العودة
أهمل متابعة المضيفة، وهي تشرح خطوات الإنقاذ. تكرَّر الأمرُ في عشرات الرحلات بين القاهرة ومسقط، فبدَا المشهد رتيبًا. ناوشَته أحداثُ الأيام الأخيرة، فاطمأنَّ الى الحزام، وأسند مُؤخِّرة رأسه إلى المقعد، وأغمض عينَيه، مستعيدًا كلمات سعيد منصور، وهو يودِّعه على باب المطار: «أعلم أنك حزين.»
ثم وهو يشدُّ على يدَيه في مودة حقيقية: «المغترب إذا استعدَّ للعودة النهائية، لا بدَّ أن يعتاد سماع تلك الكلمات التي عجزت عن فهمها!»
أضاف ضاحكًا: «أنت الآن كجندي تناساه زملاؤه بعد فكِّ خَيمته!»
أنهى الإجراءات في آلية، وإن حرص على سؤال شرطي الجوازات؛ هل تُتيح لي تأشيرة المغادرة أن أعود إلى مسقط؟
قال الشرطي، وهو يتأمل الختم الدائري: «العودة من حقِّك بعد ستة أشهر.»
تنهَّد في ارتياح، وتقدَّم إلى الباب المُفضي للدائرة الجمركية. حين صارحه مصطفى قاسم — لمرأى الختم الذي شغل صفحةً كاملة — بخطورة الأمر، تساءل في دهشة: «وهل فعلت ما يستحق؟»
قال: «الكفيل يملك إيداعك السجن بلا سبب.»
التمع الغضب في بَحلَقَة العينين.
شمله مصطفى قاسم بنظرة إشفاق: «جريمتك أنك ارتديت ثيابًا في مستعمرة للعراة.»
قال: «هل يُحاسَب المرء على استقالته؟!»
– يرى أنك أربكتَ العمل بالاستقالة في موعد غير مناسب.
– وما الموعد المناسب؟
– هو الذي يحدِّده!
– وتلك الكلمات الغريبة التي لا أستطيع فهمها؟
لا يتحدث عنها سواك!
– أنت تتحدث بها أحيانًا.
- وهم! وأخشى أنك ضيَّعت كل شيء!
•••
تعرَّف إلى الكلمات للمرة الأولى عندما فاجأه، في الغرفة الملاصقة، حوار بين حسين أبو طالب ورشاد سليمان. لم تكُن الكلمات تُعبِّر عن لغة أو لهجة، إنما هي حروف ألف سماعها، وإن تناثرت وتداخلت، فبدَت ككلماتٍ متقاطعة. أرجع إلى همس الكلمات؛ صعوبة وصولها كاملةً إليه. لكن الكلمات تكرَّرَت في أيام تالية، ناوشَته وشغلَته، بدَت لغزًا يستعصي على الفهم. وكان يغادر المكتب بلا سبب حقيقي، ينطلق بالسيارة إلى طريق المطار، ربما طالت الرحلة إلى الرسيل أو فنجا. تذكَّر ذات يومٍ صديقًا يعمل بالتدريس في نزوي، فواصل الرحلة، لكنه فضَّل العودة. قبل أن يصل إلى مشارف المدينة، لحقه نداء في شارع روى: «الشمس لاهبة، فأين تذهب؟»
أبان له السؤال أنه غادر البيت، دون أن يدرك بالتحديد مقصده. كانت الشمس في المنتصف تمامًا، فخَلَا الشارع من الظلال والمارَّة، فيما عدَا هنديَّين افترشَا مدخل بناية قريبة. قال في سرعة: «مشوار!»
– وأين سيارتك؟
– فضَّلتُ أن أمشي.
– ألا تخشى ضربة الشمس؟
هزَّ كتفَيه، وواصل السير.
سأل رشاد سليمان عن معنى الكلمات، فقال ببساطة: «لا غموض، أعطِ للكلمات انتباهك جيدًا!»
هتف: «لماذا يتغير الناس في الغربة؟»
قال رشاد دون أن يزايل هدوءه: «لعلَّ التغير في داخلك أنت.»
أضاف متسائلًا: «أين كانت ملاحظاتك من قبل؟»
استعان بيدَيه في التعبير عن المشكلة التي كأنها حياته: «نحن نناقش الأمر إذا أصبح ظاهرة!»
•••
حاصره الضيق، فأحسَّ بالاختناق. غادر الشقة التي كان اتساعها يقذف به في بئر الوحدة. مضى — بلا هدف محدَّد — إلى شارع روي، حتى نهايته. لم يأبَه بالحرارة اللاهبة أو الرطوبة التي أثقلَت خطواته. قبالة مسجد قابوس تأكد من اللافتة، وصعد البناية ذات الطابقَين. كانت العيادة خاليةً إلا من المُمرِّض الهندي يطالع مجلةً بالأوردية. أهمل الطبيب السماعة على المكتب، وسأل في اهتمام: «هل زرت آخرين؟»
قال: «هذه أول مرة.»
– مصري؟
– نعم.
– وأنا عراقي … لي الآن عشر سنوات في مسقط.
– أنا أقلُّ منك بسنة واحدة.
– أصبحتَ مثلي مواطنًا عمانيًّا.
قال في تردُّد: «لولا هذه المشكلة التي اقتحمَت حياتي.»
أعطاه الطبيب انتباهه. سأل واستوضح وناقش واعتذر عن كتابة روشتة، أو تقاضى أتعاب: «إني أكلمك بالعربية، وأنت تفهمني، فأين المشكلة إذَن؟»
•••
حيره الأمر تمامًا، فقرَّر تجاهله. تناسى الكلمات، أهمل سماعها أو تقصِّي دوافعها. اكتفى لسماعها بنظراتٍ لا مبالية، وشفتَين تحرصان في مطِّهما على تأكيد معنى الرفض. المفاجأة أذهلته، لمَّا تخلَّلَت الكلماتُ حديث الكفيل عن التصدير والاستيراد، والبضائع التي تنتظر تحريكًا في ميناء قابوس. تداخلَت الكلماتُ في الحوار، وتعاظمَت، فخلَا الحديث ممَّا يسهل فهمه. أخفق — للغضب الذي أطلَّ من عينَي الكفيل — في تنفيذ قرار اللامبالاة. حاول الفهم والاقتناع، لكن الكلمات تراقصَت أمامه في هستيرية واضحة. أحنى الرأس يأسًا، فصرخ الرجل: «أنت لم تعد تصلُح للعمل معي.»
كأنه نزع الغطاء من قمقم المارد: «إذَن فاقبل استقالتي!»
•••
كالهمس، أو انعكاسات الأصوات في الأودية وقيعان الآبار، تناهت الكلمات إلى أذنَيه. هزَّ رأسه غيرَ مُصدِّق، ثم عاود التأكد. كان يقينه أن ما حدث في مسقط قد انتهى بإقلاع الطائرة، لكن التلاغط حوله ذكَّره بمطار «السيب»، وإنْ بدَا الآن أكثر وضوحًا، ونأيًا عن الفهم فاجأه ضابط الجوازات بتلك الكلمات المدغمة، التي لا تنطوي على أيِّ معنًى، ويصعُب فهمُها . ليست العربية ولا الإنجليزية ولا الفرنسية، ولا هي مفردات لغة بذاتها. مع ذلك واصل الضابط الحديث، ترافق كلماته تلويحات بإصبعه، كأنه يُنذر، ولعله يُهدِّد.
قال: «لا أفهم!»
طقَّ في عينَي الضابط شرر، وتعالت الكلمات، وانفرجَت الأصابع، يلوح بها في غضب واضح.
ثنى نظرات الاستغاثة إلى الواقف خلفه: «شابٌّ في حوالي الخامسة والعشرين، ارتدى بالطو بياقة من الفرو، فبدَا مُهرجًا في الحر القائظ. ربما قَدِم من الأردن أو العراق، العاملون في الخليج يحرصون على الريكوردر والسامسونايت.» أرخى جفنَيه كأنه يتهيأ لنوم. المؤكَّد أنه استمع إلى الكلمات، فقد استلفتَت انتباه الواقفين في الصفوف المجاورة، وإنْ لم تغادر الصفوف انتظامها، وعاودت النظرات اتجاهها إلى النوافذ الزجاجية، لكن الشابَّ ظلَّ على هدوئه، كأنه وعى الكلمات. أحسَّ بالاختناق والمحاصرة، فثبَّت نظرات اللامبالاة، وربما الرفض، على الضابط الذي كوَّر جواز السفر في يده، كأنه سيمزقه. اختار الوقوف في نقطة الصفر، ليُنهي الأمر على نحوٍ ما، تساوت لديه البداية والنهاية، وردود الأفعال مَهمَا تكُن قاسية. أذهله أن الكلمات — على شفتَي الضابط — ذوَت بلا توقُّع. هدأت العاصفة بلا مناسبة، وفرد جواز السفر أمامه، ثم ختمه، ودفعه إليه من الخصاص الضيِّق.
غادر الطابور كمذهول؛ ما معنى الذي يحدث؟ هل هو حلم أو كابوس أو أن التعب أجهده؟ لكن الحياة داخل المطار على الصورة التي ألِفَها من قبل؛ الناس هم الناس، اللافتات هي اللافتات، نداءات الاستعلامات وإقرارات العملة والسيور والأسواق الحرة والمتابعون لوصول الحقائب والحقائب المتخلفة والذين بلا عمل.
بدَا مُغايرًا للمرات السابقة؛ مجموعة من السائحين ينتظرون حقائبهم. تأمل الاسم ورقم الرحلة (٥٧٦)، تل أبيب. تل أبيب؟! شمل المجموعة بنظرة جانبية. بدَوا سعداء، يتضاحكون، وإنْ علَت في أحاديثهم تلك المفردات التي عجز عن فهمها.
عاد إلى قراره القديم، فهزَّ كتفَيه، واتجه إلى العربات الحديدية، سبقه شابٌّ يناهز العشرين، سحب له عربة، وشفتاه تلوكان الكلمات الغامضة المدغمة. دفع العربة إلى موضع «السير» دون أن يلتفت إلى الشاب، أو يناقشه في كلماته. كان القرار قد سيطر على تصرفاته، فلا تعنيه تلك اللغة، اللهجة، الكلمات الغريبة المتناثرة …
•••
اطمأنَّ إلى وقفته، بحيث استند إلى العمود المواجه لسير الحقائب، تنبَّه على لكزة في جنبه، تبعتها الكلمات المتناثرة الغامضة. تجمَّع ردُّ الفعل في صرِّ أسنانه وتكوُّر قبضته. ثم آثر — بالإرهاق — أن يُخلي مكانه للجسد الضخم الذي تشاغل — من بعدُ — بالمناداة على آخرين.
•••
طالبه مأمور الجمرك بالاسم والمهنة وجواز السفر.
– من أين؟
– مسقط.
– آخر رحلاتك؟
– أعمل في مسقط، لكنني دائم التردُّد على القاهرة.
– تاجر شنطة إذَن!
لو أنه روى عن الباعث الحقيقي! كان يحجز تذكرة العودة في اليوم التالي لوصوله إلى مسقط. أتعس اللحظات حين يغادر التاكسي في مطار القاهرة ويخطو إلى باب الدخول. أسعد اللحظات حين يعلن المضيف عن التحليق في الأجواء المصرية. أدهشَته الدمعة التي ذرفها بالرغم منه لمَّا أطلَّ على الناس، وهو يُنهي أوراقه من نافذة مرتفعة في مجمع التحرير. كان يحرص على قراءة الصحف، يناقش القضايا البعيدة كأنه يحياها، يسأل ويناقش ويقترح ويرفض، يصلي الجمعة في مسجد أبي بكر الصديق الذي يرتاده المصريون، يزور ويُزار ويودِّع ويستقبل في مطار «السيب»، يستوقفه اختلاف اللهجة والتصرفات والتكوين الجسدي — كان يُراهن على الطيف القادم في الظلام — يُهلِّل للشوارع والميادين والشواطئ والأبنية، إذا طالعَته في التليفزيون؛ المراكب الصغيرة في شاطئ الأنفوشي، زحام شارع الغورية، لعلَّها مئذنة الحسين، من هذه الأشجار فهي الإسماعيلية، بور سعيد تخلو من البمبوطية، فهؤلاء إذَن من السويس، إنها مستودعات البترول في مدخل الزقازيق … حلَّ الصيف، فجمهور استاد القاهرة يرتدي القمصان.
تعلو عبارات الضيق من ملاحظاته، يهزُّ كتفَيه أحيانًا فلا يأبه، أو يهمس كالمعتذر: «لقد تذكرت!»
فاجأته الكلماتُ الغامضة، حين شرع المأمور مِطواته، وبدأ في تقليب الحقيبتَين. لم يكُن أعدَّ نفسه للرحيل، فخلَت الحقيبتان إلا من ثيابه، لكن المأمور أفرغ حتى الكروت السياحية على الطاولة، يُفتِّش عن شيء بذاته. أصمَّ أذنَيه بإغماض العينَين، حتى انتبه على هتاف المأمور: «مع السلامة!»
•••
من داخل التاكسي، ذكر للعسكري الاسم والجهة. تشاغل بتأمل القاهرة من النافذة المفتوحة. علَا صوتُ السائق بكلمات من نوع «حمد الله على السلامة … العالم زحمة … الحر اليوم زائد …» ثم تداخلَت الكلمات — هي هي بالتأكيد — في قوله: «أين روائح السفر؟» زاد تشاغله بالتأمل، فكادت جبهته تلامس زجاج النافذة المغلق. دانت الغلبة فيما بعدُ للكلمات القافزة، تحاصره، تستفزه، تدفعه إلى امتصاص السكينة بإغماض العينَين، لكن البركان انبثق من الأعماق، ثار وتلاطم وتصاعد، فهتف كأنه يواجه الموت: «اسكت!»
•••
لمح البواب يفاصل زبونًا، أمام الفاترينة الصغيرة في مدخل البيت. ناداه باسمه، وأشار إلى الحقائب. تعمَّد أن يسبقه إلى مدخل البيت، حتى لا يلاحقه — مَن يدري؟ — بالكلمات المجهولة. كأنما الناس استبدلوا بما عرفوه من كلمات، تلك المفردات المُحيِّرة، كأنه يخالط ناسًا وهميِّين. يحيا في غير الزمان، يهذي ويعانق خيالات. لاحقه البواب بالكلمات التي ألِفَها، وإنْ لم يفهمها. أهمل الالتفات، وصعد السلالم عدْوًا. أطال الوقوف لحظاتٍ أمام باب الشقة؛ هل تفاجئه أمُّه بهذه اللهجة؟ فكيف يواجه الأمر؟ ماذا سيكون عليه تصرُّفه؟
قاوم التردُّد، وضغط الجرس. لم يرفع إصبعه، حتى انفتح الباب. بَدَت أمُّه شعثاء الشعر، تفصَّد العَرَقُ في جبهتها. بيدها سكين، فهي لا بدَّ قادمة من المطبخ. اتجهَت عيناه إلى شفتَيها، ترقبان الارتعاشة التي تسبق الكلمات.
انفرجَت الشفتان عن صيحة فرح: «أنت!»
ارتمى في حضن أمِّه، وأجهش بالبكاء.