خشوع

١

المركز في مصر شَأنُه عجيب؛ فلا هو مدينة تكتمل له عناصر المدينة جميعًا، ولا هو قريةٌ تَرِينُ على جنَباتِه أجواء القُرى التي يعرفها ريفُ مصر مُنذُ فَجر التاريخ.

المركز مدينةٌ صغيرة، أو قريةٌ مُكبَّرة، يجمع بين الحاضرة والريف في تناسُقٍ عجيب.

فأنتَ تَجِد في المركز دارًا أو ربما دارَين أو ثلاثةً أحيانًا للسينما.

وفي المركز أطِبَّاءُ كثيرون، قد يزيدون أو يقِلُّون عن العشرة، ولكنهم دائمًا مُتعدِّدون. وقد تجد، بل إنك كثيرًا ما تَجِد، أطباءَ مُتخصِّصِين. وبالمركز دكاكينُ كثيرةٌ لِبيع الفاكهة؛ الأمر الذي لا تَجِدُه في القرية مُطلَقًا، ودكاكينُ أخرى لبيعِ الملابس، بل إنك، في إجمالةٍ تنأى بنا عن التفصيل، تستطيع أن تشتري ما شِئتَ في المركز، لا أستثني من ذلك التليفزيون، بل والفيديو أحيانًا إن لم تَجِده في الحال وَجَدتَ من يشتريه لك في ساعاتٍ من الفَرعِ الرئيسي الذي يُمثِّله هو في المركز.

ولِلمَركز مَحكمةٌ لها قُضاتها ونيابتها وجميعُ المُوظَّفِين الذين تحتاج إليهم المحكمة. أمَّا الشرطة فأنت واجدٌ، لا شك، قِسمًا لها، يرأسه مأمور بأكمله، مع مُساعدِيه من الضباط وما يليهم في المرتبة.

وبِالمركز أَكثرُ من نادٍ؛ منها الرياضي، ومنها الاجتماعي، وربما يكون هناك نادٍ مُعيَّن هو أَهمُّها، ولكنه لا يُلغي الآخرِين. وبالمركز أَكثرُ من مُحامٍ.

مدينةٌ مُصغَّرة هو المركز. وناسُه يعرفون بعضهم البعض، وهو في هذا يقترب إلى القرية، وينأى بعض الشيء عن المدينة.

في مَركَزٍ من مراكز مصر يُقيم الرجل الطيب عبد الهادي النقيب، ومَركَز المهدية الذي يقيم فيه من أهم مراكز مديرية الشرقية. وقد جاء عبد الهادي نفسه في المَهديَّة وهو يعلم أن أباه وجدَّه كانا يعيشان بها.

وكان عبد الهادي النقيب من أعيان المَهدِيَّة، ومن أَحَبِّ أعيانها إلى ناسها. وما اختَلفَ قَومٌ فيما بينهم أو وقع خلافٌ بين أُسرتَين إلا كان عبد الهادي هو أَوَّل من يتجه إليه المختلفون، يرجون عنده الرأي السديد والعقل الراجح، والبعد عن الهوى، والحفاظ على العدل.

فما كان عجيبًا أن أصبح عبد الهادي في نفوس أهل المهدية رئيسًا للقوم. وقد تَولَّى منصبه هذا دون تعيين وبغير انتخابات. هو هكذا في القلوب دون أي قرارٍ رسمي. ويعلم الله أن كثيرًا من أصحاب الرئاسة الرسمية يَتَمنَّى أن يصل إلى هذه الرئاسة المُضمَرة المُتمكِّنة من القلوب، ويَهُون عنده حينئذٍ كل المراسيم والقرارات والأوامر التي نَصَّبَته رئيسًا رسميًّا ذا تاجٍ وكرسيِّ عرشٍ وحرسٍ وخُدَّام وضجيج وعجيج وصُراخٍ لا يدري أَحدٌ مدى الحق في شأنها.

أمَّا رئاسة القلوب المُضمَرة، فهي رئاسةٌ لا شك في أمرها أثبتها كلُّ فرد من أفراد الشعب في نفسه، وأصبح في غير حاجةٍ أن يُعلِن عنها.

كذلك كان عبد الهادي، وهكذا نفى الله عنه أُبَّهَة الرئاسة المظهرية؛ فلا هو صاحب غرور ولا تكبُّر، وما لِرئاسته مَراسمُ مَظهَريَّة ولا طَبلٌ ولا زَمْر. وربما كان لا يدري أن الناس يتخذونه في نفوسهم رئيسًا لهم، ولكنَّه — لا شك — كان يعرف أن الناس يحبونه؛ لأنه كان على ثقةٍ أنه يُحِب الناس ويَسعَد أن يُقيل عَثْرةَ من أَنزَل الدهر به عَثرة، ويهنأ أن يُمِدَّ من احتاج بحاجته، وتملأ نفسه البهجة إن وقف بجانب أُسرةٍ كانت ذاتَ عزةٍ وكرامة وأراد الدهر أن يَعدُوَ عليها.

كانت دار عبد الهادي مَوئلًا لمن حاوَلَتِ الحياة أن تُزعزِع مُستقرَّهم، يجدون فيه النفس الراضية تَسمع وتُواسي، ويجدون إلى جانب الكلمة العادلة كَرمَ المال والنفس يُقدِّمه عبد الهادي مما حَبَاه الله به من مال. وقد كان غِنى عبد الهادي غِنًى واسعًا، ولكن الناس أَحبَّت له هذا الغِنى؛ لأنه كان يعتبر مالَه مالَ كُلِّ مُحتاجٍ وكلِّ أخٍ في الإنسانية حَزَبَتهُ من الحياة ضائقة.

وكان عبد الهادي أيضًا لا يبخل بِجُهده عند الشدة؛ فإن له في أعيان مصر صِلاتٍ وصداقات، وما تَأخَّر يومًا عن سعيٍ حثيث في سبيل خيرٍ أو بعض خيرٍ قد يعود على قاصده …

وكان أخو عبد الهادي أَصغَر منه بسنواتٍ عديدة، وكان منه بمثابة الابن تمامًا؛ فإن عبد الهادي فقَد أُمه وهو يقارب العشرين من عمره. وكان أبوه الحاج رافع النقيب في الخمسين من عمره، فتزوَّج بعد وفاة أم عبد الهادي بِعامَين، واختار لنفسه عروسًا من أُسرة النوافعة، تُوفِّيَ عنها زوجها وهي في الثانية والثلاثين من عمرها. ولم يمتد زواجها الأَوَّل بما يسمح لها أن تهب الحياةَ أبناءً؛ فحين تَزوَّج منها الحاج رافع وَهبَت له عبد الوارث بعد سنتَين من زواجهما.

وهكذا كان عبد الهادي بمثابة الوالد لعبد الوارث. وقد كان الحاج رافع يمزح دائمًا وهو يقول: عبد الهادي أخذ مني عبد الوارث؛ فأنا لا أعرف من شأنه شيئًا، هو الذي يرعاه. لعل هذا يُقنِعه أن له ابنًا ما دام قد مضى على زواجه سنتان ولم ينجب.

وقد كان عدم إنجاب عبد الهادي هو الغُصَّة التي يشقى بها عبد الهادي؛ فقد كان أَملُه أن يُنجِب، وكان يقول لأصدقائه: «الأبناء للآباء حياةٌ أخرى، وإن كانوا يأكلون الحياة الأولى. أرى جَزَع الآباء على بَنِيهِم فأكاد أَحمَد الله أن ليس لي بنون، ولكنَّني ما أَلبَثُ أن أتمنَّى أن أُصاب بهذا الجَزَع وأن أظل على وَلَدي ملهوفًا لهفةً كفيلة أن تمحو كل سعادةٍ في حياتي، ولكنها في ذاتها سعادةٌ لا تَعدِلها سَعاداتُ العالم أجمع.»

كان يقول لأصدقائه:

إنني أتمنى أن أرى بنفسي وَلَدي، ولن أُحاول أن أتَظاهَر بالرضى أنني لم أنجب. لا، أنا أُريد أن أُنجب مهما يكن في الإنجاب من رعبٍ يتولى الأب نحو بنيه، ومهما يكن في الإنجاب من إنفاق للصحة والمال، ومهما يكن الابن مَجلبةً لِلقلقِ يتولى الأبَ بين أملٍ يهفو إليه وحقيقةٍ تُطالِعه، وذُعرٍ يتولاه أن يُصاب ابنُه بمكروه. مهما يكن هيِّنًا هذا المكروه، أُريد أن أُنجِب، مع علمي بالهلَع الذي يتولَّى الآباء على أبنائهم. إن هذا الهلَع عندي سعادة. ويلٌ للأب إن أصيب الابن بِجُرح. وما أَعظمَ الهولَ الذي يَلقَاه الأبُ إذا قدَّر الله عليه أن يواري ابنَه التراب! ولكني ومع علمي بكل هذه الأهوال أُريد ابنًا.

حين مات الحاج رافع كان عبد الوارث في الثامنة من عمره، فكان عبد الهادي مُنذُ هذه السن الباكرة بمثابةِ الأب له.

ولكن ليس في العالم إنسانٌ يستطيع أن يكون مَكانَ الأبِ مُطلقًا. كان عبد الهادي يخشى أن يَقسُو على أخيه؛ لأنه ليس ابنه، والأُبوَّة تحتاج، رغم أنفها، إلى بعض القَسوة في كثيرٍ من الأحيان. وهكذا لم يكن غَريبًا أن يَتعثَّر عبد الوارث في الدراسة ولا يستطيع عبد الهادي إزاءه إلا أن يُعنِّفه تَعنيفًا هيِّنًا لم يَصِل إلى الشدَّة قط.

ولم يتسلم عبد الوارث ميراثه عن أبيه، ولم يكن قليلًا، ولكن عبد الهادي قام على هذا الميراث خير قيام، وراح يُنمِّيه لِحسابِ أخيه، ورفض أن يحتسب من ميراث أخيه مَأكَله ومَلبَسه، مُرتئيًا أن هذا واجبٌ عليه حتى وإن كان الأخُ غَنيًّا.

وكان الحاج رافع، حين تزوَّج فائقة أم عبد الوارث، رأى أن يُرضي ابنه الأكبر بِعمارتَين باعهما له وسجَّلهما باسمه، ولم يكن عبد الهادي محتاجًا لهاتين العمارتين حتى يرضى؛ فلم يكن غاضبًا حتى يحتاج إلى إرضاء.

•••

نَذَر عبد الهادي أن يُقيم مسجدًا لوجه الله إذا استجاب الله دعاءه ومَنَّ عليه بمولود. وإنَّ لِلسَّماء أَسرارَها. وحَملَت زوجته حميدة. وقبل أن تلِد كان عبد الهادي قد بدأ يضع الأساس للمسجد وهو يقول إنه مَسجِد لله، وسَواءٌ عندي أن تمَّت الولادة أم لم تَتِم، قد نَذَرتُ أن أَبنِيه إن أنجبت وقد أخطأت؛ فإن عليَّ ما دمت قادرًا أن أبنيه، أنجبتُ أو لم أُنجب.

وحين قَدِم إبراهيم عبد الهادي النقيب كان المسجد قد تم بناؤه، وأُقيمت الأفراحُ خيراتٍ على الفُقراء والمُعوِزِين.

وقرَّت عينا عبد الهادي واطمأنَّ قلب حميدة، واكتَملَت في البيت سعادةٌ كانت ناقصة وأَذِن لها الله أن تكتمل.

•••

شبَّ إبراهيم فتيًّا بهي الطلعة، مكتمل الرجولة، زكي الفؤاد، في سَمته عند الناس قَبول، لا يراه الرائي إلا انشَرح قلبه لِمَرآه، على فَمه ابتسامةٌ كأنها بطاقةٌ من الحب تركها مُحِب هناك عن عمد، وفي جبهته إشعاعةُ سلامٍ كأنها دعوةُ وُدٍّ لا كَدرَ فيها ولا مُغاضَبة.

وأَجمعَ الناسُ على حُبه مع أن الناس لا تُجمع على شيء.

ناسُ المهدية، مثلهم مثل سائر الناس، فيهم الطيب الشريف وبينهم المجرم الخبيث. والخير في حياتنا نادرٌ والشر على الناس غالب، ولكن ليس هناك إنسانٌ كُلُّ ما فيه شَر، وحتى أهل الطِّيبة والوَرَع قد تجد جانبًا منهم لا يُرضيك؛ فإنه لا كمال إلا للنبي.

كان أهل الخَير وأهل الشَّر جميعهم يُحِبُّون إبراهيم؛ لأنه كان لَا يُتيح فرصةً لِأحدٍ أن يتصل به إلا بالحب.

شخصيةٌ تُوشِك أن تكون بعيدةً عن أبناء الحياة، كان إبراهيم …

وكان طبيعيًّا أن يكون عند أبيه أغلى من الحياة. وكم كان عجيبًا، أم لَعلَّه لم يكن عجيبًا، أن كتب عبد الهادي لابنه مالَه جميعًا وإبراهيمُ بَعدُ في المدرسة الابتدائية! ولم يَعبأْ بِقولِ الناصحِين أن يتريث ربما رُزِق بعد ذلك بابنٍ آخَرَ أو بابنة. لم يَتصوَّر أنه وقد ظل كل هذه السنوات بغير إنجابٍ أن يُنجِب بعد إبراهيم أخًا أو أختًا.

وكم كان عجيبًا، أم لعله لم يكن عجيبًا، أن قال عبد الهادي لابنه: أريد منك شيئًا ولا تعارضني …

– أنا لم أُعارِضْكَ في حياتي.

– أعرف ذلك.

– أنا لن أخرج عن أمرٍ لك أبدًا.

– مهما يكن غريبًا؟

– لقد أَسميتَني إبراهيم تيمُّنًا بأبي الأنبياء، فاعتبِرني بالنسبة إليك إسماعيل الذي امتَحنَ الله فيه أباه وحين قال لابنه إني أرى كأني أذبحك …

قال يا أبتِ افعل ما تُؤمَر، وأنا أقول لك يا أبتِ أنا فاعلٌ ما تأمر.

– تَزوَّج.

– أتزوج، أَمرُك نفاذ، ولكن ماذا يقول الناس عن تلميذٍ في المدرسة الثانوية يتزوج؟!

– يقول رأى أبوه نَقاءَه وطُهره وأراد أن يعصمه.

– هل اخترت لي العروس؟

– إذا لم تخترها أنت فسأختارها أنا لك.

– أحتاج إلى مُهلة.

– هل تطول؟

– لا، ما أظنها ستطول يا أبي.

– أرأيت أني على حق؟ إذن فإن قلبك كان له نبضةٌ بذاتها نحو فتاةٍ بعينها.

– كنت أَكتُم النَّبضة لا تَذِيع … وهل كُنتُ أَتصوَّر أنك ستأمرني بهذا الأمر؟

– وها أنا ذا أَمرتُ، ففِيمَ المُهلة؟

– لا بد للنبضة من نبضةٍ تُقابلها، أُريد أن أسمعها، فإذا سَمِعتُها من بعيدٍ أَجَبتُك.

– وكيف لك أن تسمعها وأنت بعيد؟

– للشباب نَظرةٌ يَسمع بها، ولنا عند اللقاءات غير المُدبَّرة ملامح نعرفها، تُنبِئ ولا تُفصِح، تقول ولا تَنطِق.

– كنت شابًّا أنا أيضًا.

– ربما تكون قد نَسِيت.

– هذه الخلجات لا تُنسى، وتُريد مُهلة.

– ولن تطول.

– وأنا أنتظرها في لهفة.

– أرجو الله يا أبي أن يجعلني لك دائمًا مصدر سعادة لا يشوبها شائبة.

– إذن عَجِّل.

– قبل أن تَشعُر بالضيق سيكون جوابي عندك.

– مُوافِق يا وَلَدي إن شاء الله.

– ببركة دعائك يا خَيرَ أبٍ.

•••

شابٌّ هو، له خفَقات الشباب وأحلامه وآماله ورؤاه، وله أيضًا الصديق الذي يَشعُر نحوه بِوشائجِ أُلفةٍ وتربطه به أخلاقٌ متجانسة متقاربة، يسعد إذا جلس إليه، ولهما بينهما هَمسٌ وآراءٌ وأفكار حتى كأنهما يَصدُران في آرائهما عن مَصدرٍ واحد توحَّد مَعينُه وتمازَجَت الأمواء فيه صادرةً وواردة.

وقد كانت هذه هي الصداقة التي تجمع إبراهيم بعبد الواحد الزيادي ابن الشيخ مأمون الزيادي، رجل الدين الذي اختاره أبوه ليكون إِمامَ الجامع الذي بناه، وعبد الواحد زميل إبراهيم في المدرسة منذ اليوم الأوَّل لبدء دراستهما، وتَعوَّد الأصدقاء أن يَرَوا الصديقَين مُتلازِمَين.

ولِعبد الواحد أختٌ تَصغُر أخاها بعامٍ واحد، هي روحية، يُحِس إبراهيم نحوها وَجيبًا، وكان يُعذِّبه عذابًا يعرفه الشباب الذي يُحب، والذي يعلم أن حبه لن يصل به إلى الأمل المنشود، إلا أن عذاب إبراهيم كان يزيد عن ذلك؛ فقد كان يضاعف أَلمَه شُعورُه أنه يخون صديق عمره، ونَجِيَّ نفسِه بهذا الحب. وكان يلوم نفسه أشد اللوم: كيف تُحبِّين أخت صديقك، وأنت تَعلمِين أنه ليس إلى زواجٍ من سبيل؟ وكيف تَحتملِين، أيتها النفس الخاطئة، أن يكون هناك لكِ سِرٌّ لا تَجرُئِين على الإفضاء به إلى عبد الواحد؟ لولا عِلمُكِ أنه سِرٌّ لا يُقال ما حَبَستِه عنه ولَأَبحتِهِ له مثل كُلِّ ما فيكِ من أسرارٍ وأفكار وآراء.

وَيلٌ للناس من أنفسهم! كان كُل من يرى إبراهيم يحسب أنه المَثَلُ الأعلى للسعادة، والناس لا ترى إلا ظاهر الأمور، أو هي، في الحق، لا تُحِب أن ترى إلا ظاهر الأمور. وليس لها شَأنٌ بِخفايا النفوس وحنايا الحياة وما يَستُره كِيان الإنسان المُغلَق كأنه جُدرانٌ سميكة تَرُدُّ العُيونَ أن تَتلصَّص إلى الداخل. وكان إبراهيم يُزلزَل بين السعادة والشقاء وهو يرى في عيون روحيَّة تحيةً لِعُيونه التي تَشِع بما يُكِنُّه قلبه لها وما يدري أَخيرٌ ذاك أم شَر.

مسكينٌ إبراهيم؛ فقد كانت صَداقَته بعبد الواحد تكاد تُدمِّره، حتى لقد كان خليقًا أن ينزع حُب روحيَّة من فؤاده لو أن للإنسان على فؤاده سيطرةً أو سلطانًا.

ولكن هيهات!

هذا قدري وهذا عذابي أن شاء الله أن يكون من حُبي وهو طَهُور، وكان حريًّا أن يكون سعادتي، ومن صداقتي وهي أمينةٌ صادقة.

حين طالعه أبوه برغبته في التعجيل بزواجه، كان عقله وقلبه وكيانه لا يعزفون إلا كلمةً واحدة.

ولو أن عزف القلوب والعقول والجوانح له صوت، وإن كان هامسًا، لَسَمِع عبد الهادي اسم روحيَّة تُردِّده كل خَلْجةٍ وخَلِيَّة في أَحناءِ ابنه إبراهيم.

لهذا لم يكن عجيبًا أن ينصرف إبراهيم عن أبيه وسعادة الدنيا جميعًا تَمُور في جوانبه.

وانتحى من بيته ركنًا، وأَغلَق بابًا وفكَّر.

كيف أعرف منها هي أنها تقبل الزواج مني لشخصي وليس لِصداقةٍ بين أبيها وأبي، ومَحبةٍ صادقة قوية بيني وبين أخيها؟

أسأل. كيف؟ وهل هذا يجوز؛ أَجرَح حَياءها وأعدو مكاني الذي لا ينبغي لي أن أَعدُوَه؟

وانقَضى الليل وأَعقَبه صباح، ومع خيوط الفجر القادمة من السماء وجد إبراهيم هُداه في حَيرَته السعيدة.

مع أذان الفجر ذَهب إلى بيت الشيخ مأمون، فوجد عبد الواحد يَهُمُّ بالخروج لِيَلحق بأبيه في المسجد ويُصلِّي معه الفجر حاضرًا.

– عجيبة! أنت لا تصلي الفجر في الجامع.

– ولكن هل هناك ما يمنع؟

– أعوذ بالله، بل هو الأفضل.

– لم أَنَم، قلت أجيء إليك ونُصلِّي معًا بإمامة أبيك.

– عَلِم الله يا أبا خليل أن وراء حديثك أمرًا.

– لم أستطع أن أُخفِي عليك من نفسي خافية، فأيُّ عجيبةٍ أن تعرف هذه أيضًا؟

– هَلُمَّ بِنا.

وصَلَّيَا الفجر. وبعد قراءة التحيات، ظل إبراهيم في مكانه وفي هيئته أنه يُريد أن يقول ما بنفسه هو في مكانه هذا. وفهم عبد الواحد، وبقي إلى جانب صديقه، وانفَضَّ المُصلُّون وخلا بهما بيت الله.

– هنا في بيت الله أريد أن أُكلِّمك فيما جئتُ إليك من أجله.

– تَوكَّل على الله.

– أبي يُريدني أن أتزوَّج.

– ماذا؟

– لا تُناقش. ابنُه الوحيد ويخاف عليه الفتنة، أو هذا ما قاله لي، وربما كانت الحقيقة أنه يُريد أن يرى لي ولدًا.

– لن أُناقش.

– أُريد الزواج من روحيَّة.

وفي دهشةٍ بالغة انتفض عبد الواحد: ماذا؟

– ما سَمِعتَ. إن لها في قلبي مكانًا أخفيتُه عنك ظنًّا من أنها ستسبقني إلى الزواج، وأريد منك شيئًا لم يطلبه أَحدٌ من أخي فتاةٍ مُطلقًا.

– ماذا تريد مني؟

– أنا أعلم مكاني ومكان أبي في بيتكم، ولكني لا أريد روحية زوجةً مُرغَمةً على الزواج بحكم صِلات أهلها بِصِلات أهلي.

– وأنا ماذا أفعل؟

– لم أَتصوَّر أن أَنتهِز فرصةً فأسألها أنا؛ فإنني بهذا أكون قد خُنتُ صداقتي بك. وهداني الله أن يكون السؤال منك سؤالًا صريحًا من أخٍ إلى أخته. وأستحلفك بالله وبِصداقتِك إن وَجدتَ لحظة من تَردُّد ألا تُعيد عليها السؤال.

واحتَضَن عبد الواحد إبراهيم ودمعتان تَطفِران إلى عينَيه ما يدري أدموع فرحٍ بصديقه أم إعجاب به.

– نِعم الرجل ونِعم الصِّهر أنت، ونعم الأخ. أَسأَلها إن شاء الله. وسأجتهد أن أكون في سؤالي وفي نقلي لحديثها إليك قريبًا من أمانتك؛ أمانتك مع نفسك ومع الصداقة. قُم بنا.

وقال إبراهيم وهو يُربِّت ظَهرَ عبد الواحد: هيَّا، وفَّقك الله، وجعل الخيرَ على يديك.

لم يكن شُعور روحيَّة أقل من شعور إبراهيم؛ فقد كان قلبها يجيش إليه بألوانٍ من الحب شَتَّى. وكان حُبًّا مُنطلِقًا لا يُقيِّده ما يُقيِّد حُب إبراهيم من محاذير. كانت تُحب وكفى، وتُلقي إلى المَقادير مَصائر هذا الحب. ولم تكن في حاجة إلا أن تستوثق من حُب إبراهيم لها؛ فإن للفتيات إلى أعماق القلوب نظرةً لا تخطئ، ولِلفتيات قُدرةٌ على إخفاء مَشاعرِهن؛ فإبراهيم معذورٌ إن استبهم به الطريق ولم يَصِل إلى حقيقة حُبه في قلب روحية. أمَّا الشباب فهو في إخفاء الحب ساذج، وإن له دائمًا من نَظراته ولَفَتاته وقَسَمات وجهه ما يفضحه، فما بِعجيبٍ أن تُدرك روحيَّة مدى حُبها في قلب إبراهيم، وما بِعجيبٍ أن يجهل هو إن كانت تُحبه أو لا تشعر به.

قال لها عبد الواحد: ما رأيك في إبراهيم يا روحية؟

وانبَهَرت روحية وأَطبقَت عليها الحَيرة. أيكون عبد الواحد قد اطَّلع على خَفَايا فؤادها، أو يكون إبراهيم قد باح بِحُبه البِكر إلى صَداقتِه الخالصة عند عبد الواحد؟ وجمعت حروفًا كَوَّنت جملةً مُتردِّدة مُتهدِّلة غير واضحة المعالم: ما معنى هذا السؤال؟

وفي حسم الأَخِ وفي أمانة الصادق الذي لا يعرف كيف يدور بالحديث: يريد أن يتزوج بك. نعم تلميذٌ ويتزوج، يريد أبوه أن يفرح به.

وانفَجرَت فرحةٌ على مَعالمِ روحية جميعًا وهي تقول في سعادةٍ ذاتِ نغم: وأنا ما شأني، لماذا لم يُكلِّم أبي؟

– عرفت الجواب إذن؛ فقد كان حبيبي إبراهيم مُتحرِّجًا أنك قد تَقبلِينه من أجل صداقته بي أو من أجل صداقة أبيه بأبيك.

– وماذا رأيت؟

– رأيتُ ما يُرضي ضميري.

وتخاذَلَت روحية؛ فقد أدركت أنها فَشِلَت في إخفاء مشاعرها.

– إيَّاك يا عبد الواحد أن تنقل ما رأيت مني إلى … إلى … إلى إبراهيم أو إلى أبي.

– سِرُّكِ مَعكِ لم يَبرحْكِ. وتَعالَي أُقبِّلكِ لأكون أول من هنَّأكِ.

وقَبَّل الأخ أخته.

وأُقيمت الأفراح، وتزوَّج إبراهيم من روحيَّة. وما هو إلا شَهرٌ حتى حمَلَت روحيَّة حملها الأوَّل، ولكنَّ الأقدار شاءت، في إرادة لا يعلمها إلا صاحب النفوس وبارئها ومعطيها وآخذها، أن يموت إبراهيمُ، وزوجتُه في شُهور الحمل لم تَزل. وكأن إبراهيم قد وُلد لِيَهَب الدنيا هذا الوَلدَ الساعي إلى الحياة من السموات العُلا!

وكأن الله قد شاء أن يُؤدِّي إبراهيم ما خُلق له ثم يَطوِيه إليه سراجًا وَهبَ الحياة ما تَحمِله روحية ثم انطفأ!

وانطَفأَتِ الحياة جميعًا في عينَي عبد الهادي، وتَعلَّقَت نفسه بالجنين قبل أن يراه أملًا لِيأسٍ قاتم ونورًا لِظُلمات من طبقاتٍ بَعضُها فوق بعض، حتى كأن إبراهيم إن أَخرَج يدَه لم يَكَد يراها إلا بهذا البصيص من الشُّعاع الذي يُومِض إليه ممن تحمِلُه روحية!

وأَصبَح انتظار المولود هو عمل عبد الهادي الذي لا عمل له غيره. كانت يدُ الطفل تمتد من السماء، ويَتعلَّق بها عبد الهادي تَمسُّك الغريق ليس له غيرها أملًا.

وحَلَّ مَوسِم الحج. ووجَد عبد الهادي أنه إذا حج يستطيع أن يعود قبل أن تلِد روحيَّة، فخرج إلى الحجاز. هناك يدعو: لَبَّيكَ اللَّهُم. لَبَّيكَ فيما أخذتَ، ولَبَّيكَ فيما أعطيتَ، عبادُك نحن نَرضى بما قَسَمتَ، ونُردِّد آياتك التي منها كلِماتُك المُشرِقة الوضَّاءة.

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ صدق الله العظيم.

٢

عاد عبد الهادي من الحج، وفَوْرَ عَودته طَلَب من القابلة الحاجة مبروكة أن تُقيم في البيت إقامةً كاملة حتى تُشرِف على راحةِ روحيَّة لا لِتقوم بِتَوليدها؛ فقد كان ينوي أن يجعل الطبيب جابر فواز، أحسن أطباء النساء في المركز، يتولى هو ولادة روحية.

وتَمُر الأيام ويُفاجأ عبد الهادي بالشيخ مأمون الزيادي قادمًا إليه: يا حاج عبد الهادي؛ فقد سكتُّ طوال هذه الفترة احترامًا لِحُزنك.

– سكتَّ عن ماذا؟

– عن بقاء روحية في بيتك.

– أليست ابنتي؟

– ولكنَّ زوجها …

وأَلجَم الأَسَى لسان الرجل الطيب وقال عبد الهادي: ماذا؟ لماذا لا تقولها؟

– لقد كان مني بمكان الابنِ أيضًا.

– هل أنت واثق؟

– الله أعلم.

– إذن فأنت صادقٌ في قولك.

– لا شك في ذلك.

– أمَا إن شأنك لعجيب!

– وأيُّ عَجبٍ أن تَلِد ابنتي في بيتي؟

– يا أخي، لقد اعتَبرتَ أنت ابني ابنك، فلماذا تأبى أن تكون ابنتُك بنتي، وهي تحمل ابن ابني فعلًا؟

– العُرف والتقاليد.

– ومتى كان لي بيت ولك بيت يا شيخ مأمون؟

– أخشى أن يقول الناس إنني بَخِلتُ أن أُنفِق على ولادة ابنتي.

– أكلامٌ صغير كهذا يجعلك تطلب أن أترك ابن ابني يُولَد في غير بيته. اسمع يا شيخ مأمون: إن روحية لن تترك بيتي، لا قبل الولادة ولا بعد الولادة، إن شاء الله، وإذا كلَّمتَني في هذا الأمر مرةً أخرى لِمُجرَّد خَشيةِ كلامِ صِغار فستكون قطيعة بيني وبينك.

– لا قدَّر الله، أنت كبيرنا، وبيتك بيت الجميع، فلا عجب أن يكون بَيتَ حفيدك وأم حفيدك.

– وابنتُك ابنتي على كل حال.

– توكلنا على الله. السلام عليكم.

– ألا تزور ابنتَك وتدعو لها؟

– أخشى أن أُثير في البيت اضطِرابًا.

– المَرءُ لا يثير في بيته اضطرابًا أبدًا، ادخل على بركة الله.

•••

حل موعد الولادة، ولكنَّ روحيَّة وحميدة ومبروكة فُوجئن جميعًا بما لا يَتَوقَّع أحد.

بَدأَت الآلام.

وسارَعَت مبروكة تطلب الطبيب في التليفون، وطَلبَته، وعادت ترافق الوالدة.

ولكنَّ الآلامَ لم تدُمْ إلا دقائقَ قليلة ثم رأت مبروكة أن الولادة تتم فعلًا، سبحان الله العظيم! بِكرٌ تَلِد بهذه السهولة التي لم أرَ لها مثيلًا، حتى في اللاتي وَلَدن ثماني مرات وعشر. وقبل أن تُكمِل ذهولها كانت تستقبل المولود على يدَيها نظيفًا طاهرًا، كأنما قام الملائكة بِتَحميمه قبل أن يُولَد. وقامت مبروكة في خِبرة القابِلة العَجوز بكل ما يجب القيام به في أحوال الولادة.

وحين جاء الدكتور جابر كان الطفل قد رَضَع من أمه، وكان كلاهما نائمًا.

منصور؛ فإني منصور من الله أن لم يَضِلَّ عقلي حين فَقدتُ أباه. وهو منصورٌ من الرحمن الرحيم لِيكون نصرًا لي في مُصابي. وهو إن شاء الله منصورٌ إلى الحق والصراط المستقيم.

منصور، هكذا نَذَرتُ أن أُسمِّيه وأنا مُتعلِّق بأستار الكعبة وعند شُبَّاك الرسول .

مَنصورٌ هو إن شاء الله.

وإذا كان الطغيان قد أَلغَى تعليم القرآن، فإني بقوة الله أقوى من إرادتهم، ولن يذهب إلى المدرسة إلا وقد خَتَم القرآن. هنا في بيتي، وعلى يد جَدِّه الشيخ مأمون. وسبحان الذي حَرَم وسبحان الذي وَهَب! ولا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

•••

كان منصور منذ طُفولتِه ذا جاذبيةٍ آسرة، لا يراه أَحدٌ إلا كبَّر لله؛ فقد كان في وجهه حُبٌّ وإيناس. ومن عجب أنه وهو الطفل يجعل المقترب منه يحاول أن يرضيه بكل وسائل الإرضاء، ويَسعَد جليسه غاية السعادة إذا ابتسم، ويَشعُر مُرافِقه أنه هو الذي يبتسم لا الطفل!

أذِن الله للحاج عبد الهادي أن يَبَر بِقَسَمه، وخَتَم منصور القرآن وهو في العاشرة من عمره؛ فلم يتأخر عن رِفاق سِنِّه في المدرسة إلا سَنتَين. وما سَنتانِ في عمر الزمان؟

•••

حين كان يأتي الشيخ مأمون لِيُعَلِّم حفيده كان يُلاحِظ في السنوات الأخيرة من حِفظ منصور للقرآن أن ابنته روحية تَضوَى ويشتد بها الهُزال.

– يا ابنتي ألا تأكلين؟

– يا أبي كيف؟ هل يستطيع الإنسان أن يعيش بغير أكل؟

– هُزالك يشتد، لعلك تَخجلِين أن تأكلي …

– أيخجل الإنسان في بيته؟ وأنت تعرف أنني أقوم بشئون البيت جميعًا، وأن حماتي خالتي حميدة قد تَركَت كل شيء لي، وهي سعيدة بذلك، فمِمَّن أخجل إذن؟

– إذن لا بد أن هناك شيئًا يُسبِّب هذا الهُزال.

ودخل الحاج عبد الهادي مرةً وسمِع هذا الحوار: أنت مُحِق يا شيخ مأمون؛ ولهذا طلبتُ الآن الطبيب دكتور إسماعيل حسني لِيَقول لنا رأيه.

وجاء الطبيب وقال: ليس بها شيءٌ عضوي، وربما تحتاج بعض المُقوِّيات.

وارتاح الحاج عبد الهادي والشيخ مأمون لهذا القول، وحمدا الله. وكان منصور يرقب هذا جميعًا بقلبٍ واجف محاولًا ألا يشعر به أحد، غير أن عَينَي أمه كانتا تَرقُبانه في تطلُّعٍ وسعادة أنه مُهتمٌّ بشأنها. ورأت في مُحيَّاه أنه غير مُطمئنٍّ لكلام الطبيب، وأنه لم يسارع إلى تصديقه كما فعل جَدَّاه، فإذا هو يقول لهما: لا بأس أن نُجرِّب دواء هذا الطبيب بعض الوقت، ثم نسأل طبيبًا آخر.

وضَحِك الجَدَّان في سعادةٍ غامرة؛ فالرأي سليم، وسكوتُ منصور طُول فترةِ وجودِ الطبيب وعَدمُ مُشاركتِه الكبار في كُلِّ ما دار من أحاديثَ أثار في نفس الجَدَّين معًا الكثير من العَجَب والإعجاب.

وبمناسبة ختام منصور للقرآن أقام الحاج عبد الهادي ليلةً لله سبحانه وتعالى، تداول فيها مشاهير قُراء القرآن قِراءة القرآن. وقام المشايخ بعمل الخاتمة، ووُزِّعَت الصدقات على الفُقراء والمُعوِزِين. وكانت روحيَّة هي التي تقوم بشئون الليلة جميعًا التي استمرت إلى الصباح.

وقبل أن يترك المشايخ البيت جاء من يطلب إليهم البقاء. لقد ماتت روحيَّة، والليلة في خِتامها الأخير.

كأنَّما كانت على موعدٍ مع إبراهيم أن تَلحَق به حين تطمئن على مُستقبَل منصور!

وكأنما خُلِقَت روحية لِتُقدم منصور للحياة وترعاه حتى يطمئن إلى الحياة ويهدأ مُستقَرُّه فيها، ثم تُودِّعه لِتَستقبِله يوم يُريد الله أن يضُمه إليه!

حَزِن منصور حُزنًا شديدًا، ولكنَّ العجيب أنه لم يَشعُر بأيِّ لونٍ من الهلَع أو الجزَع؛ فقد اطمأن قلبه إلى الإيمان، وهو من حَفَظة القرآن، وحَمَله في قلبه!

بكى بُكاءَ حزنٍ لا خوف، وعرف الأَسى الآخِذَ الشديد الذي يعرف الناسُ حين يفقدون أمهاتهم. ومن كالأم حُبًّا وتضحيةً وحنانًا وحَدَبًا وشَفقةً وإيثارًا؟ فقد كان حب منصور لأمه حُبَّينِ في وقتٍ معًا؛ فقد كانت أُمَّه وأباه. وإنَّ جَدَّه عبد الهادي يَسكُب عليه العطف والحب ألوانًا وأفانين، ولكنْ هل في الدنيا جميعًا شيء كَنداءِ الأب لولده ذلك النداءَ الذي يكاد الأبُ يضع قلبه فيه؟ نداءً لم يعرفه منصور، ولكنَّه أَحسَّه في أصوات الآباء وهم يُنادون أبناءهم، وافتَقَده هو لنفسه ولم يسمعه.

لِحكمةٍ يعلمها ربي وبيده أرادني أن أَلقَى الحياة بغيرِ أبٍ وبغيرِ أم، ولكنْ سبحانه لَطَف بي فأحاطني بقلوبٍ حانية. وما يُريد الله كائن. والحمد لله على ما شاء حمدًا يُرضيه في عُليَا السموات.

وسارَتِ الحياة كما تَعوَّدَت أن تسير دائمًا. ومَرَّتِ السنون. وربما كانت وفاة روحية سببًا في أن يشعر منصور أنه مسئولٌ عن نفسه في خاصَّة شأنه. أمَّا المأكل فهو مبذول، وأمَّا الملبس فهو يصل إليه بطريقةٍ تلقائية؛ فقد كان عبد الوارث يصحبه في أول الشتاء ويشتري له ملابس الشتاء وكذلك يفعل في الصيف، وكان ملبسًا من أحسن الأنواع دائمًا.

أمَّا من يُلبسه هذا الملبس ومن يُؤانِسه حتى يعود مُتأخرًا من المدرسة ويتناول طعامه وحيدًا؟ ومن يؤنسه إذا نبا به مَضجَع وعَزَّ عليه نوم؟ ومن يسمع منه إذا أحب أن يقول، وأن يروي عن مدرسته وصِحابه ونفسه؟ لم يَبقَ له إلا الله. وكانت نفسه يُنِير جوانبها القرآن والسجيَّة النقية والصَّفاء الذي يهبه الله لبعض النفوس، فيُشِيع به الرِّضى في حياتهم. والرِّضى أسمى درجات السعادة. وحَسبُك أن الله وهو الله قال لنبيه وهو نبيه: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى.

أمَّا في المدرسة، فقد صاحب منصور الأصدقاء، وأَحسُّوا جميعًا أنه مُتميِّز عنهم بحفظه للقرآن، ثم هم في مدرسة المركز يعرفون قَدْر الحاج عبد الهادي، ويسمعون من آبائهم ثناءً عليه. وهكذا كانت تُحيط بمنصور هالةٌ من العلم وكرامة الأسرة في وقتٍ معًا. وأصبح إخوانه الطلبة ينظرون إليه نَظرةً خاصة، فيها حُبٌّ وفيها احترامٌ وتقدير. وفي حياة التلاميذ، وفي ساعات اليوم الدراسي، تَقَع قِصصٌ متتابعة صغيرة لا تُروى، ولكنها تجعل كل تلميذ يُكوِّن رأيه عن الآخر، في فصول الدراسة، في مناقشة الأساتذة، في ملعب الفسحة. تتشابك خُيوطٌ من الحكايات التي تمر في حياة الناس فلا يُلقَى إليها أيُّ التفات. وتَدور مُناقَشاتٌ وتنتهي دون عُنفٍ في الخصومة أو لَجَاجةٍ في الرأي، ولكن التلميذ مع حكايةٍ تتبعها حكاية ومناقشةٍ في أَثَر مناقشة يُكوِّن رأيه عن زملائه حُبًّا أو غيرَ حُب قد لا يصل إلى الكراهية، وإعجابًا أو عدم إعجاب قد لا يصل إلى الاحتقار. ومن هذه المَشَاعر تَتكوَّن الصداقات، وبهذه الصِّلات تَكوَّنَت صداقةٌ وثيقة بين منصور وأمين عبد الصادق؛ فقد أعجب أمين برفيقِ فَصله منصور، وأعجب به منصور، وتكونت صداقةٌ بينهما قَويةُ العُرى يُخالطها الإعجاب. وقد كان أمين ابن أسرةٍ ثَريةٍ ثراءً واسعًا، وكان أبوه يعمل بالتجارة. وهو بطبيعة الحال صديقٌ للحاج عبد الهادي صداقةً بعيدة في أغوار الزمان، وصديق لأخيه الأصغر عبد الوارث أيضًا، ولكن صداقة الآباء لا تعني بالحتم صَداقة الأبناء، ولكن إن كان الآباء أصدقاء فصداقة الأبناء، خاصَّة في سن منصور وأمين الباكرة، تكون حميمةً تجد التشجيع والتبريك من الآباء. وأصبَحت صداقة منصور وأمين شهيرةً في المدرسة.

وكان منصور حريصًا أن يقيم صلاة الظهر في وقتها في المدرسة، وكان يُصلِّيها معه أمين، وكان كثيرٌ من التلاميذ أَصدقاءَ أو كانوا مُجرَّد زملاء، وكانوا يُصلُّون على حصير الحاج أبو العلا فَرَّاش المدرسة. وفي يومٍ كثُر المصلون حتى لقد نَبتَت فِكرةٌ في ذِهن منصور: جَدِّي، عندي فكرة.

– قل يا شيخ منصور.

– عجيبة أنك قلتَ يا شيخ!

– لقد أردتُ أن أدلِّلَك فقط.

– ولكنَّ اللقب يَتفِق تمامًا مع ما سأتحدَّث فيه.

– خيرًا.

– لقد بَنَيتَ جامعًا حين استجاب الله لك دعاءك أن تنجب أبي.

– فلنَفرِض.

– فما رأيُك لو أقَمتَ جامعًا صغيرًا لوجه الله فقط، ودون نَذرٍ منك واستجابة من العلي القدير؟

– أفعل. ما المناسبة؟

– أنا لا أريد منك إلا مسجدًا صغيرًا في المدرسة؛ فنحن نُصلِّي الظهر في المدرسة وأحيانًا في الشتاء يحل موعد العصر مُبكِّرًا ونُصلِّيه هناك أيضًا. والتلاميذ يتزاحمون على حَصيرٍ مُتهرِّئ ولا يتسع لهم، فيُصلُّون على البلاط. وصحيحٌ أن الله أكرم نبيه بأن جعل أرضه كلها مسجدًا لعبادة المُسلمِين إلا أن هؤلاء تلاميذُ صغار، وقد يُصيبُهم البلاط بالبرد.

– لا بد أن تُصبِح محاميًا يا منصور، ولو أنك غير محتاج لهذه المرافعة كُلِّها لتكسب القضية؛ فإنك قد كَسَبتَها منذ أَبديتَ رغبتك. والمال مالُك، وما أنا إلا حارسٌ عليه، وتوكلنا على الله.

– بل انتظر يا جَدِّي حتى أُكلِّم ناظر المدرسة.

– وهو كذلك.

وفي اليوم التالي ذهب منصور فاستأذن أن يرى حضرة الناظر الأستاذ وجدي عبد العال.

– إننا نريد أن نُقِيم مسجدًا بالمدرسة.

– الميزانية لا تسمح يا أستاذ منصور.

– جَدِّي سيقيم الجامع.

– حقًّا!

– نعم.

– أين نبنيه؟

– في الفناء. أنا وإخواني وَجَدنا له مكانًا مناسبًا.

– ولكن أيرضى التلاميذ أن نُضيِّق عليهم الفناء؟

– هل لي يا حضرة الناظر أن أقترح اقتراحًا؟

– قُل.

– إن الله يقول في كتابه العزيز: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ. اجعَلِ التلاميذ يُدلُون برأيهم في عمليةٍ ديمقراطية، حتى يعرفوا أن الجامع بُني برغبتهم ولم يُفرَض عليهم.

– موافقون. ويشترك أيضًا المُدرِّسون في إعطاء الرأي.

– وهو كذلك.

– وهو كذلك.

وتم أخذ الرأي، فإذا هو إجماعٌ لم يتخلف عنه المسيحيون من تلاميذَ أو مُدرِّسِين، وكان المسجد صغيرًا. وكانوا في أوائل السنة الدراسية، فصَلَّى التلاميذ في الجامع قبل الامتحانات بِشهرَين. ورفض منصور أن يكون هو المسئول عن الجامع.

– إن جَدِّي هو الذي بناه. أكان بَنَاه حتى أُصبح أنا مسئولًا عنه، وهل تَرَون أن أظل دائمًا أُذكِّر زملائي أن جَدِّي هو الذي بنى الجامع؟

– فماذا ترى؟

– تَتكوَّن لجنة وتنتخب رئيسًا لها، ولن أكون أنا منها.

– وكيف تتكوَّن اللجنة؟

– بنفس الطريقة التي بُنيَ بها المسجد.

– بالانتخاب؟

– ينتخب التلاميذ اللجنة، ثم تنتخب اللجنة رئيسًا. أمَّا أنا فلن أُرشِّح نفسي.

– ونِعمَ الرأي.

– وتمت عملية الانتخاب، وأَسفَرت عن انتخاب أمين عبد الصادق رئيسًا للجنة الإِشراف على المسجد. وقال أمين في أول اجتماع للجنة إن أباه مُتبرِّع بمصاريفِ المسجد من أَجرِ الفَرَّاش إلى أجر المُؤذِّن. أمَّا الإمام فسيكون الشخص الذي كان يؤمُّنا دائمًا، منصور النقيب؛ فهو أَحفظُنا للقرآن.

وقال وهبي عبد المجيد، عضو اللجنة: طبعًا إلا في أيام الجمع؛ فقد يأتي إلى الجامع من هم أكبر منه سِنًّا ومن حَفَظة القرآن أيضًا.

وقال أمين: أحسنتَ يا وهبي، وسنتَّفِق مع عالمٍ جليل ليأتي إلينا في أيام الجُمَع يؤمَّنا ويُلقيَ علينا دروسًا دينيةً أيضًا.

وهكذا استَقَر الشأن، وأصبَحَت قصته دائرةً على كل لسان، حتى لقد كَتبتِ عنه الأهرام مُشيدةً بما قام به التلاميذ والمُدرِّسون وأَهلُ الخير الذي شاركوه في أمره.

•••

من بين مُدرِّسي المدرسة عبد العزيز المشد، يمتلك قلمًا غالي الثمن، يتباهى به على زملائه وتلامذته على السواء. وهو حريصٌ في كل حِصَّة أن يَأمُر التلاميذَ بِحَل مسائل الحساب لِيُخرج هو القلم ويَكتُب به أيَّ شيءٍ لِيراه التلاميذ في يده؛ فهو أحيانًا يكتب في كَرَّاسة التحضير أو يكتب به خِطابات، لو رآه مفتش يَكتُبها لوجه إليه اللَّومَ الشديد؛ فخِطاباتُ الأقاربِ والأصدقاءِ ليس مكانها فصول الدراسة.

وإن كان ذلك ممنوعًا على التلاميذ، فمَنعُه على المُدرِّسِين من باب أَوْلى؛ فالمفروض أن يكون المُدرِّسون للتلاميذ قدوة، ولكن عبد العزيز المشد معذور فيما يفعل؛ فكيف له أن يُظهِر القلم ويَتبَاهى به إن لم يكتب في كَرَّاسة التحضير أو يكتُب به الخطابات؟ وكلاهما ممنوعٌ أثناء الحصص؛ فالكتابة بِالقلَم على السبُّورة مستحيلة. وإذا أخرج القلم وتَبَاهى به دون أن يستعمله فسيُصبِح بين التلاميذ أُضحوكة. على أن التلاميذ — على كل حال — لا يَفوتُهم شيء؛ فقد أدركوا بِحواسِّهم الساخرة ما يُريد الأستاذ عبد العزيز أن يُظهِره من مَفاتنِ قلَمِه الذي يتصور أنَّ أحدًا غَيرَه لا يَملِك مِثلًا له في الوجود.

وفي يومٍ بينما الأستاذ عبد العزيز يكتب بالقلم فُتح باب الفصل ودخل مُفتِّش الرياضة، وفوجئ به الأستاذ عبد العزيز، وتَولَّاه الهلَع والذعر في وقتٍ معًا. ووَضَع القلم على المنضدة دون أن يُعنَى حتى بِوَضعِ السِّن في غطائه. مع أنه في الأحوال العادية يَحرِص كُل الحرص على إحكام الغطاء إحكامًا يَستوثِق معه أن القلم لن يُفتَح في جَيبِه.

انتفض الأستاذ عبد العزيز قائمًا مرتعشًا وهو يقول: قيام.

تَخلَّجَت في فَمِه حتى ما كادت تَبين.

وشَذَره المُفتِّش بنظرةٍ لاهبة وهو يقول: امضِ في الدرس يا أستاذ.

وراح الأستاذ عبد العزيز يسأل التلاميذ، وراحوا يُجيبون، وانتهت الحصة. وخرج المفتش ولحق به عبد العزيز ناسيًا القلم؛ فقد كان حريصًا ألا تُوضَع نُقطةٌ سوداء في التقارير التي تُكتب عنه حِرصًا مضاعفًا؛ فإن كُلَّ أَملِه أن يُنقَل إلى القاهرة حتى يتم زَواجُه من ابنة عمه، وجنات، التي مضى على خطبتها له سنتان، وتم إعداد شقَّتها. وأصبح لا ينقُصه إلا أن يُنقل إلى القاهرة حتى تُمضِي العَروس فترة الزواج الأُولى مع أمها وأبيها. هكذا تُصمِّم أُمُّها الست ألطاف.

فما له إذن لا ينسى القلَم ويُسارِع إلى سعادة المُفتِّش يسترضيه ويستجديه، ويُبدِي له ما يَعِنُّ له من أَعذار؟

خرج التلاميذ من الفصل؛ فقد حلَّت الفسحة الأولى، وتصادَف أن نادى وليد عبد الموجود زميله جرجس حنين: يا جرجس، ألا تخرج؟

– لا، سأكمل الواجب للحصَّة القادمة.

– تَضِيع عليك الفسحة.

– بقي لي سطران، أَكتبُهما وأَلحَق بك فورًا.

وخرج الجميع، وقد عَلِموا أن جرجس باقٍ في الفصل. وأَوشكَت الفُسحة على الانتهاء، وتَذكَّر منصور أنه لم يقرأ الواجب بعد كتابته، فسارع إلى الفصل يقرأ قبل أن تبدأ الحِصَّة.

والفصول في المدرسة مَبنيةٌ على الطِّراز القديم للمدارس؛ فهي ذات نوافذَ تُطِل على شُرفةٍ طويلة. ويستطيع الواقف في الشرفة أن يرى داخل الفصول، ويرى فِناء المدرسة أيضًا.

فحين أصبح منصور أمام نافذةِ فَصلِه الأُولى رأى وجدي حسنين يَأخُذ قلم الأستاذ عبد العزيز ويَخرُج به مسرعًا، وقبل أن يصل منصور إلى النافذة الثانية للفصل كان وجدي قد أولاه ظَهرَه دون أن يراه.

وذُهل منصور، لا يدري ماذا يفعل، أيفضح صديقه؟ أيسكت عن سَرقةٍ رآها بِعينَيه؟!

عاد إلى الفُسحة؛ فلم يَعُد يفكر الآن في إعادة القراءة للواجب، وتولَّاه صمتٌ واجم حزين يختلط بالحَيرة والأَلم أن زميله وجدي لِص.

انتَهتِ الفسحة، وعاد التلاميذ إلى الفصل. وقبل أن يجلسوا دخل الأستاذ عبد العزيز مُسرِعًا يبحث عن القلم؛ فقد استطاع أن يحُلَّ مُشكلته مع المُفتِّش وحان له أن يبحث عن قلمه العزيز. لم يَجِده طبعًا، فأوشك أن يُجَنَّ وصاح بالتلاميذ: قلمي.

وصاح بعض التلاميذ: ما له؟ وصاح آخرون: إشمعنى؟ ولكن الأستاذ عبد العزيز كان في حالٍ لا تسمح بأي تهاون؛ فقد احمرَّت عيناه وارتَعشَت شفتاه: القلم، أقتلكم جميعًا. القلم نَسِيتُه هنا مُدَّة الفسحة فقط. مَنْ آخر تلميذٍ خَرجَ من الفصل؟

وهوَّم الصمت على التلاميذ لَحظَات، ثم قال جرجس حنين: أنا يا أستاذ آخر تلميذٍ خرج من الفصل، بل الواقع أنني بَقِيت بالفصل دَقائقَ لأكمل واجبًا لم أكن أَكملتُه.

فصاح به عبد العزيز: واجبًا لم تكن أكملته! هل سَرِقةُ قلمي واجبٌ يا سي جرجس؟ هاتِ القلم.

– صدقني لم أَرَهُ إلا في يدك.

– كان هنا على المِنضَدة، وأنت وحدك في الفصل.

– ليس هذا شأني. إننا ما زِلنا في المدرسة، فتِّشني. ولو أن هذا أَمرٌ لم يَحصُل لي في حياتي مُطلقًا.

– أُفتِّشُك! أتظنني عبيطًا لِدرجة أنني أتصور أنك ستُبقي القلم معك؟

وجاء مدرس الحصة التالية الأستاذ متولي عبد المجيد.

– خيرٌ يا أستاذ عبد العزيز.

وروى له عبد العزيز القصة، ودون أن يُحِس متولي وَثبَتِ ابتسامةٌ على شَفتَيه.

– أتضحك يا متولي؟!

– لا أقصد والله، ولكني أعلم مكانة هذا القلم عندك.

– أتضحك يا متولي؟!

– أَوَّل هديةٍ من ﺣﺒﻴﺒ… أقصد من خطيبتك، ولك حقٌّ أن تَحرِص عليه وتَعتَز به.

– ليس أمام الأولاد يا متولي. والحقيقة أنني لم أجد قلمًا أراحَني في الكتابة مِثلَ هذا القلم.

– والآن ماذا ترى؟

– لا بد أن يَظهر القلم.

– والحصَّة؟

– في ستين … أقصد أني آسف، ولكن ماذا أفعل؟

– أَتشُكُّ في أحد؟

– بل إنني مُتأكِّد من السارق. الولد جرجس حنين.

– خذه إلى الناظر وأكمل القضية.

– وهو كذلك، تعالَ يا سي جرجس.

وخرج جرجس مع الأستاذ عبد العزيز ودَمعةٌ تَطفَر من عينه تبعثها كرامةٌ جريحة أن تفيض، ويُمسِك بها شعور بالظلم أن تسيل؛ فهي حائرة في مكانها على جفنه لا تنضب ولا تنحدِر. وراح الأستاذ متولي يشرح الدرس. وكان منصور قد استَقَر على رأي، وانتَهَت الحِصَّة.

وسارع منصور إلى وجدي وانتحى به ناحية: ضع القلم في درج مِنضدَة الأستاذ عندما نخرج في الفسحة، وأُعاهِدك ألا يعرف أحد.

– ماذا؟ ماذا تقول؟

– لقد رأيتُك بالصدفة، ولا تَرضَى أن يضيع مُستقبَل زميلٍ من أجل فِعلةٍ هو بريء منها كُلَّ البراءة.

وأطرق وجدي خَجلًا: وتسترها عليَّ؟

– أَستُرها.

– وتنساها لي؟

– إذا لم تَتكرَّر.

– لن تتكرر، وأُقسم لك.

– توكَّلنا على الله.

وفي الفُسحَة قال منصور للتلاميذ: لماذا لا نبحث في الفصل على القلم لَعلَّه في جوانب الفصل، أو لعل أحدًا من الفَرَّاشِين وَضَعه في مكانٍ ما؟ كُلُّ واحدٍ مِنَّا يبحث في مكتبه. أمَّا أنت يا أمين، فابحث على مِنضَدة الأستاذ؛ فإن عليها أوراقًا كثيرة لَعلَّه تائهٌ بينها.

وطبعًا وجد أمين القلم وأعطاه لمنصور، وقال منصور: هيا بنا نُبشِّر الأستاذ عبد العزيز. وخرج وتَبِعَه بعض زملائه.

– هذا هو قَلمُك يا أستاذ عبد العزيز. أرأيت كم ظَلَمتَ جرجس؟!

وصاح عبد العزيز وكأنه وَجَد كَنزًا: الله يخليكم. ألف شكر، ألف شكر، آسف يا جرجس يا خويا، آسف يا بني.

وحينئذٍ عَرفَت دمعة جرجس سبيلها فسالت، وتبِعَتها دموعٌ كثيرة، بل وبكاءٌ ونشيج.

وذُهل عبد العزيز من الموقف، وراح يُربِّت كَتِف جرجس وقال: ماذا يرضيك؟

– لقد أرضاني اللهُ يا أستاذ عبد العزيز.

– سبحانه وتعالى.

– وخُذ هذا كتابٌ جديد، اشتريتُه ولم أَقرأْه، سأكتب عليه إهداءً لك أَعتذِر فيه وأَصِفُك بما أنت أَهلُه من الخير.

صاح أمين: على أن يكون الإهداء بِالقلَم الذي وجدناه يا أستاذ عبد العزيز.

– طبعًا، وهل أكتب بغيره؟

وضَحِك الجميع، حتى جرجس.

•••

مَضَت أيام على هذه الواقعة، وسأل منصور أمين: متى تجتمع لجنة الجامع؟

– غدًا.

– أتسمح لي بالحضور؟

– طبعًا.

وفي اللجنة قال منصور: إن ما حدث لأخينا جرجس يجعلني أَقترِح عليكم اقتراحًا.

– ماذا؟

– أن نُكوِّن لجنةً في المدرسة لإحقاق الحق. لا نرى شيئًا يَضُر بالمجتمع إلا ونُحاوِل أن نُغيِّره بالحُسنَى وبالهداية، ونجادل المخطئ بالتي هي أحسن؛ فالله يقول لنبيه : وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، والله يقول: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا.

قال أمين: هذه فِكرةٌ رائعة.

وقال منصور: ومن يدري؟ لعلها تبدأ معنا في المدرسة ثم تظل تجمعنا إلى آخر العُمر.

– وستكون كذلك إن شاء الله.

وقال آخرُ لمنصور: مُدَّ يدَك.

فمَدَّها.

– ومُدُّوا أَيديَكم إلى يده. اقرءوا الفاتحة على هذا الميثاق. توكَّلنا على الله.

٣

حين مَرِض الحاجُّ عبد الهادي مَرَض الشيخوخة كان راضيًا غاية الرضا؛ فقد كان منصور قد انتظم في كلية الحقوق في ذلك العام، وهو في العشرين من عمره.

ولم يَطُلِ المرض بالحاجِّ عبد الهادي؛ فقد اختاره الله إلى جِواره دون أن يشقى بمرضٍ طويل؛ فما هو إلا أسبوعٌ واحد نام فيه ثم انتقل إلى الباقية راضيًا مَرضيًّا.

وقد حَزِن منصورٌ لموت جَدِّه الذي لم يعرف له أبًا سِواه، والحزين لا منطق له؛ فليس يعنيه أن الحاج عبد الهادي كان قد تَجاوَز الثمانين، وأن كل حيٍّ إلى فراق. واستَمسكَ منصور بإيمانه العميق، وشارك منصور في حزنه عبد الوارث الذي كان يرى في عبد الهادي أباه هو أيضًا، وقد استطاع انشغاله بشئون المأتم أن يُلهِيَه عن أحزانه بعض الشيء.

كان أهل المهدية أوفياءَ لِلرجل؛ فلم يَبقَ فيهم أَحدٌ لا يُمسِكه عذرٌ إلا ذهب إلى الجنازة والمأتم جميعًا، ولكن عبد الوارث لاحظ أن المُعزِّين الذين جاءوا لمنصور أَكثرُ بكثيرٍ مما يتوقَّع أَحدٌ لِشابٍّ في العشرين من عمره. وكان عبد الوارث قد سَمِع عن الجمعية التي تَكوَّنَت في المدرسة ثم اتَّسَع أمرها، ولكنه لم يكن يَتصوَّر أن الشباب المُنضمَّ إليها بهذه الكثرة.

كما لاحظ عبد الوارث أن أمين لم يترك منصور لحظةً منذ مرض جَده، بل هو يُلازمه مُلازمةً تامة، ولم يذهب إلى كلية الحقوق التي كان انتظم فيها هو أيضًا طَوالَ الأيام التي بقي فيها منصور مع جَدِّه.

حين انتهت أيام المأتم وحان لمنصور أن يعود إلى كُلِّيته.

– يا منصور أنت حتى الآن …

– أعرف يا عم عبد الوارث، والأمر لا يحتاج إلى كثيرِ كلام؛ ولهذا سمَحتُ لنفسي أن أُقاطِعك. إنني أختارك أنت وصيًّا عليَّ، وحتى حين أبلُغ رُشدي في العام القادم، فأنت المسئول وَحدَك عن ثروتي وكأنها ما زالت في يدَي جَدِّي تمامًا. وضَعْ لي حقِّي في البنك، وأنا أعرف من أنت؛ فلا حساب بيننا؛ فأنا واثق أن حقي سيزيد في يدَيك لن ينقُص.

٤

حين تَخرَّج منصور في كلية الحقوق كانت أمواله في البنك أكثر مما تَوقَّع بكثير؛ فقد كانت مطالب منصور أثناء الدراسة قليلةً كُل القِلَّة؛ فإن فيه زهدًا طبيعيًّا عن بَهرَج الحياة وهو نقيٌّ كُل النقاء. وعبد الوارث أمينٌ كُل الأمانة، وكان أحيانًا إذا وجد صفقةً مؤكَّدة الربح مستحيلة الخسارة كان يَدخُل بأموال منصور فيها ويَضَع الربح كاملًا باسم منصور مع أمواله في البنك.

أبى منصور أن يترك المهدية، بل أَصرَّ أن يبقى بها، وقام بالتمرين في مكتب الأستاذ عز الدين الديواني، وزامَلَه في المكتب أمين عبد الصادق. وبعد انتهاء فترة التمرين فتح منصور مكتبه في شقةٍ بإحدى عماراته، كان يُعِدُّها لذلك. وكان المكتب بِاسمِه وبِاسمِ صديقه أمين عبد الصادق الذي شاركَه في المَصاريف.

ومكاتب المحاماة في المراكز سريعًا ما يقصدها الزبائن؛ فالناس يعرفون المُحامِين معرفةً وطيدة، ويعرفون آباءهم وأجدادهم وكُلَّ ما يحيط بهم.

فلم يكن عجبًا أن يبدأ المحاميان الناشئان عَملَهما في المحاكم في نفس الأسبوع الذي افتَتَحا فيه مكتبهما بقراءة القرآن الكريم.

وتمضي الحياة في طريقها بمنصور لا يميل لها سَمتٌ ولا يَعوَجُّ به قصد؛ فقد كان يعرف ما يُريد وما يجب أن يفعله وما لا يجوز له أن يفعله.

•••

فواز صالح وتوفيق شافعي وعدلي عبد المسيح وعاطف منير، شبابٌ من قرية المهدية، لم يُكتَبْ لهم أن ينالوا من التعليم إلا ما يسمح لهم بالقراءة والكتابة. أمَّا فواز صالح وعدلي عبد المسيح فيعملان في إصلاح السيارات بورشة الأسطى فتحي الصلحي، وأمَّا توفيق شافعي فنجَّار، ويعمل عاطف منير كمنجد، وهذان الأخيران لا يستقر بهما مَقامٌ في ورشة، وما هذا بعجيب، بل العجيب أن يستقر فواز وعدلي بورشة الأسطى حامد، ولعل السبب في ذلك أن الأسطى فتحي الصلحي لا يبدأ عمله قبل الحادية عشرة من صباح كل يوم. وهكذا يستطيع كُلٌّ من فواز وعدلي أن يُفيقا من سهرة الحشيش والخمر التي يَعكُفان عليها كلَّما وجدا ثمنها ويُشارِكهما فيها توفيق وعاطف.

فواز صالح ابن الحاجة حسنية الصعيدي، التي كانت تقوم بحلب البقر والجاموس في بيت الحاج عبد الهادي. وبما هذه الصلة وَجَدتُ حكاية فواز تُقحِم نفسها في الحديث عن منصور. جمَعَتِ العمالَ الأربعةَ ليلةٌ ليلاءُ لا يملكون فيها ما يشتري سيجارة، وقال قائلهم: أهذا كلام؟ أربعة شبابٍ مثل الورد لا يجدون ثمن زجاجة كونياك؟! طيِّب نقول إن قرش الحشيش بالشيء الفلاني، أَنعجِز عن شراء زجاجة كُونياك؟!

– من قال إننا مثل الورد؟ إننا مثل الزفت السائح، مثل القطران، وهل هناك أخبث منكم؟ أقصد مِنَّا جميعًا.

– وماذا نعمل؟

– كثير.

– مثل ماذا؟

مثل يا سيدي المرأة الحاجة جميلة الصيرفي، أم الولد كامل الصيرفي، الذي يعمل طبيبًا بمصر، والذي يكاد يعن من الكِبَر، المرأة وحدها، وعندها صيغة وأموال و…

– حاسب، حاسب ماذا تقصد؟

– ألم تفهم ما أقصد؟

– تقصد يعني؟

– نعم أقصد يعني.

– أهذا معقول؟

– انتظر. كم الساعة الآن؟

– التاسعة.

– سأستلف ثمن زجاجة كونياك ونُفكِّر في الموضوع.

وكانت الزجاجة الكلمة الأخيرة في النقاش، وهجم أربعتهم على السيدة العجوز، وقاوَمَت فكَبَّلوها، وضربها أحدهم بعودِ حديدٍ استَخلصَه من كرسيٍّ أسيوطي، وتم القتل.

وقبل أن يطلُع الصباح كان الشرطة قد تَوصَّلوا إلى الجُناة الأربعة وأَلقَوا القبض عليهم.

إلى من تذهب حسنية الصعيدي؟

فواز اعترف اعترافًا كاملًا في محضر الشرطة وفي النيابة، وكان يرافقه أمين عبد الصادق محاميًا من المكتب، حتى إذا تمت التحقيقات وجاءت حسنية إلى المكتب قال لها منصور: يا خالة حسنية، أليس لك ابنٌ نال الإعدادية، وأظنه يعمل بالمديرية؟!

– نعم، خضير. الحاج عبد الهادي الله يرحمه هو الذي عيَّنه.

– أحضريه معك وتعالَي بُكرة.

وفي اليوم التالي: اسمع يا خضير، أنا لم أُرِدْ أن أقول لأمك وحدها الكلام الذي سأقوله لك.

– تفضَّل يا أستاذ.

– أخوك اعترف.

– نعم.

– وارتكب الجريمة.

– نعم.

– أنا لا دفاع عندي عنه إلا حالة السُّكْر، ولكنني لا أستطيع أن أكذب، فإن يمين المُحاماة يمنعنا من الكذب.

– يمين ماذا يا أستاذ؟

– ألم تسمع؟

– يا أستاذ منصور، أنت لا تعرف مكانتك عندنا.

– مكانتي، هذا لأنني صادق.

– بصرف النظر.

– وما دخل مكانتي فيما نتكلم فيه؟

– أقصد أن هذه قضية يَتمنَّاها كِبارُ المُحامِين، وسعادتك تبدأ حياتك.

ثم التفت إلى أمه: أمَّه، قولي له الأستاذ صدقي البحراوي قال لك ماذا.

– وحياتك يا سي منصور قال لي أدفع ألف جنيه وأترافع في هذه القضية.

وقال منصور: أنا لا شأن لي بالآخرِين. الكلام لكَ يا خضير، إذا قبلتَ أن أترافع معتمدًا على السُّكْر البين قبلتُ القضية، وإلا فأنا مُعتذِر.

– لا حول ولا قوة إلا بالله، قضية ستجعل اسمك كالطبل تعتذر عنها، هل أحد يُصدِّق؟ وتقول اليمين يمنعك من الكذب. أهذا كلام؟ المهم، أمرك، سلام عليكم.

التفَت منصور إلى حسنية: لا تزعلي مني يا خالة حسنية، كان لا يمكن أن أجعلك تفهمين، بل إنك لا شك حتى الآن لا تفهمين موقفي. لا عليكِ، أمري إلى الله. هكذا خُلِقتُ.

– والله يا بني أنا لا أفهم شيئًا.

– لا عليك.

– المهم هل ستترافع في القضية أم لا؟

– خضير سيُفهمك على كل شيء.

– هيا يا أمَّه، سأخبرك، هيا يا أمَّه، لا حول ولا قوة إلا بالله.

•••

وما لَبِثَت هذه القصة أن انتَشرَت في المركز جميعه؛ فما سَمِع الناس من قبلُ مُحاميًا يرفض قضيةً صغيرةً كانت أم كبيرة؛ فكيف والمحامي ناشئٌ جديد والقضية شهيرةٌ جهيرة؟!

٥

نشأت الربيعي، من أعيان المركز، أو كان من أعيان المركز قبل أن يختاره الله إلى جواره، وحين لقي الله لم يكن عنده في الحياة إلا فتاةٌ في ربق العمر هي سامية، باع لها كل ما يملك حتى لا يرث معها أَحدٌ من أقاربه. وارتضى الأقاربُ ما فعله الأب، مُرتئِين أنه عملٌ طبيعي يحاول به الأب أن يحافظ على مستقبل ابنته. واحد فقط من هؤلاء الأقارب ثار ثورةً عارمة؛ لأن نشأت حرمه ما كان سيَسقُط بين يدَيه من الميراث. وأغلب الأمر أنه ثار لأنه معروفٌ أنه كبيرُ مُجرمي المنطقة واستكبر أن يعدو على حقه قَريبُه ويَتحدَّاه مع أنه الذي تَعوَّد أن يعدو على حقوق الناس ويتحداهم. ومَنْ في المركز لا يعرف رفعت الربيعي، صاحب الحَولِ المجرم والطَّولِ المعتدي، والذي يثير الرعب في أنحاء المنطقة جميعها بما تحويه يده من قَتَلة ومن لصوص؟ ورفعت الربيعي ذكي؛ فهو مع كل حاكمٍ يحكم يُسانده ويُنافقه وينضم إلى حزبه ويتظاهر أنه من أتباعه.

وهكذا وَقعَت سامية بين فَكَّي حيوانٍ شرس لا ضمير له ولا خلق، وهي بلا نصيرٍ لها أو معين إلا الله سبحانه وتعالى، وكفى به حسيبًا ووكيلًا.

كان أقارب سامية يعرفون ما يصنعه رفعت بسامية من اعتداءٍ على الزراعة وسرقةٍ للمحصول ومطاردةٍ للفلَّاحِين الذين يزرعون حدائقها وإرهابٍ لِناظرِ زراعتها الحاج مراد الأشرم، ولولا أن الحاج مراد ذو أقاربَ وكبرياء لَتَركَ الأرض تنعى من زرعها، ولكنه كان يُقاوِم مقاومة غير القادر، وكفاه شجاعةً أن بقيَ في مكانه لم ينكس ولم يتراجع.

وكان الحاج مراد كلما سمع عن مُحامٍ قصد إليه، ولكن المُحامِين كانوا يرتعدون من ذكر رفعت الربيعي، ولا يَتَصوَّرون أن يقفوا خصومًا له في المحكمة، فيرفضون قضايا سامية، ويُذيعون هذا الرفض، ويكافئهم رفعت بأن يُوكِّلَهم في قضايا أخرى ما يلبثون أن يَقبَلوها فرحِين سُعداء. وكانت سامية وهي تلميذةٌ في مدرسة المركز تسمع عن أخبار منصور وما يصنعه في مدرسته، وكانت تتبع أنباءه كلها، وعَرفَت موضوع الجامع وموضوع الجمعية التي تسعى إلى إحقاق الحق، فاستدعت ناظر زراعتها: يا عم الحاج مراد، ألم تسمع عن المحامي منصور النقيب؟

– سَمِعتُ كل خير، وكفاه فخرًا رفضه الأخير لقضيةٍ كبرى لأنه أبى أن يكذب.

– لماذا لا تُفكِّر فيه لِيتولَّى قضايانا؟

– صغير ورفعت وحش.

– ليس الصغر والكبر بالسن يا عم الحاج مراد. إنه كبير وليس صغيرًا. اذهب إليه بقضايانا جميعًا.

– أمرك.

وقَبِل منصور جميع قضايا سامية دُون مناقشة؛ فقد كان واثقًا من حقها لِعلمه المُحقَّق بإجرام رفعت الربيعي وفُجوره. وأَلسِنة الخَلق أقلام الحَق. ودُهش الحاج مراد.

– ألا نبحث القضايا معًا يا أستاذ مهدي؟

– أنا قبلتها بادئ ذي بَدء، وسأدرُسُها ثم سأسعى أنا إليك وإلى الآنسة سامية وأتدارس معكما جميع القضايا.

– أنت رجل، وأنت ابن رجل أبًا عن جَد. علم الله كم عددُ المُحامِين الذين رفضوا هذه القضايا يا أستاذ منصور.

•••

حين عَلِم رفعت أن منصورًا قَبِل قضايا سامية أرسل إليه مفتاح، أحد رجاله المَشهورِين بأنهم من القَتَلة المأجورِين. وحين حاول أن يدخل مكتب الأستاذ منعه وكيل المكتب راضي العنتيبي.

– أتجرؤ أن تمنعني؟

– وأمنع سيدك أيضًا إذا جاء هنا. هذا مكتب له حُرمته وله أصول، وعليك أن تنتظر دَورَك. أم تَظُن أن مجيئك وعلى كتفك هذا السلاح سيُخيفني؟!

إن من يعمل مع منصور إبراهيم النقيب لا يخاف إلا الله وحده. أم تَظُنُّون أنفسكم يا رجال رفعت أنتم وسيدكم أنكم أصبحتم آلهةً في الأرض؟ اقعُد مع القاعدِين حتى أستأذن لك.

وفوجئ مفتاح، وخشي أن يَرُدَّ فيزداد راضي إساءةً له، وقعَد. وانتظر راضي حتى خرج المُوكِّل الذي كان مع الأستاذ منصور، ودخل إلى الحجرة: مفتاح العبد بالخارج.

وابتسم منصور ساخرًا وكأنه كان يتوقَّع هذا أو شبيهًا له: طبعًا معه بندقية.

– طولها ثلاثة أمتار.

– دعه ينتظر حتى يدخل آخر مُوكِّلٍ عندك.

– هذا ما تَوقَّعتُه منك.

وانتظر مفتاح، إلا أنه أحب أن يُخفِّف الحدة التي لقيه بها راضي: حتى ولا فنجان قهوة يا راضي أفندي.

– القهوة جاية من غير طلب يا مفتاح، أنت تعرف من صاحب المكتب ومن أبوه ومن جَدُّه. بابهم دائمًا مفتوح للضيف.

– حاسب عليَّ بعض الشيء.

– لو كنتَ عندما قَدِمتَ طَلَبت الإذن بالدخول شأن الأكابر، لَرأيتَ مني كل ما يُرضيك.

– غلطة وننساها.

– ننساها إن شاء الله.

– هل سيطول انتظاري؟

– هل رأيت أحدًا جاء بَعدَك ودخل قَبلَك؟

– الحكاية بالدور إذن.

– أليست هذه هي الأصول؟ بالدور، لا فضل لعربيٍّ على أعجمي إلا بالتقوى.

– منك نستفيد.

– طبعًا.

– وهل قلنا شيئًا؟

– الحق لا يُقال فيه شيء يا مفتاح، إنه الحق.

وحين دخل مفتاح إلى منصور هَبَّ فيه في عنف وكأنه فوجئ بالسلاح الذي يحمله: ماذا؟ ما هذا …؟

وفوجئ مفتاح: ماذا يا أستاذ؟

– ما هذا الذي تحمله؟

– ولا مؤاخذة يا أستاذ، متعود على حملها.

– اخرج من هنا واتركها حيث لا أراها؛ وحينئذٍ أقابلك.

وفعل مفتاح ما طلبه منه الأستاذ منصور، وخرج مسرعًا ووضع البندقية عند راضي وهو يقول له: لماذا لم تطلب مني أن أتركها؟

– حتى لا تحسب أننا نخاف منها أو منك.

– أبقها عندك الله يخليك.

– ضعها هنا على الكرسي الذي كنتَ جالسًا عليه.

وحين دخل مفتاح هذه المرة وقف منصور وهو يقول: الآن نستطيع أن نقول أهلًا وسهلًا، تَفضَّل يا سيد مفتاح.

– أكثر الله فضلك يا سعادة البيه.

– هل شربت القهوة؟

– أحسن بُن ومَن خَلقك. أحسن بُن.

– أتشرب فنجانًا آخر؟

– أنت مشغول، وهما كلمتان.

– قلهما.

– رفعت بِك الربيعي يريدك أن …

– ومن رفعت بِك الربيعي يا سيد مفتاح؟

– يا نهار أسود من الحبر الكوبيا.

– على مهلك، أنا فقط ليس لي أصدقاء بهذا الاسم.

– آه، ربما لا تعرفه شخصيًّا، ولكن ألم تسمع عنه؟

– آه، تَذَكَّرتُ، لعلك تقصد الرجل الذي يجمع حوله اللصوص والقَتَلة.

– الله الله الله، ما هذا يا منصور بيه؟!

– إذن فهو من تقصده، ماذا يريد رفعت؟

– أظن المسألة لم تعُد تسمح بأن أقول ما جِئتُ بشأنه.

– قُلْه وأنا أُخبرك إن كانت تسمح أو لا تسمح.

– كان يُريدك أن تُشرِّفه في البيت.

– شيءٌ عجيب!

– ما العجيب يا سيدي الأستاذ؟

– شخصٌ لا أعرفه ولا يعرفني يُرسِل لي رجلًا طويلًا عريضًا يحمل بندقيةً لأذهب إليه، ماذا يظن نفسه هذا الرجل؟

– أنا مُجرَّد خادمٍ عنده.

– وخادم أيضًا، وكيف تصور أنني سَأُلَبِّي الطلب؟

اسمع، أخبر رفعت هذا أن لي مكتبًا يستقبل كل من يأتي إليه، ولي أيضًا تليفون يَطلُب أن أُحدِّد له موعدًا، وسأرى عندئذٍ ماذا أفعل، شَرَّفتَ يا سيد مفتاح، مع السلامة.

•••

جُن جنون رفعت الربيعي؛ فقد تَصوَّر أي شيء إلا أن يُقابَل مندوبُه بهذا الاحتقار ويُقابَل اسمُه بهذا الامتهان. وزاد جنونه أن هذا الاحتقار كان على ملأٍ من الموُكِّلِين. وتَوقَّع أن يشيع ما حدث في المَركز كله.

وقد حدث فعلًا ما تَوقَّعه رفعت، وزُلزل المركز زِلزالًا؛ فقد كان الناس يَخشَون رفعت ويمالئونه، ويتظاهرون له بالطاعة والخضوع؛ فحين يَرَون شابًّا صغيرًا في مَطلَع حياته يصنع به هذا الصنيع، فمن الطبيعي أن تُزلزَل المقاييس عندهم زِلزالًا.

وفي بيت عبد العال هنيدي المحامي كان نفَرٌ من أصدقائه بينهم مُحامون ومُوظَّفون كبار يجتمعون في شبه نادٍ خاص، يلعبون النرد أو الورق، وإذا بهم يلحظون أن صدقي البحراوي ليس كما تَعوَّد أن يَرَوه تهريجًا وضحكًا وممازحةً، بل هو في حالة صمتٍ غاضب. ويسأله عبد العال: مالك يا صدقي؟ زوجتك ضَربتْك عَلقة؟

– يا ليتها.

– أنا أحتقر نفسي.

– أصبَحتَ مع الأغلبية التي تُكِنُّ لك هذا الشعور.

وضحِك الجالسون، إلا أن صدقي قطع ضحِكهم قائلًا في حسم: لا، فعلًا أنا أحتقر نفسي.

– لماذا لا قدَّر الله؟ إنك مُحامٍ مشهور، ومكتبك من المكاتب الهامَّة، وربُّ أسرةٍ ناجحة والحمد لله، ماذا بك؟

– أَحتقِر نفسي، وأَحتقِر كل الذي نصنعه عندك من إضاعةٍ للوقت والمال.

– نحن جماعةٌ نشقى طُول النهار ونُحاوِل أن نُسرِّي عن أنفسنا باجتماعنا هذا، ماذا في هذا؟

– نحن نُحاوِل أن نُسرِّي عن أنفسنا، ونحاول أيضًا أن نُثير ضَجةً في جوانبنا على أصوات ضمائرنا حتى لا تُحاسبنا حَضرات المُحامِين هنا. ألم نرفض جميعًا قضايا سامية الربيعي خوفًا من رفعت، ويقبله شابٌّ من أبنائنا؟ وما فعله ما سمعتم به مع كبير مُجرِمِي رفعت. وتقول لي يا عبد العال إنني مُحامٍ ناجح، من الناجح؟ أنا أم هو؟ أنا الذي سَعَيتُ وراء قضية الطبيب أم هو الذي رفضها؟ والمصيبة أن نظرته وهو الشابُّ يتأكد أنها أصدق من نظرتي … الأربعة القَتَلة إعدامٌ في حكم يَندُر أن يكون له مثيل. إن هذا الشاب منصور النقيب يبعث روحًا جديدةً في المركز، أو هو يبعث روحًا جديدةً في الوقوف مع الحق مهما تَكُنِ النتائج.

وهَوَّم صمت، ثم ارتفع صوتُ مجيد مالك مدير الضرائب: ما هذا الخطاب الطويل عن شابٍّ أَرعنَ يُحاوِل أن يُثير لنفسه شهرة؟ لا تَتعجَّلِ الحكم وانتظِر مصيره.

ويصيح صدقي: أنتظر مصيره؟ لمَ أنتظره؟ لماذا لا أُشارِكه هذا المصير؟ لماذا لا أُعيد قضايا رفعت إليه؟ ولماذا لا نُعيد نحن المُحامِين جميعًا قضاياه إليه ونحن نعلم أنه حتى القضايا المتوقَّعة الكسب منها مُلفَّقة والأدلة فيها كلها تزوير وتدليس وغِش مخادعة؟

وصَمَت المحامون. وقال عبد العال: لكلٍّ مِنَّا ظُروفه يا صدقي.

– يا أخي، في السماء رزقكم وما تُوعَدون، وما تَدرِي نفس ماذا تَكسِب غدًا وما تدري نفس بأي أرضٍ تموت، فإن كُنَّا نخاف على المال، فربُّك هو الذي يَرزُق، وإن كُنَّا نخاف على النفس فالذي أحيا النفوس هو يميتها، السلام عليكم، أنا سأسير في طريق منصور النقيب، وليُوائم كُلٌّ منكم نفسه مع ظروفه.

وخرج صدقي وترك الجميع في صمتٍ عميق لم يَنتهِ إلا بخروجهم واحدًا بعد آخر في أَثَر صدقي، كأنما كانوا في غاشيةٍ من مُخدِّرٍ ثم أَفَاقوا.

وما أَفَاقوا.

وسَمِع رفعت بهذا الذي حدَث في بيت عبد العال، فأدرك أن الأَمرَ خطير، وضاقت به الدنيا؛ فلم يعُدِ الأمر مُجرَّد أموالِ سامية، وإنما هو كِيانه جميعًا وسلطانه وجبروته وتَجمُّع الناس حوله، مهما يكن سبب هذا التجمُّع عن خوفٍ أو عن منفعة.

وحين سَمِع أعضاء الجمعية عما فَعلَه رئيسُهم تَقاطَروا على مكتبه حتى اجتمَع منهم عددٌ كبير، وقال أمين: إن مجيئكم دليل على ذكائكم، إذا كُنَّا نريد إحقاق الحق فإن البداية هي التي بدأها منصور.

– ولكن كيف نكمل الطريق؟

قال منصور: رفعت حوله الأغلبية الكاثرة من المركز، كثيرٌ منهم عن منفعة، ولكن الأغلبية عن خوف. وهو معه السلاح ونحن معنا الحق، وأريد اليوم أن نُقسِم أن نُحِقَّ الحق بالحق وأن نُحارِبه بالكلمة. نريد أن نعرف إذا كان الحق قويًّا أم ضعيفًا ونحن حوله. لا نستعمل السلاح إلا يوم يُحاوِل رفعت أن يستعمل السلاح على أشخاصنا نحن الذين نقول عن أنفسنا حماة الحق. ونحن لا نُحارِب رفعت وحده، وإنما نحارب جمهورًا حَولَه.

– فكيف تكون خطَّتنا بعد ذلك؟

– إننا كثرةٌ ولنا عُيون.

– نعم، لا شك في ذلك.

– نريد أن نعرف تَحرُّكاتِ رفعت جميعًا ما وقَع منها وما نتوقَّع أن يفعل.

– ممكنٌ هذا.

– ونجتمع في كل مرة نعرف أنه سيفعل شيئًا ونبحث كيف نُواجِه ما ينتويه.

– على بركة الله، كلام منطقي، ومعقول.

وعَرفَ رفعت أن اجتماعًا كبيرًا تم في مكتب منصور، ولكنه لم يَدرِ عما دار فيه شيئًا مُطلقًا؛ فأفراد الجمعية بعيدون كل البعد عن النفع الشخصي وعن الجُبن؛ فلا طريق له بينهم أبدًا.

•••

كان منصور جالسًا في مكتبه حين دخل إليه راضي: رفعت الربيعي بالخارج.

– هل عندك مُوكِّلون؟

– واحد.

– أدخل المُوكِّل قبله.

– أفعل.

وفهم رفعت الإشارة ولم يحاول أن يقوم بأي احتجاج.

وحين مَثَل رفعت أمام منصور وقف منصور وصافحه: أهلًا وسهلًا، تفضل.

– أهلًا بك يا أستاذ منصور، أنا أخي صديقٌ لجدِّك، وكنتُ أعرف المرحوم والدك كما أعرف عم أبيك عبد الوارث، ولم يكن بيننا أيُّ عداء، فما هذا الهجوم؟

– إن جدي وأبي وعم أبي لا شأن لهم بالذي بيننا إطلاقًا، إن كان بيننا شيء.

– كل هذا وليس بيننا شيء؟!

– وما هو كل هذا؟

– قَبولُك لِقضايا سامية.

– أمَّا كلام عجيب يا سيد رفعت إذا لم يقبل مكتب محاماة قضايا من المُوكِّلِين، فماذا يصنع؟

– أنت تعرف أن القضايا جميعها ضدي.

– هذا عليك وليس لك. كان الأولى بك وأنت كبيرُ عائلة الربيعي أن ترعى حق فتاة ليس لها رجلٌ يحميها.

– وهل ترعى أنت حقَّها أكثر مني؟

– أنت لا ترعى حقها، أنت تريد أن تحرمها حقَّها حتى في الحياة.

– وأنت الذي ستمنعني؟

– نعم، إن شاء الله.

– أتظن ذلك؟!

– لا أظن ولكني واثق.

– بأيِّ قوةٍ لك؟

– بقوة لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

وزَلزلَت الشهادتان رفعت، ولكنه تماسك وقال: بالخُطَب؟

– أَترُكُ الأيام لِتُشهِدك ماذا يستطيع الحق سبحانه وتعالى أن يفعل.

– طيِّب، وما لزوم أن أُرسل إليك رجلي فتَشتمَني أمامه؟

– قد كنت أَوْلَى أن أُعاتبك على هذا. كيف سمحتَ لِنفسِك أن تُرسِل في استدعائي؟ من أعطاك هذا الحق؟ أمُوظَّفٌ أنا عندك أم أنا واحدٌ من المُجرِمِين الذين تستخدمهم؟

وقاطعه رفعت: مُجرِمِين؟!

ومضى منصور في حديثه وكأنه لم يسمع شيئًا: أم خادمٌ أنا في بيتك؟ كيف أَبَحتَ لنفسك أن تستدعيني؟ ومع ذلك فأنا لم أشتمك لِلمُجرم حامل البندقية الذي أَرسلتَه. كلُّ ما فَعلتُه أنني رَوَيتُ ما يقوله الناس عنك، وأَلسِنة الخَلق أقلام الحَق.

– أنت تعرف أن الناس تُحِبُّني.

– أعرف أن بعض الناس يَنتفِع منك، وأعرف أن كل الناس تَرهَب المُجرِمِين الذين حولك.

– يبدو أن التفاهم بيننا مستحيل.

– ومتى كان هناك تفاهُمٌ بين حقٍّ وباطل أو بين سلامٍ وطُغيان؟!

– السلام عليكم.

– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

حين وَجدَ رفعت أن المواجهة مع منصور غيرُ مجدية استدار من طريقٍ آخر، طلب التليفون: عبد الوارث بك؟

– نعم.

– أنا رفعت الربيعي.

– أهلًا وسهلًا.

– أُريد أن أراك.

– تُشرِّف.

– ألا تُشرِّفني أنت وتشرب معي فنجان قهوة؟

– أُفضِّل أن تشرفني أنت يا رفعت بِك.

– وهو كذلك، غدًا في السابعة مساءً يوافقك؟

– أهلًا وسهلًا.

•••

– ألا ترى ماذا يصنع منصور ألا تُكلِّمه؟

– أنا لا أعرف أنه صنع شيئًا أُكلِّمه بشأنه.

– اسمع يا عبد الوارث، أنت تعرف كيف يُزلزِل كياني ما يصنعه منصور.

– وماذا أقول له؟

– فعلًا لك حق، ماذا تقول له؟ أنا قادمٌ إليكَ لأقول لكَ ماذا تقول له.

– تفضَّل.

– أستطيع أن أُعيِّنه في النيابة أو القضاء في ظَرف أسبوع، ويترك لنا المركز كما هو.

– أقول له.

– وأَفهِمه أن أغلبية الناس معي، وإن كنتُ أضمن نفسي فأنا لا أضمن واحدًا من رجالي أو من الناس الذين يُحبُّونني.

– هذا تهديدٌ أرفضه يا رفعت. أنت تعرف مَن منصور ومَن أسرته.

– أنا أعرف، ولكن ماذا تفعل مع الجهلاء الذين لا يعرفون؟

– هذا كلام لا يليق بين أمثالنا يا رفعت. اترُكْ لي فرصة الكلمة عن العَرضِ الذي تَعرِضه، أمَّا التهديد فهو موجه إليَّ وأنا أَرفُضه، وأنا قادرٌ على تمزيقِ كل من يمَسُّ شعرةً في رأس ابننا منصور.

– وهو كذلك، متى أنتظر رَدَّك على العَرض؟

– لن يتأخر.

•••

– قاضٍ، ما هذا يا عمي، من قال لك إنني أُفكِّر في أي وظيفة؟

– يا منصور الرجل مُجرِم، وأنا لا يهمني أن تكون قاضيًا أو لا تكون، وأنا يُهمُّني سلامتك، المجرم هدَّد.

– هدَّد؟! اسمع يا عمي، إن عرض عليَّ رئاسة الوزراء فلن أترك المحاماة، وإن اجتَمَع حوله المجرمون في العالم أجمع فلن أترك الحق، والله فعَّالٌ لِما يريد.

– توكَّلْ على الله، واللهِ لن يَخذُلَك اللهُ أبدًا، توكَّلْ على الله ونحن فِداؤك.

•••

سامية فتاةٌ في ربق العمر، في الثالثة والعشرين من عمرها، تركها أبوها منذ سنتَين، وكانت حريصةً أن تتعلم، ولكنها حين بلغت شهادة الثانوية كان أبوها قد مَرِض، فاضطُرت أن تترك التعليم وتُلازمه؛ فقد كانت أمها قد رَحلَت عنها وهي في العاشرة من عمرها. وأبى أبوها أن يتزوج خشية أن تُسيء الزوجة الجديدة إليها. وهكذا حَملَت سامية مسئولية البيت وهي في عمر الأطفال. وجمعت بين الدراسة وشئون المنزل بطريقةٍ ساذجة أول الأمر، ولكن ما هي إلا فترةٌ قصيرة حتى أصبَحَت خبيرةً حاسمة تُدير البيت وكأنها سيدةٌ مكتملة. وقبل أن يَمرَض أبوها تقدَّم لِخطبتها كثيرٌ من الأقارب وغير الأقارب، ولكنها كانت ترفض الزواج حرصًا على الدراسة. وحين مَرِض أبوها وبقِيَت في البيت، لم يجرؤ أَحدٌ أن يَتقدَّم لِخطبتها وأبوها مريض. وحين مات أبوها لم يجرؤ أحد أن يتقدَّم لِخطبتها خوفًا من رفعت.

وقد كان والدها ذكيًّا؛ فحين ماتت زوجته وعقد العزم ألا يتزوج راح يشتري كل عقارٍ جديد يشتريه باسم سامية مباشرةً. وحين قارَبَت سن الرشد عقد بيعًا صوريًّا بكل ما يملك للحاج مراد الأشرم، الذي باعه هو إلى سامية حتى يُغلِق طريق الصورية على أقاربه وعلى رأسهم رفعت. وتلك وهذه من مُضحِكات القانون؛ أنه يُرغم الأشخاص على اللجوء إلى الصورية لِيُغلق على المُحاولِ الطعن بالصورية.

فملكية سامية لِعقاراتها من أراضٍ وعماراتٍ لا مجال فيه لِشَك.

كان من الطبيعي أن تُحِسَّ سامية بالفراغ بعد موت أبيها، ولكن حربَ رفعت لها ردَّت عنها هذا الشعور؛ فقد كانت حربًا شرسة لا تهدأ، فلا يمر أسبوع إلا ويطالعها بكيدٍ جديدٍ وهي في دوَّامة تُحِس بانفرادها فيها، وكان يملؤها حسرةً انفضاضُ أهلِها من حولها، حتى لقد كانت السيدات يَخشَين زيارتها حتى لا يتعرَّضنَ أو يتعرضَ أزواجُهن أو أبناؤهن لِشُبهة غضبٍ من رفعت الربيعي.

لم يقف معها في هذه المِحنة إلا مراد الأشرم، وقد كان رجلًا ذا ضمير، وكان يشعر أن سامية في مكان ابنته؛ فقد كان يعمل مع أبيها قبل أن تُولَد، بل وقبل أن يتزوج أبوها أيضًا.

كان منصور قد اتفَق مع مراد أن يأتي إليهم بعد أن يَدرُس القضايا، ويُناقِش ظروف كُل قضية معه ومع الآنسة سامية؛ فقد كان يرى أنها يجب أن تعرف أمور القضايا جميعها؛ فهي مُتعلِّمة ومن حقها وواجبها معًا أن تكون على علمٍ بما يجري في المحاكم باسمها.

ضرب جرس التليفون في منزل سامية، وقد كان منزلًا جميلًا يتوسط حديقةً صغيرة تعتني بها سامية كل العناية.

– ألو، من؟

– أنا منصور النقيب يا أفندم.

– أنا سامية يا أستاذ منصور، أهلًا وسهلًا.

– هل أستطيع أن أجيء اليوم في الساعة الثامنة بعد المكتب لِنُناقش القضايا؟

– طبعًا، أهلًا وسهلًا.

– الحاج مراد موجود؟

– طبعًا.

– وهو كذلك. مع السلامة يا هانم.

•••

فتاةٌ جذَّابة الروح، تُحسِن الاستماع كل الإحسان، أسئلتها تدُلُّ على ذكاءٍ وقَّاد وفهمٍ عميق لِما يدور حولها. ملبسها غايةٌ في الأناقة والبُعد عن البهرجة في وقتٍ معًا. لا تُحاول أن تتظاهر بما ليس فيها، واثقة أن فطرتها نقيَّة ليس بها ما يدعوها إلى إخفائه. بِلَّورية الضمير لا تحمل حتى لرفعت سخيمةً أو كرهًا. نُورانية الطَّلعة، لا يجرؤ من يراها إلا أن يُعاملها بأقصى ما يطيق وما لا يُطيق من الاحترام. تختار ألفاظها في طبيعةٍ مواتية واثقة أنها لن تقول إلا ما ينبغي له أن يُقال.

•••

في الساعة الحادية عشرة من نفس الليلة كان منصور يَطرُق بيت عم أبيه عبد الوارث:

– وَقعَت في نفسي أكرمَ مَوقِع.

– لم نسمع عنها إلا كل خير.

– إذن عجِّل بِخطبتها.

– للأسف ليس لها رجالٌ أُكلِّمهم، لم يَعُد أمامي إلا أن أكلمها هي.

– في حضور الحاج مراد؛ فهو في منزلة أبيها، وتُحسِن صُنعًا لو وَجَّهتَ الكلام إليه؛ فإن هذا سيُرضِيه ويُرضيها في وقتٍ معًا.

•••

– ألو، منزل المرحوم نشأت بِك؟

– نعم يا أفندم.

– الحاج مُراد موجود؟

– موجود يا أفندم. من يريده؟

– عبد الوارث النقيب.

ومع نبضة ودهشة وفرح، أجابت سامية: دقيقة واحدة من فضلك.

جاء الحاج مراد إلى التليفون.

– أنا عبد الوارث النقيب يا حاج مراد.

– يا مرحبًا يا سعادة البك، يا أهلًا وسهلًا.

– أُريد أن أزور سامية هانم، وأُريدك أن تكون حاضرًا الزيارة.

– وماله يا سعادة البيه تُشرِّف، دقيقةً واحدة، أسألها.

وبعد لحظة أو أقل: متى تريد التشريف يا عبد الوارث بِك؟

– أي وقت.

– غدًا بعد المغرب معقول.

– أمرك.

– أهلًا وسهلًا.

– سلامٌ عليكم.

– سلامٌ عليكم.

•••

– يا حاج مراد، أنت في مكان والد سامية، أطال عمرها وعمرك.

– أعمل مع المرحوم نشأت بك قبل أن تُولَد وقبل أن يتزوج أيضًا.

– أنا واثقٌ أن سامية عرفت ما أنا قادم من أجله، فهل عَرفتَه أنت أيضًا.

– عبد الوارث بك تفضل بالحديث.

كانت سامية جالسةً شبه غائبة؛ فقد كانت تعرف عن منصور كل شيء. وحين رأته لأول مرة ورأت عَظَمتَه في خُلقه وأدبه وفَهمه ازدادت به إعجابًا. ولم تكن تتصور أن تجري الأمور إلى غايتها في هذه السرعة. قال عبد الوارث في حسم: نريد ابنتنا سامية لابننا منصور. طبعًا لن تسألوا عَنَّا ولن نسأل عنكم؛ فكلنا في المركز نعرف كُل خافيةٍ عن أبناء المركز، ولم يَبقَ إلا أن تسأل الآنسة الفاضلة وتُجيب ندائي. أَمُرُّ عليكم غدًا في مِثلِ موعد اليوم. السلام عليكم.

أَلقَى الكلام في فرحةٍ وفي إقبالٍ وانشراحٍ صدر، ولم يَسمَح لأي حرجٍ أن يشوب الجلسة.

•••

تزوَّج منصور من سامية، والعجيب أن كُل أقاربها حضروا الفرح، وقد شَعَروا أن منصورًا أصبح منذ اليوم سندًا للحق في المركز كله، وجميعهم أصحاب حقوقٍ عند رفعت.

الوحيد الذي لم يَحضُر هو رفعت؛ فإنه من الغيظ في حالٍ قاتلة حتى ما استطاع أن يتظاهر بالفرح الذي تَعوَّد الناس أن يتظاهروا به في مثل هذه المناسبات.

وبَلغَت به الوقاحة أن أرسل خطابًا مع أحد أتباعه إلى مكتب منصور يُخبِره فيه أنه يعتذر عن عدم حضور الفرح؛ لأنه كان يجب أن يخطب سامية منه هو. ومفاجأةٌ أخرى جاءت في الفرح. لقد حضر مأمور المركز الفرح دون أن يُوجِّه إليه منصور الدعوة؛ لأنه لم يكن يعرفه. وأحضر معه باقةً كبيرة من الورود عليها اسمُه مجرَّدًا غير ملحق بوظيفته، فقط فائق الدروي، بلا مأمور مركز بعدها، ورَحَّب منصور به مقدِّرًا مجيئه بغير دعوة. ووضع المأمور ذراعه في ذراع منصور وانتحى به ناحيةً منعزلة من الفرح وقال له: أنت اليوم أَملٌ لأمة بأكملها وليس لِمركزٍ واحد. إن التجربة التي تَرُودُها من وقوف الحق أمام جُموع الباطل يَنظُر إليها الناس في كل مكان. وربما نظر إليها العالَم أجمع حين يعلَم بأمرها.

– سِرُّ قُوَّتي لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

– أَوَقَليلٌ هذا؟! إني معك بقلبي ووظيفتي، وإن فَقَدتُ حياتي من أجل هذه الكلمة أكون سعيدًا راضيًا. إذا كان لا بد أن نموت فلنمُت ونحن نقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

٧

قَصَد أشرف الماوردي إلى مكتب منصور في ظُلمة الليل الحالكة، وانتظر حتى انصرف المُوكِّلون جميعًا، وانفرد بمنصور وأمين: علِمتُ اليوم أن رفعت ينوي أن يقوم بهجومٍ كاسح يَسترِد به ما فَقدَه من هيبة.

– وفيم يتمثَّل هذا الهجوم؟

– إنه ينوي أن يحرق أقطانَ السيدة زوجتك في العزبة وأقطانَك أنت أيضًا في يومٍ واحد.

وقال أمين: تَصرُّفٌ غبي؛ فهو بهذا لا يستطيع أن يدَّعي أن الحريق في المكانَين المُتباعدَين غيرُ متعمَّد.

وقال منصور: ومن قال لك إنه يريد الحريق أن يبدو غير متعمد؟ إنما يقصد قصدًا أن يعرف الناس جميعًا أنه حريقٌ مُتعمَّد، وأنه هو الذي أَمر به ودبَّر له، وفي نفس الوقت لا يستطيع أَحدٌ أن يُثبِت عليه شيئًا.

وقال أمين لأشرف: من أخبرك؟

– عبد الله أبو سرور أَحدُ رجاله، وكان يعمل عندنا مُزارِعًا، وقد استطعتُ أن أَسلخَه منهم وأُبقِيَه عينًا لنا معهم.

وقال منصور: هل عرفتَ الموعد؟

– نعم، يوم الخميس مساءً، ليكون الجميع في بيوتهم يسهرون حول التليفزيون.

– اليومَ الإثنين؟

– نعم.

– إذن عندنا وقت.

سأل أمين: وقتٌ لِماذا؟

– القطن الآن عندي وعند زوجتي في أكياس، سأنقلُه مساءً في باحة المنزل عندي، وفي مخزنٍ آخر عند زوجتي، وفي نفس الوقت سنملأ أكياسًا بفرزة القطن وبأعواد الهندي ونضعها مكان الحريق. وأريد منك يا أمين أنت وأشرف أن تُقسِّموا أعضاء الجمعية بين بيتي وبيت زوجتي، ويَستَخْفُوا من بعد صلاة المغرب بحيث لا يَشعُر بهم أحد، حتى ولا أهل المنزل عندنا أو عند زوجتي، والباقي اترُكوه على الله وعليَّ.

– وما الباقي؟

– ستَرونَ الآن.

ورفَع سمَّاعة التليفون وطلب رقمًا: ألو، فائق بِك؟

– أنا منصور. يشاء الله سبحانه وتعالى أن تُنفِّذ وعدَك الذي وعَدتَ في أَوَّل لقاء لنا.

وجاء صوت المأمور: ما أَسعدَني بذلك.

– الأَمرُ من اختصاصك وحدك.

– ماذا؟

– رفعت أَصدَر أَوامرَه لرجاله أن يحرقوا القطن عندي وعند زوجتي يوم الخميس القادم.

– أهذا معقول؟

– يُريد أن يعرف الناس قُوَّته وجبروته، وفي نفس الوقت لا دليل.

– معقول؟

– المهم أن هذا العمل الواسع سيحتاج إلى كل رجاله، ولن تجد فرصةً خيرًا من هذه لِتقبضَ عليهم مُتلبِّسِين.

– وهل تتركهم يحرقون القطن؟

– إن جريمة الإحراق تقع بمجرد القيام بها، أمَّا الشيء المحروق فليكن ما يكون، وسيادتك تعرف القصد الاحتمالي وما قد يترتب على هذا الحريق من انتشار النار في البلدة جميعها.

– تَصرُّفٌ في غاية الذكاء. توكَّلْ على الله.

– وهل لنا غَيرُه؟!

•••

رأى أصدقاء منصور المُختبئِين في تربص رجال رفعت وهم يتقاطرون واحدًا في أثر آخر، مُحاولِين قَدْر جَهدِهم ألا يَلفِتوا إليهم الأنظار، وهم لا يدرون أن وراءَ كلِّ شجرة أو ثنيَّة بيتٍ رجلَ شرطة أو واحدًا من أصدقاء منصور. وكان المأمور نفسه بسيارته الخاصة داخل حديقة البرتقال الواقعة بجانب مخزن سامية. وكان نائب المأمور مُتربِّصًا هو الآخر قريبًا من بيت منصور. كان جميع رجال الشرطة وأصدقاء منصور يعلمون أن الموعد هو الخميس، ولكن لم يعرفوا في أي ساعةٍ وَقَّتَ لهم رفعت القيام بمهمتهم.

هَوَّم صمتٌ مُتوقَّع على الجميع. وكان الجميع — مُجرمِين وشُرفاءَ — يُحاسِبون أنفاسهم أن يعلو لها صوت. وتجمَّد كلٌّ في مكانه، فكأنه قطعةٌ من شجر أو حجرٌ من بناء. وارتفع صوت المُؤذِّن يَشُق الليل والصمت والتربُّص: الله أكبر، الله أكبر. وفي نفس اللحظة نبَتَ المجرمون من مكامنهم، وتكوَّفوا حول المَخزنَين؛ بعضٌ منهم هنا عند منصور في بيته وبعضٌ منهم هناك عند سامية في عزبتها. وانتظر رجالُ الشرطة وأصدقاءُ منصور جميعًا حتى أشعل المجرمون النيران هناك وهنا، ثم خرجوا إليهم من حيث لا يحتسبون، وقَبضُوا عليهم جميعًا مُتلبِّسِين؛ الشرطة تُؤدِّي واجبها، وأعضاء جمعية الحق شهود.

وظَهرَت سيارات الشرطة بعد قليل ونَقلَت المُجرمِين إلى المركز، وبدأ التحقيق.

كانوا كما توقَّع منصور هم كُلَّ عصابةِ رفعت، لم يتخلف منهم إلا عبد الله أبو سرور الذي أعلن خُروجَه على رفعت صائحًا في وجهه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

•••

كانت ضربةً حاسمة لرفعت، حتى لقد راح أصدقاؤه ومن كان يَصطنِعهم يسخرون منه، وينقلبون عليه جماعاتٍ ووُحدانًا، فدارت به الأرض؛ فقد رأى ما بناه في عشرات السنين يَهوِي أنقاضًا. وسارع إلى صدقي البحراوي المحامي لِيَحضُر مع المتهمِين ويترافع عنهم. وكان ذلك عجبًا؛ فقد قال صدقي بعد ثورته التي أعلن عنها في بيت الهنيدي: ألم أُعِد إليك قضاياك جميعًا يا رفعت بِك؟

– وغضبتُ منك غضبًا شديدًا.

– غَضبُك كان في حسباني وأنا أُرسل القضايا.

– ظَننتُ أن الأتعاب كانت قليلة، وها قد جئت لِأُضاعِفها.

– أنت ظننتَ ذلك يا رفعت بِك.

– أنا لم أُغضِبك في شيء، فكان عجيبًا أن ترسل إليَّ القضايا بلا تعليق.

– ألم يَدُرْ بذهنك أن إنسانًا ما تأتي عليه لحظةٌ يُحاول فيها أن يَتطهَّر ويقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله؟

– فجأة؟

– أترى أنت أنها فجأة؟ يا ليتها كانت فجأة. إذن لحَمِدتُ نفسي أنني رجعتُ إلى الله من تِلقاءِ نفسي، ولم يَهُزَّني شابٌّ صغير كنتُ أنا أَوْلى أن أَسبِقَه في الرجولة والشجاعة وفي صيحة الحق.

– ما فات فات. نحن الآن فيما نحن فيه.

– وما الذي نحن فيه؟

– نحن إزاء قضية جَمعَتِ الشرطة فيها كل رجالي.

– أَنعِم بالحكومة وأَكرِم.

– هل أَفهمُ من هذا أنك تَرفُض ما جِئتُ لك من أجله؟

– أكاد أعرف ما جئتَ من أجله، ولكن لا أَتصوَّره.

– لماذا لا تتصوره؟

– محامٍ أرسل إليك قضاياك القديمة، فكيف يقبل قضايا منك جديدة، أليست تلك عجيبةً من عجائب الدنيا؟

– الأمر مختلف.

– فيم الاختلاف؟

– هذه ليست قضايا خاصة بي، إنها قضايا أفرادٍ شتى.

ثم إنها قضايا جنائية، وليست مدنيةً مثل التي كانت عندك.

– رفعت بِك، أرجو ألا يكون ما حَدَث قد أثر على ذكائك، كيف تقول إنها قضايا أفراد، إنها جميعًا قَضيَّتُك أنت، والغالب أن يَذكُر واحدٌ من هؤلاء اسمك كمجرم.

– يستحيل.

– أنت الآن في موقف لا يسمح بالتأكُّد من أي شيء أو أي شخص. هؤلاء مجرمون، والقضية جناية. ألا يُحاول كُلٌّ منهم أن يتشبَّث بأي شيء؟

– بل كل واحدٍ منهم يعلم أنه إذا دخل السجن فلا ظهر له إلا أنا حتى يجد بيته ما يعيش منه.

– ومع ذلك، ليس لك أن تتأكَّد من شيء.

– فما قولك أنت؟

– فيم؟

– هل تَرفُض هذه القضايا؟

– لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

– يعني يذهب كل هؤلاء إلى السجن؟

– ولكم في القِصاص حياة.

– وبعدُ، ماذا أفعل؟

– مكاتبُ المُحامِين في كل شارع.

– في المركز، أنا لا أَثِق إلا بك.

– أنا لن أَترافعَ عنك أبدًا يا رفعت بِك.

راح رفعت يُكلِّم نفسه!

– ماذا أعمل؟ ماذا أعمل؟ ألجأ لِمُحامِين من القاهرة؟

– هذا يكون أحسن؛ لأنك ستواجه قضايا أخرى يا رفعت بِك.

– ماذا؟

– مَظاليمك كثيرون، وما كان يُخيفُهم بالأمس من رجالك وسلاحك زال. امَّحى من الوجود. فتوقع قضايا جديدةً مدنية وجنائية من كلِّ نوع.

– أتهديدٌ هذا؟

– يا رفعت بِك، لا تَفقِد ثباتك؛ فإنك لم يَبقَ لك غيره. الجماهير انفَضَّت عنك، ورجالُك في السجون، لم يَبقَ لك إلا ثباتك، فحَذارِ أن تَفقِده، هذه نصيحة لوجه الله، كيف أُهدِّدك أنا؟ هل ظَلمتَني؟ إنني فقط أتوقَّع بتفكيرٍ حر ليس فيه مصالحُ شخصية.

واستَخزَى رفعت وأَطرَق، ودون سلامٍ جمع نفسه المُبعثَرة وقام إلى الباب، وخرج صدقي يُشيِّعه وصيحةٌ تملأ نفسه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

٨

حفني سلام، سائق سيارة، اشتراها بعد جُهدٍ جهيد طَوال سنواتٍ عشر، كان يُوفِّر من ضرورات الحياة حتى يَحصُل على ثمنها. وقد اشتراها قديمةً توشك أن تكون مُستهلَكة، فقام بإصلاح آلتها وتجميل خارجها بكل ما يُطيق من جُهد وخِبرة. واستخرج رخصةً تُتيح له أن يجعل السيارة على الخط، وهو تعبيرٌ يعرفه سكان المراكز، ويعني أن السيارة تعمل بين مصر والمركز بشكلٍ منتظم. واستخراج هذه الرخصة يحتاج إلى مجهودٍ كبيرٍ آخر مع الجهات الرسمية ومع زملائه على الخط حتى لا يَعدُو عليهم ولا يَعدُوا عليه.

وبدأ حفني عمله على الخط وهو مُثقَل بالديون، فكان يعمل ليلَ نهارَ لِيُسدِّد ما عليه من ديون، ولِيتبقَّى له ما يُقيم أَوَدَه وزوجته وردة وبناته الأربع وابنه الذي جاء بعد البنات، فاعتبره أعظم ما وَهَبَته له السماء، وأسماه محروس، داعيًا الله بالاسم الذي اختاره أن يَحرُسَه.

ومَرَّت سنواتٌ خمس، وبدأ محروس يذهب إلى المدرسة، ولكن شاء الله أن يمتحن عبده حفني، فأُصيب محروس بالمُصران الأعور، وكان لا بُد أن تتم له العملية بين يومٍ وليلة.

وجُنَّ جُنون حفني، وراح يجري هنا وهناك. ولكن من أين لأصدقاء حفني أن يُعينوه بالرقم الذي تحتاجه العملية، وكان قريبًا من خمسمائة جنيه. وفي لحظة الجنون التي تَمُرُّ والأب يخشى على ابنه الموت المُحقَّق اتجه إلى رفعت الربيعي.

– أنت تعرفني العمر كُلَّه وطالما كنت تحت أمرك.

– هذا كلام لا ينفع الآن. كيف أضمن المبلغ إذا أنا أَعطيتُه لك؟

– خُذ كل الضمانات التي تُرضيك. أَكتبُ وَصلَ أمانة.

– وماذا أُفيد أنا من حَبسِك إذا لم تدفع؟

– فماذا تريد؟

– تَبيع لي السيارة.

– يا نهار أسود! وكيف أعيش؟

– البيع صوري.

– أمرك، ولكن معنى البيع الصوري أن تكتب لي ورقةً تذكر فيها أن البيع صوري.

– هل أنت عبيط؟!

– فكيف يكون البيع صوريًّا إذن؟

– يكون كذلك بيني وبينك.

– وإذا استَوليتَ سعادتك على السيارة؟

– واحدةٌ من اثنين، إمَّا أن تثق في ذمَّتي أو لا تثق.

وأُرتِجَ علي حفني، وأصبح في موقفٍ لا خِيار فيه. إن قال له لا أثق في ذِمَّتك، فَقَدَ الأمل في السُّلفة، وربما فَقدَ حياته هو أيضًا بعد ذلك. وإن قال أَثِق، فمعنى ذلك أنه باع نفسه جميعًا إلى ذلك الرجل المُتوحِّش، وأصبح لا يملك من أمر نفسه شيئًا. قضاءٌ أَخَفُّ من قضاء، أبيع نفسي خيرٌ من أن أفقد ابني وحياتي.

– يا سلام يا سعادة البيه، وهل يستطيع مثلي ألا يَثِق في مِثلِك؟

وكُتِبَت الأوراق، وأُخذ المبلغ، وأُجرِيَت العملية لمحروس، ونَجحَت وأفاق حفني إلى الكارثة التي حَلَّت به.

لم تَمُرَّ أيامٌ حتى وجد عند وردة طلبًا من رفعت أن يذهب إليه في باكر الصباح. ومعنى هذا أن يَخسرَ دورًا من أدواره في الخط، فاحتسب دَورَه عند الله وذهب إلى رفعت.

– اسمع يا عم حفني، سيارتك تلزمني في توصيلة.

– أنت تأمر يا رفعت بِك، هل ستركب أنت سيارتي المسكينة هذه؟

– لا، أنا عندي سيارتي، هذه توصيلة إلى القاهرة، سيكون معك فيها عتمان أبو سعيد.

– أمرك.

– كم تأخذ في التوصيلة؟

– ثلاثة جنيهات من النفر، يعني ١٥ جنيهًا.

– أنا سأعطيك خمسين جنيهًا.

– ماذا؟

– ما سمعت.

– لماذا؟

– أنا حُرٌّ يا أخي، أَتَصرَّف في مالي كيف أشاء.

– هيه.

وفَهِم حفني الوضع تمامًا؛ فقد كان يسمع أن عتمان من الذين يعملون في تهريب المُخدِّرات لرفعت بك، والآن تَحقَّق له ما سمع، ولكن اضطُرَّ أن يتظاهر بأنه لم يفهم.

وقد كانت كُلُّ خشيته أن يتكرر هذا الأمر، وهو لا يريد أن تَسُوء سُمعته عند رجال المرور؛ فإنهم يعرفونه، وما يعرفونه عنه يجعله نظيفًا عندهم حَسَن السمعة.

خَطَر له خاطر: رفعت بِك.

– هيه، ماذا؟

– أليس عندك شخصٌ آخر غير عتمان أبو سعيد؟

– وعتمان ماله؟

– رجال المرور لا يُحِبُّونه، وسيارتي أَوَّل مرة تقوم بهذه العملية.

– ما هي العملية؟

– التي يقوم بها عتمان.

فضَحِك رفعت ملءَ شدقَيه وهو يقول: البلد هذه لا يستخفي فيها شيء، وهو كذلك، سأُعطيك في كل مرة شخصًا جديدًا.

– أمري إلى الله.

وقام حفني بعملية نَقلِ المُخدِّرات عدة مرات، وهو لاقفُ الأنفاس، يملأ الرعب جانبَيه، واثقًا أنه لو امتنع فإن رفعت سيغتصب منه السيارة، وستُقفَل أمامه كُلُّ سُبل الحياة.

كان أحيانًا يذهب إلى القاهرة بريئًا ويعود حاملًا تُهمتَه معه، وأحيانًا يخرج من المركز وبَلْواه في السيارة.

وفي مرة أعقَبتِ القبض على رجال رفعت فوجئ برجال المرور يُوقِفون سيارته، ويُجرون بها تفتيشًا دقيقًا، ولحسن حظه كانت السيارة بريئةً من المخدرات، وكان معه فيها توفيق عبد الباقي.

وقد تَولَّى الرجلَين ذُعرٌ من التفتيش رغم أنهما كانا يعلمان أَنْ ليس بالسيارة ما يدعو إلى الخوف.

وانتهى التفتيش. وأكمل حفني طريقه إلى القاهرة، وظل صامتًا طوال الطريق، وكلما حاول توفيق أن يُحادِثه أبى أن يَرُد عليه وكأنه غيرُ موجود. وكان في صمته يقرأ ما حفظه من آيات القرآن يُردِّدها لنفسه، مُحاوِلًا بكل الجهد أن يستعيد بها إلى نفسه بعض الطمأنينة، حتى إذا بَلغَت السيارة مشارف القاهرة قال توفيق: نذهب إلى العنوان الذي معنا.

وانفَجَرت ثورة حفني: هل جُننت؟ وحقِّ كتابِ الله المنزل لن يراني الله أَحمِل هذه المصائب مرةً أخرى أبدًا.

– ورفعت بِك؟

– أشهد أن لا إله إلا الله، وأن مُحَمَّدًا رسول الله. الموت أحسن من السجن.

– وماذا أنت فاعل الآن؟

– سترى.

وراح حفني يدُور في شوارع القاهرة، وتوفيق لا يدري مصيره، حتى بَلغَت السيارة مقام السيدة نفيسة، ونزل حفني دون أن يدعو توفيق للنزول معه. ودخل إلى المسجد وتَوضَّأ، وراح يصلي أمام المَقام والدموع في عينَيه حتى إذا بَلغَت نفسه بعض الهُدنة قام إلى سيارته ولحق به توفيق. وذهب إلى سيدنا الحسين، وراح يصلي حتى إذا اكتفى قام إلى سيارته، ولحق به توفيق ذاهلًا. وذهب إلى مقام السيدة زينب وراح يُصلِّي أمام المَقام والدموع ما تزال تتوالى من عينَيه. وراح لونه يسترد بعضًا من طبيعته، ثم قام إلى السيارة وركب هو وتوفيق، فلم يقف إلا عند رفعت.

– رفعت بِك.

– خير.

– أنت أَخذتَ مني هذه السيارة بِعقدٍ لا حقَّ لك فيه. أنا لا أُريدها، ولن أعمل معك بعد اليوم أبدًا.

– هل جُنِنتَ يا ولد؟

– أنا لن أناقش، هذا عهدٌ قطعته بيني وبين الله، وأشهدتُ عليه سيدنا الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة. ومفاتيح السيارة فيها، والسلام عليكم ورحمة الله.

واستدار واتجه إلى الخروج، وراح رفعت يُناديه فلم يلتفت إليه. وكان رفعت جالسًا مع وجدي الهن أحد كبار مساعدِيه، وقال وجدي: ماذا سنفعل الآن، ما الذي حصل؟

– لا يهم، الذي حَصَل سنعرفه من توفيق، إنما ماذا تنوي أن تفعل؟

– نُرسل السيارة فورًا لتأتي بالبضاعة. المحامي الذي أَتيتُ به من القاهرة يحتاج إلى مبالغَ كبيرة.

– نُرسل سيارةً أخرى.

– بل هذه.

– كيف؟

– أوَّلًا، هذه عند المرور ليست سيارتي، وثانيًا لن يفتش المرور سيارةً واحدة مرتَين في اليوم.

– والله معقول.

– مَن هنا مِن السائقِين؟

– صابر الملواني.

– أَرسِل إليه.

خرج حفني من بيت رفعت إلى منصور وقَصَّ عليه القصة جميعها.

•••

واستوعبها منصور كل الاستيعاب، ودون مُقدِّمات: قم بنا.

– إلى أين؟

– إلى المركز.

– لماذا؟

– أنت في موقفٍ في غاية الحرج، فلا بد من كتابة مَحضرٍ بكل هذا الذي قُلتَه الآن.

– إذا فعلتُ أكون قد ضَمِنتُ الآخرة. سيقتلني رفعت حتمًا.

– أنت واهم. أوَّلًا: رجال رفعت كلهم في السجن. ثانيًا هو الآن سيُرسِل سيارتك إن لم يكن أرسلها فعلًا لتأتي بالمخدرات معتمدًا أنه سيقول إذا سُئل إنها سيارتك وليست سيارته. فإن لم تسبق أنت بعمل المحضر، فالتُّهمةُ ستكون ضدك وضد سيارتك.

– ولكنه اشتراها.

– هل معك عقد البيع؟

– كَتبَه من صورةٍ واحدة.

– هذه الصورة لن يُظهرها. هيا لا تُضيِّعِ الوقت.

– هيَّا. أنا تحت أمرك.

وذَهبَا إلى المأمور مباشرةً، وخَرجَت قوة إلى بيت رفعت، ولَحِق بها المأمور ومعه إذن نيابة بالتفتيش عن المُخدِّرات. وفوجئ رفعت بالقوة التي لم تكد تَلتفُّ حوله حتى وجد المأمور معها، وبدأ التفتيش، وأمر المأمور بفتح الخِزانة، ولم يكن عجيبًا أن وجد المأمور عَقدَ شراء سيارة حفني بين أوراق الخِزانة، وإن كان لم يجد مُخدِّرات.

وكانت السيارة قد ذَهبَت فعلًا إلى القاهرة، وما كان أَيسرَ على المأمور أن يُعطي أمرًا بتفتيشها عند عودتها وتم العثور بها على المُخدِّرات.

وقال رفعت للنيابة: هذه سيارة حفني.

– وعَقد الشراء؟

– لقد كَتبتُه لأضمن الدَّينَ الذي استَلفَه مني حين كان ابنه مُحتاجًا لعملية، ولكن الجميع يعلم أنه كان يَستعمِل السيارة على الخط، فلو كنت اشتَريتُها لما كان رَكِبها.

– ولكنه كان يعمل عندك أيضًا، وهي الآن حين ضُبِطَت بالمُخدِّرات لم تكن معه. ما أقوالُك؟

– أنا لا أعرف شيئًا عن المخدرات، ربما يكون صابر هو الذي قام بالعملية من تِلقاء نفسه.

– ألا يعمل صابر سائقًا عندك؟

صَمَت.

– أَجِب.

– يعمل عندي أحيانًا، ولكنَّني لم أُكلِّفه بهذه المهمة.

وبعد استكمال التحقيق أُفرج عن رفعت بكفالةٍ قَدْرها ألف جنيه، وأُودع صابر السجن لاستكمال التحقيق.

٩

كان منصور في مكتبه حين دخل إليه راضي يستأذن في دخول لطفي عامر.

– مَنْ لطفي عامر؟

– أحد رجال رفعت.

– ماذا كان يعمل عنده؟

– خادمًا بالبيت.

– وماذا يريد؟

– أُناديه لك؟

– دَعْه يَدخُل.

– أمرك.

ودخل لطفي عامر، شابٌّ طيِّب السمات، ذكي النظرة، تغشى وَجهَه كآبةٌ وهلع، وقال وهو يجلس: الحقني يا سعادة البِك.

– خير يا لطفي.

– أنا أعمل خادمًا عند رفعت بِك منذ عشر سنوات، وأنت تعرف أننا في العمل عنده لسنا أحرارًا؛ فأبي مُزارعٌ عنده، وقد رآني وكان عمري ستة عشر سنة وماشي في السابعة عشرة، وقال لأبي: أريد لطفي أن يعمل عندي. وكانت الكلمة العابرة كافيةً للتنفيذ.

جَمَعتُ ملابسي وذَهبتُ معه إلى المركز. له عمارة بشارع الشنواني، بها دَورٌ تحت الأرض كلُّه حُجرات والدَّور له منافعه. أعطاني حُجرةً من هذه الحجرات، وكتب معي عقدًا جعل أبي يُوقِّع عليه لأني لم أكن قد بلغت السن القانونية بعدُ. ووقَّع أبي، ورأيت المُرَّ يا منصور بك، سهر إلى وش الصبح، وتَعَب. المرتب عشرة جنيهات آخذها شهرًا ولا آخذها شهرًا آخر، وكلما فاتحتُه يقول: ألا يكفيك أنك تسكنُ في حجرة ولا تدفع أجرًا؟ أتعرف كم إيجار هذه الحجرة؟ المُهِم تزوجتُ يا منصور بك بعد خمس سنوات، وأتيت بزوجتي إلى الغرفة، وأنجبنا ابنًا وابنةً. الولدُ لا بد أن يذهب إلى المدرسة. فإذا به يقول: مدرسة؟ ألم يَبقَ إلا ابنك ليذهب إلى المدرسة؟ أوجعتني الكلمة يا منصور بك. أكثيرٌ أن أُعلِّم ابني مثل خَلقِ الله؟ وكان الولد واقفًا بجانبي، وتمنَّيت لو أن الأرض ابتَلعَتني؛ فكل أبٍ يا منصور بك يجب أن يكون مُحترَمًا أمام ابنه. ولم يَكتفِ رفعت بهذا، بل أَكمَل: اذهب علِّمه صنعةً أو انتظر عليه حتى يَكبَر وهاتِه هنا يخدم وأنا أقبله وأمري لله.

– ما الذي جعلك تخبره عن مدرسة ابنك؟

– أردت سُلفةً عشرين جنيهًا أُحضِر للولد ملابس يذهب بها إلى المدرسة.

– هيه، وبعدُ.

– سكت. أنا كنتُ حزينًا كل الحزن. لقد تَحمَّلتُ منه الضرب والإهانة والسهر وعدم النوم في الليل أو في النهار، وكأني آلةٌ ولستُ آدميًّا مثل كل الناس، وبعد هذا كُلِّه يُهينُني هذه الإهانة أمام ابني.

– ماذا فعلتَ؟

– رُحتُ ولم أستطع حتى تناوُلَ الغداء، وإنما أرسلتُ زوجتي إلى زوجته تُخبرها أننا لن نعمل عندها بعد ذلك.

– وماذا قالت لها؟

– قالت: الآن طبعًا؛ ما داموا قبضوا على رجاله! طيِّب أَخلُوا الحجرة. قالت لها وهيبة امرأتي: أي حجرة؟ قالت لها: الحجرة التي تنامون فيها. قالت وهيبة: ولكننا ندفع إيجارها، أكنا نقبل عشرة جنيهات مرتبًا لو لم يكن الإيجار محسوبًا؟ قالت الست: هل معكم إيصال؟ قالت وهيبة: طبعًا لا. قالت الست: ولكن نحن لدينا عَقدُ إيجار. اشربوا من البحر إذن أو عَضُّوا في الأرض.

– وماذا قالت وهيبة؟

– وماذا يمكن أن نقول؟ قالت: كتر خيرك يا ست هانم، هذه آخرة خدمتنا السنواتِ الطِّوال؟ ولم تسكت الست وإنما لَعنَت أباها وهي تقول: أكنتم تعملون مجانًا؟ امشي اخرجي من بيتي.

قال منصور: والآن ماذا حدث؟

– حَدَث أنني أصبَحتُ أَمدَح فيك في كل مكان، وصحتُ معك: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وعرف هو هذا، وفُوجئتُ يا سعادة البك بهذا الإعلان قادمًا.

– ما هذا؟ إعلان طرد؟ مبلغ كم؟ ألف ومائتَي جنيه قيمة إيجارٍ متأخر، هيه.

– ما رأيك يا سعادة البِك؟

– رأيي أنه يَملِك أن يطردك.

– ومعي أربعةٌ آخرون تركوا خدمته ويسكنون معي في البدروم، وجاءت لهم إعلاناتٌ مثل هذه.

– أكُلُّها بمبالغَ كبيرة مثل هذه؟

– المبالغ تتراوح.

– توكَّلْ على الله.

– هل له حق في هذه المطالبة؟

– من جهة له حق، فلا شك في ذلك.

– إذن.

– هات زملاءك وتَعالَوا إلى مكتبي اليوم بعد الظهر.

– جميعًا؟

– جميعًا، ومعكم الإعلانات.

وجاءوا. وكان في انتظارهم منصور وأمين عبد الصادق. وجَمعَ منصور الإعلانات فوجد المبالغ المطلوبة ثلاثة آلاف وأربعمائة جنيه، فدَقَّ الجرس وجاء راضي.

فقال له في هدوء: خُذ هذه الإعلانات، وهذا المبلغ ثلاثة آلاف وأربعمائة جنيه، تدفعه غدًا في المحكمة، إيداع لحساب رفعت بِموجِب هذه الإعلانات.

– أمرك.

– مع السلامة.

ثم نظر إلى زملاء لطفي وقال لهم: هذه المبالغ مني ومن الأستاذ أمين هدية لكم، وعليكم بعد ذلك أن تدفعوا الإيجار.

– ماذا نقول لك وللأستاذ أمين؟

– تعرفون جميعًا ماذا تقولون.

– لقد رأينا العذاب ألوانًا، ماذا نقول لك؟

– ما نقوله جميعًا.

– لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

١٠

أكرم الأشموني، شابٌّ في مقتبل العمر، يملك عَشرةَ أفدنةٍ في الناحية، غيرَ بيتٍ كامل في المركز، مات عنه أبوه وهو في السنة الثالثة من كلية التجارة، فأكمل تعليمه وتَخرَّج. وكان وهو في الكلية مُعجَبًا بزميلةٍ له، نهى سعدون، وكان طَوالَ سنوات الدراسة يُحاوِل أن يَتقرَّب منها هذا التقرُّبَ المعهود بين أبناء الجامعة؛ كرَّاسة المحاضرات، المذاكرة، الإعادة على المحاضرة، إلى غير هذا. وكانت تتقبل منه هذه المحاولاتِ في نفس راضية؛ فقد كان مرتب العقل، لا يرتكب الصغائر التي يرتكبها الشباب في هذه السن من التظاهُر بما ليس فيهم أو ادِّعاء ما ليس لهم. وكان مُنتصِبَ القامة في غيرِ تَكبُّر، يحترم نفسه في غير تَعاظُم. وكانت تشهد منه إذا لم تُعطِه كل اهتمامها كبرياء الأصيل، حتى لتُضطَر أن تعتذر إليه مُدرِكةً ما وقَعَت فيه من خطأ.

وكان أكرم ونهى ينجحان كل عام نجاحًا معقولًا؛ لا هو في الحضيض ولا هو في القمة، حتى إذا بلغا البكالوريوس ومَرَّ من العام ثلاثة أشهر قال لها: الآن وجب الكلام.

– أفهمك.

– والِدُك مُوظَّف بوزارة المواصلات بدرجة مدير عام.

– أنت تعرف أسرتي كلها، وزُرتنا كثيرًا.

– الذي أقوله مُقدِّمة من المُقدِّمات في أغلب أمرها يكون فيها أشياءُ معروفة.

– إذن أكمل.

– إذا خطبتُك منه فسيقع في حَيرة ما بعدها حَيرة، وأنا والحمد لله لست غنيًّا، ولكنني مستور.

– وماذا تريد؟

– أُريد أن أُكلِّم عمي سعدون بِك دون أن أَبُث في نفسه أي نوعٍ من الحَيرة.

– وكيف يكون ذلك؟

قال باسمًا: هذا أَمرٌ لا دخل لكِ أنتِ فيه.

– إنه أنا التي سأتزوج.

– إن دورك قاصر على أن عمي سعدون سيسألُك رأيك، وتقولين مُوافِقة.

وفي سخريةٍ فرحانة قالت: يا سلام، واثقٌ من نَفسِك جِدًّا حضرتك.

وفي نفس اللهفة الفرِحة يقول لها: واثقٌ من صلتنا الشريفة العفيفة على مدى أربع سنوات.

– وكيف لك أن تثِق؟

– إعجابٌ ومُدارَسَة عرفتُكِ فيها وعَرفتِني، ورضيتِ أن أكون زميلَ مُذاكرتكِ وممشاكِ وصندوقَ أخبارِك.

ما تَضيقِين به وما تَسعدِين. وفرحتُ أنا أن أكون منكِ هذا الإنسان، ومعنى فرحي أن إعجابي تحول إلى حب؛ حبٍّ جارفٍ عفيف حَرصتُ — كما حرصتِ أنتِ — أن يظل عفيفًا؛ لأن كلًّا مِنَّا كان يدَّخر الآخر للحياة جَميعِها وليس لمعرفةٍ عابرة تمر بالإنسان ثم تمضي كأنها لم تكن، لا تُصبح إلا ذِكرى هيِّنة الشأن ضئيلة الأثَر.

– والمُلخَّص؟

– إن سعدون بك أو نجيبة هانم، والغالب أن نجيبة هانم هي التي ستسألك: أَتَقبلِين أكرم زميلك زوجًا لك؟

– هيه، وماذا أقول أنا؟

– والله أنتِ حرة، هناك ثلاث إجابات.

– لا رابع لها؟

ما هي الإجابات؟

– نعم.

– يا سلام!

– وبهذه الإجابة تكونين صريحةً واضحةً منسجمة مع نفسك؛ لأنك أنتِ التي قدَّمتِ أكرم هذا إليهم، فمن الطبيعي أن تَقبلِيه.

– معقول، والإجابة الثانية.

– التقليدية، التي جرى عليها الغالبية العظمى من بنات حوَّاء في مثل هذه المواقف.

– ألا وهي؟

– الرأي رأيكم يا ماما.

– معقول أيضًا، والثالثة.

– ابتسامةٌ مُشرِقة وهزةُ رأسٍ خفيفة تُفيد الموافقة. أيها ستختارين؟

وأَغرقَت نهى في الضحك وقالت: أليست هناك إجابةٌ رابعة مُحتمَلة؟

– مطلقًا.

– بل هناك.

– مثل ماذا؟

قالت وهي تضحك ملء قلبها: مثل أبدًا يا ماما، كله إلا هذا، أكرم زميل فقط، أمَّا إذا أردت الزواج فإنني أُريد شخصًا غنيًّا واسع الثراء، أمَّا هذا الشاب المغرور الذي يتصور أنني سأوافق على زواجه بِمجرَّد أن يتفضل هو بطلب يدي … أبدًا يا ماما، أبدًا.

– إذا قُلتِ هذا الكلام بهذا الوجه الصبيح المُنطلِق الفَرِح، فإنه يعني موافقةً أقوى من الإجابات الثلاث التي تَصوَّرتُها أنا.

– مغرور.

– مُحِب.

وكسا وَجهَها الجِد وهي تقول: هل الحُب في داخلِكَ صادقٌ بقَدْر صَدقِه في وجهك؟

– أَتشُكِّين؟

– أُحِب أن أسمع همساتِ نفسِكَ بدلًا من أن أُحِسَّها.

– إذن فحبِّي لكِ أكبرُ من حُبكِ لي.

– ليس للحب موازين … هناك حب أو لا حب.

– لم أسألكِ إن كنت صادقةً أم لا؟

– اكتفيتَ أنت بالنظر والشعور وأردتُ أنا أن أشرك السمع معهما.

– الكلام سهل، ولكن الأيام في الإثبات أقوى.

والتقَت نظرتان يعرفهما الشباب الطاهر منذ بَدء الخليقة، وقالت نهى: هل أطلب لك موعدًا من أبي؟

– ولا هذا.

– لماذا؟

– لأنك لو طلبتِ المَوعِد تكونين قد أعلنتِ الموافقة قبل الطلب، وهذا ما لا أرضاه لك.

– إذن.

– انتظريني أنتِ اليوم في الساعة السادسة دون أن يدري أحدٌ في المنزل أنك تنتظرينني.

– وتأتي دون موعد؟

– وكأني سأُذاكِر معك.

– فإذا لم تجد أبي.

– فسأجده غدًا. أنا لا أريد أن يشعر بالحَيرة مطلقًا.

– فيم الحَيرة؟

– قد يجدني مقبولًا وتقف موارده المالية في الآونة الحاضرة دون الاستجابة لي. اتركي الأمر لي.

– ما ترى.

– إلى اللقاء.

– إلى اللقاء.

•••

وجد سعدون بك ونجيبة هانم.

– طبعًا أنا غير مُحتاجٍ أن أُقدِّم نفسي.

وقال سعدون: أنت أصبَحتَ مثل ابننا.

– حالتي المالية حَسَنة؛ فأنا أملك عشرة أفدنة، وأَملِك بيتًا في مركز المهدية. سأبيع البيت وأشتري شقة وأُؤثِّثها، فليس عليكم أيُّ أعباء.

– فيم تتكلم؟

– أنا قدَّمتُ هذا الحديث لأنني أعرف العقبات التي تقف أمام الأب حين تُخطَب ابنته.

وأَغرقَ الأب والأم في الضَّحِك، وتمَّت الخطبة.

•••

كان أكرم يظن أن الأمور مُيسَّرة، وليس أمامه أية عوائق تحول دون بيع البيت، بل إنه حين ذهب إلى المركز وجد ما يُشجِّعه على هذا الظن؛ فقد ذهب إلى قريبه الحاج شعبان تاجر الغِلال.

– يا عم الحاج شعبان.

– ألف نعم يا أكرم، وأنت فعلًا أكرم.

– كان جرى بيننا حديثٌ سريع عن بيتنا هنا.

– نعم، أنا أرى أنك غير محتاج إليه.

– أنا كنتُ مُبقيًا عليه لأستعين بثمنه على زواجي، وشراء شقة في القاهرة، وأقيم بها أنا وزوجتي.

– ونِعْمَ الرأي.

– وأنا فعلًا خطبت.

– فعلًا.

– ألف مبروك. دون أن تقول لي؟

– إنها زميلتي في الكلية، والأمر لم يعدُ الاتفاق المبدئي، أمَّا في الخطوبة الرسمية فأنت الذي ستقوم بها إن شاء الله طبعًا.

– على بركة الله.

– الآن بَيعُ البيت أصبح ضرورة.

– كن تاجرًا ولا تقل هذا.

– أنا أقولُه لك أنت فقط.

– اسمع يا بني، كأنك لم تكلمني، وأنا سأعرض البيع، وإذا لم تعجبني الأسعار فسيكون لي رأيٌ آخر.

– اترك لي فرصة.

– أسبوع.

•••

– خيرًا يا عم الحاج شعبان.

– كل الخير، أحسن سِعرٍ وصلت إليه خمسة وثلاثون ألف جنيه، وأنا أرى أنه سِعرٌ مناسب، وإلا كنتُ اشتريتُه أنا.

– توكلنا على الله.

•••

وفجأة بدأت الدوامة.

•••

قال أكرم لمنصور وأمين: اتضح أن البيت مُلاصِقٌ لعمارة يملكها رفعت، ويأبى جَشَعه إلا أن يشتري البيت أيضًا.

سأل منصور: ما البأس؟ إنه سيشتري بالشفعة، فليدفع الثمن المعروض.

– هنا المصيبة، يأبى أن يدفع أكثر من عشرة آلاف جنيه.

سأل أمين: والمشترون الآخرون؟

– فرُّوا جميعًا. هدَّدَهم بالقتل إن رفع واحدٌ منهم السعر عن عشرة آلاف جنيه، والأرض هي الأخرى وسط أرضِه وأوقف عنها الشراء تمامًا.

– لا إله إلا الله.

– ماذا أفعل؟

قال أمين: لا تفعل شيئًا. توكَّلْ على الله.

والتفت إلى منصور وقال له: أيلزمك هذا البيت يا أستاذ منصور؟

– أنا مُستعِد أن أشتريه، ولن تكون عليَّ خسارة.

– بل أنا مُحتاج إليه، وما ضاع مالٌ أُنفق في شراء بيتٍ وفي موقفٍ كهذا.

ثم نادى: يا راضي.

وحين جاء راضي قال أمين: اذهب مع الأستاذ أكرم واكتُبا عقد بيع البيت. سيعطيك هو حُدودَه وأنا في انتظاركما.

قال أكرم ودمعات فرحٍ تسيل على خدَّيه: ما هذا الذي تصنعه يا أستاذ أمين؟

– ماذا؟ مالٌ مدفوع في ثمن بيت.

– وكيف صدَّقتَ ما أقول؟

– أنا أعرف البيت وأعرف ثمنه، أنسيتَ أننا أسرة تجار؟ توكَّلْ على الله ولا تُضيِّع الوقت.

– ماذا أقول لك؟

– أنت تعرف ما تقول.

– لا إله إلا الله محمد رسول الله.

١١

المحكمة مُنعقِدة، ومنصور وأمين جالسان في مقاعد المحامِين، وقضايا تبلغ اثنتَي عشرة قضية مرفوعة ضد رفعت الربيعي ومنه.

منصور وأمين يُلقي كل منهما نظرة على القضايا التي سيترافع فيها.

ونُودي على القضية الأولى: سامية نشأت الربيعي.

رفعت الربيعي.

وقال منصور: حاضر عن المُدَّعية يا حضرة القاضي.

وارتفع صوتٌ عميق الأغوار من آخر قاعة المحكمة: رفعت الربيعي، حاضر عن نفسه يا حضرة القاضي.

وتقدَّم رفعت إلى المنصة في خطواتٍ ثابتة حتى إذا أصبح أمام القاضي، وقال: أتسمح لي يا حضرة القاضي؟

– أنت مُدَّعى عليك، لا بد أن يتكلم المدعي أوَّلًا.

– ربما أقول شيئًا يُغنيهِ عن الكلام.

– أتسمح يا أستاذ منصور؟

– لا مانع يا حضرة القاضي.

وتكلم رفعت الربيعي: كل القضايا المرفوعة ضِدِّي من السيدة سامية نشأت أو من غيرها أنا مُعترِفٌ بحق المدَّعِين فيها بلا استثناء، وكل القضايا المرفوعة ضِدَّها أو ضِدَّ آخرِين أنا مُتنازِلٌ عنها. هذا إجمالٌ أرجو أن يُثبَت في محضر الجلسة، ثم أُفصِّل الإجمال مع الأساتذة المُحامِين بتوقيعٍ مني على ما يطلبون التوقيع عليه، ولا إله إلا الله، محمد رسول الله.

وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا.

وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، وكأنما أصبحت قلوب الجميع قلبًا واحدًا يُردِّد في إيمانٍ عميق ووجيبٍ نوراني:

لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

(تمَّت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤