أحمس يلقي السلاح

١

أف ف ف! نظر بتلقائية وراءه، لمح الجندي وهو يعيد الحاجز الحديدي إلى موضعه، ثبَّت يده على «الكلاكس» يفسح طريقةً بين المتزاحمين أمام باب الجمرك، ومضى في شارع النصر.

قبل أن يميل إلى ميدان المنشية، تذكَّر لحنًا لأم كلثوم «يا مسافر على بحر النيل … أنا ليه في مصر خليل …» أسكت الدندنة، وقرَّر ألَّا يرفع يده عن «الكلاكس» قبل أن ينتهي زحام المنشية إلى طريق الكورنيش.

٢

أنعشَته نسائمُ الخريف، فلزِم جانبُ الكورنيش الأيمن، يُفسح الطريق للسيارات المُسرِعة.

لم تُسعفه الذاكرة بأغنية قديمة، فعاد إلى الدندنة بلحن أم كلثوم.

قال له وهو يتجه إلى داخل الدائرة الجمركية: «لا تعتبر الهجرة تصرفًا نهائيًّا.»

وهو يطمئنُّ على جواز السفر والتذكرة: «سأحاول … وإن كنتُ لا أعد.»

قال: «مع أني أصغرك بعامَين، فإن أُمَّنا لا تعترف إلا بك بديلًا للأب الراحل.»

وهو يضغط على ساعده بأصابع مترفِّقة: «هذه فرصة لإثبات كفاءتك!»

نفض رأسه، وأعاد التحديق في المرآة أمامه، كأنما ليستوثق ممَّا رأى؛ قائد السيارة التي تتبعه، سكنت حركته في امتداد ساعدَيه، وإمساكه بالمِقوَد. الملامح الجامدة تُذكِّره باللحظات التي لم تفارق ذاكرته؛ دفعَت به أمُّه إلى السُّلَّم بيدٍ أرعشها الفزع، فخطف الدرجات. لم يرفع إصبعه عن جرس شقة الطبيب في الطابق الأول إلا حين أطلَّ الرجل بوجه غاضب، وإن ابتلع الكلمات عندما أخبره بما حدث.

دسَّ الطبيب السماعة داخل الحقيبة الجلدية، صعد إلى فوق، وهو يتبعه.

بدَت خطوات الرجل مُتمهِّلة، أطال الوقوف خلف النافذة المُطلة على ميدان الساعة. دنَا بجسده فتلامسَا كأنما ليدفعه.

غالب تردُّده: «لقد غاب الوعي تمامًا!»

شمل الطبيبُ الجسدَ الساكنَ بنظرةٍ متفحِّصة. فكَّ أزرار القميص، ورفع الفانلة.

كان البطن قد تكوَّر بصورة غريبة، وبحلَقَت العينان، وتداخلَت في شحوب الوجه زُرقة قاتمة.

مال بأذنه، فتنصَّت على الصدر، وضغط بإصبعَين في البطن المنتفخ، وقلب العينَين، وحدَّق فيهما، ثم لملم الثياب كيفما اتفق، وسحب الملاءة، فغطَّى الجسد كله، وقال: «انتهى!»

ذكره السائق وراءه بالصورة التي شاهد فيها أباه لمَّا أعلن الطبيبُ وفاته. زاد من السرعة، فغابت السيارة في انحناءات الكورنيش.

٣

نهض لاستقباله، فلم يفتش عن مقعد، وظلَّ واقفًا.

سأل: «سافر؟!»

قال: «نعم، وأشكر لك عَونك.»

– والسيارة؟

– أعدتُها إلى الجراج.

– هل طالبوا بتصريح؟

– نظر الضابط إلى السيارة، فأذِنَ بالدخول.

– معاملاتنا كثيرة داخل الميناء، كما تعرف …

– أمي وأخواتي … كلنا نشكرك!

– هذا واجب … لوالدك أفضالٌ علينا!

أغلق الباب وراءه. سار في الرَّدهة الطويلة، على جانبَيها حجراتٌ تضيق بالمكاتب وأصواتُ الآلات الكاتبة والحاسبة وأجهزة الكومبيوتر …

قبل أن يميل إلى المدخل الخارجي، توقَّف بتلقائية وأعاد النظر إلى الحارس الذي بدَا — لفرط هموده — كأنه التصق بالمكان. راعَته السحنة الغريبة الساكنة، أعادت الحادثة القديمة؛ لمَّا أعلن الطبيبُ في يأسٍ وفاةَ أبيه!

اهتزَّت قدماه، ومسح السكون والحجرتَين المغلقتَين من حوله. داخله خوف، فزاد من خطواته، حتى أنقذَته حركة الطريق.

٤

روى لأمِّه ما حدث؛ وداعه لأخيه حتى غادرت الباخرة الميناء، روى حرصه — وهو يعيد السيارة — على شكر الرجل. تذكَّر فرَوَى خوفه من قائد السيارة، وحارس المبنى.

قالت الأمُّ وهي تمسح بعنايةٍ بقعةً في جانب الترابيزة: «جاء دورك لقيادة الأُسرة.»

«أنا أجيد المذاكرة فقط.»

أضافت بعصبية: وقيادة السيارات؟

– أقود سيارات الآخرين لأنفق على نفسي.

– مات والدك، وأصرَّ أخوك على الهجرة، وها نحن …

قاطعها: صح ما توقعته.

شابت صوتَه حِدَّة: «هل نُرجئ الحديث؟»

ثم بلهجةٍ تغلَّفَت بالإشفاق: «أقدِّر مشاعرك لسفر أخي.»

لمح الدمع في عينيها: «تحدث الرجل عن أفضال أبي!»

ما حدث مضى ككابوس، وإن لم يبرح الذاكرة. عاد في يومه الأخير مهمومًا؛ فأثار قلقها. يغادر البيت ذات صباح، يعود بعد عشرة أيام، وربما بعد خمسة عشر يومًا. يفضُّ الأوراق عن الهدايا التي أتى بها من العريش أو القاهرة أو الإسكندرية. يتنقل بين جمارك المُدن الثلاث. قَدِم في رحلته الأخيرة من العريش. سألَت عن ضخامة الهدايا، فحدَّثَها عن صفقة العمر. احتواه الصمتُ بعدها، ولزم السرير فلم يغادره، حتى فاجأته الأزمةُ في الليلة ذاتها.

لحِقَ أمَّه وهي تدخل حجرتها: «أثنى الرجلُ على أفضال أبي، فلماذا لا أقصده في وظيفة؟»

ثنَت إليه نظرةً قلقة: «ليتك تبتعد عن هؤلاء الناس.»

– لكنهم أصدقاء أبي!

– مات أبوك دون أن يشكوَ مرَضًا.

أخلى وجهه للدهشة: «لا شأن لهم بموته!»

«منذ عرفوا طريقهم إليه، لم تفارقنا المتاعب، ولعلهم وراء هجرة أخيك!»

أضافت، وهي تغلق الباب وراءها: «ابتعد عن هؤلاء الناس!»

٥

كان قد اتخذ قراره. أثق في نيَّاتكم. إذا كانت أفضال أبي خدمات، فإني أعد بما فوق الطاقة. بوسعي أن أفعل ما كان أبي يفعله. دلوني على الطريق التي سار فيها، فلا أخطئ معالمها!

٦

استقبله زحام ميدان الساعة.

قبل أن يعبر مزلقان الترام، اجتذبته سحنة بائع الصحف على ناصية الميدان. عاود التحديق، فرأى وجه أبيه لمَّا أتاه الطبيب.

أسرعت خطواتُه في غير اتجاه. انشغل حتى عن النظر إلى وجوه الناس من حوله. ارتمى داخل تاكسي لبي إشارته. أغمض عينَيه، وأسند رأسه إلى الخلف، حاول السيطرة على لهاث أنفاسه!

سأل السائق عن الاتجاه، ففتح عينَيه، اصطدمتا بالمرآة أمامه.

هزَّ رأسه، وأعاد النظر.

صرخ!

الشرق الأوسط، ٢٥ / ۱۲ / ۱۹۸۷م 

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤