حكايات وهوامش من حياة المُبتلَى

فاعلم — أعزك الله — أن صابر عبد السلام، حين رفض المُغريَات، وأصرَّ أن يقيم في قريته، برغم سوء أحوالها، لا يغادرها، فلأن والده الحاج عبد السلام١ روي له ذات يومٍ مجموعةً من الأمثال، رواها له أبوه الشيخ العتريس، يذكر من بينها: «مَن ساب داره اتقل مقداره … البطيخة ما تكبرش إلا في لبشتها … السمك لو خرج م الميه يموت … يا داري يا ساترة عاري …»
أزمع صابر — منذ تلك الليلة التي تمازجَت فيها ظلمة الليل وضوء القمر على قسمات وجهه، فبَدَت الكلماتُ كأنها وصية، كأنها أمرٌ عليه أن يُنفِّذه، كأنها نداء يجب أن يُلبيَه — أزمع صابر أن يظلَّ قراريًّا٢ وألَّا يغادر قريته، مَهمَا تحيَّفَته الظروف القاسية، ومَهمَا بدَت المغادرة — بيُسر أحوال المغادرين والعائدين في إجازات، ورسائل المُقيمين في الغربة، والعز الواضح في استقرار الذين أنهَوا سنيَّ الابتعاد، وعادوا إلى الحياة في القرية — مَهمَا بدَت المغادرة مُغرية!

ولمَّا سألته أمُّه إن كان سيكمل خطوات زواجه من ابنة عمِّه سلسبيل، أو أنه سيُفضِّل الإرجاء ليلحق بالمغادرين، قال صابر في حسم: «لن أغادر قريتي بحال.»

فصل

تزوج صابر وسلسبيل. بنَى صابر بنفسه الحجرة التي أقامَا بها في نهاية القراريط الثلاثة، التي ورثها عن أبيه.

ولمَّا حاولَت سلسبيل أن تساعده في عمل الحقل، رفض، ثم ناقش الأمر مع نفسه، ومع الآخرين، ووافق أخيرًا على أن تساعده سلسبيل بما لا يُنهك جسدها الضعيف.

فصل

فاعلم — أيَّدك الله — أن قرار صابر عبد السلام، أن يظلَّ في قريته، كان حرص الأجيال السابقة، تُشقيهم فكرةُ أن يجازف المرء بالسفر إلى المناطق البعيدة والمجهولة. يُقسِمون بالله وبالأرض، ويزرعون النخيل ليفيد من ثماره الأحفاد.

كان الخير يكفى ويزيد، وربما وفد أقوام من الذين يحيَا بينهم الآن مغتربو القرية، فيجدون زادًا وزوَّادًا، أو تبعث إليهم المؤن حيث يقيمون.

ولكن دوام الحال من المُحال.

زاد من صعوبة الأمر، شاغل الجميع، وما أنفقوه من جهد ومال، ليستأنف الحُجَّاج رحلاتهم. بعد أن أسرف قُطَّاع الطرق في اعتراض القوافل، وأقفلوا الطريق إلى بلاد الحجاز.

فصل

فاعلم — أفادك الله — أن الحياة مضَت بصابر وسلسبيل، رخية هانئة؛ القراريط الثلاثة تثمر خُضرًا وفاكهةً وما تشتهي الأنفس، يعملان إلى ما قبل الغروب،٣ يبين الليل عن خلوِّ البال في ضحكات وأغنيات، وربما نقر صابر على الطبلية في إيقاع منتظم، وسلسبيل تتأود أمامه — في حياء — بجسدها اللدن الجميل.

فصل

مثل السحابة السوداء التي تحجب ضوء الشمس، فتُحيل النهار ليلًا، هبط المرض على جسد صابر، أبان عن نفسه في ضمور البنية، وتساقط الشعر، وذبول الشفتَين، وتلاشي البريق في حدقتَي العينَين، كأنهما تعميان!

بدَت سلسبيل — أمام ما حدث — فاقدة الحيلة.

سألته إن كان قد تناول طعامًا خارج البيت، أو تردَّد على الغرزة الواقعة في مدخل القرية، أو استحمَّ في الترعة، فلحقَته أمراضُها …

نفى صابر كل البواعث، وإن صارح زوجه لمَّا اشتدَّت عليه تباريحُ المرض، أن الأشرار — فيما تروي الشائعات — جاوزوا ترويع الآمنين، وقطع الطرق، ومنع القوافل، إلى الدسِّ بالسُّم والرَّبط، وغيرها من أفعال السحر والتنجيم …

قالت سلسبيل: «وما شأنك بطريق الحجاز؟»

قال صابر: «السفر فيه أمنيتي الدائمة.»٤

فصل

أقعد المرض صابر، فلزم البيت!

باعت سلسبيل ثمار الأرض٥ وأنفقَت على علاجه. أخفق الأطباء في التعرف إلى بواعث المرض، فاختفَت الأدوية ووسائل العلاج.

تنازلَت سلسبيل — بطِيب خاطر — عن خلخالها الذهبي، وما كان أهداه لها صابر، في الأيام الخوالي، لكن المرض ظلَّ ساكنًا في جسد صابر، يرفض الأدوية، ووصفات المجربين.

صارت الحيرة عجزًا، عندما صارحها طبيبٌ بأن المرض يستعصي على علم الأطباء، وأن عليها أن تنشُد مُنجِّمًا، أو ساحرًا، أو تأمُل في رحمة الله.

فصل

فاعلم — أعزك الله — أن الروايات تناقضَت فيما جرى لصابر وسلسبيل، وإن التقَت جميعُها في تيقُّن المرأة من عجز الطبِّ عن مداواة المريض.

استعاذت بالله من الشيطان الرجيم، طافت بأضرحة الأولياء والصالحين، نذرَت النذور، التمسَت التمائم والأحجبة والوصفات والرُّقَى والتعاويذ. رقصَت لشفاء صابر في حفل زار. استحضرَت أرواح القُدامى والراحلين …

غادرت سلسبيل للمرة الأولى بيتها. لم تكُن الغربة ممَّا يدور لها في بال. كانت تحبُّ الغيط والبيت الصغير والنهر والزراعية وأشجار الصفصاف والقيلولة والليالي المُقمرة … لكن المريض انكمش في نفسه، فلم يعد ما يشي بحياته سوى أنفاس ضعيفة.

كان لا بدَّ أن تجري عليه.

زارت مُدنًا وقُرًى، ونامت — بنصف عين — في المساجد والزوايا والتكايا وحنايا السلالم والحدائق العامة. منعها الحياء، فلم تبُح بما بات عليه حالُها، وإن أفاضت في التحدُّث عن العليل الذي كان — قبل أن يدهمه المرض — زين الشباب، وأبرَّهم بأهله وناسه والأقربين.

فصل

فلمَّا كان اليوم الثاني والستون بعد الأربعمائة، جلسَت سلسبيل إلى شيخ في قرية بعيدة، تشكو همَّها …

قال الشيخ وهو ينكت الأرض بعصًا في يده: «كنَّا نرافق أبناء قريتكم في طريق الحج، قبل أن يغلقه الأشرار.»

ورفع حاجبيه، تعبيرًا عن الدهشة: «فماذا جرى؟»

فصل

فلمَّا كان اليوم الرابع والثمانون بعد الألفَين، صحَت سلسبيل على عينَين تطيلان النظر إلى صدرها الذي تمزق عنه ثوبُه.

دارت صدرها بكفَّيها، وبكت.

فصل

فلما كان اليوم الثاني عشر بعد الستة آلاف، أولت سلسبيل ظهرها ضريح الإمام الشافعي.

قالت: أخاصمك!

خافت من غضبه، فأردفت: هدَّني السفر للبحث عن دواء لصابر المسكين، فساعدني!

فصل

فلمَّا كان اليوم المائة والسبعة والتسعون بعد العشرة آلاف، فتح صابر عينَيه، وسأل: هل عُدت؟

قالت سلسبيل: كنتَ نائمًا.

– ومتى لم أكُن نائمًا؟!

– أملنا في رحمة الله!

– لا فائدة … فلماذا تروحين وتجيئين؟!

– ما دُمنا نحيا، فإن الأمل قائم.

– لا فائدة … وأحلك من …

قاطعته: سأظلُّ زوجتك، فلا تُعذِّبني!

فصل

فلما كان اليوم التاسع والعشرون بعد الأحد عشر ألفًا. أنهى طبيبٌ ذائعُ الصِّيت، عالي المكانة، فحوصه وتحليلاته في جسد المريض الذي تضاءل، فبدَا كقِطَع متداخلة من اللحم!

زاد الطبيب، فقرأ الطالع، وعاد إلى الوصفات التي تداوَى بها المريض.

قال لالتماع القلق في عينَي المرأة: المريض تمنَّى شيئًا فاستعصَى عليه.

«كانت القناعة حياته.»

هتفَت متذكرة: السفر إلى بلاد الحجاز أمنيته الدائمة.

– فلماذا لم يسافر؟

– منعه قُطَّاع الطرق.

نقر الطبيب المكتب بإصبعه: هذا هو السبب!

فصل

فأمَّا الآراء التي ناقشَت أفعال قُطَّاع الطرق، فقد حكمت عليها جميعها بالإدانة، وأنها مرادفة للحرابة. وجزاء الذين يرتكبون جريمة الحرابة، ويسعون في الأرض فسادًا، بقطع الطريق، أن يُقتلوا، أو يُصلبوا، أو تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خِلاف، أو يُنفوا من الأرض٦

ظلَّت الطريق إلى بلاد الحجاز مقطوعة، وشفاء صابر هَمُّ سلسبيل وشاغلُها، تعدَّدَت أسفارها إلى بلادٍ طالما التقَت بأبنائها في شوارع القرية، وإن لم يخطر في بالها يومًا أنها تسافر إليهم، تشرح الأحوال، وتطلب الغوث. أعلن الأطباء حيرتهم، وأخفق السحر والتنجيم والنذور والوصفات وقراءة الطالع …

أمل الشفاء في سفر المريض إلى بلاد الحجاز، بالطريق التي ألِفَها، أمنيته التي طالما أضمرها، وباح بها. الحرابة عائقٌ ينبغي أن يزول. يبين الأمل في الشفاء عن تألقه، يعود السمر والضحكات والغناء وليالي الحصاد.

تطرح سلسبيل الأسئلة: هل؟ وكيف؟ ومتى؟

١  كان حجُّه — حيث لبَّى نداء ربه – بالسَّير على قدمَيه، من قريته صفط زريق، التابعة لزمام مديرية الشرقية — محافظة الشرقية الآن — إلى بلاد الحجاز، عبر صحراء سيناء، وصحارٍ أخرى بعدها، حتى أذِنَ الله أن يؤدِّي فريضته.
٢  القراري — كما تعلم — هو ذلك الذي يرتبط بأرضه إلى قرارها، فمن المستحيل أن يتركها.
٣  كانا يحرصان في الوقت نفسه على راحة القيلولة.
٤  فاعلم — غفر الله لك — أن صابر عبد السلام كان يحمل قلبًا ينبض بالرحمة، يشرق النور في داخله، يغيث الملهوف، يساعد المحتاج، يقتر على نفسه ويُكرم ضيوفه، يُحدِّث مَن يلقاه للمرة الأولى كأنه يعرفه من زمان، يُوقر الكبير والصغير، ويحترم الناس كافة، يعود المرضى، يشارك في الأفراح والمآتم، يساعد الغلابة والضعفاء والمنكسرين، يفيض بالمحبة تجاه الآخرين، حتى الذين يواجهونه بالإساءة، يغضُّ النظر عن إساءاتهم، إلا فيما يتصل بكرامته، يحرص على نظافة جسمه وملبسه وطهارة نفسه ولسانه، يصلي الفروض في أوقاتها، يعشق النكتة والعبارة اللمَّاحة. أمنيته التي كثيرًا ما حدَّث بها زوجه وأصدقاءه، هي السفر إلى بلاد الحجاز من الطريق نفسها التي سافر فيها أبوه عندما انتوى أداء فريضة الحج …
٥  بأقلَّ من أسعارها أحيانًا.
٦  عرَّف الإمامُ الشافعيُّ الحرابة، بأنها البروز لأخذ المال، أو لقتل أو إرهاب. وعرَّفها الإمام أبو حنيفة بأنها هي الخروج على المارَّة لأخذ المال على سبيل المغالبة، على وجهٍ يمنع المارَّة عن المرور، ويقطع الطريق، أمَّا الإمام ابن حنبل فقد عرَّف الحرابة بأنها تعني التعرُّض للناس بسلاح في صحراء أو بنيان أو بحر، فيغصبونهم مالهم، قهرًا ومجاهرة، أو يقتلونهم لأموالهم. وأمَّا الإمام مالك، فيرى الحرابة في قطع الطريق لمنع سلوك المارَّة، أو أخْذ الأموال على نحو يتعذَّر معه الغوث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤