المقاومة أو الطريق إلى الجنون
زينب العسال
ما دخل اليهودُ من حدودنا،
وإنما تسرَّبوا كالنمل من عيوبنا.
نزار قباني
«إن القضية الأساسية التي تشغلني منذ سنوات، هي مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي،
الحياة
والموت، الكينونة وانعدامها، الاستمرار والانقطاع … تلكم هي القضية التي تسبق — في اهتماماتي
— ما
عداها من قضايا، لأنها قضية المصير العربي في إطلاقه …»
١
وهذه القضية التي تحدَّث عنها محمد جبريل في أحد الحوارات التي أُجرِيَت معه، تبرُز
في العديد
من رواياته وقصصه القصيرة. ولعلَّ البداية في قصة «نبوءة عرَّاف مجنون» (مجموعة انعكاسات
الأيام
العصيبة) فراوي القصة يتتبع رجلًا عرفه منذ كان طفلًا يجوب الشوارع. فالرجل له مشية مميزة،
وأسلوب
متميز في ارتداء ملابسه. حرصه الشديد على ارتداء البدلة، حتى في عزِّ الصيف. تعدَّدَت
اللقاءات
العفوية بين الراوي والرجل، وفي كل مرة، كانت أحوال الرجل تتغير «التقيت به في أماكن
كثيرة.
السحنة المألوفة والمشية المميزة والتصرفات التي تثير الانتباه. غابت الصورة في إطار
المألوف، فلم
يعد يشدُّني.»
٢ تزداد حالة الرجل سوءًا، فتبدو تصرُّفاتُه غريبة. اختار السَّير على الأرصفة، يُرخي
يدَيه ويرفعهما كأنه يرحِّب بصديق لا يراه. ثم نشعر بتوحُّد الراوي مع بطل القصة: «شغلني
التفكير
في حياته وأنا في البيت، وأنا في المدرسة، وأنا في الطريق. كنتُ أبحث عنه أحيانًا في
شوارع وسط
البلد، فلا أستريح حتى ألتقي به.» تبدَّلَت الحالة. تتردَّد على لسانه كلمة واحدة، «النصر»،
تزامنَت المرحلة التي مرَّ بها مع التطورات والأحداث التي مرَّت بها مصر؛ قيام الثورة،
إعلان
الجمهورية. وتدهوَرَت الحالة بعد مرور ثمانية عشر عامًا. حاول الرجل جاهدًا — دون جدوى
— أن يلفت
نظرنا للخطر القادم، أن ينتزعنا من اللحظة الآنية لاستشراف المستقبل، في نهاية القصة
تدلَّت
قدماه، من الترام، وتطاير الزبد من شِدقَيه، وتلاحقَت الصيحاتُ والكلماتُ التي لم يتضح
منها إلا
الكلمة القديمة؛ النصر! هل هذا هو واقعنا حقيقة؟ وشمل التغيير الراوي أيضًا، فقد مات
والده، وباع
أخوه الأكبر البيت، والدلالة واضحة على واقع سياسي عاشته مصر بعد سنوات من قيام الثورة.
لا يكتفي
الفنان بالتلميح، بل إنه يُصرِّح: «وطرأ على الصورة تغيُّر واضح.» فالتحولات السياسية
التي
شهدَتها مصر منذ أوائل السبعينات، كانت تشي بالخطر القادم الذي لم نلتفت إليه أيامها
(يشير تاريخ
كتابه القصة إلى ١٩٧٧م، أيْ إنها كُتِبَت قبل بداية مباحثات السلام واتفاقية كامب ديفيد)،
وإذا
كان الناس قد أهملوا بطل «نبوءة عرَّاف مجنون»
٣، واعتبروه فاقد العقل، فإن محمد جبريل رفض اليأس، وما كان إرهاصًا، أصبح كائنًا
مجسَّدًا، وواقعًا يعلن نفسه. يقول الفنان: «رأيي الذي أُلحُّ عليه أن أدب المقاومة ليس
وقفًا على
التحريض ضدَّ الاستعمار الذي احتلَّ أرضي بالحرب، لكنه يتجاوز ذلك إلى المستعمر الذي
يسعى إلى
احتلال أرضي وتشويه حضارتي وقِيَمي وموروثاتي وملامح شخصيتي، بواسطة أدوات قد يكون من
بينها
معاهدة سلام …»
٤ ففي قصة العودة
٥ تتلازم الغربة الداخلية والخارجية مع الخطر القادم المُتمثِّل في الطائرة المُتجهة
إلى إسرائيل، فاغتراب الإنسان خارج الوطن تسلَّل إلى داخل الوطن. فقدَ بطلُ القصة الأمان،
وفقدَ
التواصل مع الآخرين. اللغة الغريبة تطارده، وتعلن عن نفسها، سواء في الغربة خارج الوطن،
أو داخله
«كالهمس، أو انعكاسات الأصوات في الأودية وقيعان الآبار، تناهت الكلماتُ إلى أذنَيه.
هزَّ رأسه
غير مُصدِّق، ثم عاود التأكد. كان يقينه أن ما حدث في مسقط قد انتهى بإقلاع الطائرة،
لغة ليست
العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية، تتكشف لنا ماهية هذه اللغة عندما يصادف بطلُ القصة
مجموعةً من
السائحين الإسرائيليين. بَدَوا سعداء يتضاحكون، وإن علَت في أحاديثهم تلك المفردات التي
عجز عن
فهمها، لكن البطل لا يجد حضن أمِّه ملاذًا لمعاناته وتمزُّقه. وإذا كان انتشار الكلمات
واللهجة
الغريبة على الألسنة سببًا في عدم تواصل بطل القصة مع أهله؛ فهذه اللغة بعينها تتخذ مسارًا
آخر،
ورمزًا مُغايرًا، في قصة «تكوينات رمادية».
٦ فاللغة هنا هي أحد الأسرار التي يمتلكها بطل القصة، ومنها يستمدُّ قوته في مجابهة
العدو الذي يتمثل في الخواجة ليفي. أحداث القصة قبل ١٩٤٨م، أيْ قبل قيام دولة إسرائيل
(سافر
الخواجة ليفي — فيما بعدُ — إلى إسرائيل، ضمن الأفواج الأولى لليهود المصريين)، وهذه
العبارة
بعينها هي مفتاح قصتنا، والسلاح الذي يملكه الأب في مواجهة المؤامرة هو الوعي المتمثل
في مثابرته
على مراجعة القواميس الإنجليزية والفرنسية، وتدوين الجُمَل والملاحظات، فنسيان اللغة/الوعي
تهديدٌ
بنسيان ما يعرفه من أسرار.»
٧ وما يعانيه الأب من هواجس ومخاوف وقلق، ردُّ فعل يتسم بالتجاهل وعدم التصديق.
«لقد قرَّروا قتلي!» لقي الأب حتفه لأنه قاطعهم بعد أن عرف أسرارهم ونيَّاتهم، لكنْ
كانت
مقاطعته فرديةً وعاجزة، ولم تلفت الأنظار للخطر المُحدق بالجميع، وخاصةً الجيل التالي
الذي يتمثل
في الأبناء. إن لغتهم هنا هي أطماعهم وتوسُّعاتهم التي أعلن عنها العديدُ من قادتهم في
مناسبات
مختلفة، يقول بن جوريون: «ليست المسألة مسألة احتفاظ بالوضع الراهن، فعلينا أن نُقيم
دولةً غير
مُتجمِّدة، دولة ديناميكية، تتجه إلى التوسع.»
٨ ويضيف رئيس دولة إسرائيل الأسبق: «إننا نأمل بأن يؤدِّي السلام إلى زيادة الهجرة من
الشتات، وإلى استثمارات متزايدة في الصناعة من الداخل والخارج، وإلى فتح أسواق كانت مغلقةً
أمامنا، والرغبة في تحقيق أهداف الصهيونية السامية بإقامة دولة نموذجية تندمج في دولة
المنطقة.»
٩ إن السمان في قصة «حدث استثنائي في أيام الأنفوشي»
١٠ هو المقابل الرمزي الذي استخدمه المبدع بذكاء شديد. الطيور المهاجرة التي لا تلبث أن
تغزوَ المكان، بالتحديد الأنفوشي؛ استقرَّت السمانة — أول الأمر — فوق الصاري المرتفع
الخالي من
العَلَم، فالعَلَم رمز الوطنية والانتماء والوجود، وباختفائه حطَّت أسراب السمان، وقرَّرَت
الاستقرار في حي الأنفوشي. برع جبريل في تصوير هذا الاستقرار، وكشف نيَّات الاستيطان.
وفي اليوم
التالي قَدِمَت — في الطريق نفسه — ملايين الأسراب من السمان، غطَّت الشاطئ والشوارع
والأزقة
وأسطح البيوت، حتى الكبائن القليلة المغلقة في امتداد الشاطئ استطاعت — بواسطةٍ ما —
أن تنفُذ
بداخلها. إنه غزو مدروس، يعرف أهدافه فلا شيء يُثنيه عن تحقيقها. تحاشى أن يضايق الناس،
واتخذ
حجرةً في نقطة الأنفوشي (لاحظ الدلالة) يُدبِّر منها أحواله. مع ذلك فقد أفاد الناس من
حياته
بصورة مؤكدة. النظام والهدوء في العمل والكسب والمَيل إلى عدم السهر، لكن كل هذا لم يمنع
القلق أن
يتسرب إلى النفوس. انزوَت العفوية التي كانت سمة الأيام السابقة، وطرحَت الحقيقةُ نفسها
«إن
السكوت عن فعل المقاومة — رغم كل شيء — طريقٌ إلى الجنون.»
١١ وكما استقرَّ السمان فجأةً في الشوارع والأزقة وأسطح البيوت، فقد فوجئ الناسُ في قصة
«الطوفان» بمخلوق أسطوري، أضخم ممَّا رواه الجدُّ السخاوي في حكاياته. جثم — هو الآخر
— في وداعة،
وخلَت ملامحُه من الحياة، إلا من عينَين تتحركان تحت أهداب مسترخية، أميَل إلى التهيؤ
للنعاس.
البناء في هذه القصة يشابه البناء في «حدث استثنائي»، وإن جاء الحدث في الطوفان أكثر
امتدادًا،
حيث تنتهي القصةُ الأولى بالتفكير في المقاومة، بينما في «الطوفان» تحدث المقاومة، وتتعدَّد
صورُها؛ قذف الحيوان الهائل بحجر، إعطاؤه مخدِّرًا، تصدِّي القوات المسلحة له وقذفه بالصواريخ
…
لكن المخلوق الغريب يظلُّ في مكانه، ويتكفل الزمن بكسر حاجز الخوف، فاقترب الناس منه،
ومارسوا
حياتهم في مختلف صورها، وهنا أعلن الكائن عن وجوده، فنفض الماء حوله، وأغرق كل شيء. المقاومة
هنا
أخذت طابعًا إيجابيًّا أول الامر، فمنذ اللحظة الأولى لوجود هذا المخلوق كان اهتمام الناس
ومناقشاتهم وتساؤلاتهم، ثم تعدُّد محاولات القضاء عليه … لكن الخطأ كَمَنَ في عدم استمرار
المقاومة، واستئناس هذا المخلوق الغريب.
أمَّا قصة «المستحيل»
١٢ فإنها تطرح السؤال: هل العزلة تقي الإنسان من الخطر؟ محمد جبريل يعيد طرح مقولته،
وإنْ ألبسها ثوبًا جديدًا: هل يمكن للعزلة والسلبية، عمومًا، أن تقي الإنسان الخطر. إن
العزلة
التي فرضها البطل على نفسه، ظنًّا أنه استراح من مواجهة المجهول الذي تحدَّد هنا في صورة
«جماعات
وافدة» (لاحظ وضوح الرمز)، ومشاجراتهم الدائبة مع الجيران … هذه السلبية جاءت بعد محاولات
البطل
التصدِّي للخطر المتمثل في الجماعات الوافدة، لكن سلبية الآخرين دفعَته إلى اليأس، فانكفأ
على
ذاته ظنًّا منه أنه حمى نفسه من هذا الخطر. أزمع أن يغلق النافذة، خفتَت الأصواتُ في
اللحظة
التالية لإغلاق النافذة، بما أشعره أنه قد انعزل أخيرًا عن الدنيا الصاخبة حوله، ولكن
«إيثار
السلامة بالصمت والانعزال لن يقود إلا إلى الهلاك، فالخوف لا يُنجي أحدًا، والسلبية لا
تُبعد
الفرد عن مصير الجماعة. إن المشاركة هي الحل، والاندماج مع الناس هو السبيل الوحيد المتاح.»
١٣
في قصة «هل» تتبدَّى المقاومة في أجلِّ صورها ومعانيها. إن المقاومة هي السبيل الوحيد
الذي لا
بدَّ أن نستمسك به للدفاع عن كياننا ووجودنا، ربما نفقد كل شيء حتى حياتنا، لكنْ لا بدَّ
من
النضال ومقاومة أيِّ اعتداء يقع على أجسادنا. المقاومة هنا لرجل ميت، كل همِّه أن يدافع
عن كفنه،
آخر ما تبقى له في هذه الدنيا «غاب التربي وإن بَدَت أنفاسُه قريبة. لو أني تحركتُ بصورةٍ
ما، فلن
يجازف بالاقتراب. إصبعي أو عيني أو فمي، حركة خاطفة يلمحها فلا يقوى على فعل شيء.» هل
كان بطل
«هل» آخر مَن حاول مقاومة المجهول، حتى بعد الموت؟
القصة عند محمد جبريل ليست فكرة، وإنما تجربة مُكثَّفة، فهو يعتني بالعملية الجمالية
في توصيل
فكرته، وفي تكوين البنية القصصية، فالعبارة عنده مُكثَّفة مُوحِية، والرمز ليس غائمًا
وإنما هو
رمز مُشِفٌّ يريد أن يخلص من الزعيق والتقريرية. إنه يعالج أخطر القضايا السياسية،
١٤ خاصةً الغزو الفكري والثقافي الذي يتغلغل ويتسلَّل في نعومة وهدوء عبر المسارات
الحياتية اليومية. لقد أصاب جبريل حينما صوَّر لنا هذا الغزو من خلال الرمز الذي اتخذ
أشكالًا
عِدَّة، سواء أكانت أشباحًا، أو أسراب السمان، أو اللهجة والكلمات الغريبة، أو المخلوق
الأسطوري،
أو لصوص الموتى … لكنه أمام هذا الغزو يُنبِّه إلى وجود صور مُتعدِّدة من المقاومة، رغم
أنها
مقاومة سلبية أخفقَت كثيرًا في درء الخطر وكسره، إلا أن ذلك يظلُّ «تكوينات رمادية» يشفُّ
لونها،
وينصع في يومٍ آتٍ ليس ببعيد، أو هي حدث استثنائي في حياتنا. هذا ما تمنَّاه بطل «حكايات
وهوامش
من حياة المبتلى»،
١٥ صابر عبد السلام، واختيار الاسم له مغزًى ودلالة، فصابر، عكس بطل «العودة» يرفض
الرحيل عن أرضه، فهو الذي شيَّد بيته بيده، فلماذا يغادر وطنه وهو يتمتع بالسعادة مع
ابنة عمِّه
وزوجته سلسبيل. في هذه القصة نجد أصداءً للأسطورة الشعبية «أيوب وناعسة»، المرض الذي
يعانيه صابر
هو ما عاناه أيوب، وحيرة ناعسة، ورحلة بحثها عن العلاج الناجع لأيوب نجدها — بصورة أخرى
— في
القصة، فهي تغترب وتذهب لقُرًى ومُدُنٍ بعيدة، باحثةً عن الدواء الذي يعيد لصابر الحياة
وينقذه من
الموت. ومن خلال استخدام الهوامش نتعرف إلى حياة صابر قبل أن يهدَّه المرض؛ رجل كريم،
يغيث
الملهوف، يشارك في الأفراح والمآتم، يساعد الغلابة والضعفاء، يفيض بالمحبة تجاه الآخرين،
يحرص على
أداء الفروض في أوقاتها. أمنيته التي طالما حدَّث بها زوجه وأصدقاءه، هي السفر إلى بلاد
الحجاز من
الطريق نفسها التي سافر فيها أبوه، عندما انتوى أداء فريضة الحج. هذه الأمنية التي باح
بها أمام
الطبيب الذي عجز عن تحديد مرضه، إلا أنه نصح سلسبيل بتلبية أمنيته.
والسؤال: مَن الذي منع صابر من أداء فريضة الحج؟ إنهم الأشرار الذين تجاوزا ترويع
الآمنين،
وقطع الطرق، ومنع القوافل، إلى الدسِّ بالسمِّ والربط وغيرها من أفعال السحر والتنجيم
… في هذه
القصة يُحذِّر الفنان من تفاقم خطر وجود الأشرار أو الجماعات الوافدة، فقد تخطَّى شرُّهم
الأمور
الدنيوية، وهدَّدُوا الناس في دينهم … ألا يُذكرنا ذلك بما حدث للمُصلِّين في المسجد
الإبراهيمي؟
وتنتهي القصة بكثير من علامات الاستفهام: هل؟ كيف؟ متى؟
١٦ ويلجأ محمد جبريل إلى استخدام الهوامش في نهاية القصة. بالإضافة والشرح والتعليق،
فالهوامش متسقة مع سياق العمل، وتكملة للشكل الذي ارتآه المبدع.
يقول بن جوريون: «ليست المسألة مسألة احتفاظ بالوضع الراهن، فعلينا أن نقيم دولةً
غير متجمدة،
دولة ديناميكية تتجه إلى التوسع.»
١٧
في قصة «فلمَّا صحَونا»
١٨ يحتلُّ الضيفُ في أول الأمر مكانًا بين أَسِرَّة الإخوة، إلا أنه لا يقنع بذلك،
فينتقل إلى الكنبة المقابلة لباب الخروج، اختار مكانًا يتحكم منه، إنه يبهرهم بأفاعيله
كأنها
السحر وألاعيب الحُواة. حاولوا تقليده فأخفقوا. تدخَّل في شئونهم، سأل وناقش ومنع صغيرهم
من
اللعب، أصبح عبئًا عليهم «غابت في تصرفاته نيَّة الرحيل، ففرض السؤال نفسه: متى يغادر
البيت؟» لم
يترك لهم فرصة أن يُظهروا ضِيقَهم وتبرُّمَهم من تصرفاته، «باغتهم بريقُ النصل الحاد
… شل
تفكيرنا، فعجزنا عن التصرف.» المقاومة في هذه القصة تبين عن نفسها في صفق الباب بشدة.
عرف الرجل
الغريب كيف يتعامل مع الإخوة مجتمعين.
انفرد بهم واحدًا تِلوَ الآخر، استغلَّ انشغالهم وعدم اتفاقهم على شيء. بدَا الأمرُ
سهلًا، أو
هكذا ظنَّ، لكن الجسد ما زال حيًّا، وقادرًا على الاحتجاج والرفض.
أمَّا في قصة «أحمس يُلقي السلاح»
١٩ فإن الفنان يستشرف المستقبل، بعد ما فترَت المقاومة وحلَّت السلبية، فكانت المرحلة
التالية هي التعاون مع الكيان الصهيوني، ونتيجة هذا التعاون، كما تُصوِّره القصة، هي
انضمام
الراوي إلى طابور الموتى الذين قابلهم في طريق عودته من توديع أخيه المهاجر، مثلما فعل
باقي
إخوته؛ الضابط، قائد السيارة، حارس المبنى ووالده. لقد رفض سماع تحذيرات الأم من التعامل
مع هؤلاء
الناس الذين تعامل معهم والده، «عاد في يومه الأخير مهمومًا، فأثار قلقها. قَدِم في رحلته
الأخيرة
من العريش. سألت عن ضخامة الهدايا، فحدَّثها عن صفقة العمر. احتواه الصمت بعدها، ولزم
السرير، فلم
يغادره.» ها هو البطل يتجه إليهم، يُقدِّم خدماته كما فعل أبوه «دلوني على الطريق التي
سار فيها،
فلا أخطئ معالمها.» إن الصرخة التي أطلقها البطل، عندما رأى وجهه، تعلن عن مدى الخطر
الذي يحدق
بنا جميعًا.
في قصة «حارة اليهود»
٢٠ يُصوِّر لنا الكاتب مرحلةً من مراحل الصراع العربي الإسرائيلي ترجع بنا إلى زمن
العشرينيات من هذا القرن. أمَّا المكان فهو حارة اليهود — عنوان القصة — ينتقم محمد جعلص
من
اليهود ساكني الحارة، بعد أن تعرَّضوا لابنه الأكبر «علي». الصراع له جذوره في هذه الواقعة،
فهم
سبب إفلاس تجارته.
قال محمد جعلص: «بيني وبين سكان حارة اليهود ثأرٌ سأصفِّيه.»
قال هريدي: «كل الحارة …»
وهو يضرب الهواء بجانب يده: «زادت التصرفات المُجرمة، فصار من الواجب تأديبُ الحارة
كلها.»
قال هريدي: «بمفردك يا جعلص؟»
قال جعلص: «طبعًا لا … استقدمتُ مجموعةً من بلدياتي في الصعيد، فطَّنتُهم على المسألة
وما يجب
عمله.»
البطل هنا شخصية إيجابية، لا تعرف الخنوع أو السلبية، محبوب من أهله، يتمتع بالقوة
البدنية،
لديه وعي سياسي، فقد شارك في مظاهرات ثورة ١٩١٩م، وهو على دراية كبيرة بطبيعة عدُوِّه،
فقد حشد له
الأعوان من بلدياته، «سدَّ الرجالُ كل المنافذ المُفضية إلى حارة اليهود، في الحسين وبيت
القاضي
والموسكي، تأكدوا من الأبواب الخلفية للبيوت والدكاكين والمخازن، فلا يفلت أحد.» هل كان
الاطمئنانُ إلى قوة الرجل ورجاله دافعًا لمواجهة سكان الحارة؟ القوة وحدها لم تكُن كافيةً
لمواجهة
سكان الحارة، فثمة الإيمان العميق، فهو ورجاله يجتمعون في ساحة الحسين، وعندما تنتهي
المعركة يتجه
إلى ميدان الحسين، حيث الابتهالات والدعوات والتسابيح والأذان …
يعمد محمد جبريل في نهاية قصته إلى حاشية، هي مُكمِّل للقصة، بل قد لا أكون مُبالِغةً
إن قلتُ
إنها تحمل ما أراد جبريل قوله، فبطل القصة شخصية حقيقية، مات في أواخر العشرينيات، دخل
في قدمه
مسمار وهو يسير حافيًا، داخل بيته، أشار الطبيب الشهير علي باشا إبراهيم بضرورة بتر الساق،
حتى لا
تلتهم الغرغرينا الجسد كله. رفض محمد جعلص أن يحيَا بجسد ناقص، رفض أن يتخلى عن جزء من
جسده في
سبيل أن يحيَا باقي الجسد. رفض التضحية بجزء من جسده، فلا معنى للحياة لو تنازل الوطن
عن جزء منه،
فهل ألقى أحمس السلاح حقًّا؟!
وفي رواية «من أوراق أبي الطيب المتنبي»
٢١ يستلهم الفنان شكل التحقيق، ويُقدِّم شخصيةً تراثيةً طالما أُثيرَ حولها جدلٌ كثير؛
المتنبي الشاعر الطموح، ذا التوجهات السياسية التي لا يمكن إغفالُها. من هنا نجد جبريل
يقتنص
الفرصة ليُقدِّم سيرةً ذاتيةً لحياة الشاعر — من وجهة نظر الفنان — وقت إقامته في مصر
المحروسة.
وإذا كانت الرواية تسجل وقائع في زمن كافور الإخشيدي، إلا أن هناك وشائج وعلاقات ممتدة
بين زمن
الرواية المُفترَض، وبين الزمن الحالي، الواقع المعاصر، فهناك أحداث بعينها يؤكد الروائي
في
هوامشه أن الثابت تاريخيًّا أن هذه الأحداث لم تقع في زمن الإخشيدي. ولعلَّ أهمَّ هذه
الوقائع،
حديثه عن الجماعات الوافدة، فهي «تشنُّ هجماتٍ على حدود مصر، وتسبي النساء والأطفال،
وتُروِّع
الآمنين، وتُدمِّر المحاصيل، وترتكب جرائم السلب والنهب والإيذاء، وتُوسع من دوائر نفوذها.»
تُذكِّرنا الجماعات الوافدة هنا بالسمان في قصة «حدث استثنائي في أيام الأنفوشي» هذه
الجماعات
أصبحَت تُهدِّد رموز السُّلطة والحكم؛ الإخشيدي ورجاله. دخلَت أحاديث الحرب — للمرة الأولى
— مجلس
الأستاذ، وجاءت الأخبار بأن الجماعات تحرَّكَت ووصلَت إلى ما بعد العريش، تقطع على المسافرين
الطريق، تأخذ أموال الناس، وتشنُّ الغارات المفاجئة على مناطق الحدود (ثمة إسقاط على
نكسة يونيو
١٩٦٧م)، ثم تُسجل فرحة الناس، حين ينتصر جيش مصر على الجماعات الوافدة — رغم كثرة الأحداث
والمواقف التي يصادفها المتنبي — يتطابق تمامًا مع ما حدث في زماننا الحالي، إرهاصات
السلام
المزعوم تبدأ بالهمس، ويبادر حسن السيابي — أحد أعوان كافور — بالحديث عنه، ولأن كل شيء
قابل
للتفاوض، كما قال حسن السيابي، فإنه يسافر إلى مناطق الحدود، وإلى بلاد بعيدة وقريبة
لإجراء
مباحثات مع الجماعات الوافدة.
لكنْ أين الشعب من هذه الأحداث؟ لا نترك الرواية إلا ونحن أمام ثورة المصريين العارمة،
التي
دفعَت المخصي إلى مراجعة نصائح معاونيه في السلام مع الجماعات الوافدة، يقلب ويعيد ترتيب
الأمور،
يناقش مع أصوات معارضة، بدايات المشكلة، يتلمَّس جذورها، يتشوَّف توقُّعات المستقبل،
فمَن يضمن
ألَّا تنقضَّ الجماعاتُ الوافدةُ ما وعدَت به، فتعاود إغاراتها، تُروِّع الآمنين، وتسلب
الأرض
والدُّور والأموال … لا يمكن الاستسلام للوعود البرَّاقة، والشعارات الرنانة التي طمسَت
معها
الحقيقة، فبدَت شاحبة، لكن الشعب لا ينخدع بكل ما يدور حوله. قد يبدو أن الأمر لا يعنيه
في قليل
أو كثير، إلا أن ثورة الشعب أكَّدَت الرفض القاطع للمحاولات التي فرضَت عليه السلام.
والشعب هنا
يتمثل في العديد من الشخصيات، وأهمُّها عبد الرحمن السكندري.
إن رواية «من أوراق أبي الطيب المتنبي» قد شغلَتنا بمصر أكثر ممَّا شغلَتنا بالمتنبي
نفسه،
لأنها حملَت عذابات مصر وأحزانها في الماضي والحاضر على السواء، بل جاوزَت ذلك لتحاول
التنبؤ
بالمستقبل.
وفي رواية «النظر إلى أسفل» (۱۹۹۲م)، تختلط الأوراق بين العام والخاص، فحياة بطلها،
شاكر
المغربي، ما هي إلا ردُّ فعل لما يدور حوله من أحداث. البطل المأزوم نفسيًّا يُمثِّل
بانوراما
صادقةً للبُعد السياسي والاجتماعي لتلك الفترة الحافلة بالأحداث، إننا نلهث وراء تتابع
الأحداث،
والرواية تبدو قطعةً حيَّةً من تاريخنا الحديث. «ثمة إشارات إلى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م،
وطرد
الملك فاروق، وتنصيب محمد نجيب رئيسًا، وارتفاع نجم عبد الناصر، وخلافه الشهير مع نجيب،
وقيام
المظاهرات المُنادية بعودة نجيب، فالعدوان الثلاثي، ثم وحدة مصر وسوريا، فالانقلاب السوري
وإنهاء
«الوحدة»، ثم حرب اليمن، ونكسة يونيو، وتنحِّي جمال عبد الناصر، وحرب الاستنزاف، فموت
عبد الناصر،
فتولي السادات الحكم، وحرب أكتوبر، والانفتاح الاقتصادي، وزيارة السادات للقدس، فاعتقالات
سبتمبر،
ثم اغتيال السادات.»
٢٢
وإذا كانت الرواية تحرص كل الحرص على تسجيل أحداث التاريخ السياسي لمصر، خلال الأعوام
منذ
ثورة يوليو إلى مصرع السادات، فإنها لا تغفل حركة المجتمع ووعيه بتلك الأحداث السياسية
من خلال
عدد من الشخصيات، تتباين اتجاهاتُهم وأهواؤهم السياسية، فالنقراشي شخصية لا منتمية، وعماد
عبد
الحميد، الناصري، له ميول وطنية، وخليل عبد الباقي يُمثِّل التيار الديني في اعتداله،
وتطرُّفه
أيضًا، وبخيت البشري وفدي قديم، ومنصور السخيلي واحد من الضباط الذين أُحيلوا للاستيداع
عقب نكسة
١٩٦٧م، وشاكر المغربي، بطل الرواية، الذي يتعرَّف على سرِّ لعبة التجارة وخفاياها، وفي
مدة وجيزة،
أمسك بطلنا بمفاتيح اللعبة، وبدأ صعوده إلى أعلى في طريق الثراء، مستغلًّا كل ثغرات النظام
السياسي.
٢٣ وبرغم وطأة الأحداث وكثرتها، وتعدُّد مواقف مجموعة أبطال الرواية تجاهها، فإن الرواية
لا تغفل إسرائيل كقضية تؤرِّق جِيلًا كاملًا كان عليه أن يتعامل مع واقع فرَضَته قُوًى
عُظمى.
وطالما حاول جاهدًا الانفلاتَ من قبضتها، فكان مصيره الوقوع في براثن الهزيمة التي اعتصرَت
القلوب، شلَّت العقول لفترة، تأتي على لسان عبد الباقي خليل هذه العبارة التي تكشف عن
مدى القلق
من نكسة يونيو: «كسبَت إسرائيل بالوصول إلى ضفة القناة أمانًا أبديًّا. المستحيل الآن
هو التفكير
في العبور إلى حيث كنَّا.»
وها هو بطل الرواية يسارع إلى تبادُل السلع مع إسرائيل. ويأتي التساؤل على لسان عبد
الباقي:
«هل سُدَّت كل الأبواب فلا يوجَد إلا باب إسرائيل؟» فصادرات إسرائيل تغمر الأسواق، ورحلات
العال
منتظمة بين القاهرة وتل أبيب، والسفن الإسرائيلية تعبر قناة السويس، وكان حال بطل الرواية
شاكر
المغربي بما يمارسه من أنشطة اقتصادية وتعاون مع الإسرائيليين، ما هو إلا النظر إلى أسفل،
حيث لا
يرى المرء غير موقع قدمَيه. وتغيب الأبعاد والمسافات، وتصطدم الأقدام بأرض الواقع المرير
الذي
طالما نبَّه وحذَّر منه، رامزًا تارةً وهامسًا تارةً أخرى، ومُصرِّحًا أحيانًا.
إننا أمام أديب يرفض الاستسلام، ولو كان في صورة سلام، بل لأنه في صورة سلام. وكما
قال الفنان
في أحد حواراته الصحفية: «إن السلام الزائف أخطر من الحرب.»
مجلة «القاهرة»، مارس ١٩٩٤م