المستحيل

حين تناهى الصوت، للمرة الأولى، عبر النافذة المغلقة، بدَا له غير مألوف، يختلف عن تلك الأصوات الزاعقة التي اقتحمَت لسنواتٍ حياته. فلمَّا أغلق النافذة، تغلَّفَت بالهمس، وتطوَّحَت إلى بعيد، كأنه تحطُّم أشياء، أو صرخاتٌ مكتومة، أو استغاثةٌ مُبهَمة الكلمات …

جلس، وأرهف سمعه. مضَت أعوامٌ على إغلاق النافذة، فذوَت صورة الحياة في الخارج، بهتَت ملامح الحركة الغائبة. أشفق على التطلع من الخصاص، ترك للخيال الاستعادة وامتدادات التصور. مواكب الأفراح والموالد والطرق الصوفية، مقهى «الاتحاد» بمناقشاته ونداءاته وسهره إلى نهاية الليل، حلاق الجمال ذو الباب الضيق، تحجُب داخله ستارةٌ من حلقات الخشب الملون، الفرجة المتسلية على صيد الجرافة، رذاذ الموج على كورنيش الميناء الشرقية، باعة السمك في مدخل السيالة، الجماعات الوافدة، قدِمَت من أماكن مجهولة، فاستوطنَت الحديقة المجاورة لمستشفى الملكة نازلي، عربات الخسِّ والترمس والباعة السريحة وترام رقم ٤ والملاءات اللف والفساتين والبيجامات والجلابيب والأحذية والشباشب الزنوبة والأقدام الحافية …

رجح أن يكون الصوتُ صرير عجلات عربة «كارو» في انحناءة الطريق، لكن الصوت ظلَّ على تواصله، فاطمأن إلى أنه صوت آلة حفر في بناية قريبة.

خفَت الصوتُ وتلاشى، فتناسى ما حدث، عاد إلى عالمه ينام ويصحو ويأكل ويقرأ ويغني ويتأمل، ويرنو إلى قادم الأيام بنظراتٍ مُسترخية.

لم يكُن أمامه سوى أن يغلق النافذة. تلاغطَت الأصوات؛ الزعيق والشجار والكلاكسات ونداءات الباعة. في الليل يتعالى الهدير من المقهى القريب؛ مناقشات ودعابات وضحكات وشتائم، وترديد الجرسون لطلبات الزبائن، والراديو الذي يواصل برامجه إلى نهاية الليل، يختلط بدعوات ما قبل أذان الفجر في المرسي أبو العباس. ثم تهدأ الحركة، ويسود الصمت، يُعمِّقه تكاثُف الظلمة قبل طلوع الصباح. يتهيَّأ لإغفاءة، فيضع الصخب الذي يبدأ بالتدريج دورته اليومية، عناق النوم في إطار المستحيل.

دانت الغلبة للمشاجرات — فيما بعدُ — على صخب الطريق. علَت أصواتُ الشتائم، وضرب الكراسي والنبابيت والشوم، وسرينة سيارات الشرطة والإسعاف التي تُقبِل — في الأغلب — عقب انتهاء كل مشاجرة.

قال له الحاج إبراهيم الخليل، بائع الحلوى في ناصية البوصيري: «كأنكَ أهملتَ مشكلاتنا مع الجماعات الوافدة!»

لم يُخفِ استياءه: «كنتُ أواجه المشاجرات بمفردي!»

– نُقدِّر ما فعلت، لكن الأحداث تحت نافذتك …

– أزمعتُ أن أغلق النافذة!

خفتَت الأصوات، في اللحظة التالية لإغلاق النافذة، بما أشعره أنه قد انعزل أخيرًا عن الدنيا الصاخبة حوله. يستطيع الآن أن يُمضيَ أيامه في هدوء، لا تشغله الأصوات التي علَا صخبُها. داخله شعور أنه يمتلك بيته. نزع بيجامته، تمشَّى بثيابه الداخلية، تقلَّب في السرير، تصفَّح كتابًا وأعاده إلى موضعه، فتح الراديو فنقلَته نشرة الأخبار إلى العالَم الذي كان قد قرَّر تناسيَه. التصق بالصمت تمامًا، ونام.

تعدَّدَت الأوقاتُ التي يتصاعد فيها الصوت، تساوى الليلُ والنهار، فبَدَا مستمرًّا. علَا كأنه دَوِيُّ المَدافع. تسلَّل إلى نفسه خوف، فطرد فكرة الاقتراب من النافذة، ومحاولة التطلع إلى ما يجري في الخارج. أهمل الكُتُب التي كان قد بدأ في قراءتها. شغله الصوت، فلم يعد أمامه ما يفعله.

ضايقه السؤالُ الذي تراقص أمامه، وهو يخطف ساندويتشًا: «لماذا أغلق النافذة إذَن؟»

اطمأنَّ إلى تساند الأثاث على الباب المغلق. تكوَّم فكاد يُغطي المدخل. زاد من شحوب أصوات الطريق تلاشي غالبيتها، فلم يعد يصل إليه منها شيء. بدَت الحياة خلف النافذة ساكنة، لا زعيق ولا مشاجرات. رقَّت الأصواتُ تمامًا، كأنها وشوشات النخيل في الميناء الشرقية.

تنبَّه مصادفةً إلى النافذة المغلقة. من السهل على مصدر الصوت اقتحامُها. كان الباب قد تغطَّى بكل ما في البيت من أثاث. دفع السرير أسفل النافذة، وضع من فوقه المكتبة وأدوات المطبخ. اكتفى لنومه بحيِّز على حافة السرير. لم يعد بوسعه التقلب، أو القراءة على الطاولة الصغيرة التي شكلت — مع بقية الأثاث — جدار الباب المغلق.

علَا الصوتُ وعلَا. ارتجَّ السقف والجدران، واهتزَّ السرير من تحته. جرى بتلقائية ناحية الباب. امتدَّت يداه كأنه يتَّقي سقوط النافذة. التف حول نفسه، وتضاءل، وانكمش. حاصرَته الوحدة فبكَى، أطلق صيحةَ فزع لمَّا تهاوى الأثاثُ وراء النافذة، وأطلَّ المجهول في الظلام بنظراتٍ ثابتة.

«الحرس الوطني»، يناير، ۱۹۸۷م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤