لماذا سكت «محمد جعلص» في حارة اليهود؟!

د. أشرف الصباغ

منذ بداياته ظلَّ الكاتب محمد جبريل محافظًا على تلك المسافة الشائكة بين الروائي في العالم الثالث وبين مجمل المدارس والنزعات الفنية الواردة من الخارج، بغضِّ النظر عمَّا إذا كنَّا معها أو ضدَّها، أو حتى ننظر إليها ونتعامل معها بطرق مختلفة ما زالت محلَّ نزعات عديدة. ومنذ بداياته عكف على تأصيل، ليس التراث أو الموروث، وإنما على إدارة عملية تفاعل مع التراث والموروث، وبينهما في آنٍ واحد، من خلال النظر إليهما بنظرة شعبية طازجة وحيَّة، من دون إعلائهما واللجوء إليهما كطوق إنقاذ، أو الاستعلاء عليهما من منظور أنهما ميراث ذلٍّ وتخلفٍ وقهر … إلى جانب ذلك قطع جبريل خطواتٍ واسعةً في إدارة تلك العملية، ليس من منظور كوني وعام وإنساني، كما يحلو لنا أن نقول عندما نريد أن نميز أحد كتابنا؛ وإنما من منظور محلي صِرف، أيْ إنه يدير عملية التفاعل تلك مُنطلِقًا من منظومة تفكير شعبية مصرية، ترتكز بدرجات كثيرة إلى اللغة بشكل عام، حيث أمكنه في كل أعماله تقريبًا، وبمستويات مختلفة أن يُضفِّر الموضوع التراثي — إذا جاز التعبير — مع نفس لغة عصر الموضوع، وفي ذات الوقت يستخدم اللغة الحية، الشعبية، الآنية، المنعكسة أو الممتدة من قلب اللغة القديمة؛ لغة الموضوع في عصره. وبالتالي فإذا كان محمد جبريل قد عكف على تلك المعادلة الصعبة، فهو بذلك قد تولَّى مسئولية مشروع روائي ضخم، ربما تكون أحد أهمِّ نتائجه الهائلة قد ظهرَت في «رباعية بحري»؛ ذلك العمل الذي يحتاج لسنوات طويلة من أجل إخراج مفرداته الروائية التي تفوق في حجمها مشروعاتٍ كثيرةً مشابهةً على المستوى المحلي والعالمي في آنٍ واحد. وربما تكون هذه الملامح في مجملها هي التي جعلَت محمد جبريل يشقُّ طريقًا آخر مختلفًا عن كتابٍ ما يُطلق عليه «جيل الستينات»، ويحافظ في الوقت نفسه على تلك المسافة التي ذكرناها آنفًا.

وإذا كانت هذه المُقدِّمة السريعة تُلقي بعض الضوء على عالَم محمد جبريل الروائي، فإننا بصدد تناوُل عمل منفرد للكاتب، وهو قصة «حارة اليهود»؛ إحدى قصصه القصيرة التي تمتلك خصوصيةً شديدة، ولعلَّها من أهمِّ قصصه، وواحدة من القصص القصيرة العربية التي تعرَّضَت لموضوع ما يُسمَّى بالمسألة اليهودية. و«حارة اليهود» ليست القصة الأولى التي تتناول هذا الموضوع الشائك، الذي يبدو من النظرة الأولى مفصولًا فيه ومفهومًا، ورغم ذلك فهو موضوع متشابك بسبب ارتباطه بعوامل كثيرة، ومدٍّ وجزر، خاضعة كلها لحركة العالم وليس لرغبتنا نحن فقط!

لقد تناول محمد جبريل في قصص كثيرة «المسألة اليهودية» بالتلميح أحيانًا، وبالتصريح في أحيان أخرى بداية من قصة «نبوءة عرَّاف مجنون» في مجموعته القصصية «انعكاسات الأيام العصيبة»، وحتى روايته «من أوراق أبي الطيب المتنبي»، مرورًا بقصص «تكوينات رمادية» و«العودة» و«حدث استثنائي في أيام الأنفوشي» و«حكايات وهوامش من حياة المُبتلَى» و«المستحيل» و«فلمَّا صحونا» و«أحمس يُلقي السلاح» و«حكايات فات أوان روايتها». في هذه القصص جميعًا نجد «المسألة اليهودية» مرتبطةً بالكيان الإسرائيلي وتغَلغُل النفوذ الصهيوني بدرجاتٍ ما في ظروف ومراحل ومجالات مختلفة، وذلك بالطبع نتيجةً للصراع العربي-الإسرائيلي من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى نتيجةً للمرارة التي تجرَّعها العرب على مرِّ التاريخ من وجود تلك «الجيوب» الهلامية، التي كانت تعيش في كُتَل منعزلة إلى أن وجدَت الفرصة لتنسلخ تمامًا، وتعمل بشكل عقلاني مُنظَّم ضدَّ المجتمعات التي كانت تعيش فيها، وفي ذات الوقت في اتساق كامل مع قوانينها الداخلية التي تشكل قِيَمها الروحية ودستورها السياسي ومنظومة تفكيرها ونظرتها إلى العالم. ولكن الكاتب في قصته «حارة اليهود» يضع لمساتِه الأخيرةَ على عناصر تلك القضية، ليجعل منها الموضوع الأساسي لقصةٍ قائمةٍ بذاتها؛ حكاية ربما حدثَت في الواقع كما تخبرنا الفقرة الأخيرة في القصة/السرد، وربما لم تحدث بالضبط بذلك الشكل الذي جاءت عليه القصة! لأن البداية التي تأخرَت كثيرًا، ورأى الكاتب أن يجعلها في جزء مستقل بذاته ﮐ «حاشية» هي التي تحمل أهمية هذه القصة، وتجعلها تقف بمفردها بين سيل هائل من قصص قصيرة مسَّت موضوع «المسألة اليهودية» بطرق مختلفة، ولكنها لم تجعل تلك المسألة محورها الأساسي.

يبدأ جبريل قصته، أو يُنهيها، بمباشرة فنية عالية: «الثابت تاريخيًّا أن محمد جعلص مات في أواخر العشرينات. دخل في قدمه مسمار، وهو يسير حافيًا داخل بيته. أشار الطبيب الشهير، علي باشا إبراهيم، بضرورة بتر الساق، حتى لا تلتهم الغرغرينا الجسد كله. رفض محمد جعلص أن يحيَا بجسد ناقص.» هذه الفقرة تُمثِّل مدخلًا ملحميًّا لرواية ملحمية أو تاريخية، ومن ناحية أخرى تُلقي بأحجار صغيرة في المياه الراكدة، فتصنع أمواجًا دائريةً لا تلبث أن تتسع وتنتشر، ونكتشف أن الاتساع والانتشار يحدثان هنا في الذاكرة؛ ذاكرة القارئ التي تستدعي العديد من الوقائع التاريخية-الواقعية، والتداعيات النفسية المتولدة من عملية السرد الفني. ومع القراءة المتأنية التأملية نجد أن تصوُّرات الأبطال تأتي ليس على لسان الكاتب، أو من خلال عملية سرد مباشرة، وإنما عن طريق لعبة فنية — ربما تكون كلاسيكية — حيث السرد هنا هو سرد الأبطال الذي يقوم به الكاتب، ويتمُّ عن طريقه هو، بمعنى أن السرد يتمُّ هنا بطريقة ومستوى وعي الشخصية ونظراتها للعالم وللأحداث، وبأسلوبها وطريقتها أيضًا في التعامل والسلوك.

كان من الممكن أن تأتي الحاشية في البداية، وبالتالي تظهر أمامنا ككلمة افتتاحية-خطابية مباشرة، وهذا مسموح به وموجود حين يودُّ الكاتب أن يتحدث بمراوغةٍ مع قارئه. فهو يُلقي له بمقطع يُلخِّص له القصة كلها، وعلى القارئ إمَّا أن يكتفي بما أُلقِي إليه، ويترك القصة محتفظًا لنفسه بالعنوان وبما تجود عليه به الذاكرة من تداعيات، وإمَّا أن يراوغ هو الآخر الكاتبَ ويتسلَّل حثيثًا إلى الأحداث التالية. ولكن جبريل ألقى بالمفاجأة؛ المقطع الأخير من القصة في النهاية، ليدفع بالقارئ، ليس إلى إعادة قراءة القصة مرةً أخرى، وبالذات التاريخ المرتبط بمحور هذه القضية، وتحديدًا في العشرينات، أو ما قبلها بعشر أو عشرين عامًا، أو بعدها أيضًا بعشرين أو بأربعين عامًا، أو الآن! وإعادة قراءة التاريخ هنا لا تمتُّ بأيَّة صلة إلى المصطلح الابتزازي الذي يُسمَّى ﺑ «معاداة السامية»، وليست لها علاقة إطلاقًا ﺑ «المسألة اليهودية» من المنظور الغربي، وإنما تنطوي على نظرة كلية شاملة بالمعنى الإنساني إلى «الجيوب» الموجودة في المجتمعات البشرية، والتي تُشكل خطورةً شديدةً على تماسك هذه المجتمعات وترابطها.

•••

تدخل الشخصية الرئيسية مباشرةً إلى قلب الحدث/المكان «حارة اليهود»: «مضى في قلب حارة اليهود، تميزه قامةٌ أميَل إلى القصر والامتلاء، ورأس مُهوَّش الفَودَين، وشَعر كثيف يفزُّ من فتحة الجلابية، أعلى الصدر، بادي الصحة بما يلفت النظر.» تبدأ القصة بفعل حاد (مضى) مثل النصل، رغم الامتلاء، في قلب حارة اليهود. الكاتب يُقدِّم شخصيةً بدون اسم، ولكنْ من ملامحها يمكن تخمينُ أنها شخصية بسيطة؛ عربجي … فتوة … بائع متجول … إلخ. ولكنه يُبرِّر حِدَّة الفعل (مضى) عندما يذكر حارة اليهود، لنكتشف في الحال أن الحارة ليست مكانًا بقدْر ما هي جسدٌ حيٌّ مستقل، ومميز عمَّا حوله. إنها ببساطة شديدة «جيتو» يصعُب الدخولُ إليه، وبالتالي فليس هناك طريقةٌ أخرى للولوج فيه سوى ﺑ (المُضي). إذا كان الإنسان يعيش في المكان، فمن الممكن أن يتمَّ الدخولُ إلى أجزاء منه أو إلى زوايا فيه، ولكن «الجيتو» بكل ما ينطوي عليه من مفاهيم روحية ونفسية وفكرية أكثر منها مكانية /إحداثية؛ يتطلب استعدادًا مسبقًا للدخول إليه، في حاجة إلى مُسوِّغات وأسباب، حتى يتوتَّر الجسد الذي ينوي الدخول والتوغل في هذا العالم الذي يُفضِّل العزلة والتمايز والاستقلالية، إلى ذلك الكيان الذي يُعذِّب نفسه، ويُعذِّب الآخرين بإحساسه العميق بالدونية، شعوره بالكراهية والبغض؛ الأمر الذي يدفعه في نهاية الأمر إلى احتقار الآخرين وكراهيتهم، ومن ثَم استفزازهم.

يستمرُّ الراوي في رصده لهذا الجسد «الماضي» في قلب «حارة اليهود»/الكيان: «يعرفه المارَّة والجالسون، فهم يتَّقونه بإلقاء السلام، أو بالدعوة للضيافة، أو بعدم الالتفات.» إلى هذا الحدِّ يعادي الراوي تلك الشخصية؟! هل هذه الشخصية مُنفرة إلى تلك الدرجة التي يحاول فيها الجميع اتقاءَ شرِّها وجبروتها؟! الراوي لا يذكر اسم الشخصية (الجميع يعرفونها، ولكن لا يُهمُّ إذا كان القارئ يعرفها أم لا)، وإنما يمعن في تكثيف ملامحها. بدأ بصفاتها الخارجية، ثم عن طريق الحواس حيث تتداخل مستويات السرد: «ثمة روائح غريبة، نفَّاذة — وإنْ ألِفَها — تأتي من داخل البيوت، ونجمة داود متداخلة في الأبواب والشرفات.» هل هذه الكلمات للراوي، أو للشخص «الماضي» في قلب حارة اليهود، ولكنها تُسرد على لسان الراوي؟ هل هذه الشخصية تنتمي إلى المكان كإحداثيات، أم تنتمي إليه ككيان؟ إن حاسة الشمِّ لدى الراوي مثلها لدى الشخصية، وحاسة البصر لدى الاثنين تميز «نجمة داود متداخلة في الأبواب والشرفات». والروائح الغريبة غير محدَّدة، وإن كانت تعلن عن نفسها. ومع ذلك فالتعامل (تعامل الراوي والشخصية) معها يتمُّ بحيادية شديدة، فهي «غريبة» فقط غير مُقزِّزة أو عطنة، أو مثيرة للتقزُّز مثلًا. هل لأن الشخصية الماضية في قلب حارة اليهود جزء من المكان كإحداثيات، أم جزء منه ككيان؟ إن الرائحة «غريبة» فحسب، مثل الطريقة التي يعيشون بها، ويمعنون في ممارستها من أجل التمايز والاستقلال اللذَين ربما، وحتمًا، سيقودان إلى الصدام مع الآخرين الغرباء بالنسبة لهم. عندئذٍ يشرع الراوي في عملية فصل تُشكل مستوًى أسلوبيًّا آخر، أو بالأحرى تحديد علاقة الشخصية بالمكان (إحداثيات أم كيان؟) عن طريق مستوًى سرديٍّ مغايرٍ لما سبق. لو أن هؤلاء الجالسين في الدكاكين، الواقفين على النواصي، المُطلين من النوافذ، تحرَّشوا به، شاكلوه مثلما فعلوا مع علي الصغير، يُنهي المسألة بمفرده. يطيح فيهم بيدَيه، يفشُّ الغلَّ الذي يخنقه منذ سنوات. ليست المسألة في مشاكلة علي وإيذائه، يستطيع الوصول إلى الفاعلين، يترك لأصدقائه أمر تأديبهم، فلا يعودون إلى أذيَّة الناس أو يتركون الحيَّ بلا عودة. الثأر شخصي، لا يقف عند فرد أو أفراد، يمتدُّ إلى حارة اليهود كلها؛ ناسها وبيوتها ودكاكينها ومعاملاتها. إن فعل «مضى» الذي تبدأ به القصة يجد هنا تبريره القوي، كما أن حِدَّته التي تنعكس بصورةٍ ما على توتُّر الجسد ناتجةً من أحداث سابقة. البطل يتمنَّى لو تحرَّشوا به، شاكلوه مثلما فعلوا مع علي، ولكنْ ليست المسألة في مشاكلة علي وإيذائه، إنها أقدم من ذلك، بل وربما أشدُّ وقعًا وإيذاءً من مشاكلة الولد. هنا يتجه الراوي ليسرد ما يريد أن يقوله البطل، أو يدور في نفسه وفي ذهنه من أفكار. ويتجلَّى السردُ هنا في مجموعة من العلاقات الهامة: «أفلسوه في يوم وليلة. مهَّدوا لذلك سنوات، بالقروض والشيكات المؤجَّلة والبضائع الأمانة، ثم هطلوا كالسيل دفعةً واحدة. أصبح دكان المصوغات والمجوهرات مِلكًا لمَن دفع السعر الأعلى.» السرد يكشف عن هُويَّة البطل، يُحدِّد موقعه من المكان، ويعلن عن الأسباب والدوافع الكامنة لديه، في نفس الوقت الذي يبقى فيه اسمُه غيرَ مُعلَن. البطل ينتمي إحداثيًّا فقط إلى حارة اليهود، أمَّا الأسباب والدوافع الطبيعية جدًّا فهي السبب في عدم حدوث العكس، أي انتماء البطل الروحي والفكري — ككيان — إلى حارة اليهود غير موجود. ويتكشَّف جانبٌ آخر من شخصية البطل: «يفشُّ الغلَّ الذي يخنقه منذ سنوات، الثأر شخصي، لا يقف عند فرد أو أفراد، يمتدُّ إلى حارة اليهود كلها؛ ناسها وبيوتها ودكاكينها ومعاملاتها.» هل فعلًا الثأر شخصي نتيجةً لمشاكلة الولد، أم إن هناك غلًّا منذ سنوات، ليس بسبب إفلاسه، وإنما بسبب أنهم هم بالذات الذين أفلسوه؟ البطل نفسه لم يحسم الأمر، بداخله العديد من التناقضات المرتبطة بدرجة وعيه وباكتمال هُويَّته الفكرية وبتحديد الأولويات، وهذا أمر طبيعي لدى شخصية عادية؛ الأمر الذي يعطيها حيويةً ويجعلها تتحرك وتفكر وتقارن وتبحث، وربما هذا هو عدم تحديد اسمها حتى الآن.

الكاتب يلجأ في هذا الجزء إلى ما يُسمَّى ﺑ «القرينة الثقافية» معتمدًا على المخزون الثقافي / الحياتي للقارئ. ففي المقطع الأول توجَد «حارة اليهود»، والروائح الغريبة، ونجمة داود على الأبواب والشرفات، وبعد ذلك مشاكلة الولد، والغلُّ الذي يخنقه منذ سنوات، ثم الإعلان عن إفلاسه. كل ذلك حدث ليس بسبب شخص واحد يمكن تصفيةُ الحساب معه، وإنما بسببهم ومنهم جميعًا، من الذين «مهَّدوا لذلك سنوات، ثم هطلوا كالسيل دفعةً واحدة …» إذَن فماذا يمكن أن يحدث لتاجر مصوغات ومجوهرات من خارج «الجيتو»، وإن كان حتى يعيش في نفس المكان؟ إنه ببساطة يفلس «في يوم وليلة»! بل و«يسرع في خطواته» خجلًا إذا ما مرَّ أمام دكانه السابق، «حتى إنه يتمنَّى الموت» بدلًا عن القهر، إنه غريب وبالتالي كان يجب أن يفلس لأن «القرينة الثقافية» هنا تعيدنا إلى الوراء، تنشط الذاكرة وتكشف عن مدى تغَلغُل تعاليم «الجيتو» المكتوبة والموروثة والمُتغَلغِلة في أرواحهم.

يستطرد الراوي: «لمَّا جاء الولد علي يبكي الإهانة، قرَّر أن يُصفِّي الحساب كله …» ثم ينتقل إلى مستوًى آخر، إلى سرد البطل نفسه: «يكون الدرس في حجم التأثير المطلوب، يعرف اليهود أنهم يسكنون الحارة ولا يملكونها. من حقِّ الناس أن يمشوا في الشوارع والأزقة، دون خوف أذًى …» إن هذه الكلمات هي كلمات البطل نفسه، فهل حقًّا إهانة علي هي التي يمكنها أن تدفع البطل «بادي الصحة» إلى أن يجعل الدرس بحجم التأثير المطلوب، وحقًّا هي التي يمكنها أن تؤدِّي إلى تصفية الحساب كله؟ إذَن فمَن هو علي هذا؟ لقد أفلسوه فباع دكانه في المزاد، واحتمل مرارة المرور أمام دكانه السابق، وظلَّ يتمنَّى الموت بعد ضياع كل شيء، ومع ذلك لم يتخذ أيَّ خطوات انتقامية، أو حتى أيَّ ردِّ فعلٍ واحد يكشف عن رأيه فيما حدث، إلا أن إهانة الولد علي هي القشَّة التي قصَمَت ظهر البعير. وتبدأ أولى خطوات الوعي الحقيقي لدى البطل، أولى خطوات تحديد هُويَّته، حين يتساءل: «هل ضربوا علي الصغير في خناقة بين أطفال، أم إنهم كانوا يعرفون أن الولد ابنه؟» إن علي ببساطة شديدة ابن الشخصية الرئيسية /البطل الذي أفلس فباع دكانه لمَن دفع أكثر.

إذا نظرنا إلى الترتيب الوارد في القصة، بخصوص مصائب البطل، سنجدها مُرتَّبةً ومنظومةً تبعًا لجملة قرآنية واحدة: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. البطل لا يذكر ذلك، ولكن وعيه يعمل في هذا الاتجاه. الكاتب أيضًا يقف على أرضية تراثية دينية تتعامل مع مفردات قرآنية هي انعكاس حقيقي وواقعي للعلاقات الإنسانية على مرِّ التاريخ. الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لمجتمع ذي نسق ذهني مُعيَّن، مجتمع يسير بآليَّات خاصة مرتبطة بمدى وعي أفراده، على الرغم من أن هناك أشياءَ كثيرةً أخرى تُمثِّل أهميةً قُصوى في الحياة، ولكن وعي البطل متوقف عند هذا الحد، إنه وعي محدود يكشف عن نفسه من خلال عملية السرد، ويتكون أيضًا من خلال الأحداث؛ داخل القصة وخارجها أيضًا، في الحياة.

«… هل ضربوا علي الصغير في خناقة بين أطفال، أم إنهم كانوا يعرفون أن الولد ابنه. سأله عن الأولاد: هل هم أصحابه؟ وهل يعرفون مَن هو؟ وهل تحرَّش بهم، أم ضربوه بلا سبب؟» تساؤلات كثيرة تفصح عن مدى بساطة الشخصية (وكذلك عن عمق تفكيرها وتروِّيها)، ومسالمتها، وتكشف أيضًا عن عدم وجود أيِّ إصرار مسبق وعمدي في مواجهة حارة اليهود، فالأولاد جميعًا يمكن أن يكونوا أصحابًا، يلعبون معًا، ويتشاكلون أيضًا، بل ويمكن أن يتحرَّش بهم علي الصغير فيصير مُخطئًا وبالتالي يستحقُّ العقاب. إن جميع التساؤلات تُمهِّد لظهور شخصية هامة، رغم ورودها في حالة تنكير، وبشكل عابر تمامًا. وأهميتها تكمن هنا في أنها تعتبر مُسوِّغًا فنيًّا/دلاليًّا على تطوُّر وعي البطل. الأطفال عادةً ما يخلطون، أو تتشابك لديهم الأمور، وأحيانًا يكذبون بدون وعي لمعالجة بعض المآزق الطفولية التي يتصورون أنها غير هامة أو خطيرة. إذَن فمَن الذي يمكنه أن يُصدِّق، ولو حتى نظريًّا على كلام علي الصغير؟ إنه «موظف بدار سكِّ النقود، صرخ في الأولاد، فابتلعَتهم البيوت والحواري الجانبية …» لقد وجد الطفلُ نفسه وسطهم، «أحكموا حصاره في حارة خميس العدس، وانهالوا عليه بالضرب القاسي، المتواصل، بالأيدي والأقدام والعِصيِّ الصغيرة …» ورغم ذلك لم يُصدِّق الأب تمامًا إلا حين أكَّد الموظف، لمَّا سأله جعلص، كل ما قاله الولد علي. في تلك العبارات البسيطة المقتضبة تزول الحالة الضبابية من وعي البطل، تنحلُّ شفرة التساؤلات الشكوكية حين يؤكد موظف — مجرَّد شخص غير معروف — بدار سكِّ النقود على كلام الصغير، عندئذٍ، وعندئذٍ فقط، يظهر لقب البطل «جعلص». إنه فقط جعلص، وليس العسال كما سيأتي بعد ذلك؛ لأن هناك شروطًا عديدةً أخرى، ومهامًّا كثيرةً ضروريةً لهذه الشخصية كي تمتلك اسمها كاملًا؛ هويتها، وملامح وجودها الفعلي.

في أول حوار بالقصة تتكرر أسئلة محمد جعلص لمأمور القسم.

غالب الدهشة: «كيف؟»

ربما لم يعرفوا مَن أنت؟

لعلَّ الوَسَخ أُلقيَ عفوًا أو خطأً؟

إنه نفس مُنطلَق الأسئلة السابقة؛ هل ضربوا علي الصغير في خناقة بين أطفال، أم إنهم … وهل … جميع تلك الأسئلة لا تنطوي على نيَّة أو قصد الاستفهام بقدْر ما تحمل في طيَّاتها رغبةً عارمةً في إزالة الشكِّ وإبعاد الهالة الضبابية التي تُعمي وعي البطل، وهي الرغبة أيضًا في تأكيد الفعل الذي قام به الأولاد من ناحية، ومن ناحية أخرى تأكيد ما قام به الكبار حين ألقَوا الوَسَخ على مأمور القسم؛ ممثل القانون!

هنا تتجمَّع خيوط وعي البطل، وتتكشف له مجموعة من العلاقات التي كانت ملتبسةً عليه في السابق: «يتركوا الحي بلا رجعة …» يعرف اليهود أنهم يسكنون الحارة، ولا يملكونها. لقد كان جعلص يتصوَّر، أو يتوهَّم، أن اليهود بتَركِهم الحيَّ سوف يتخلصون من منظومة تفكيرهم «الجيتوية»، وكان يظنُّهم يعرفون أنهم يسكنون الحارة ولا يملكونها، لم يكُن يتصوَّر أنهم فعلًا يملكون الحارة! ومُقدَّراتها! وأرواح الغرباء القاطنين فيها من غير اليهود!

هناك أقليَّات كثيرة في كل مجتمعات العالم، وفي مصر، ولكن الأقليَّات (نطلق عليها هنا أقليَّات تماشيًا فقط مع المصطلح السائد، رغم عدم اتفاقنا إطلاقًا معه، وذلك إلى حين استحداث مصطلح آخر يتعامل مع هذه العملية بشكل إنساني من حيث عدم التفريق في الحقوق والواجبات … إلخ)، دينيةً كانت أو إثنيةً في مصر، وفي مصر بالذات، لم تكُن غريبةً أبدًا عن نسيج المجتمع المصري، بل مع مرور الزمن صارت تُشكِّل نسيجه العام، لأنها في الأصل جزء من هذا النسيج المتجانس ومن عصاب المجتمع ذاته. وهذه الجزئية الهامة تناولها إدوار الخراط عندما أكَّد، في ملاحظةٍ له على كتاب «شخصية مصر» لجمال حمدان، على عدم وجود أيَّة ثنائية في المجتمع المصري، وبالتالي لا توجَد أيُّ ثنائيات أخرى لا دينية ولا إثنية، ولا أيُّ شيء آخر سوى شعب واحد يتفاعل ويتطور بتجانس مذهل. ولكن اليهود بالذات، وانطلاقًا من مفاهيم التوراة والبروتوكولات التي وضعَت الأُسُس الأولى لمنظومة الأفكار «الجيتوية»، وفي كل أنحاء العالم، يتصوَّرون أن ما تمسُّه أيديهم هو مِلكٌ لهم، وكل ما يمكن الحصولُ عليه هو مِلكٌ لهم، وكل ما يمكنه أن يَرِد حتى في الأساطير والحكايات هو مِلكٌ لهم، وبالتالي فالبطل هنا يطلب التصرف: «هل تأذَن لي في التصرف؟» ولكنْ بأيِّ شكل يمكنه أن يتصرف؟! يتركون الحيَّ بلا رجعة؟ أم أن تُحَلَّ المشكلة على غرار ما يحدث في الحواري الشعبية؛ عراك، ومشاحنات، وتأديب، ثم عتاب وصلح؟ البطل يطلب من ممثِّل القانون أن يسمح له بالتصرف، وفي نفس الوقت لا يستطيع المأمور — ممثِّل القانون — أن يتصرف بنفسه، وحسب القانون: «أنا موظف رسمي، أحتاج إلى التدقيق والإثبات ومراعاة الحساسيات …» رغم هذه التصرفات والسلوكيات، هناك قانون يسري على الجميع، قانون يحافظ للجيتو على علاقاته مع الغرباء من حوله، ويحمي سكانه حتى إذا تعدَّوا على ممثِّلي القانون ذاتهم. إن هؤلاء البشر يتصرفون وهم على وعي تام بأن هناك قانونًا يحميهم. ولكنْ ما معنى «مراعاة الحساسيات»؟ أيُّ حساسيات؟ ومن جانب مَن؟ إن المأمور يقرن حاجته إلى التدقيق والإثبات بمراعاة الحساسيات. إذَن فممثِّل القانون قد واجه أحداثًا سابقةً ربما نتجَت عنها حساسيات، أو ولَّدَت حساسياتٍ من نوع مُعيَّن ولا بدَّ من مراعاتها، ولكنها — على ما يبدو — ليست من جانب الغرباء! الذين يعيشون في الحارة من غير اليهود.

عندما طلب البطلُ إذْن ممثِّل القانون في التصرف، لم يرفض الرجل: «أنا موظف رسمي … أحتاج إلى التدقيق والإثبات ومراعاة الحساسيات … أمَّا أنت …»

هنا نتوقَّف قليلًا؛ لأن هذه القصة نُشرَت لأول مرة في العدد (٤٣٨) من مجلة «العربي» لشهر مايو ١٩٩٥م، وتمَّ حذفُ جملة غاية في الأهمية والخطورة في نهاية حوار محمد جعلص وصبحي أفندي منصور مأمور القسم (ناهيك عن حذف فقرة أخرى كاملة بعد انتهاء الحوار). ففي حين ينتهي الحوار في مجلة «العربي» بجملة «… أحتاج إلى التدقيق والإثبات ومراعاة الحساسيات … أمَّا أنت …» نجده ينتهي — بدون حذف — في نفس القصة بمجموعة جبريل «انفراجة الباب» الصادرة عام ١٩٩٧م، عن الهيئة المصرية للكتاب، على النحو التالي:

«أنا موظف رسمي … أحتاج إلى التدقيق والإثبات ومراعاة الحساسيات … أمَّا أنت …»

وعَلَا صوتُه: «تصرَّف يا جعلص!»

وبالطبع فالجملة من فرط خطورتها وتأثيرها على توجُّه القصة بكاملها تشكل — بالدرجة الأولى — مستوًى فكريًّا هامًّا وانعطافةً كليةً لمجرى القصة. ولذا نُفضِّل هنا التعامل مع النصِّ المنشور في المجموعة القصصية، والتغاضي التامَّ عمَّا جاء في مجلة «العربي» لأنه يُعتبَر نصًّا آخر تمامًا، وإن كان ينتمي حتى إلى نفس الكاتب. وقبل أن نُنهي هذه النقطة الهامة نودُّ توجيه الانتباه إلى أنه عندما علَا صوتُ صبحي أفندى منصور؛ مأمور القسم: «تصرَّف يا جعلص!» ندرك مدى الانهيار الشديد أيضًا في موقف ممثِّل القانون. فهو من ناحية رجل قانون يتولَّى مهامًّا محدَّدةً بناءً على أدلة وإثباتات، ومن ناحية ثانية يتعرَّض للإهانة، ولا يُمكنه اتخاذُ موقف محدَّد تجاه ذلك، أمَّا الأخطر فهو جملته: «تكرَّرَت المصائبُ كثيرًا في الفترة الأخيرة.» إذَن القضية بالنسبة لمأمور القسم ليست شخصيةً أو مقصورةً على العلاقة بين محمد جعلص وحارة اليهود. إنها أكبر وأوسع من ذلك؛ في ظلِّ الاحتلال البريطاني لمصر، وفي العشرينات إحدى أهمِّ المحطات التاريخية التي تلَت مشاكلهم في فرنسا وألمانيا وروسيا، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ثم وعد بلفور (البريطاني) عام ۱۹۱۷م بوطن قومي لليهود في فلسطين وليس في أثيوبيا أو استراليا كما كانت الوعود في السابق. القضية هنا في حاجة إلى بعض الشهادات التاريخية التي يمكنها أن تُلقي الضوء تحديدًا على تلك الفترة وما قبلها، ومن ثَم يمكن إحالة القارئ إلى بعض المصادر التاريخية والسياسية، والأدبية أيضًا لمعرفة ذلك الوضع الاستثنائي الذي حصل عليه اليهود في كل بلدان العالم بما فيها البلدان العربية التي كانت كلها تقريبًا تحت الاحتلال الأوروبي والوصاية العثمانية، وبالتالي فلن نركز على هذا الأمر هنا.

بالعودة إلى موضوعنا الأساسي نجد أن الكاتب قد قام بتحديد خيوط السرد ليضيف أهمَّ الأبعاد إلى شخصية البطل. فمع وجود «الخواجة» الذي يُطلِق صفة «مجانص»، نجد اسم «محمد العسال» اسمًا عفويًّا بسيطًا، تتحول كلمة «مجانص» التي تنطوي على الضخامة والقسوة معًا إلى «جعلص»، اللقب الشعبي خفيف الظل، البعيد عن القسوة، بل والذي يشير على الأرجح إلى الليونة، لقد قام أبناء الحيِّ المتلفتون حولهما بالفصل في الموضوع، ليس «مجانص» أو «محمد مجانص»، وليس أيضًا «محمد العسال»، إنه ببساطة «محمد جعلص»، ليكتسب الاسمُ بذلك دلالةً شعبيةً عامةً وعزيزة، فهو مثل «بندق» و«زعلط» و«شنكل» و«بعجر» … إلخ، حيث تظهر هذه الكلمات من أربعة حروف لتُذكرنا جيدًا بالأفعال الرباعية التي يحلو للمصريين اختراعُها واختراعُ مُشتقَّات قياسية لها فيستخدمونها أحيانًا كأفعال، وأحيانًا كصفات وألقاب، وأحيانًا كأسماء.

مع التعيين الدقيق لاسم البطل وامتلاكه لهُويَّته الأولية البسيطة يتضح أنه قد «شارك في مظاهرات ۱۹۱۹م، وهاجم جنود الإنجليز في البارات، وفي الأماكن المظلمة …» أيْ إنه يحمل وعيًا ما عامًّا ربما لا يحمله سكان «الجيتو» الذين يعزلون أنفسهم بأنفسهم، ويتعالَون نتيجة الإحساس بالدُّونية؛ الأمر الذي يمكنه أن يدفعهم إلى التعاون مع الإنجليز وإيذاء الآخرين «الغرباء». ثم تأتي الأبعاد الإنسانية الأخرى (يبدو أن الكاتب يحبُّ بطله لدرجة إظهاره بكل صفات أبطال الحكايات): «استعانت به جارة، أخذ أعوان الفتوَّة كيس النقود من يدها. لم يخُض المعركة إلا بعد أن بصق الفتوَّة على رجاله»، «اختطف جعلص الشومة بسهولة من يد الفتوة»، «فطاح بشومته في الأعوان، تساقطوا جرحى أو فرُّوا. تعالت الزغاريد من النوافذ والمشربيات، ومن وراء الأبواب المُوارَبة»، وفي النهاية يعود الكاتب ليؤكد: «اتسعَت معاملاته عند الزبائن، وزادت الثقوب، فلم يستطع سدَّها.» إنه يُذكِّرنا عن طريق التكرار بما حدث للبطل، رغم أن القارئ ليس في حاجة إطلاقًا إلى ذلك التكرار. فقد سبق وأن ورد ذلك بشكل فني رفيع: «أفلسوه في يوم وليلة.»

مهَّدوا لذلك سنواتٍ بالقروض والشيكات المؤجَّلة والبضائع الأمانة … «أفلست … أعمل الآن في حمل الخزائن …» وسبق للكاتب أنْ مهَّد فنيًّا وسببيًّا للمعركة الآتية، التي اتضحَت أسبابُها تمامًا منذ حوار البطل مع صبحي أفندي منصور. ولكن تدخُّل الكاتب مباشرةً في مسار السرد يجعلنا نتوقَّف قليلًا لنتأمَّل ماهية هذا التدخُّل؛ هل أفسد عملية الحكي؟ هل أثَّر في سلاسة السرد، خاصةً وأنه نجح إلى حدٍّ كبير في جَعل الراوي يسرد بوعي الشخصية وليس عن وعيها، بلغتها وليس عن لغتها؟ ربما لم يكُن أمام الكاتب طريق آخر سوى التدخُّل المباشر، لأن الشخصية الرئيسية «محمد جعلص» (الذي لا يشرب البيرة الفرنسية، ولا أيَّة بيرة أخرى، وإنما يقوم فقط بالإعلان عنها) لا تحمل وعيًا سياسيًّا مُنظمًا، ولا حتى وعيًا اجتماعيًّا جماعيًّا واضحًا. وهذا ما جعل الكاتب يتدخل مباشرةً ليُنظم وعي الشخصية (سيتضح فيما بعدُ إن محمد جعلص انتصر على جبريل بهذا الخصوص). إن الوضع العام في تلك الفترة كان يُحتِّم على البطل أن يمتلك وعيًا ما ربما لا يعيه هو نفسه، ولكنه يتصرف بعفوية الشخصية الشعبية الفردية؛ شخصية ابن البلد في ظلِّ الاحتلال والتخلف والفَتوَنة والخبث.

ولكنْ كيف التفَّ البطل على تدخُّل الكاتب؟!

لقد قام الكاتب بتوريط أبطاله الواحد تلو الآخر. بدأ بممثِّل القانون: «أنا موظف رسمي … أمَّا أنت …» وصرخ: «تصرَّف يا جعلص»، ثم بالبطل: «بيني وبين حارة اليهود ثأر سأصفِّيه» ثم بعبد العظيم هريدي: «كل الحارة …» بل وحاول تنظيم وعي الشخصيات، ومع ذلك كانت هي واعية — على طريقتها — بما تقوله وتفعله، وبما ستفعله بعد قليل.

«زادت التصرفات المجرمة، فصار من الواجب تأديب الحارة كلها، هكذا يقول محمد جعلص نفسه. ولكنه بعد ذلك يُشدِّد على أصحابه ألَّا يحملوا سوى الشوم والنبابيت، حتى لا يتورَّط الرجال في جرائم.» الجريمة تُولِّد الجريمة، والعنف لا يُفصح إلا عن العنف في مجتمع يبقى القانون فيه عاجزًا حتى عن الدفاع عن نفسه. إن الإبطال، أو البطل الرئيسي، يعي هذا الأمر جيدًا، وبالتالي تظهر أعلى قمم هذه القصة لتكشف عن لُبِّ الصراع، وعن عالمَين متناقضَين. بجملة واحدة عابرة على لسان البطل أفصحَت القصة عن جوهرتها الأساسية، حركت الذاكرة وزلزلت كل المقولات والتنظيرات التي تتعامل مع هذه القضية الشائكة، كشفَت ليس فقط عن ذلك، وإنما عن الآليات التي تُحرِّك الصراع نفسه.

«ينتظرون في ميدان الحسين.»

ميدان الحسين هنا ليس ميدانًا، ولا ساحة، ولا مسجدًا. إنه لا يُمثِّل المكان بمعناه الإحداثي (الجغرافي أو الهندسي)، ولكنه هنا بالذات يُمثِّل أعلى قيمة روحية بعد الصليب من حيث الترتيب الزمني. الحسين هنا ليس سيِّد شباب أهل الجنة أو حبيب رسول الله فقط، كما يُلقِّنون الأطفال في المدارس والكتاتيب، ولكنه أهمُّ دلالة روحية في مواجهة الباطل، وهو يُجسِّد تلك الدلالة ويُحوِّلها إلى فعل في آنٍ واحد، إنه الدلالة الروحية ربما الثانية من حيث الترتيب الزمني، كما قلنا، بعد المسيح. إن الحسين هنا يكشف عن بشاعة التاريخ، مثلما كشف المسيح عن بشاعة «الجيتو» قبلها بأكثر من ستة قرون. اليهود لم يمسكوا بخنجر ويقتلوا المسيح صراحة، ولم يقُم يهوذا بعملية تفكير سريعة ومحسوبة لبيع معمله (ربما يكون هذا السبب وحده كفيلًا بتبرئة يهوذا من دم المسيح)، ولكن عملية الخيانة تتمُّ منذ زمن بعيد، منذ ما قبل ميلاد المسيح بآلاف السنين، إنها عملية جماعية منظمة ومبنية على منظومة تفكير كاملة تتلاقى فيها مصالح جميع أفراد «الجيتو» بمَن فيهم — طبعًا — يهوذا المسكين الذي دخل التاريخ ليس بإرادته، وإنما بإرادة القبيلة والعشيرة، بجبروت وطغيان الجشع والتملق والخيانة، فصار أشهر كبش فداء بعد كبش الجدِّ إبراهيم. إن يهوذا بريء فعليًّا من دم المسيح، لأن الفعلة أكبر بكثير من فرد في حجم يهوذا، فهي فَعلة جماعية منظمة يتمُّ الترتيبُ بحرص لها ولمثلها ولغيرها، وهذا أبشع ما في تلك الجريمة الأخلاقية البشعة. اليهود أيضًا لم يقتلوا الحسين، ولم يكُن يزيد ليجرؤ على فعل ذلك، ولكنها العقلية المنظمة تاريخيًّا، تلك العقلية التي تعمل بالطلب حين تلتقي مع مصالح العصابات الموجودة في السُّلطة. لن نتعرَّض للمؤامرات المُبكرة أثناء وجود الحضارات القديمة، بالذات في مصر وبلاد الرافدين، وإنما فقط سنبدأ من نقطة هامَّة بالموضوع مباشرة. أثناء صراع معاوية وعلي بن أبي طالب، أرسل الثاني محمد ابن أبي بكر واليًا على مصر، ولكن معاوية كان يُعِدُّ العُدَّة لإرسال عمرو بن العاص لضرب محمد بن أبي بكر. ولمَّا تمَّ النصرُ لجيش عمرو بمساندة بن خديج السكوتي ومسلمة بن مخلد الأنصاري، وانكسر جيش محمد بن أبي بكر، استتبَّ الأمرُ لمعاوية وصاحبه عمرو، آنئذٍ صمَّم بن خديج على العثور على محمد بن أبي بكر، وبالفعل عثر عليه في قرية «خربة» بمحافظة البحيرة حاليًّا. فمَن هو بن خديج السكوتي؟! إنه ابن اليهودية النساجة، وأحد أفراد الجيتو الذي تعاون مع معاوية وعمرو بن العاص، وهو نفسه الذي لعب الدَّور الأساسي، والرئيسي، في كسر جيش علي بقيادة محمد بن أبي بكر. فماذا فعل ابن اليهودية؟! لقد منع محمد من شرب الماء، ثم ضرب عنقه بالسيف، وبعد ذلك أدخل جسده في جوف حمار ميِّت وأحرقه. لقد تبادل معاوية وعمرو موقعهما مع العقلية الجيتوية، ولعب ابن النساجة دَور يهوذا وبيلاطس في آنٍ واحد. فما أبشع سخرية القدر! لقد اتُّهم الجيتو اليهودي بيلاطس بقتل المسيح، وإمعانًا في تأكيد الكذبة ضحَّوا بتلك الشخصية التافهة؛ يهوذا. ومن ناحيته أعلن بيلاطس وقتها أنه بريء من دم المسيح، ولكن ماذا يمكن أن نقول عندما نرى يهوذا وبيلاطس في عباءة بن خديج السكوتي! إذَن فمَن يا تُرى الذي ضرب جيش علي الذي كان يتكون من جند مصر بقيادة محمد بن أبي بكر؟ ومَن يا تُرى قتل محمد بهذه الطريقة الانتقامية البشعة؟ إن التاريخ سلسلة متشابكة يصعُب فصلُ إحدى حلقاتها عن الأخرى، فها هو الحسين بن علي الذي لم يقتله أو يخُنه أحد أفراد الجيتو، ولكن هل هناك ضمانة يمكنها أن تنفي عدم تعاون يزيد مع أذيال أبيه من أجل الحفاظ على سُلطة يعرف التاريخ جيدًا ما هو مصدرها؟ وإذا كانت هذه الضمانة موجودةً فهل يمكن نفيُ عدم تغلغل تلك المنظومة الفكرية الجيتوية في عملية الخلافة آنذاك، خاصةً وأن اليهود كانوا منتشرين فعليًّا في بلاط الخلفاء؟ إننا لا نودُّ هنا إدخال اليهود عَنوةً في موضوع الحسين، وإنما نودُّ الإشارة إلى آليَّات الصراع، إلى لُبِّه وجوهره، فهو ليس صراعًا بين جيشَين، ولا بين الخير والشر بمفهومهما الأخلاقي، إنه صراع بين منظومتَين للتفكير، بين مجموعة من القِيَم التي شكَّلَت وما زالت تشكل طريقة حياة مجتمعات بأكملها. إن «الجيتو» في شرِّه وطغيانه أقوى وأشدُّ من بيلاطس ومعاوية ويزيد ويهوذا نفسه. لقد أدرك بطل «حارة اليهود» ذلك بعفوية شديدة حين قال: «نريد التأديب لا القتل!» إنه بذلك يراجع تفكيره السابق حينما لم يكُن قد حدَّد بعدُ أسبابه ودوافعه، عندما لم يكُن اسمه وهُويَّته قد تحدَّدَا بعد، وهو بذلك قد استطاع أن يُثبت ما لم يتمكن التاريخ من إثباته، أو بالأحرى ما يضرب عليه التاريخ ستارًا من الكتمان والتآمر، حيث لم ينعم اليهود في تاريخهم بالرفق والطمأنينة سوى بين العرب، وهذا هو سرُّ انتصار البطل على الكاتب، فالأخير يُكسب بطله أبعادًا إنسانيةً وبطوليةً مثل المشاركة في مظاهرات ۱۹۱۹م، والهجوم على جنود الإنجليز، والدفاع عن النساء المُحتاجات، ومع ذلك نرى البطل يتصرف تبعًا لوعيه هو وليس بناءً على ما يمنحه له الكاتب من صفات. لقد وضع الكاتب الملامح الأولى لوعي البطل، ومنذ تلك اللحظة انفصل كلٌّ منهما عن الآخر؛ الكاتب مثل أيِّ كاتب يريد أن يحصن بطله بكل الدُّروع والصفات (خاصةً إذا كان يحبُّه)، والبطل الذي يتكون من لحم ودم يتحرك تبعًا لآلية فنية وفكرية أخرى تمامًا. فهو في البداية كان يريد إخراجهم من الحيِّ كله وبلا عودة، وعندما اكتشف الأمر، أدرك أن إخراجهم لن يحُلَّ المشكلة، لأن القضية ليست في الجيتو كمكان. عندما اكتملَت ملامحُه، اعتصم بميدان الحسين مكانًا في مواجهة حارة اليهود كمكان، واستند إلى واحدة من أعلى القِيَم الروحية في تاريخ البشرية، في مواجهة القِيَم الظلامية للجيتو، تمترس بنسق روحي/تاريخي في مواجهة نسق روحي /تاريخي يقوم على التعالي والاحتقار والتمايز التي تؤدِّي في مجملها إلى العزلة والإحساس بالدُّونية ومن ثَم الصدام مع الآخرين باعتبارهم غرباء في منزلةٍ أدنى.

في نهاية القصة يقول محمد جعلص العسال: «علقة … لن يعودوا بعدها إلى أذيَّة الناس.»

فيردُّ عبد العظيم هريدي، الذي لم يحمل مِطواةً ولا سكينًا، وهو يتأمل ضربة خنجر في ذراعه: «هل تظنُّ ذلك؟»

فحدجه محمد جعلص العسال بنظرة متسائلة، وضغط على شفتَيه بأسنانه، وسكت.

لقد سكت محمد جعلص في زمن أحداث القصة؛ في العشرينات، و«سكت» أيضًا في زمن كتابة القصة؛ في التسعينات (طبعًا لأنه كان قد مات). إذَن فربما كانت الإجابة موجودةً في سؤال عبد العظيم هريدي الأخير، أو في نظرة محمد جعلص «المتسائلة»، وربما فيهما معًا، ولكنها بكل تأكيد موجودة خارج القصة، في تصميم محمد جعلص على عدم الحياة بجسد ناقص، موجودة في أحداث كثيرة بدأت قبل أحداث القصة بزمن طويل، وما زالت فصولها تتوالى كل دقيقة حتى وقتنا هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤