلالة جديدة؛ أمر يستحق البحث والتدقيق، وكذلك هل هم الوسيلة لسعادة البشرية أم لشقائها.
في العصور المبكرة من عمر البشرية — وفقًا لتاريخ الكتاب المقدس — لم يكن هناك ملوك؛ وكانت نتيجة ذلك أنه لم تكن هناك حروب؛ فكبرياء الملوك إذن هو ما ألقى بالجنس البشري إلى غياهب الفوضى. لقد تمتعت هولندا بدون ملك بقدر من السلام طوال القرن الماضي أكبر مما تمتعت به أي حكومة من الحكومات الملكية الأخرى في أوروبا. والعصور القديمة تؤيد نفس الملاحظة؛ فالحياة الريفية والهادئة لآباء التوراة العجائز الأوائل انطوت على عنصر سعادة معين تلاشى واختفى عندما جاء عصر الملكيات اليهودية.
ظهرت حكومات الملوك في العالم لأول مرة على يد الوثنيين، ومنهم أخذ بنو إسرائيل تلك العادة. لقد كان هذا هو أكثر اختراعات الشيطان نجاحًا في ترويج عبادة الأوثان. بجل الوثنيون ملوكهم المتوفين تبجيلًا رفعهم إلى مقام الآلهة، وأضاف العالم المسيحي بعض التحسينات على تلك العادة؛ ففعل المثل مع ملوكه الأحياء. وكم يكون لقب صاحب الجلالة المقدس معبرًا عن العقوق والإلحاد إذا خلعناه على «دودة» تتحلل إلى تراب في أوج رونقها وروعتها!
وكما لا يمكن تبرير إضفاء كل هذا المجد على إنسان واحد دون غيره من الناس في ظل التساوي الطبيعي في الحقوق، فلا يمكن أيضًا الدفاع عنه باسم الكتاب المقدس؛ إذ إن إرادة الله — كما أبلغها جدعون والنبي صموئيل — ترفض صراحة حكومة الملوك. وقد تعرضت كل أجزاء الكتاب المقدس التي تتحدث عن رفض الملكية للتحريف والإخفاء ببراعة في الحكومات الملكية، لكنها تستحق بلا شك اهتمام البلدان التي لم تتشكل حكوماتها بعد. تقول عقيدة الكتاب المقدس فيما يتعلق بالملوك: «دع ما لقيصر لقيصر»، غير أن هذا ليس تأييدًا للحكومات الملكية على الإطلاق، إذ كان اليهود في ذلك الوقت بلا ملك، وفي حالة خضوع للرومان.
ثم مرت ثلاثة آلاف عام منذ وقت الشريعة الموسوية وإلى أن طلب اليهود تنصيب ملك عليهم سعيًا وراء وهم قومي. كان شكل حكومتهم حتى ذلك الوقت (إلا في حالات استثنائية نادرة) نوعًا من الجمهوريات يديرها قاض وشيوخ القبائل. لم يكن لديهم ملوك، وكان من الخطيئة مناداة أي مخلوق بهذا الاسم إلا رب العالمين. وعندما يتأمل المرء جديًّا في التكريم الوثني الذي يُسبغ على أشخاص الملوك، فلن يجد مجالًا للتعجب من تحريم رب العالمين — الغيور على ملكه وكبريائه — لهذا الشكل من أشكال الحكومة الذي يعتدي بكل إلحاد على صفة سماوية.
صُنفت الملكية في الكتاب المقدس على أنها إحدى خطايا اليهود، التي استحقوا بسببها لعنة نزلت بهم. وتاريخ هذه الخطيئة جدير بالاهتمام حقًّا.
سار جدعون لتخليص بني إسرائيل من قهر المديانيين بجيش صغير، وحقق النصر، بتدخل إلهي لصالحه. فاقترح اليهود — الذين غرهم النصر وأرجعوا الفضل فيه إلى براعة جدعون العسكرية — تتويج جدعون ملكًا عليهم وقالوا: «تسلط علينا أنت وابنك وابن ابنك لأنك خلصتنا.» وهنا يبلغ الإغراء مداه؛ فهم لا يعرضون عليه مملكة فحسب، وإنما مملكة وراثية أيضًا، ولكن جدعون أجابهم من قلب تقي: «لا أتسلط أنا عليكم، ولا يتسلط ابني عليكم. الرب يتسلط عليكم.» ولا يمكن أن تكون كلماته أكثر وضوحًا وتعبيرًا؛ فهو لا يرفض هذا الشرف، ولكنه ينكر حقهم في منحه إياه؛ وهو كذلك لا يهنئهم بتصريحات مخترعة تعبيرًا عن شكره، ولكنه بأسلوب إيجابي يليق بنبي يتهمهم بالجحود وعدم الولاء لمولاهم الحق ملك السماوات والأرض.
وبعد نحو مائة وثلاثين عامًا من هذا، وقعوا مرة أخرى في نفس الخطأ. إن اللهفة المشتعلة في نفس اليهود لاتباع العادات الوثنية هي حقًّا أمر غير قابل للتفسير على الإطلاق؛ وما حدث هو أنهم عندما أمسكوا بابني صموئيل يرتكبان خطيئة إذ كانا منوطين ببعض الأمور الدنيوية، ذهبوا إلى صموئيل وحدثوه بغلظة وصخب فقالوا له: «ها أنت ذا قد شخت، وابناك لم يسيرا في طريقك، فالآن اجعل لنا ملكًا يقضي لنا كسائر الشعوب.» وهنا لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن دوافعهم كانت خبيثة، بمعنى أنهم يريدون أن يكونوا مثل الشعوب الأخرى، أي الوثنيين، في حين أن مجدهم الحقيقي كان يكمن في مخالفة هؤلاء قدر المستطاع. يقول العهد القديم في الإصحاح الثامن من سفر صموئيل الأول: «فساء الأمر في عيني صموئيل إذ قالوا أعطنا ملكًا يقضي لنا. وصلى صموئيل للرب، فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم. حسب كل أعمالهم التي عملوا من يوم أصعدتهم من مصر إلى هذا اليوم وتركوني وعبدوا آلهة أخرى، هكذا هم عاملون بك أيضًا. فالآن اسمع لصوتهم، ولكن أشهِدَّن عليهم وأخبرهم بقضاء الملك الذي يملك عليهم.» والمقصود هنا ليس سلوك ملك معين، وإنما سلوك عامة ملوك الأرض، الذين تاق بنو إسرائيل بشدة ليكون لديهم واحد منهم كباقي الشعوب. وبالرغم من شدة تباعد الأزمنة واختلاف الأعراف والعادات، يظل الطابع نفسه سائدًا. «فكلم صموئيل الشعب الذين طلبوا منه ملكًا بجميع كلام الرب؛ وقال: هذا يكون قضاء الملك الذي يملك عليكم؛ يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه، لمراكبه وفرسانه، فيركضون أمام مراكبه» (يتفق هذا الوصف مع الأسلوب الحالي في إبهار الناس) «ويجعل لنفسه رؤساء ألوفًا ورؤساء خماسين، فيحرثون حراثته ويحصدون حصاده، ويعملون عدة حربه وأدوات مراكبه؛ ويأخذ بناتكم عطارات وطباخات وخبازات.» (وهذا وصف للبذخ والترف فضلًا عن ظلم الملوك وجورهم). «ويأخذ من حقولكم وكرومكم وزيتونكم، أجودها ويعطيها لعبيده؛ ويعشر زروعكم وكرومكم، ويعطي لخصيانه وعبيده.» (وبهذا نرى أن الرشوة والفساد والمحسوبية هي الرذائل الخالدة للملوك). «ويأخذ عبيدكم وجواريكم وشبانكم الحسان وحميركم ويستعملهم لشغله؛ ويعشر غنمكم وأنتم تكونون له عبيدًا؛ فتصرخون في ذلك اليوم من وجه ملككم الذي اخترتموه لأنفسكم، فلا يستجيب لكم الرب في ذلك اليوم.» ويفسر هذا استمرار النظام الملكي؛ وشخصيات الملوك الصالحين القلائل الذين جاءوا منذ ذلك الوقت لا تطهر لقب الملك من الإثم ولا تمحو الخطيئة عن المصدر؛ فلم يكن الثناء الحسن الذي ناله النبي داوود موجهًا إليه «بصفته الرسمية كملك»، وإنما فقط بوصفه «رجلًا» أخلص لله بقلبه. «فأبى الشعب أن يسمعوا لصوت صموئيل، وقالوا: لا بل يكون علينا ملك؛ فنكون نحن أيضًا مثل سائر الشعوب، ويقضي لنا ملكنا ويخرج أمامنا ويحارب حروبنا.» وظل صموئيل يحاجهم ويجادلهم، لكن بلا طائل؛ وبيَّن لهم جحودهم وكفرهم بنعمة الله عليهم، ولكن ما كان كل هذا ليفيد؛ ولما رأى عزمهم الكامل على المضي في حماقتهم، صاح قائلًا: «فإني أدعو الرب فيعطي رعودًا ومطرًا» (وكان ذلك عقابًا آنذاك إذ كان في وقت حصاد القمح) «فتعلمون وترون أنه عظيم شركم الذي عملتموه في عيني الرب بطلبكم لأنفسكم ملكًا؛ فدعا صموئيل الرب فأعطى رعودًا ومطرًا في ذلك اليوم، وخاف جميع الشعب الرب وصموئيل جدًّا. وقال جميع الشعب لصموئيل: صل عن عبيدك إلى الرب إلهك حتى لا نموت، لأننا قد أضفنا إلى جميع خطايانا شرًّا بطلبنا لأنفسنا ملكًا.» وتلك الأجزاء من الكتاب المقدس صريحة ومباشرة وإيجابية. فهي لا تسمح بأدنى التباس أو شك. فإما أن يكون رب العالمين قد بيَّن هنا صراحةً رفضه للحكم الملكي؛ وإما أن يكون الكتاب المقدس كاذبًا. ولدى المرء أسباب وجيهة للاعتقاد أن سياسة إدارة الملك تتدخل — بقدر ما تتدخل مكائد رجال الدين — لحجب الكتاب المقدس عن الجمهور في البلدان الكاثوليكية؛ فالملكية في حالات تلك البلدان هي بابوية الحكومة.
ولقد أضفنا إلى مصيبة الملكية مصيبة الخلافة الوراثية؛ وباعتبار الأولى مذلة وتحقيرًا لأنفسنا، فإن الثانية — التي تُطلب باعتبارها حقًّا مكتسبًا — إهانة وعبء ثقيل نفرضه على الأجيال القادمة. فلما كان جميع البشر سواسية في الأساس، فمن غير الممكن أن يكون لأحد الحق في تنصيب أسرته في وضع دائم يميزهم على الآخرين جميعًا إلى الأبد، ومع أن المرء قد يستحق لنفسه «قدرًا» لائقًا من الشرف والتكريم والتبجيل من معاصريه، فإن ذريته قد يكونون غير جديرين على الإطلاق بهذا الإرث. ويكمن أحد أقوى البراهين «الطبيعية» على حماقة الحق الوراثي للملوك في رفض الطبيعة نفسها له، وإلا لما حولته في كثير من الأحيان إلى مهزلة ساخرة بمنحنا «حمارًا على أنه أسد».
ثانيًا: لما لم يكن بمقدور أي إنسان أن يحظى في البداية بأي تكريم عام سوى ما يعطيه له الناس، فإن مانحي هذا التكريم لا يمكن بحال أن يمتلكوا سلطة التخلي عن حق الأجيال القادمة. ومع أنهم يمكن أن يقولوا: «لقد اخترناك لتسودنا»، فإنهم لا يستطيعون — دون أن يظلموا أبناءهم ظلمًا بينًا — أن يقولوا: «وسوف يحكم أبناؤك وأبناء أبنائك أبناءنا إلى الأبد»، لأن مثل هذا الميثاق المخالف للحكمة والإنصاف والطبيعة قد يضعهم في الخلافة التالية تحت حكومة فاسد أو مخبول. ولطالما تعامل معظم الحكماء من الناس — من وجهات نظرهم الخاصة — مع الحق الوراثي بازدراء؛ غير أن هذا الحق هو أحد تلك الشرور التي تصعب جدًّا إزالتها حال إقامتها؛ فكثير من الناس يخضعون بسبب الخوف، وآخرون بسبب الخرافة، والقسم الأكثر قوة يشتركون مع الملك في نهب الباقين.
هذا على افتراض أن السلالة الحالية من الملوك في العالم كانت لهم أصول شريفة؛ فمن الجائز جدًّا أننا إذا استطعنا إزالة الغطاء المظلم عن العصور الغابرة وتعقب أصولهم حتى مصدرها، فسنجد أن أولهم لم يكن سوى زعيم بربري وحشي لعصابة مارقة اكتسب فيها بأخلاقه الوحشية أو تفوقه في المكر والدهاء لقب زعيم اللصوص؛ وعن طريق زيادة قوته وتوسيع أعمال السلب والنهب أرعب الهادئين العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم وأرغمهم على شراء أمنهم مقابل عطاءات متكررة يدفعونها قسرًا. غير أن ناخبيه ما كانوا ليفكروا في منح ذريته حق الوراثة، لأن مثل هذا الإقصاء الدائم لأنفسهم يتعارض مع مبادئ الحرية والعفوية التي أعلنوا أنهم سيعيشون بها. لذا فإن الخلافة الوراثية في العصور الأولى للملكية لم يكن ممكنًا أن تحدث باعتبارها حقًّا يُطالب به، وإنما حدثت كأمر عابر أو مكمل؛ لكن لما كانت السجلات في تلك العصور قليلة أو معدومة، ولما كان التاريخ التقليدي مكتظًّا بالكذب والبهتان، كان من السهل جدًّا بعد انقضاء بضعة أجيال تلفيق قصة خرافية في زمن ملائم لإرغام العامة على ابتلاع فكرة الحق الوراثي. وربما أدت الاضطرابات المخيفة التي حدثت — أو بدا أنها ستحدث — عند موت الزعيم واختيار زعيم جديد (إذ لا يُتصور أن الانتخابات بين البرابرة الوحشيين يمكن أن تكون منظمة أو خالية من الاضطرابات) إلى جعل كثيرين يفضلون ذرائع الوراثة في البداية؛ وهكذا حدث منذ ذلك الوقت أن ما تُقبل في البداية باعتباره مناسبًا فحسب أصبح فيما بعد يُطالب به بوصفه حقًّا أصيلًا.
لقد عرفت إنجلترا منذ الفتح النورماندي بعض الملوك الصالحين القلائل، ولكن هذه القلة تأن تحت وطأة عدد أكبر كثيرًا من الملوك الفاسدين؛ غير أنه ما من إنسان عاقل يستطيع القول إن ادعاءه أنه من نسل ويليام الفاتح هو ادعاء مشرف. فنزول وغد فرنسي مع عصابة مسلحة من قطاع الطرق إلى الأرض الإنجليزية وإعلان نفسه ملكًا على إنجلترا دون قبول من أهلها هو بصراحة تامة صنيع غير مسبوق في غاية الخسة والنذالة. وهو بكل تأكيد صنيع لا تقره السماء. غير أنه لا داعي لإضاعة الكثير من الوقت في فضح حماقة الحق الوراثي؛ ولو كان هناك أناس ضعفاء إلى حد الإيمان به فليتفضلوا إذن بتبجيل الحمار والأسد معًا دون تمييز، وعلى الرحب والسعة. لكنني لن أحاكي ذلهم، ولن أعكر صفو إخلاصهم.
غير أنني أسعد بسؤالهم كيف جاء الملوك في البداية في اعتقادهم؟ وهذا السؤال لا يسمح إلا بثلاث إجابات وهي: عن طريق القرعة، أو الانتخاب، أو اغتصاب السلطة. ولو أن أول الملوك نُصب بالقرعة لكانت تلك سابقة يُختار على أساسها الملك التالي، وهو ما يستبعد احتمال الخلافة الوراثية. جاء شاءول (أول ملوك بني إسرائيل) بالقرعة، غير أن الخلافة لم تكن وراثية، ولا يبدو في الأمر أنه كانت هناك أي نية لأن تكون كذلك في أي وقت. ولو جاء أول الملوك في أي بلد عن طريق الانتخاب، فإن هذا أيضًا يصنع سابقة لاختيار الملك التالي؛ لأن القول بسلب «حق» جميع الأجيال المقبلة من خلال فعلة الناخبين الأوائل — إذ لم يختاروا ملكًا فحسب وإنما اختاروا أسرة من الملوك تحكمهم إلى الأبد — قول ليس له مثيل لا في الكتاب المقدس ولا في غيره، وإنما هو مذهب الخطيئة الأصلية، التي تفترض أن الإرادة الحرة لجميع البشر فُقدت مع آدم، ونخلص من هذه المقارنة — التي لا بديل عنها — إلى أن الخلافة الوراثية لا يمكنها تحقيق أي مجد. ولما كان جميع البشر أخطئوا بخطيئة آدم، ولما كانوا خضعوا بخضوع الناخبين الأوائل، ولما كانوا مطيعين للشيطان في الأولى وخاضعين للسلطة في الثانية، ولما فقدنا براءتنا في الأولى وسيادتنا في الأخيرة، ولما كانت كلتاهما تعوقنا عن استعادة وضع وشرف سابقين، فإنه يترتب على ذلك حتمًا أن الخطيئة الأصلية والخلافة الوراثية صنوان متماثلان. إنها مرتبة مخزية! وعلاقة شائنة! غير أن أكثر السفسطائيين دهاءً لا يستطيع تقديم مقارنة أكثر إنصافًا.
وفيما يخص اغتصاب السلطة فلا أظن أن أحدًا يمتلك من الوقاحة ما يكفي للدفاع عنها؛ أما كون ويليام الفاتح غاصبًا للسلطة فتلك حقيقة لا مراء فيها. والحقيقة الصريحة هي أن الملكية الإنجليزية العريقة لن تصمد أمام الفحص والتدقيق.
ولكن ما يشغل البشرية ليس هو سخافة وعبثية الخلافة الوراثية بقدر ما هو شرها المستطير. فلو أن الخلافة الوراثية ضمنت لنا تقديم سلالة متصلة من العقلاء الحكماء لحملت خاتم السلطان الإلهي، ولكن بما أنها تفتح الباب أمام «السفهاء» و«الأشرار» و«الفاحشين»، فإنها تحمل في طياتها طبيعة الظلم والطغيان. إن الرجال الذين يعتبرون أنفسهم وُلدوا ليحكموا ويتسلطوا ويعتبرون أن الآخرين وُلدوا ليسمعوا لهم ويطيعوا سرعان ما يتحولون إلى جبارين؛ وتتسمم عقولهم مبكرًا بداء العظمة باعتبارهم نخبة مختارة من بين بقية البشر، والعالم الذي يعيشون فيه يختلف جذريًّا عن العالم ككل، وهكذا لا تصبح لديهم فرصة لمعرفة الاهتمامات الحقيقية لهذا العالم، وعندما يخلفون آباءهم في الحكم غالبًا ما يكونون هم الأكثر جهلًا والأقل أهلية في جميع أنحاء مملكتهم.
وأحد الشرور الأخرى التي تلازم الخلافة الوراثية هو أن حدثًا قاصرًا في أي سن يمكن أن يجلس على العرش؛ وطوال الوقت حتى سن البلوغ تتاح لمجلس الوصاية الذي يعمل تحت مظلة الملك كل الفرص والدوافع لخيانة ثقته. ونفس المأساة الوطنية تحدث عندما يقع ملك عجوز فريسة الشيخوخة والضعف والعجز ويدخل آخر مراحل الضعف الإنساني. وفي كلتا الحالتين يصبح الشعب فريسة لكل وغد لئيم يستطيع التلاعب جيدًا بحماقات الشيخوخة أو الطفولة.
لقد كانت الحجة الأكثر قبولًا على الإطلاق التي عُرضت تأييدًا للخلافة الوراثية هي أنها تحفظ الأمم من الحروب الأهلية؛ ولو كان هذا صحيحًا لكان أمرًا جللًا؛ حيث إن تلك أكثر الأكاذيب التي فُرضت على الجنس البشري وقاحة على الإطلاق. فتاريخ إنجلترا بأكمله ينكر هذا القول. لقد حكم ثلاثون ملكًا واثنان من القُصر تلك المملكة الحائرة منذ الفتح النورماندي، وخلال ذلك الوقت كان هناك ما لا يقل عن ثماني حروب أهلية (من بينها الثورة) فضلًا عن تسع عشرة حركة تمرد. لذا فإن الخلافة الوراثية تعمل ضد السلام بدلًا من أن تحققه، وبذلك تدمر الأساس ذاته الذي تستند إليه.
وضع التنافس على الملكية والخلافة بين أسرتي يورك ولانكستر إنجلترا وسط مشهد دموي سنوات عديدة؛ إذ خاض هنري وإدوارد اثنتي عشرة معركة ضارية، علاوة على الكثير من المناوشات والحصارات. وقع هنري أسيرًا لإدوارد مرتين، ووقع إدوارد بدوره في أسر هنري. وكم يكون مصير الحرب ومزاج الأمة غامضين عندما لا يكون الصراع قائمًا إلا على أساس أمور شخصية، فحُمل هنري في موكب المنتصر من السجن إلى القصر، واضطر إدوارد للفرار من القصر إلى أرض أجنبية؛ لكن لأن تحولات المزاج المفاجئة نادرًا ما تكون دائمة فقد أُزيح هنري بدوره عن العرش مرة أخرى وأُعيد إدوارد لخلافته. ودائمًا ما كان البرلمان تابعًا للجانب الأقوى.
بدأ هذا التنافس في عهد هنري السادس — ولم يهدأ تمامًا حتى مجيء هنري السابع، الذي توحدت فيه الأسرتان — واستمر مدة ٦٧ عامًا؛ من عام ١٤٢٢ حتى عام ١٤٨٩.
وباختصار فإن الملكية والخلافة قادتا العالم كله (وليس فقط مملكة أو أخرى) إلى الدم والخراب. إن الملكية شكل من أشكال الحكم تدينه تعاليم الله، ويلازمه الدم.
ولو أننا دققنا النظر في مهمة الملك لوجدنا أن الملوك في بعض البلدان لا عمل لهم؛ وبعد تضييع حياتهم دون تحقيق سعادة لأنفسهم أو ميزة للأمة، ينسحبون من الساحة ويتركون ذريتهم للسير على نفس الدرب البائس. في الأنظمة الملكية المطلقة يقع عبء العمل كله — المدني والعسكري — على كاهل الملك؛ وقد جادل بنو إسرائيل في طلبهم لتنصيب ملك عليهم بهذه الحجة: «يقضي لنا ملكنا ويخرج أمامنا ويحارب حروبنا.» ولكن في البلدان التي لا يكون الملك فيها قاضيًا ولا قائدًا عسكريًّا — كما هي الحال في إنجلترا — يتحير المرء في محاولة معرفة ما هو عمله.
كلما اقترب شكل الحكومة أكثر من الشكل الجمهوري قل العمل الذي يمكن أن يقوم به الملك. ومن الصعب إلى حد ما إيجاد اسم مناسب لحكومة إنجلترا. السير ويليام ميرديث يدعوها جمهورية، لكنها في وضعها الحالي لا تستحق هذا الاسم لأن التأثير الفاسد للتاج، عن طريق جعل كل الطبقات رهن تصرفه، ابتلع السلطة تمامًا، وقضى على قوة ونزاهة مجلس العموم (وهو الجزء الجمهوري من الدستور) إلى حد جعل حكومة إنجلترا ملكية بقدر ملكية حكومة فرنسا أو إسبانيا. إن الناس يتصارعون مع الأسماء دون فهم معانيها؛ لأن الجزء الجمهوري وليس الجزء الملكي من دستور إنجلترا هو الذي يفخر به الإنجليز؛ أي حرية اختيار أعضاء مجلس العموم من بين أفراد الشعب الإنجليزي؛ ومن السهل أن نرى أنه عندما تخفق الفضيلة الجمهورية تنشأ العبودية. ما سر سقم دستور إنجلترا إذن إن لم يكن السبب هو أن الملكية سممت الجمهورية، وأن التاج سيطر على مجلس العموم؟
في إنجلترا ليس لدى الملك ما يفعله سوى إشعال الحروب ومنح الهبات؛ وهو ما يعني صراحة إفقار الأمة وتأليب أهلها بعضهم على بعض. إنه عمل جميل حقًّا للمرء أن يحصل على ثمانمائة ألف جنيه استرليني سنويًّا، ويحظى في مقابل ذلك بكل التبجيل والتوقير! إن رجلًا واحدًا مخلصًا نحو مجتمعه صادقًا عند ربه أكثر قيمة وجدارة من كل البرابرة المتوجين ملوكًا في كل العصور.