تكوينات رمادية

مددتُ يدي بعفوية، وأضأتُ النور. كنتُ قد صحوتُ على أذان الفجر يتناهى من المرسي أبو العباس. أطلتُ التحديق في الظلام السادر، أتبيَّن الشبح الواقف وراء النافذة، يتطلع إلى الطريق. بدَت المفاجأة في ملامح وجهه أقرب إلى الخوف، وربما الفزع. هلَّل بيدَيه، فأطفأتُ النور.

قلت، وأنا أزيح الغطاء عن جسدي: «هل تنوي صلاة الفجر في المسجد؟»

قال في همس منفعل: «أيُّ صلاة؟! وهل يتيح لي الملاعين أن أصل إلى المسجد؟» فطنتُ إلى ما يعنيه. حدَّثنا — إخوتي وأنا — عن متاعب لا يدري بواعثها، بدأت إدارة الشركة تواجهه بها، حين أعلن رغبته في التقاعد، الخواجة ليفي (سافر فيما بعدُ إلى إسرائيل، ضمن الأفواج الأولى لليهود المصريين) أظهر قلقًا واضحًا. تمعَّن في وجه أبي، كأنه يستوضح نواياه، قال وهو يتظاهر بترتيب الأوراق على مكتبه: «أرى صحتك ممتازة، فلماذا تتقاعد؟»

سعل أبي — بالتذكر — وأسند راحة يده إلى صدره.

– هدَّني الربو، ولا بدَّ أن أنفِّذ نصيحة الطبيب بالراحة التامة!

– اكتفِ بالعمل معنا، وأعدك بزيادة راتبك.

– صدِّقني … مطلبي الراحة وحدها!

روى أبي ما حدث، دون أن يشير إلى ملاحظةٍ ما. لكنه — في الأيام التالية — حدَّثنا عن الأوراق التي اختفَت من مكتبه والبرود القاسي في معاملة الخواجة ليفي ومعاونيه، واعتذار الصرَّاف بالمرض حتى لا يتقاضى راتبه. عَلَا الإيقاعُ وبَدَت التطوراتُ مثيرة، عندما فاجأنا أبي — ونحن حول الطبلية ننتظر عودته — بخطوات متعجلة، ووجه يكسوه قلقٌ واضح. وضع الصحيفة وكيس البرتقال على المائدة، وعاد إلى الباب يستوثق — أعلى السُّلَّم — ممَّا رآه. لم أكُن رأيتُ أبي في تلك الصورة من قبل. تنقَّل — بعينَين مُرتعشتَي الأهداب — بين باب الشقة والنافذة المُطلَّة على المَنوَر، ولوحة الكانفاس المعلقة في الجدار، وحركة مفيدة — داخل المطبخ — تُعدُّ الطعام، ونظراتنا القلقة، والقط السيامي الذي أقعى تحت الطبلية. غلب التوتر محاولته لعناق السكينة. جلس على الكنبة الاستامبولي. أطال التحديق في اللاشيء حوله. في اللحظة التالية، تبدَّد السهوم، فانتفض، ووقف، ودار حول نفسه، وتحركت شفتاه بكلمات لم ينطق بها، أزاح له نافع وشاكر مكانًا بينهما، فجلس. أمسك بيدَيه طرف الطبلية، كأنه يهُمُّ بقلبها: «هل رأيتم ما رأيت؟»

تطلعنا بأعين متسائلة: «الخواجة ديفيد، مساعد ليفي، يختبئ في بئر السُّلَّم!»

قلت في ضيق: «ولماذا تتصوَّر أنه يختبئ؟ ربما يريدك في أمرٍ ما؟»

– أنت لا تفهم شيئًا! منذ أيام أتابع تنفيذ المؤامرة.

– ضدَّ مَن؟

– ضدَّ أبيك!

أغضبه — وإنْ لم يعلن — تنهيدة أخي نافع غير المُصدِّقة. استطرد وهو يهشُّ بعصبيةٍ ذبابةً حطَّت على أنفه: «صدري مليء بالأسرار، وهم يخشَون أن أذيعها.»

تغلَّف صوتُه بحشرجة قاسية: «لقد قرروا قتلي!»

•••

لزم أبي البيت، بعد أن تسلَّم مكافأته. يكتفي بالتنقل بين غرفته والصالة، ويشغل نفسه بمراجعة قواميس الإنجليزية والفرنسية، ويُدوِّن جُملًا وملاحظات.

لمجرَّد الرغبة في قطع الصمت الذي كان يُعمِّقه مضغُ أفواهنا للطعام، سألت أبي: «تقاعدت عن مهنة الترجمة، فلماذا تقسو على نفسك بالمذاكرة؟»

قال في استغراب: «التقاعد لا يعني أن أهجر اللغة.»

وعلَا صوتُه في تغيُّر مفاجئ: «إذا نسيتُ اللغة، نسيتُ كل ما أعرفه من أسرار، وهذا ما لن أمنحه لهم؟»

وصرخ في نظرتي الداهشة: «أنت لا تفهم شيئًا! لم تعد حياتي تُهمُّني، المُهمُّ أن أردَّ المؤامرة!»

•••

تغيَّرَت حياتُنا؛ خطوات أبي الزاحفة بين غرفة النوم والصالة، تخوُّفه الواضح من رنين جرس الباب، تطلُّعه القَلِق — في لحظاتٍ متقاربة — من خصاص النافذة، شروده الساهم وحديثه المفاجئ إلى نفسه أحيانًا. لم يعد تشغله المذاكرة، أو مشكلاتنا الشخصية، تناسى حرصه — منذ وفاة أمي — بدسِّ السندويتشات في حقائبنا كل صباح قبل أن نغادر البيت. شاع حولنا ضبابٌ غير مرئي، وغلب التوتر على تصرفاتنا، وقال نافع: «ينقصنا حفل زار لنعيد هذا البيت إلى سابق عهده!»

•••

في تلك الليلة صحوتُ على حركة أبي خلف النافذة. أضأت النور، وأزحت الغطاء عن جسدي. حاولتُ أن أهبط إلى الأرض برفق، فلا يصحو إخوتي. أحسَّ بصدري خلف ساعده، فقال في صوته الهامس، يشير إلى المجهول من خصاص النافذة المغلقة: «هذا الذي يقف تحت عامود النور … إنه الخواجة ليفي نفسه!»

قلت، وأنا أحدق في الرجل الغائب الملامح: «هل البالطو الأصفر ممَّا يرتديه الخواجة ليفي؟»

«أنت لا تفهم شيئًا! إنهم يُحسنون إخفاء أنفسهم، لكن هذا الواقف هو الخواجة ليفي بعينه!»

أحسستُ — لخوف أبي — بإشفاق. بدَا مهدودًا ومتحيرًا ولا يقوى على التصرف. ذلك الذي يقف تحت عامود النور كان ينتظر سيارة العمل. رأيته مراتٍ من قبل، وأنا أطلُّ بعفويةٍ من النافذة، لأرق يعقب تناهي الأذان من أبو العباس، أو ابتهالات ما قبل الصلاة. لكن البريق الذي التمع في عينَي أبي، بما هو أكبر من الخوف، كأنه يرى الموت، جعل السؤال سخافةً لا معنى لها. تضاءل العملاق القديم فتمنيتُ أن أحتضنه وأبكي.

غامت عينايَ، فدفعتُه برفق: «حديثنا سيوقظ إخوتي. نَم أنت، ولن أغادر مكاني حتى أطمئنَّ إلى انصراف الرجل.»

•••

أيقظني أبي لصوتٍ يتصاعد من نافذة المطبخ، قال: «إنهم يتسلقون المواسير.» وأصرَّ أن يتقاضى مُحصِّل الكهرباء نقوده من شراعة الباب، وأعلن قلقه لمَّا تأخر شاكر عن العودة من المدرسة، وزاد من تأكده ليلًا إلى إغلاق الباب والنوافذ بإحكام.

ولمحتُه يومًا يُقلِّب في حقيبة نافع. أعاد الحقيبة إلى موضعها، وهمس كالمُعتذر: «لا بدَّ أن أحتاط!»

•••

لمَّا صحوتُ كانت الشمس قد ملأت الدنيا. هدَّني النقاش مع أبي، فنمت. كان إخوتي قد انصرفوا إلى مدارسهم، وران على الشقة هدوء. اتجهتُ بتلقائيةٍ إلى غرفة أبي.

كان مُكوَّرًا في الأرض على جنبه، وعيناه مُبحلقتان في سكون جامدٍ غريب.

«إبداع»، فبراير، ١٩٨٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤