فلما صحَونا
مع أني أذكر ساعة رؤيتي له للمرة الأولى؛ ظلال الغروب تعلو أسطح البنايات، وتغيب عن الطريق، فتضفي على الناس والأشياء غلالةً رمادية. تهدأ الأصوات بالظلمة التي حلَّت في الدكاكين، وداخل البيوت. تُرجئ الإضاءة، فلا تغري الذباب بالدخول.
ذلك فإن المكان الذي رأيتُه فيه غابَ عن بالي، فلا أذكره على وجه التحديد. ربما الجدار الملاصق للباب الخلفي بمسجد سيدي علي تمراز، أو الزقاق المُفضي إلى شارع الميدان، أو ناصية شارع الموازيني. صوته المتخاذل، والحقيبة التي هدَّت حيلي، وتعجلي العودة إلى البيت؛ ذلك كله أنساني حتى الصورة التي رأيتُه فيها، وإن كانت — بلا تفاصيل محدَّدة — تدعو إلى الإشفاق.
هل وضعتُ الحقيبة على الأرض، وسألتُه عن حاله، أو أنه هو الذي نادى، فاتجهتُ نحوَه؟!
– من الإسكندرية؟
– لي أقارب فيها.
– أصحبُك إليهم؟
– لا أعرف أين يقيمون!
– أُشفق عليك من قدوم الليل.
هزَّني صمتُه المُتحيِّر، فأردفت: «بيتنا قريب … استرح قليلًا، ثم تدبَّر الأمر!»
•••
تبينتُ في بيتنا ملامحه؛ أهمل شعره، فانسدل على جبينه حتى لامس الحاجبَين. تناقَضَت نظراتُه الحادة مع خطواته المتمهِّلة، والآهة التي رافقَت جلوسه في «الأنتريه» المقابل لباب الشقة.
دعوتُه إلى كوب شاي. تشاغلنا بالحديث عن نظرات إخوتي المتطلعة. حمادة الصغير آخر مَن انسحب إلى الغرفة القبلية المُطلة على شارع إسماعيل صبري. ارتفع صوتُه وهو يخاطب قطع الزلط الصغيرة، نظمها في صفوف متقابلة، تأهبًا للمعركة التي يديرها.
علَا صوتُ المطر في الخارج. تقاطر رذاذه على نافذة المطبخ المغلقة، ثم انهمرَت القطرات. تناهى صوتُ حمادة من الداخل: «يا مطرة رخي رخي … على قرعة بنت أختي …»
شرَّقنا وغرَّبنا، حدَّثني عن ظروفه، فحدَّثتُه عن ظروفنا. قلتُ ما أسعفني به الخاطر والذاكرة، وإن تبيَّنت — ربما بعد أيام — أنه كان مُقترًا فيما روى، بينما أطلقتُ لخاطري ما كان يَفِد إليه فيرويه.
لاحظ دهشتي لأسئلته التي كأنها تعلم بأحوالنا جيدًا.
– فلماذا تسأل عن مكان أقاربك؟
– لا أعرف أين يقيمون؟
– تُحيِّرني! ألا تتابع أنباء الحي؟
– فقط أقاربي من هنا.
•••
في الصباح داخلَني إشفاقٌ لما رأيته في المطبخ، يُعِدُّ لنفسه كوبًا من الشاي. لم أناقش مغادرته مكانه في الأرض، بين صفَّين من الأُسرة، في الغرفة المُطلَّة على سيدي علي تمراز. بَدَا عفويًّا في تصرفاته، فدعاني إلى مشاركته احتساء الشاي.
مال إلى دورة المياه فاغتسل. لاحظتُ أنه طوى الفوطة بإحكام — عكس ما نفعل — قبل أن يعيدها إلى موضعها. واتجه إلى مقعد في مواجهة «البلكونة» المُطلَّة على الميناء الشرقية.
بدأ إخوتي في مغادرة الشقة، فغلبني الحرج.
كنَّا سبعة إخوة، وعينا على الإقامة في الشقة المُطلَّة — من ناحية — على سيدي علي تمراز، ومن ناحية ثانية على الميناء الشرقية، تَسَعُنا بالكاد حجراتُها التي تبلغ ثلاثًا. أهمل البعضُ — لظروفنا المادية — مواصلة الدارسة، فالتحقوا بوظائف صغيرة في الميناء الغربية، أو لدى تجار في شارع الميدان وسوق النصر.
قال وهو يسند قدمه إلى المقعد المقابل: «اذهبْ إلى عملك، وسأغلق الباب ورائي.»
•••
فكرتُ في قضاء اليوم إجازة. يصعُب أن أتصوَّره في البيت بمفرده، لا أعرف عن ظروفه سوى ما حدَّثني به. مع ذلك فقد غادرت البيت. لم تتحول نظراتي عن بلكونة الشقة، قبل أن أميل إلى شارع التتويج. تصوَّرتُ – لا أدري لِمَ – أنه ربما يراقب خطواتي المبتعدة.
•••
عدتُ إلى البيت بعد ساعتَين، أو أقل. حاصرَتني الظنون، فلم أدرِ كيف أتحدث، أو أجيب عن الأسئلة، أو أرتب الأوراق. وسقط كوبُ الشاي لارتعاشة يدي وأنا أتناوله.
أدرتُ مفتاح الشقة، يسبقني التخوُّف من سرقة الرجل لما في البيت، قبل انصرافه.
أطلقتُ — غصبًا عني — صيحةً مفاجأة، لمَّا رأيتُه جالسًا على الكنبة، في وسط الصالة، يقرأ صحف الأيام الماضية.
•••
بهرنا بأفاعيل كأنها السحر وألاعيب الحواة. حاول حمادة تقليده، فأخفق. ولم نعد نلاعبه الشطرنج بعد أن تكرَّرت — بسهولة — انتصاراته علينا.
•••
قال حمادة: «أريد أن ألعب.»
قلت: «ومَن يمنعك؟»
قال: «هذا الرجل؛ يبعدني إذا لعبتُ في الصالة، ويأمرني بالصمت إذا لعبتُ في غرفتي.»
قلت: «كلها أيام، ويترك البيت!»
•••
لم نعد نطيقه.
غابت في تصرفاته نيَّة الرحيل، غادر مكانه في الأرض بين الأُسرة، لزم الكنبة المقابلة لباب الخروج، وحين يضع رأسه على الوسادة في منتصف الليل، لا يُقدِّم الموعد ولا يؤخِّره، لا يشغله أن نواصل سهرنا، أو يحلَّ التعبُ فننام. يناقش ويسأل، يغلبنا الحرج أحيانًا فنجيب عن أسئلته، أو ينشغل بقراءة الصحف، ومشاهدة التليفزيون حتى ينتصف الليل. يعدل الوسادة تحت رأسه، ويسحب الغطاء.
شخط في حمادة الصغير ليلةً، عندما طال لعبه في الصالة بقطع الزلط: «كبرتَ على هذه الألعاب.»
أضاف فيما يشبه التحذير: «انشغل بدروسك أفضل!»
صرخ حمادة: «لا شأن لك!»
هوى على حمادة بصفعة فاجأته وفاجأتنا، اندفع حسام بتلقائيةٍ ناحيتَه، أوقف اندفاعته، وغلبنا الذهول، لمَّا ومضَت المِطواة التي أخرجها من ثيابه.
انسحبنا إلى حجراتنا. حتى حمادة ترك قطع الزلط في أماكنها، دفعه الخوف إلى الحجرة التي تضمُّه وثلاثةً من إخوتي.
•••
«متى يغادر البيت؟»
أمَضَّنا الألمُ عندما تماوجَت الأعماقُ بالسؤال، وتخاطبَت به الأعين، دون أن تُتيح جلسته المستقرة فرصةً لأنْ نجلس ونتناقش ونتوصل إلى رأي، نأتي ونذهب، نجلس ونتحرك، ننام ونصحو، يشغل السؤالُ مساحة الشقة كلها.
كنَّا في حالنا لا نختلط بالجيران إلا لضرورة، «صباح الخير يا جاري، انت في حالك وانا في حالي»، حذَّرنا حسن لمَّا جلس مع أصحابه في قهوة المطري المُطِلَّة على الكورنيش، يوم تسلَّم راتبه للمرة الأولى. عاد إلى مألوف عادته، عادتنا. نعود من أعمالنا ومدارسنا، فلا نغادر البيت إلى صباح اليوم التالي.
مع ذلك لم تكُن حياتنا تخلو من تحرشات الجيران أو سابلة الطريق، وربما شتائمهم واعتداءاتهم. ندافع عن أنفسنا بالقدْر الذي تتيحه لنا قوَّتُنا. أفلحنا في ردِّ اعتداءات الجيران أو المارَّة الذين طال أذاهم واحدًا من إخوتي. قلبنا ذات يومٍ عربةَ بطيخ دفع البائع أخي حمدي بمقدمتها.
الأمر هذه المرة يختلف؛ بريق النصل الحادِّ يذوي الكلمات، لم نتحدث في أعمالنا ولا إلى الجيران أو سابلة الطريق، عن الخوف الذي هدَّ تفكيرنا فعجزنا عن التصرف. تكرَّر خروجنا والعودة في آلية صامتة، أجهدنا التفكير، وإن عجزنا عن فعل شيء.
جاوز الصمتُ الزاعق إلى مطالبات وشتائم. رفض حمادة إحضار كوب ماء من المطبخ، فصفعه بلا تردُّد. أهملنا الأمر، حتى حسام ظلَّ في جلسته أمام التليفزيون، كأنه لم يرَ شيئًا.
•••
أيقظنا الصراخ من نومنا، هُرِعنا إلى حيث الرجل، كان قد أمسك بذراعَي حسام، وراح يخبط رأسه في الحائط، وحسام يستغيث بأسمائنا واحدًا واحدًا. لم نعرف بواعث ما حدث، ولا لماذا فعل الرجل ما فعل، غيرَ آبهٍ بشتائم حمادة، وجذبه لبنطلون بيجامته بأصابعه الصغيرة.
نظرتُ إلى إخوتي، ونظروا إليَّ. غلبنا التخاذلُ والحيرة، فلم نتكلم أو نفعل أيَّ شيء.
سعى حمدي إلى غرفته، وصفق الباب بشدةٍ وراءه. ترك الرجل ذراعَي حسام، فتهاوى إلى الأرض. دار الرجل حول نفسه، فواجه نظراتنا بهزَّةٍ من ذقنه تأمرنا بالانصراف!
عدنا إلى حجراتنا في تثاقُل، كأن أقدامنا التصَقَت بالأرض، وإن شملتني ارتعاشةٌ لنسائم مُنعِشة من خلال النافذة البحرية.