نبوءة عرَّاف مجنون

١

اقترنَت رؤيتُه بطفولتي الباكرة، فلا أدري على وجه التحديد متى بدأتُ ألتقي به في شوارع الإسكندرية. المؤكَّد أنه مضَت سنوات، ربما عشرون عامًا أو أكثر (منذ بدأتُ أعي الناس والأشياء من حولي وأتذكر)، وهو يذرع الشوارع، هادئًا صامتًا في البداية (تلك التي لا أدري متى كانت على وجه التحديد)، حتى النهاية الغريبة والمُحزِنة (هل هي النهاية بالفعل؟) المؤكَّد أيضًا (ولقد كنتُ طيلة السنوات أحرص على التدقيق في ملامحه ومتابعة تصرفاته) أن صورته الظاهرة لم يطرأ عليها تغيُّر واضح. قبل أن يغادر طبيعته، ويعبر الأسوار التي ظلَّ حريصًا على ألَّا يتجاوزها، فالعينان ملتمعتان كأنه فرغ لتوِّه من البكاء، أو أنه يتهيَّأ له، ومنابت الشَّعر ضعيفة في جانبَي الشارب، فهو يكتفي بمساحة السنتيمتر تحت الأنف مباشرة، والحرص على الأناقة واضح في البدلة الكاملة — حتى في عزِّ الصيف — والقميص ذو الياقة المُنَشَّاة، وربطة العنق التي أحكم ربطها، ثم في تلك المِشية المميزة التي كانت في الحقيقة أول ما شدَّني إليه.

٢

كنتُ أحاول أن أساير أبي في خطواته الواسعة. رسغي في يده، وشارع الميدان يشغي بالخَلْق الذين خرجوا لشراء لوازم العيد … ولم يكُن ذلك فقط هو كل ما يشغلني (أعني أن تساير خطواتي القصيرة خطوات أبي الواسعة والمسرعة)، كنتُ مشغولًا بمتابعة همهمات أبي لنفسه، كان حزينًا — لسببٍ أتبيَّنه الآن — وكانت همهماتُه تعلو، فتصبح كلماتٍ واضحةَ المعالم، أتذكَّر من بينها «أولاد الكلب». لم أكُن أعرف هؤلاء الذين يُوجِّه إليهم أبي همهماتِه ورأيَه الغاضب، ولم أحاول بالطبع أن أعرف، فقد كان أبي حزينًا لدرجةٍ أحسستُ بها في تقلُّصات أصابعه حول رسغي. وقبل أن ندلف إلى سوق (النقلية) رأيتُه؛ سحنته المألوفة ومِشيته المميزة، وتصرفاته التي كانت — برغم هدوئها — تستلفت الانتباه. (المؤكد — كما قلتُ لك — أن هذه لم تكُن المرة الأولى التي ألتقي به فيها، ولكنها هي أول ما أتذكره من لقاءاتي به) فرد ذراعَيه بامتدادهما، كأنه يُفسح لنا الطريق. تسلَّل شعاعٌ باسمٌ في غيوم أحزان أبي، فتشجَّعتُ، وتوقَّفَت نظراتي على الرجل الذي بدَا أنه يفسح الطريق لكل الداخلين إلى السوق، وتنبَّهتُ على جَذبةٍ غاضبةٍ من أبي.

٣

التقيتُ به في أماكن كثيرة؛ السحنة المألوفة والمِشية المميزة والتصرفات التي تثير الانتباه. غابت الصورة في إطار المألوف، فلم يعد يشدُّني. حتى نظرات الناس التي كانت تتراوح بين الإشفاق والسخرية، انتهَت إلى الحياد، وإلى تركه منعزلًا في جزيرته. وكان الناس مشغولين أيامها بالحديث في حرب فلسطين والأسلحة الفاسدة وخيانات الزعماء.

ويومًا (بالقطع ليس هو اليوم الذي رأيته فيه) غادر مألوف عادته؛ لم يتجاوز التصرفات الهادئة، لكنه اختار السَّير على الأرصفة، يرخي يدَيه ويرفعهما، كأنه يُرحِّب بصديق لا نراه! ولأنه اختار شارعًا مزدحمًا (كان لقائي به في شارع السبع بنات)، فقد أفسح له الناسُ طريقًا، وعادت النظراتُ المتباينةُ بين الإشفاق والسخرية (أتذكَّر يومها أن أبي كان بادي الانزعاج لحريق مُروِّع التَهَم أضخم مباني القاهرة).

٤

كنتُ في مشواري اليومي، من المدرسة في محرم بك إلى البيت في بحري (المفروض أن يكون هذا المشوار بالترام، لكنني كنتُ أدخر القرش، قيمة تذكرة الدرجة الثانية ذهابًا وعودة، وأفضل السَّير على قدمي)، وكنتُ مشغولًا بالامتحان الذي اقترب كثيرًا (قال مُدرس اللغة العربية إنه يضمن لي المجموع النهائي، وقال مُدرس الرياضة إن الصفر هو الدرجة التي أستحقُّها). عندما رأيته … هل هذا هو؟ كان يتوسَّط الشارع بسحنته المألوفة، ومِشيته، وتصرفاته التي تثير الانتباه. رفع يدَيه فلم تعُودَا تُرحِّبان بالصديق الوهمي، إنما هما ترتفعان إلى أعلى، وتهبطان إلى الأذنَين، كأنه يكبر، أو أنه — في الأصح — يرُدُّ بالتحية على دعواتٍ أو هتافاتٍ غاب أصحابُها. ولاحظتُ أن الناس — حتى راكبي السيارات — لم يلتفتوا إليه! طرد الملك في الليلة السابقة، وكانت الثورة الوليدة مَثارَ نقاشٍ لا ينتهي.

٥

انشغلتُ بمتابعته. كان الإشفاق يتملكني وهو يسير وسط الشوارع المزدحمة بالسيارات، ويداه ترتفعان وتنخفضان، يُحيِّي جموعًا غير مرئية. والبعض ألِفَ رؤيته فلم يعد يلتفت إليه، والبعض يتابعه بنظراته المندهشة حتى يغيب. شغلني التفكيرُ في حياته، وأنا في البيت، وأنا في المدرسة، وأنا في الطريق، وأنا في أيِّ مكان. وكنتُ أبحث عنه أحيانًا في شوارع وسط البلد، فلا أستريح حتى ألتقيَ به. وشتمني أبي — ذات مغرب — لمَّا سألني أين كنت، وتهربتُ من الجواب الحقيقي.

٦

كان ما حدث تحوُّلًا دفعني إلى السَّير بجواره، والتأكد ممَّا أراه وأسمعه (كان ذلك في اليوم التالي لإعلان قيام الجمهورية)، لم يعد يكتفي برفع اليدَين وخفضهما، وإنما صاحبَت الحركة المتكررة كلمة واحدة، راح يُردِّدها بصوت هادئ، وإن غلب عليه الانفعال: «النصر … ل… ن… ص… ر…» وهو يوازن ما بين حركة اليدَين والكلمة التي لا تتغيَّر. تابعتُه على الرصيف الموازي من شارع شريف إلى ميدان محمد علي إلى شارع توفيق فشارع عبد المنعم فالعطارين حتى مبنى المحافظة. كنتُ قد ابتعدتُ كثيرًا، فعدتُ وأنا أفكر.

۷

ثمانية عشر عامًا — بالتحديد — بعُدتُ فيها عن الإسكندرية. أصبحَت المدينة — بالرغم مني — حنينًا عامًّا، يرفض التفاصيل، وإن قفزَت إلى الذهن — في أحيان كثيرة — صورٌ واضحة، أو شاحبة المعالم؛ ليالي المَولد النبوي في أبو العباس، خيالة الملك في جولتها الصباحية، بائعو الصحف والفشار في ميدان محطة الرمل، رذاذ الأمواج المتطاير على سور الكورنيش، تشفُّعات الولايا في سيدي نصر الدين، سباق البلانسات في الميناء الشرقية، زحام شارع الميدان وصخبه وخناقاته … وكنتُ أتأثر لصور الذاكرة كثيرًا، وأقرِّر — بيني وبين نفسي — أن أغادر الطوق الذي يحيط بي، وأزور الإسكندرية في أقرب فرصة.

٨

مع أنه لم يحتلَّ أيَّ موضع في ملايين الصور التي انثالت على الذاكرة، خلال الأعوام التي بعُدتُ فيها عن الإسكندرية، فإني تذكرتُه حالًا لمَّا انتويتُ العودة إليها لإنهاء بعض الأوراق المتعلقة بهجرتي إلى الخارج.

كأنه كان ينتظرني، وإن بدَا على غير الصورة التي عرفتُه فيها، غابت السحنة المألوفة والمِشية المميزة والتصرفات الهادئة … وكانت تشدُّني إليه الحركات الصامتة، التي أضاف إليها — في ختام أيامي بالإسكندرية — كلمةً واحدة، لا يكاد صوتُه يبين بها؛ النصر … لكنني هذه المرة رأيتُه في صورة مغايرة؛ كانت قدماه قد تدلَّتَا من الباب الأيسر في ترام الرمل، وشعره الأبيض المنكوش تهدَّل على جبينه وعينَيه، وقبضتاه تقذفان الهواء، والزبد يتطاير من شِدقَيه، والصيحات متلاحقة الكلمات، لم يتضح في سمعي منها سوى الكلمة القديمة؛ النصر! (وكان أبي قد مات، وباع أخي الأكبر بيت الأُسرة في الموازيني، وطرأ على الصورة السياسية تغير واضح). ودُهشتُ لأن الناس كانوا يعبرونه بنظراتهم. حتى هؤلاء الذين وقفوا بجانبه، أهملوه تمامًا. بَدَا وحيدًا ومنعزلًا ومسكينًا. وأيقنتُ أن هذه صورته منذ زمن، فألِفَها الناس.

الثقافة، ١٩٧٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤