عن القدرة الحالية لأمريكا، مع بعض التأملات المتفرقة
لم ألتق قط برجل — سواء في إنجلترا أو أمريكا — إلا وكان رأيه أن انفصالًا لا ريب فيه واقع يومًا بين البلدين: ولم تكن هناك حالة أظهرنا فيها قدرة أقل على التبصر مما أظهرناها في محاولة وصف ما نسميه نضج القارة أو قدرتها على نيل الاستقلال.
وإذ يرى الجميع هذا الرأي ولا تتباين آراؤهم سوى فيما يتعلق بالتوقيت، فدعونا نلق نظرة عامة على الأمور — لكي نزيح الأخطاء جانبًا — ونحاول — إن أمكن — أن نبحث لتحديد التوقيت المناسب «بالضبط». غير أننا لسنا بحاجة إلى الذهاب بعيدًا، إذ سرعان ما سيتوقف البحث؛ لأن «الوقت قد حان بالفعل». فالتوافق العام، وذلك التوحد الرائع لسائر الأمور، يثبت هذه الحقيقة.
لا تكمن قوتنا الكبرى في أعدادنا، وإنما في توحدنا معًا؛ وإن كانت أعدادنا في الوقت الراهن كافية لدرأ قوة العالم أجمع. فالقارة تمتلك — في وقتنا هذا — أكبر جماعة من الرجال المسلحين المنضبطين تتفوق بهم على أي قوة أخرى على وجه الأرض؛ كما أنها وصلت لقدر من القوة تستطيع معه كل المستعمرات الأمريكية — عندما تتوحد — تحقيق الاستقلال، ولكن لا تستطيع معه أي مستعمرة منفردة أن تدعم نفسها بنفسها، ولو زادت القوة عن ذلك أو قلت، فستكون تبعات ذلك مهلكة. إن قواتنا البرية كافية بالفعل، أما فيما يخص الشئون البحرية، فلا يمكننا أن نغفل أن بريطانيا لن تسمح أبدًا ببناء سفينة حربية أمريكية واحدة طالما ظلت القارة واقعة في قبضتها. لذا علينا ألا نظل نعمل في هذا المضمار كوكلاء شحنٍ مائة عام أخرى من الآن؛ والحقيقة أنه يجب علينا أن نقلل من بيع الأخشاب، إذ إن الغابات في بلادنا آخذة في التناقص يومًا بعد يوم، والأخشاب التي ستتبقى لنا في النهاية، ستكون في أماكن بعيدة صعبة المنال.
ولو ظلت القارة تكتظ بالسكان، فلا شك أن معاناتها في ظل الظروف الراهنة ستصبح لا تطاق. وكلما زادت أعداد البلدات الساحلية لدينا، زاد حجم ما يجب علينا أن ندافع عنه ويمكن أن يقع في أيدي الأعداء. إن أعدادنا الآن تتناسب جدًّا مع احتياجاتنا، حتى إنه لن يوجد رجل واحد عاطل عن العمل. وسيتيح لنا تقليص حجم التجارة بناء جيش، وضرورات وجود الجيش ستخلق تجارة جديدة.
إننا غير مدينين لأي جهة؛ وأيًّا كان ما سنتفق عليه بناءً على هذا سيشكل تذكارًا مجيدًا لفضيلتنا. إننا بهذا سنترك للأجيال القادمة شكلًا مستقرًا للحكومة، ودستورًا مستقلًا يهون في سبيله أي ثمن. أما إنفاق الملايين من أجل إبطال بضعة قوانين شائنة خسيسة، والاكتفاء بإقصاء الوزارة الحالية، فهو أمر لا يستحق تكلفته، وهو بمنزلة استغلال قاس بشع لأجيالنا القادمة؛ إذ إننا بذلك سنترك لهم مهمة هائلة إنجازها مطلوب منهم في حين يحملون على كاهلهم دينًا ثقيلًا لا يستفيدون منه بشيء. وفكرة كهذه لا تليق برجال شرفاء، وهي السمة الحقيقية المميزة للسياسيين ذوي القلوب المتحجرة وأصحاب المناورات السياسية الحقيرة.
إن الدين الذي سنتحمله لا يستحق عناء التفكير فيه ما لم يمكننا إنجاز العمل المطلوب. ولا توجد أمة لا تستدين. والدين الوطني رباط وطني؛ وعندما يكون بلا فوائد، فإنه لا يسبب المتاعب بأي حال. إن بريطانيا ترزح تحت عبء ديون تزيد على مائة وأربعين مليون جنيه استرليني، تسدد عنها فائدة تزيد على أربعة ملايين جنيه. وعوضًا عن هذا الدين فإنها تمتلك أسطولًا بحريًّا ضخمًا؛ أما أمريكا فلا ديون عليها، وليس لديها أسطول، لكنها تستطيع، مقابل واحد على عشرين من قيمة الدين الوطني الإنجليزي، امتلاك أسطول بنفس الحجم. إن الأسطول الإنجليزي لا تزيد قيمته — في وقتنا الراهن — على ثلاثة ملايين ونصف مليون جنيه استرليني.
تكلفة بناء سفينة من كل فئة، وتجهيزها بالصواري، والعوارض، والأشرعة، والحبال، بالإضافة إلى ما يكفي ثمانية أشهر من مؤن البحر من لوازم الملاحين وأعمال النجارة، وفقًا لحسابات السيد بيرشيت، سكرتير البحرية.
عدد المدافع على السفينة | جنيه استرليني |
---|---|
١٠٠ | ٣٥٥٥٣ |
٩٠ | ٢٩٨٨٦ |
٨٠ | ٢٣٦٣٨ |
٧٠ | ١٧٧٩٥ |
٦٠ | ١٤١٩٧ |
٥٠ | ١٠٦٠٦ |
٤٠ | ٧٥٥٨ |
٣٠ | ٥٨٤٦ |
٢٠ | ٣٧١٠ |
ومن هنا يسهل علينا جمع قيمة — أو بالأحرى تكلفة — الأسطول البريطاني بالكامل، الذي كان في عام ١٧٥٧ — عندما كان في قمة مجده — يتكون من السفن والمدافع الآتي بيانها:
السفن | المدافع | تكلفة الوحدة | التكلفة الإجمالية | |
---|---|---|---|---|
٦ | ١٠٠ | ٣٥٥٥٣ | ٢١٣٣١٨ | |
١٢ | ٩٠ | ٢٩٨٨٦ | ٣٥٨٦٣٢ | |
١٢ | ٨٠ | ٢٣٦٣٨ | ٢٨٣٦٥٦ | |
٤٣ | ٧٠ | ١٧٧٨٥ | ٧٦٤٧٥٥ | |
٣٥ | ٦٠ | ١٤١٩٧ | ٤٩٦٨٩٥ | |
٤٠ | ٥٠ | ١٠٦٠٦ | ٤٢٤٢٤٠ | |
٤٥ | ٤٠ | ٧٥٥٨ | ٣٤٠١١٠ | |
٥٨ | ٢٠ | ٣٧١٠ | ٢١٥١٨٠ | |
مجموع ٨٥ مركبًا شراعيًّا أحادي الصاري، وقاذفة قنابل، وحراقة | ٢٠٠٠ | ١٧٠٠٠٠ | ||
——— | ||||
التكلفة | ٣٢٦٦٧٨٦ | |||
المبلغ المتبقي للمدافع | ٢٣٣٢١٤ | |||
——— | ||||
المجموع | ٣٥٠٠٠٠٠ |
لا يوجد بلد على سطح الأرض في وضع أفضل، أو أقدر على بناء أسطول باستخدام موارده الداخلية مثل أمريكا؛ فالقطران، والأخشاب، والحديد، والحبال جميعها منتجات طبيعية موجودة في أراضيها. لن نحتاج إلى جلب أي شيء من الخارج؛ في حين أن الهولنديين، الذين يجنون أرباحًا هائلة من وراء تأجير سفنهم الحربية للإسبان والبرتغاليين، يضطرون لاستيراد معظم المواد التي يستخدمونها من الخارج. ينبغي علينا أن ننظر إلى مسألة بناء أسطول بحري باعتبارها مشروعًا تجاريًّا، وباعتبارها الصناعة الطبيعية لهذا البلد. إنه أفضل استثمار ننفق فيه أموالنا. فقيمة الأسطول عند الانتهاء منه تساوي أكثر من تكلفة بنائه. ولعلها من النقاط الإيجابية في السياسة الوطنية أن تجتمع التجارة وحماية أراضينا معًا. فدعونا نبني سفن الأسطول؛ وإذا لم نحتج إليها، يمكننا بيعها؛ وبهذه الطريقة نستبدل الذهب والفضة بعملتنا الورقية.
أما فيما يتعلق بتجهيز السفن بأطقم البحارة، فالناس عادة ما يخطئون في رأيهم بهذا الشأن؛ فليس من الضروري أن يتحول ربع تعداد الشعب إلى بحارة. إن سفينة القرصنة الرهيبة «كابتن ديث» صمدت في وجه أعنف اشتباك يمكن أن تخوضه سفينة على الإطلاق خلال الحرب الأخيرة، وكان على متنها أقل من عشرين بحارًا، مع أن طاقمها الكامل يربو على مائتي فرد. إن بضعة بحارة متمكنين وهواة يستطيعون بسرعة تدريب عدد كاف من رجال القوات البرية النشطين على الأعمال التقليدية التي تؤدى على السفن. لذا فإننا لن نكون أبدًا أكثر قدرة على البدء في الشئون البحرية مما نحن عليه الآن، حيث أشجار غاباتنا قائمة، ومصايد أسماكنا غير صالحة للمرور فيها، وبحارتنا ونجارو سفننا عاطلون عن العمل. لقد بُنيت السفن الحربية التي تحمل سبعين وثمانين مدفعًا منذ أربعين عامًا مضت في نيو إنجلاند، فلماذا لا يحدث مثل هذا الآن؟ إن بناء السفن أعظم مفاخر أمريكا، وهي صناعة سوف تتفوق فيها كلما مر الزمان على العالم كله. فممالك الشرق العظمى معظم أراضيها لا تطل على بحار، ومن ثم بعيدة عن إمكانية منافسة أمريكا. وتعيش أفريقيا حياة بربرية؛ ولا توجد في أوروبا قوة تملك امتداد السواحل الذي نتمتع به ولا الموارد الداخلية التي نملكها من المواد الخام. ومع أن الطبيعة عادة تعطي نعمة وتمنع أخرى؛ فإنها في حالة أمريكا أعطت كلتا النعمتين. فإمبراطورية روسيا المترامية الأطراف تكاد تكون معزولة عن البحار: ومن هنا فإن غاباتها التي لا حدود لها، وما تملكه من قطران وحديد وحبال صارت مواد للتجارة ليس إلا.
وإذا أتينا لنقطة الأمن، فهل من الحكمة ألا يكون لدينا أسطول؟ إننا لسنا بالشعب ضئيل العدد الآن، كما كنا منذ ستين عامًا مضت؛ ففي ذلك الحين كنا آمنين على ممتلكاتنا في الشوارع أو بالأحرى في الحقول، وكنا نغفو في اطمئنان دونما حاجة إلى أقفال أو مزاليج نثبتها على أبوابنا أو نوافذنا. غير أن الحال الآن تبدلت، وأساليبنا الدفاعية آن لها أن تتطور لتواكب الازدياد في حجم ممتلكاتنا. إن أي قرصان عادي، منذ اثني عشر شهرًا مضت، كان في مقدوره مهاجمة ديلاوير، وإخضاع مدينة فيلادلفيا لجزية فورية، وجمع ما شاء من مال؛ والشيء ذاته كان من الممكن أن يقع في أماكن غيرها. بل إن أي شخص جريء من عينة ذلك القرصان، معه سفينة مزودة بأربعة عشر أو ستة عشر مدفعًا كان يستطيع أن ينهب القارة بأكملها، ويحمل معه مالًا يقدر بنصف مليون. هذه ظروف تستدعي انتباهنا وتوضح ضرورة بناء قوة حماية بحرية.
قد يقول البعض إننا بعد أن نتوصل إلى تسوية مع بريطانيا ستعمل هي على حمايتنا. فهل يمكن أن نكون من الحماقة بحيث نظن أنها ستحتفظ بأسطولها في موانينا لهذا الغرض؟ إن المنطق السليم يقول لنا إن القوة التي سعت جاهدة لإخضاعنا هي آخر ما يمكننا الاعتماد عليه في الدفاع عنا. فمن الممكن تنفيذ غزو بذريعة الصداقة بين البلدين؛ وبذلك نجد أنفسنا بعد أن قاومنا ببسالة زمنًا طويلًا، قد وقعنا في النهاية ضحية لخدعة حولتنا إلى رقيق مرة أخرى. ثم إذا كنا لن نسمح لسفن بريطانيا بالبقاء في موانينا، فإنني أتساءل، كيف لها إذن أن تحمينا؟ إن أسطولًا يقبع على بعد ثلاثة أو أربعة آلاف ميل من سواحلنا لا يمكن أن يفيدنا كثيرًا، وفي حالات الطوارئ المباغتة سيكون هذا الأسطول غير ذي نفع على الإطلاق. ومن هنا أقول إنه إذا تحتم علينا الدفاع عن أنفسنا من الآن فصاعدًا، فلم لا يكون ذلك بأيدينا نحن؟
ومع أن قائمة السفن والبوارج الحربية الإنجليزية طويلة وهائلة، فإن نسبة لا تتجاوز العُشر منها هي التي تكون جاهزة للخدمة والقتال في أي وقت، فهناك أعداد منها لم يعد لها وجود ومع ذلك تظل أسماؤها مدرجة بكل غطرسة في القائمة، وإن لم يتبق من السفينة غير لوح خشبي واحد، وما يصلح من تلك السفن للاستخدام ويمكن إرساله إلى منطقة واحدة في وقت معين لا يزيد على خُمس ذلك العدد. إن جزر الهند الشرقية والغربية، والبحر المتوسط، وأفريقيا، وغيرها من أجزاء العالم التي تبسط بريطانيا سلطانها عليها تفرض عبئًا ثقيلًا على أسطولها البحري. وبدافع مزيج من التحيز والغفلة كونّا فكرة زائفة فيما يتعلق بالأسطول البحري الإنجليزي، وتحدثنا كما لو كنا سنضطر إلى مواجهته كله دفعة واحدة؛ ولهذا السبب افترضنا أنه يجب علينا أن نمتلك أسطولًا بنفس الحجم؛ وهو أمر لا ضرورة عملية عاجلة له، وإن كانت حفنة من مؤيدي استمرار احتلال إنجلترا لأمريكا المتخفين استغلته لإثنائنا عن البدء في بناء أسطولنا. وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ إذ لو أن أمريكا لديها فقط جزء واحد من عشرين من القوة البحرية التي تمتلكها بريطانيا، لأمكنها أن تتفوق عليها بمراحل، لأننا طالما لا نملك مستعمرات بالخارج ولا نريد ذلك، فإن قوتنا بأكملها ستبقى مخصصة لحماية سواحلنا، وحينئذ، على المدى البعيد، سنكون متفوقين بنسبة اثنين إلى واحد على تلك السفن التي تبعد عنا ثلاثة أو أربعة آلاف ميل بحري عليها أن تقطعها لتصل إلينا وتهاجمنا، ثم تعود نفس المسافة للتزود بالمؤن والجند. ومع أن بريطانيا بواسطة أسطولها تسيطر على ممر تجارتنا مع أوروبا فإننا مع ذلك نملك تجارة لا تقل عن تلك حجمًا وهي تجارتنا مع جزر الهند الغربية، التي تقع بكاملها تحت رحمة القارة الأمريكية بحكم مجاورتها لها.
ويمكن إيجاد وسيلة للاحتفاظ بقوة بحرية في أوقات السلم، في حال رأينا أن الاحتفاظ بقوة بحرية دائمة ليس ضروريًّا. فإذا قدمنا منحًا للتجار كي يبنوا ويستخدموا سفنًا مزودة بعشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين مدفعًا (على أن تكون تلك الأموال متناسبة مع قدر الخسارة التي سيتحملها التجار في حجم تجارتهم)، فإن خمسين أو ستين من تلك السفن، مع بعض سفن الحراسة المعينة بصفة دائمة، سوف تشكل أسطولًا كافيًا، وهذا دون أن نُحمّل أنفسنا ذلك العب الثقيل الذي تحمله إنجلترا التي تجأر فيها الأصوات بالشكوى من المعاناة مع أسطولها البحري، الذي يظل في زمن السلم قابعًا بلا عمل على أرصفة المرافئ. إن الجمع بين مناقب التجارة والشئون الدفاعية معًا لهو سياسة حصيفة؛ لأنه عندما تتحد قوتنا مع ثروتنا وتتعاونان معًا، فلن نخشى أي عدو خارجي.
إن أرضنا زاخرة بأغلب المواد التي نحتاجها لأمور الدفاع. فمحصول القنب الذي تصنع منه الحبال ينمو بوفرة، بحيث لن نحتاج لاستيراد الحبال؛ وحديدنا متفوق على حديد سائر البلدان الأخرى؛ وأسلحتنا الصغيرة تعادل مثيلتها في أي مكان في العالم؛ ويمكننا بكل يسر صب مواسير المدافع؛ كما أننا ننتج كل يوم ملحًا صخريًا وبارود المدافع؛ ومعرفتنا تتعاظم كل ساعة؛ والعزيمة صفة موروثة فينا، والشجاعة لم تفارقنا قط. فما الذي نريده أكثر من هذا؟ لماذا نتردد؟ إننا لا يمكن أن ننتظر شيئًا من بريطانيا سوى الخراب والدمار. فلو سمحنا لها بحكم أمريكا مرة أخرى، فسوف تستحيل هذه القارة أرضًا غير جديرة بالعيش فيها. سوف تزداد مشاعر الغيرة باستمرار؛ وستظل ثورات العصيان المسلح تندلع؛ ومن الذي سيتقدم لقمعها؟ من الذي سيغامر بحياته ويضحي برجال بلاده من أجل إخضاع تمرد أجنبي؟ إن الخلاف بين بنسلفانيا وكونيكتيكت، على بعض الأراضي، يبين مدى ضآلة الحكومة البريطانية، ويثبت بالدليل القاطع أنه لا يمكن سوى لسلطة قارية أن تنظم شئونًا قارية.
وهناك سبب آخر وراء كون الوقت الراهن أفضل من غيره، ألا وهو أنه كلما كان عددنا أقل كانت مساحة الأرض غير المأهولة بالسكان أكبر، التي بدلًا من تركها فريسة للملك ليمنح منها ويهب لحاشيته التافهة ما يشاء، يمكن فيما بعد استغلالها ليس فحسب لسداد الدين الحالي، وإنما كدعم دائم للحكومة، ولا توجد أمة على وجه الأرض تملك ميزة كهذه.
إن طور الطفولة الذي تعيشه المستعمرات الآن — كما يسمونه — هو حجة لصالح الاستقلال وأبعد ما تكون عن أن تناهضه. فنحن نتمتع بعدد كبير كافٍ، ولو كنا أكثر من هذا، فلربما أصبحنا أقل اتحادًا. وهناك أمر جدير بالملاحظة، وهو أنه كلما زاد تعداد سكان بلد ما، قل عدد جيشه. ففيما يتعلق بأعداد الجيوش العسكرية تفوق القدماء على المحدثين: والسبب واضح؛ فالتجارة تأتي نتيجة لتزايد أعداد السكان، والرجال يصيرون أكثر انشغالًا بها حتى إنهم لا يلتفتون إلى أي شأن آخر. فالتجارة تضعف الروح، سواء أكانت روح الوطنية أم روح الدفاع العسكري. والتاريخ يخبرنا بأن أشجع الإنجازات كانت دومًا تقع في طور طفولة الأمم. فإنجلترا فقدت روحها مع تزايد اتجاهها نحو التجارة، ومدينة لندن، مع ما تكتظ به من أعداد البشر، تبتلع الإهانات المتواصلة بصبر الجبناء. وكلما زاد ما يملكه الناس ويخشون خسارته، قل استعدادهم للمخاطرة. فالأثرياء عمومًا عبيد لمخاوفهم، وهم يذعنون لسلطة البلاط الملكي في مهانة كلب ذليل مداهن.
سن الشباب هو التوقيت الأنسب لغرس العادات الطيبة، وينطبق هذا على الأمم كما ينطبق على الأفراد. وقد يكون من العسير — إن لم يكن من المستحيل — جمع القارة في حكومة واحدة بعد نصف قرن من الآن. فالتنوع الواسع للمصالح، الذي يتسبب فيه ازدياد حجم التجارة وتعداد السكان، من شأنه أن يصنع ارتباكًا. سوف تعادي المستعمرات بعضها بعضًا، فمع قوة كل واحدة منها يمكن أن تزدري معاونة الأخرى: وبينما يتفاخر المتباهون والحمقى بمستعمراتهم الصغيرة المنفصلة، سوف ينتحب الحكماء وينوحون لأن الاتحاد لم يتشكل من قبل. لذا فإن «الوقت الحاضر» هو «الوقت المناسب» للاتحاد. فالحميمية التي ترعرعت في الطفولة البريئة، والصداقة التي صُهرت في بوتقة المحن، هما الأكثر دوامًا وثباتًا بين جميع المقومات الأخرى. إن اتحادنا الحالي يتميز بهاتين الصفتين: إننا شباب وقد ابتلينا بمحنة؛ لكن تآلفنا تغلب على محنتنا، وصنع مساحة بارزة جديرة بأن تذكرها الأجيال القادمة بكبرياء واعتزاز.
الوقت الراهن كذلك وقت مميز لا يمر بأي أمة على الإطلاق سوى مرة واحدة في عمرها، لأنه الوقت الذي تتجمع فيه الأمة لتشكل حكومتها. ومعظم الأمم تركت تلك الفرصة تنساب من بين يديها، وبهذا أُرغمت على الخضوع لقوانين فرضها عليها غزاتها، بدلًا من أن تضع هي قوانينها بنفسها. ففي البداية يكون لهم ملك، ثم يشكلون حكومة؛ بينما يجب أن تتشكل مواد ومواثيق الحكومة أولًا، ثم يُنتخب رجال يعهد إليهم بتنفيذها بعد ذلك، ولكن دعونا نتعلم الحكمة من أخطاء الأمم الأخرى، ونتشبث بالفرصة السانحة لنا الآن؛ «أن نبدأ تشكيل الحكومة من النقطة الصحيحة.»
عندما أخضع ويليام الفاتح إنجلترا لسلطانه، منحها القانون فوق سنان سيفه؛ وما لم نتفق جميعًا على أن مقعد الحكومة في أمريكا يجب أن يُشغل على أساس شرعي وبتفويض من الشعب، فسنظل عرضة لخطر أن يشغل هذا المقعد بربري متوحش يمتلك ثروة، ويعاملنا بنفس أسلوب ويليام الفاتح، ومن ثم، أين ستذهب حريتنا؟ وأين ستذهب ممتلكاتنا؟ وفيما يتعلق بالدين، فإني أعتبر أن الواجب الحتمي للحكومة أن تحمي سائر المؤمنين أصحاب الضمير، ولا أعرف شيئًا آخر يتعين على الحكومة أن تنشغل به غير ذلك، أن تجعل الإنسان يتخلى عن ظلام روحه، وأنانية مبادئه، التي يتمسك بها البخلاء من جميع المذاهب بلا أدنى استعداد للتخلي عنها، وبذلك سوف يتحرر من مخاوفه. إن الشك هو رفيق النفوس الوضيعة، وآفة جميع المجتمعات الصالحة. أما عن نفسي فإنني أؤمن مخلصًا وبصدق أن إرادة الله عز وجل شاءت أن يكون هناك تنوع في الآراء الدينية السائدة بيننا: فهذا يتيح ميدانًا أعظم لطيبتنا بوصفنا مسيحيين. ولو كنا جميعًا نتبع أسلوبًا واحدًا في التفكير، لصارت توجهاتنا الدينية بحاجة للاختبار؛ وبناءً على هذا المبدأ التحرري، أعتبر الطوائف الدينية المختلفة الموجودة بيننا بمنزلة أطفال في أسرة واحدة، لا يختلفون إلا في الأسماء.
بعد صفحات قليلة، أطرح بضع أفكار حول ما أسميه «الميثاق القاري» (وأفترض هنا أنني أقدم تلميحات فقط، وليس خططًا تفصيلية)، وهنا، أمنح نفسي حرية إعادة ذكر الموضوع، بملاحظة أنه يجب علينا فهم الميثاق باعتباره رابطًا من الالتزام المقدس، على الجميع أن يرتبطوا به من أجل مؤازرة حق كل طرف مستقل سواء أكان هذا الحق حرية دينية أم حرية شخصية أم ملكية. إن صفقة قائمة على أساس وطيد وحسابات صحيحة تبني علاقة صداقة قوية ومستمرة.
في صفحة سابقة ذكرت كذلك ضرورة وجود تمثيل كبير ومتساو لأفراد الشعب؛ ولا يوجد شأن سياسي جدير باهتمامنا أكثر من هذا الشأن. قلة عدد الناخبين أو قلة عدد النواب كلاهما أمر على نفس الدرجة من الخطورة. ولكن إذا كان عدد النواب ليس قليلًا فحسب وإنما لا يتسم بالمساواة أيضًا، يصبح الخطر أعظم. وكمثال على ذلك أذكر ما يلي: عندما طُرح التماس «مؤسسي الاتحاد» على مجلس نواب بنسلفانيا؛ لم يكن حاضرًا سوى ثمانية وعشرين عضوًا فقط، وصوت جميع الأعضاء الممثلين لمقاطعة باكس — وعددهم ثمانية — ضده، ولو فعل مثلهم سبعة من أعضاء مقاطعة تشيستر، لصار المتحكم في سائر الإقليم مقاطعتين فحسب، والإقليم عرضة دومًا لهذا الخطر. وبالمثل ينبغي أن يكون هذا الضغط غير المبرر، الذي مارسه هذا المجلس خلال آخر جلساته من أجل كسب سيطرة غير مستحقة على ممثلي هذا الإقليم، بمنزلة تحذير لكافة أفراد الشعب من أن السلطة تتسرب من بين أيديهم. لقد وُضعت مجموعة من التعليمات للممثلين، تعد من منطلق المنطق والأعمال عارًا حتى على صبية المدارس، وبعد أن أقرها «قليلون»، استطاعت «قلة قليلة» دخول المجلس، وهناك صوتوا على القرارات «نيابة عن المستعمرة بأكملها»؛ في حين لو علمت المستعمرة بأكملها بالنية السيئة التي استخدم بها أعضاء المجلس بعض الإجراءات العامة الضرورية، لما ترددوا لحظة في اعتبارهم غير أهل لتلك الثقة.
إن الضرورة المباشرة تجعل كثيرًا من الأمور ملائمة، لكنها لو ظلت تُمارس فسوف تتحول إلى إجراءات ظالمة جائرة. كما أن النفعية والحق أمران مختلفان. فعندما استدعت المصائب التي حلت بأمريكا التشاور، لم تكن هناك وسيلة جاهزة — أو بالأحرى وسيلة مناسبة في ذلك الوقت — إلا تعيين أشخاص ينتمون إلى مجالس نيابية متعددة لهذا الغرض؛ وحافظت الحكمة التي تحلى بها هؤلاء على هذه القارة من الخراب. ولكن لما صار من غير المناسب الآن أن نظل دون «مجلس نواب» موحد، فإن كل من يتمنى بصدق نظامًا صالحًا، يجب عليه أن يقر بأن أسلوب اختيار أعضاء ذلك المجلس أمر يستحق الدراسة. وإنني أطرح الأمر على هيئة سؤال على هؤلاء الذين يدرسون الجنس البشري، أليس التمثيل النيابي والانتخاب سلطة هائلة يجب ألا تمتلكها نفس المجموعة من الناس؟ عندما نخطط لأجيالنا المقبلة، علينا أن نتذكر دومًا أن الفضيلة ليست وراثية.
- أولًا: من عادة الأمم، عندما تندلع الحرب بين بلدين، أن تتقدم قوى أخرى غير ضالعة في النزاع لتلعب دور الوسيط، وتطرح بعض المقترحات المبدئية لإقرار السلام: ولكن لما كانت أمريكا تعتبر نفسها إقليمًا خاضعًا لبريطانيا العظمى، فلن تتدخل أي قوة، مهما كانت مكانتها، لتعرض الوساطة. وهكذا فمن الممكن في وضعنا الراهن أن نظل في حالة صراع إلى الأبد.
- ثانيًا: من غير المنطقي أن نفترض أن فرنسا أو إسبانيا سوف تقدمان لنا أي نوع من المساعدة، إذا كنا لا نهدف إلا لاستغلال تلك المساعدة في إصلاح العلاقات وتقوية الروابط بين بريطانيا وأمريكا؛ لأن هاتين القوتين سوف تعانيان من العواقب.
- ثالثًا: لما كنا نحن أنفسنا نقر بأننا تابعون لبريطانيا، فلا بد أن الأمم الأجنبية تنظر إلينا على أننا متمردون. وهذه السابقة تشكل نوعًا من الخطر يهدد سلامهم، لأن هذا يعني أن رعايا تلك الأمم يمكنهم حمل السلاح ضدها؛ ونحن من يستطيع حل ذلك التناقض العجيب فورًا؛ أما الجمع بين المقاومة والتبعية فهو أمر يتطلب فكرًا أرقى بكثير من مستوى الفهم العادي.
- رابعًا: إذا صدر إعلان استقلال رسمي، وأُرسل إلى ملوك الأمم الأخرى، شارحًا ما تحملناه من بؤس وشقاء، والسبل السلمية التي اتبعناها للإصلاح دون جدوى؛ ومعلنًا في الوقت ذاته أننا لما أصبحنا غير قادرين بعد اليوم على العيش في سعادة أو أمن تحت رحمة البلاط البريطاني الذي لا يعرف الرحمة، فإننا مضطرون اضطرارًا لقطع جميع الروابط معها؛ وفي الوقت نفسه يُطمئن هذا الإعلان جميع الممالك الأخرى إلى أننا سننزع مسالمتها، وأننا راغبون في إقامة علاقات تجارية معها: فلا بد أن هذا البيان سيعود على القارة بنتائج أفضل من إرسال سفينة محملة بالتوسلات إلى بريطانيا.
تحت مسمانا الحالي بوصفنا تابعين للتاج البريطاني، لا يمكن أن يستقبلنا أو يسمعنا أحد في الخارج؛ فعادات جميع البلاطات الملكية تقف ضدنا، وسوف تظل كذلك إلى أن ننضم إلى صفوف باقي الأمم بفضل الاستقلال.
قد تبدو تلك الإجراءات غريبة وعسيرة في البداية؛ ولكنها، كباقي الخطوات الأخرى التي اتخذناها بالفعل، سوف تصبح خلال مدة وجيزة مألوفة ومقبولة؛ وما لم يُعلن الاستقلال، فستظل القارة تشعر وكأنها رجل مستمر في تأجيل القيام بعمل يكرهه يومًا بعد يوم، مع أنه يعلم ضرورة إنجاز هذا العمل، لكنه يكره البدء فيه، ويتمنى لو أنه انتهى، وتؤرقه دائمًا خواطر تخبره بحتمية القيام به.