من أين تأتي العقاقير الجديدة؟
(١) من أين تأتي العقاقير؟
عرضنا في الفصل السابق لقصة حجب بيانات التجارِب، وفيما تبقَّى من هذا الكتاب سوف نرى كيف شَوَّهت شركات الأدوية معتقدات الأطباء عن العقاقير من خلال التضليل والتسويق الخفي. وسوف نرى أيضًا كيف يُمكن إلحاق الخلل بالتجارِب من حيث تصميمها، وكيف يتقاعس مُراقبو الأدوية عن المراقبة. ولكن أولًا يجب أن نرى كيف تُبتكر العقاقير في المقام الأول، وكيف تصير متاحةً لوصفها طبيًّا. إنه أمر غامض، ويُمثِّل لغزًا لكلٍّ من الأطباء والمرضى بصفةٍ عامة. وتوجد فخاخ خفية في كل منعطف في هذه العملية، ودوافع غريبة، وقصص مرعبة من الاستغلال.
(٢) من المختبر إلى السوق
غالبًا ما تكون لديك فكرة عن الآلية التي تستهدفها، وعادةً ما يكون هذا راجعًا إلى أنك تُكرِّر الآلية التي يعمل بمقتضاها عقَّار آخر موجود بالفعل؛ فعلى سبيل المثال، هُناك إنزيم في الجسم يُسمَّى السيكلوأوكسجيناز، وهو يُساعد في صنع الجزيئات التي تحث على عملية الالتهاب. فإذا أوقفت مفعول هذا الإنزيم، فإنك بهذا تُساعد في تقليل الالتهاب وما يُصاحبه من ألم. ويعمل الكثير من العقاقير بهذه الكيفية، بما فيها الأسبرين والإيبوبروفين، والكيتوبروفين، والفينوبروفين، وغير ذلك. وإذا استطعت أن تجدَ جزيئًا جديدًا تُوقف به مفعول هذا الإنزيم في طبق معملي، فإنه من المحتمل أن يُوقَف من ثَمَّ مفعوله في الحيوانات، وإذا تحقق هذا، فمن المحتمل أن يُساعد في تخفيف الألم لدى البشر. وإذا لم يكن هناك شيء سيئ في الماضي قد حدث للحيوانات أو البشر حينما أُعطوا عقَّارًا يوقف مفعول ذلك الإنزيم، فمن المرجح إلى حدٍّ ما أن يكون عقَّارك الجديد مأمونًا (وإن لم يكن هذا مؤكَّدًا).
تُعَد العقاقير الجديدة التي تعمل بطريقةٍ جديدة تمامًا مخاطرة كبيرة؛ لأنها لا يمكن التنبؤ بها، كما أنها تكون أكثر عُرضةً بكثيرٍ للإخفاق في كل خطوةٍ تمر بها، وذلك كما أوضحنا فيما سبق. ولكن تلك النوعية من العقاقير الجديدة تُعَد أيضًا نقلةً أكثر أهميةً للأمام في مجال العلوم الطبية. وسوف نناقش عمليتَي التكرار والابتكار هاتين فيما بعد.
من طرق استحداث العقاقير عملية تُسمَّى الفحص الجماعي، وتُعَد من أكثر المهام إثارةً للملل والسأم التي يمكن تخيُّلها لأيٍّ مِن علماء المختبرات الشباب. وفيها يُجرى توليف المئات، وربما الآلاف من الجزيئات، وجميعها بأشكالٍ وأحجام مختلفة قليلًا، على أمل أن تُؤثِّر في مكانٍ مُعيَّن من الجسم. ثم يختار العالِم طريقةً معملية تُمكِّنه من تحديد ما إذا كان العقَّار يُحدث التغيير الذي ينشده — على سبيل المثال، إيقاف أحد الإنزيمات عن العمل بطريقةٍ سليمة — ثم يُجرِّب كلَّ عقَّارٍ حصل عليه؛ الواحد تلو الآخر، مع قياس تأثيراتها جميعًا، إلى أن يصل إلى العقَّار المنشود. وخلال هذه الفترة يُنتج الكثير من البيانات المهمة، التي يتم التخلص منها، أو تبقى حبيسة الأدراج لدى إحدى شركات الأدوية.
بمجرد أن تحصل على عقَّار له مفعول في طبق معملي، فإنك تعطيه لأحد الحيوانات. وفي هذه المرحلة أنت تقيس الكثير من الأشياء المختلفة؛ ما كمية ما تجده من العقَّار في دم الحيوان بعد أن يبتلع حبة الدواء؟ إذا كان الجواب: «قليلة جدًّا.» فسيحتاج مرضاك لأن يتناولوا حباتٍ كبيرة الحجم جدًّا ليحصلوا على الجُرعة الفعَّالة، وهذا ليس عمليًّا. وكم من الزَّمن يبقى العقَّار في الدَّم قبل أن يتحلل في الجسم؟ فإذا كان الجواب: «ساعة واحدة فقط.» فسيحتاج مرضاك لتناول أربعٍ وعشرين حبةً يوميًّا، وهذا ليس مفيدًا كذلك. وقد يلزمك أن تعرف ما تتحوَّل إليه جزيئات ذلك العقَّار حينما تتحلل في الجسم، وأن تقلق بشأن ما إذا كان أيٌّ من نواتج تحلله تُسبِّب أضرارًا في حد ذاتها.
وفي الوقت نفسه يجب أن تهتم بشأن السُّمِّية، ولا سيَّما تلك الأشياء السيئة جدًّا التي توجب استبعاد أي عقَّارٍ تمامًا؛ فيلزمك أن تكتشف ما إذا كان عقَّارك يُسبِّب السرطان مثلًا، وذلك في مرحلةٍ مبكرة من عملية استحداثه بحيث يُمكنك التخلي عنه. ومع ذلك من الممكن أن تسمح به إذا كان عقَّارًا يتناوله الناس لبضعة أيامٍ فقط. وفي الإطار نفسه، إذا كان العقَّار يضر الجهاز التناسلي، ولكنَّه يُفيد — على سبيل المثال — في علاج مرض ألزهايمر، ففي هذه الحالة يكون قلقك أقل (وأقول فقط: «يكون قلقك أقل»؛ فكبار السن أيضًا لهم نشاط جنسي). وهناك الكثير من الطُّرق القياسية في هذه المرحلة؛ فعلى سبيل المثال، قد تستغرق سنواتٍ عديدةً حتى تكتشف ما إذا كان عقَّار ما يُسبِّب السرطان للحيوانات الحيَّة؛ لذا حتى وإن كنت تحتاج لفعل هذا حتى تحصل على تصديقٍ على العقَّار من مراقب الأدوية، فإن عليك أيضًا إجراء اختبارات مُبكرة في أطباق معملية. ومن أمثلة تلك الطرق «اختبار إيمز»، الذي يجعلك تعرف ما إذا كان عقَّار ما يُسبِّب طفرةً وراثية في البكتيريا بسرعةٍ كبيرة، بأن تكتشف أنواع الأغذية التي تحتاج إليها تلك البكتيريا لتبقى حيَّة في طبق معملي.
ويجدر بنا أن نذكر في هذه المرحلة أن جميع العقاقير تقريبًا التي لها تأثيرات مرغوبة تكون لها أيضًا آثار سُمِّية غير مطلوبة إذا أُخذت بجرعاتٍ أعلى مما يجب. وهذه إحدى الحقائق الثابتة؛ فنحن مخلوقات شديدة التعقيد، ولكن لدينا فقط حوالي ٢٠ ألف جين؛ ومن ثَمَّ يُستخدم الكثير من الوحدات البنائية في الجسم البشري أكثر من مرة؛ مما يعني أن ما يؤثر على هدفٍ معين بالجسم قد يؤثر أيضًا على هدفٍ آخر، بقدرٍ أكبر أو أصغر، إذا أُخذ بجرعةٍ أعلى.
ومن ثَمَّ ستحتاج لإجراء دراساتٍ حيوانية ومعملية لتعرف ما إذا كان عقَّارك يؤثر على أشياء أخرى، مثل التوصيل الكهربائي للقلب؛ مما يجعله غير مناسب للبشر، وكذلك ستحتاج لعمل اختبارات فحص متعددة لتعرف ما إذا كان له أي تأثيرٍ على مستقبِلات العقَّار العامة، وعلى الكُلى والرئة في القوارض، وعلى القلب لدى الكلاب، وعلى سلوكيات الكلاب، فضلًا عن إجراء اختبارات دم مختلفة. كما عليك أن تفحص نواتج تَحلُّل العقَّار في الخلايا الحيوانية والبشرية، وإذا حصلت على نتائج شديدة الاختلاف، فربَّما تُجرِّب اختبارها في نوعٍ آخر من الكائنات الحية.
وبعد ذلك ستعطي العقَّار بجرعاتٍ مُتزايدة للحيوانات إلى أن تموت أو تحدث لها آثار سُمِّية شديدة الوضوح. ومن خلال ذلك، ستكتشف أقصى جرعة يمكن تحمُّلها لدى حيوانين من نوعين مختلفين (غالبًا ما يكون أحدهما جُرَذًا أو غيره من القوارض، والآخر حيوانًا من غير القوارض، ولا سيَّما الكلب)، كما ستتعرف على تأثيرات الجرعات التي دون الجرعات المُميتة. أُبدي اعتذاري إذا كانت هذه الفقرة تبدو قاسيةً بالنسبة إليك؛ فمِن رأيي — بصفةٍ عامة — أنه لا بأس من اختبار العقاقير على الحيوانات؛ لمعرفة ما إذا كانت مأمونةً أم لا، ما دام يتم تقليل معاناة الحيوانات للحد الأدنى، وقد تتفق معي أو تختلف في هذا الشأن، ولكني أُفضِّل ألا تجعل هذا الأمر يشغل بالك.
وإذا كان مرضاك سيتناولون الدواء لفترةٍ طويلة، فسيهمك بصفةٍ خاصَّة أن تعرف الآثار التي تنشأ حينما تتناول الحيوانات العقَّار لفترةٍ غير قصيرة؛ ومن ثَمَّ عليك بصفةٍ عامة أن تُعطيَ العقَّار للحيوانات لمدةٍ لا تقل عن شهر. وهذا أمر مهم؛ لأنَّك حينما تعطي عقَّارك بعد ذلك للبشر لأول مرة، لا يُمكنك أن تعطيَهم إياه لمدةٍ أطول مما فعلت مع الحيوانات.
وإذا كنت عاثر الحظ جدًّا، فقد تجد للعقَّار أثرًا جانبيًّا على البشر، ولا تجده لدى الحيوانات. وهذا الأمر ليس شائعًا بدرجةٍ كبيرة، ولكنه يحدث على أي حال. ولْنضربْ مثالًا لهذا بعقَّار البراكتولول، وهو من مثبِّطات مستقبِلات بيتا، ومفيد جدًّا لعلاج مشكلاتٍ قلبية مختلفة، وتكاد جزيئاته تبدو مثل جزيئات عقَّار البروبرانولول (المستخدَم على نطاقٍ واسع، والذي ثبت أمانُه التام). ولكن فجأة تبيَّن أن عقَّار البراكتولول يُسبِّب حالةً مَرَضية تُسمَّى «المتلازمة العينية الجلدية المخاطية المُتعدِّدة الأجهزة»، وهي حالة خطيرة؛ ولهذا يلزمنا الحصول على بياناتٍ جيدة عن كل العقاقير حتى نكتشف مثل هذه الحالة وغيرها في وقتٍ مبكر.
كما يُمكن أن تتخيَّل، إنَّ هذا كله يستهلك الكثير من الوقت والمال، بل لا يمكنك حتى الوثوق بأنك حصلت على عقَّارٍ مأمون وفعَّال حتى مع وصولك لتلك المرحلة؛ لأنَّك لم تُجرِّبه على أي إنسانٍ بعد. فإذا وضعنا في اعتبارنا عدم ترجيح أن يتحقق هذا كله، فإنني أعتبر مجرد التوصُّل إلى دواءٍ فعَّال معجزة، بل إنني أعتبرها معجزةً أكبر أننا استطعنا التوصُّل إلى عقاقير جيدة ومأمونة في العصر السابق قبل أن يصير واجبًا أداءُ كل هذه المهام وتصبح ممكنةً تقنيًّا.
(٣) التجارِب المبكرة (تجارب المرحلة الأولى)
والآن تصل إلى اللحظة المثيرة الحرجة حين تعطي عقَّارك لإنسان لأول مرة. عادةً ما سيكون لديك مجموعة من المتطوعين الأصحاء، ربما اثني عشر شخصًا، ليتناولوا العقَّار بجرعاتٍ متزايدة، وذلك في بيئةٍ طبية، بينما تقيس أنت أشياءَ مثل وظائف القلب، وكم من العقَّار موجود في الدم، وهكذا.
بصفةٍ عامة يلزمك أن تُعطيَ العقَّار بجرعةٍ تقل عن عُشر الجرعة التي لم تتسبَّب في حدوث أي آثارٍ سلبية في الحيوانات التي كانت أكثرَ استجابةً له. فإذا استمرَّ متطوعوك على ما يُرام بعد تناول جرعةٍ واحدة، فعليك أن تضاعفها، ثم تزيد الجرعات أكثر فأكثر. إنك تأمل في هذه المرحلة ألا يُسبِّب عقَّارك آثارًا سلبية إلا عند تناول جرعة أعلى، والتي يجب بالتأكيد أن تكون أعلى بكثيرٍ من الجرعة التي يتحقَّق بها تأثير مُفيد في الهدف المنشود في الجسم (ستكون قد حصلت على فكرةٍ عن تلك الجرعة العلاجية الفعَّالة من خلال أبحاثك على الحيوانات). وجدير بالذكر أنه مِن بين كل العقاقير التي تجتاز هذه المرحلة من التجارِب، لا يتجاوز ما يُصدَّق عليه ويُسوَّق نسبة ٢٠ بالمائة فقط.
أحيانًا، بل نادرًا لحسن الحظِّ، ما تحدث أمور مريعة في هذه المرحلة. وربما تتذكر قصة العقَّار «تي جي إن ١٤١٢»، حيث خضعت مجموعة من المتطوعين لنوعٍ جديد تمامًا من العلاج، يتداخل مع مسارات الإشارة في الجهاز المناعي، وانتهى بهم الأمر في وحدة العناية المركزة مع إصابة أصابع أيديهم وأقدامهم بالتعفُّن. وهذا يدل بجلاءٍ على السبب الذي يُحتِّم عليك ألا تُعطيَ علاجًا ما لمتطوعين عدة في وقتٍ واحد إذا كان من غير الممكن التنبُّؤ بآثاره، وكان ينتمي إلى فئةٍ جديدة تمامًا من العقاقير.
تتكون معظم العقاقير الجديدة من جزيئات تقليدية أكثر، وبوجهٍ عام لا تتجاوز آثارها غير المستحبة أعراضًا مثل الغثيان والدوار والصداع وهكذا. وقد تحتاج أيضًا لأنْ يتناول قليلٌ من المشاركين في الاختبار دواءً وهميًّا لا تأثير له، وذلك حتى تُحاول تحديد ما إذا كانت تلك الآثار المذكورة ناتجةً عن العقَّار حقًّا، أم أنها ناتجة فقط عن الشُّعور بالخوف والرَّهبة.
في هذه اللحظة قد تفكر مُتسائلًا: أيُّ نوعٍ هذا من المجانين المتهورين مَن يُخضع جسده لتجرِبةٍ مثل هذه؟ وإنني أميل للاتفاق معك في تعجُّبك؛ فهناك بالطبع تقليد طويل ونبيل من الخضوع للتجريب الذاتي في المجال العلمي (على سبيل المثال، انزعج صديق لي من تغذية بعوضة بالطريقة المُعقدة، فبدأ يضع ذراعه في الحيز المغلق الذي حبس البعوضة فيه، ساعيًا للحصول على درجة الدكتوراه من دمائه بهذه الكيفية الغريبة). إلا أن المخاطر قد تبدو لك أكثر وضوحًا إذا كانت التجرِبة تخصك؛ فهل المشاركون في التجارِب الأولية على البشر يكونون مُطمئنين بما لديهم من ثقةٍ عمياء في العلم، والقواعد البحثية المتبعة؟
إنها حقًّا حالة متطرفة. ولكن حتى في أحسن الظروف يأتي المتطوعون من الطبقات الدنيا بالمجتمع، وهذا أمر يتسم بالفظاظة؛ إذ تُجرى جميع اختبارات الأدوية التي نتناولها جميعًا — لنكن صرحاء — على الفقراء. وفي الولايات المتحدة، نجد أن هذا يعني الأشخاص الذين ليس لديهم تأمين صحي، وهذا يُثير قضيةً أخرى مُهمَّة، إذ ينص إعلان هلسنكي، وهو الدستور الأخلاقي الذي يُشكِّل الإطار العام لمعظم الأنشطة الطبية الحديثة، على أن البحث العلمي يمكن تبريره إذا كان السكان الذين يُجلب منهم المشاركون فيه سيفيدون من نتائجه. ويقول الفكر الذي وراء هذا الإعلان إن العقاقير الجديدة لعلاج مرض الإيدز — على سبيل المثال — يجب ألا تُختبر على أناسٍ من أفريقيا لا يستطيعون شراءها بسبب فقرهم. ولكن الأشخاص غير المتمتعين بالتأمين الصحي، والذين يُعانون البطالة في الولايات المتحدة لا يستطيعون هم أيضًا الحصول على العلاجات الطبية العالية التكلفة؛ ومن ثَمَّ ليس من الواضح إن كان بإمكانهم الاستفادة من هذا البحث. وفوق كل هذا، فإن معظم الجهات الطبية لا تعطي علاجًا مجانيًّا للمشاركين المصابين، ولا تمنحهم تعويضًا على معاناتهم أو حرمانهم من الأجور التي كانوا يتقاضونها.
ويتراوح ما يقبضه هؤلاء المشاركون في الغالب بين ٢٠٠ و٤٠٠ دولار يوميًّا، ويُمكن أن تستمر الدراسات لأسابيع أو أكثر، وغالبًا ما يُشارك هؤلاء في دراساتٍ عدة في عامٍ واحد. ويُعَد المال أمرًا أساسيًّا في هذه العملية، وغالبًا ما يكون الدفع مُؤجَّلًا؛ بمعنى ألا تستلم الأجر بالكامل إلا بعد انتهاء مشاركتك في الدراسة، فإذا انسحبت منها قبل انتهائها، فلا بدَّ أن تُثبت أن انسحابك كان ناتجًا عن آثارٍ جانبية خطيرة للعقَّار الذي جُرب عليك. وبصفةٍ عامة، لا يجد أولئك المشاركون سوى القليل من البدائل الاقتصادية لكسب المال، ولا سيَّما في الولايات المتحدة، وكثيرًا ما تكون استمارات الموافقة التي تُقدَّم لهم مطوَّلة وغامضة، كما يصعب قراءتها وفهمها.
ويُمكنك كسب مزيدٍ من المال إذا عملت ﮐ «فأر تجارب» بدوامٍ كامل، وكثيرون يفعلون هذا. في واقع الأمر إن الكثيرين منهم يعتبرونها وظيفة، ولكنها غير منظَّمةٍ ومُعترَفٍ بها قانونًا مثل سائر الوظائف. ولعل السبب في هذا أننا نشعر بعدم الارتياح لاعتبار مصدر الدخْل هذا مهنةً تُحترف؛ ومن ثَمَّ تنشأ مشكلات جديدة؛ إذ يتجنَّب المشاركون بالتجارِب الشكوى من سوء الأحوال بها مخافةَ أن يُحرَموا من المشاركة في أي دراساتٍ في المستقبل، كما لا يَلجَئُون إلى المحامين للسبب نفسه، بل ربما أيضًا لا يميلون للابتعاد عن الدراسات الصعبة أو المؤلمة خوفًا من التضحية بما يحققونه من دخْلٍ منها. ويصف أحد المشاركين هذا بأنه «اقتصاد العذاب المحتمل»، ويقول: «إنك لا تقبض المال لقيامك بعملٍ ما … وإنما تقبضه من أجل تحمُّلك للألم.»
ونشرت هذه المجلة تحقيقاتٍ عن الوَفَيات التي وقعت أثناء تجارب المرحلة الأولى من الأبحاث، وأسدتْ نصائح للمشاركين، وعرَضتْ على نحوٍ مطوَّل تاريخ الاستعانة بالبشر كفئران تجارب (أو كما يُسمِّيه أولئك الأشخاص أنفسهم: «عملنا الذي يجعلنا نُخرج بولًا وننزف دمًا»). وتُظهر الصور التي تَعرِضها المجلة القوارضَ وهي راقدة على ظهورها، وقد أُدخلت الترمومترات في أشراجها، أو مستسلمة للمشارط وهي تقطع بطونها. ولم يقتصر نشاط المجلة على توجيه انتقاداتٍ جوفاء أو نصائح عن كيفية تحطيم هذه المنظومة الظالمة، بل إن أولئك المتطوعين أصدروا ما سَمَّوه: «البطاقات التقريرية للوحدات البحثية»، وناقشوا قضية إنشاء اتحاد للعاملين في هذا المجال معًا قائلين: «إننا في حاجةٍ للوصول إلى مجموعةٍ من التوقُّعات الأساسية من خلال منتدًى مستقلٍّ مختص بشئوننا كفئران تجارب، وذلك حتى نتمكَّن نحن معشر المتطوعين من أن نكبح جماح الوحدات البحثية الخرقاء بطريقةٍ تجعلنا لا نتعرَّض لأي أذًى.»
كانت هذه البطاقات التقريرية غنيةً بالمعلومات المفيدة، وصادقة، ومسلية، ولكن كما يُمكنك أن تتوقَّع، فإن شركات الأدوية لم تُرحِّب بها. وحينما تناولت مجلة «هاربرز» ثلاثًا منها، نتج عن هذا صدور تهديدات من جانب شركات الأدوية برفع قضايا تشهير واعتذارات من جانب المجلة. وبالمثل، وإثر خبرٍ نشرته وكالة أنباء بلومبرج في عام ٢٠٠٥ — جاء فيه أن أكثر من ١٢ من الأطباء والمسئولين الحكوميين والعلماء قالوا إن شركات الأدوية تقاعست عن حماية المشاركين في التجارِب على نحوٍ ملائم — قال ثلاثة من المهاجرين غير الشرعيين من أمريكا اللاتينية إنهم تعرَّضوا للتهديد بترحيلهم، وذلك من قِبل المركز الطبي الذي خضعوا فيه لتجارب وأثاروا الأقاويل حول عدم اهتمامه بسلامة المشاركين في تجاربه.
لا يقتصر تساؤلنا على ما إذا كنا نشعر بالارتياح تجاه المقابل الذي يُعطى للمشاركين في التجارِب والرَّقابة على هذه العملية، بل يشمل أيضًا ما إذا كانت هذه المعلومات جديدةً تمامًا علينا أم أنها كانت موجودةً ولكن كانت تُخفى. ربَّما تتصوَّر أن الأبحاث جميعها تُجرَى في الجامعات، وقد يكون هذا صحيحًا منذ عشرين عامًا مضت. ولكن ما حدث مؤخَّرًا وبمعدلٍ سريع جدًّا أن جميع الأنشطة البحثية تقريبًا أصبحت تُجرى في الغالب بعيدًا عن الجامعات ويُعهد بها إلى مؤسساتٍ صغيرة خاصة للأبحاث الإكلينيكية، والتي تتعاقد من الباطن مع شركات الأدوية، وتُجري تجاربها في أنحاء العالم. وهذه المؤسسات صغيرة جدًّا وموجودة في أماكن متفرقة، ولكنها لا تزال مُراقَبة بأُطر صُمِّمَت لمواجهة المشكلات الأخلاقية والإجرائية التي تنشأ في الدراسات المؤسسية الكبيرة، وليس تلك الخاصة بالشركات الصغيرة. وفي الولايات المتحدة، بصفةٍ خاصَّة، لديك فرص عديدة لاعتماد تجاربك من إحدى لجان أخلاقيات البحث؛ فإذا خذلتْك إحداها، يمكنك ببساطةٍ أن تنتقل إلى واحدةٍ أخرى.
يُعَد هذا جانبًا مُهمًّا في عالم الطب، وتتشابه الأمور فيما يتعلق بتجارب المرحلتين الثانية والثالثة من الأبحاث. لكن يلزمنا أولًا أن نفهم ما يتم في هاتين المرحلتين.
(٤) تجارب المرحلتين الثانية والثالثة
وهكذا، بعد انتهاء المرحلة الأولى، تكون قد توصَّلت إلى أن عقَّارك مأمون بدرجةٍ كبيرة، وذلك بعد تجرِبته على قليلٍ من الأشخاص الأصحَّاء الذين درجت تسميتهم ﺑ «المتطوعين». والآن يلزمك أن تعطيَه للمرضى المصابين بالمرض الذي تهدف إلى علاجه، حتى تحاول أن تعرف إن كان فعَّالًا أم لا.
يتم هذا في «المرحلة الثانية» و«المرحلة الثالثة» من التجارِب الإكلينيكية، وذلك قبل طرح العقَّار في السوق. صحيح أن الخط الفاصل بين المرحلتين الثانية والثالثة يتسم بالمرونة، إلا أنك بصفةٍ عامة في المرحلة الثانية تعطي عقَّارك لما بين ١٠٠ و٣٠٠ مريض، وتحاول أن تجمع المعلومات عن النتائج القصيرة الأمد، والآثار الجانبية، والجرعات. وهي أول مرةٍ تستطيع فيها أن تعرف إن كان عقَّار ضغط الدم الذي لديك مثلًا يخفض بالفعل ضغط الدم لدى المرضى الذين يُعانون ارتفاعًا فيه، وقد تكون أيضًا هي أول مرة تعرف فيها شيئًا عن آثاره الجانبية العامة.
وفي المرحلة الثالثة من تجارب الدراسات ستُعطي عقَّارك لمجموعة أكبر من المرضى، وعادةً ما تتراوح أعدادهم بين ثلاثمائةٍ وألفين، وعليك مُجددًا أن تعرف النتائج والآثار الجانبية والجرعات. ومن المهم أن تكون جميع التجارِب في هذه المرحلة تجارب عشوائية مضبوطة، تقارن فيها علاجك الجديد بشيءٍ آخر. (ستلاحظ أن جميع تجارب ما قبل التسويق هذه تُجرى على أعدادٍ قليلة نسبيًّا من الناس، مما يعني على الأرجح عدم اكتشاف الآثار الجانبية الأكثر ندرة. وسأعود إلى هذه النقطة فيما بعد.)
وهنا قد تتساءل مُجدَّدًا: من هم هؤلاء المرضى؟ ومن أين يأتون؟ من الواضح أن المشاركين في هذه التجارِب لا يُمثِّلون جميع المرضى لعددٍ من الأسباب المختلفة؛ أولًا: إننا نحتاج لأن نفكر في الدافع الذي يجعل شخصًا ما يُشارك في إحدى التجارِب. قد يكون جميلًا أن نتصوَّر أنَّنا جميعًا نُدرك قيمة الأبحاث بالنسبة إلى الناس، وقد يكون جميلًا أن نتصوَّر أن جميع الأبحاث لها قيمة. ولكن لسوء الحظِّ يُجرى الكثير من التجارِب على عقاقير هي مُجرَّد نسخ من منتجات لشركات أخرى؛ ومن ثَمَّ فهي ابتكارٌ الهدف منه فقط أن تكسب إحدى شركات الأدوية المال من ورائه، ولا يُعَد قفزةً للأمام الهدفُ منها علاج المرضى. ومن الصعب على المشاركين أن يكتشفوا ما إذا كانت التجرِبة التي يُشاركون فيها تُمثِّل حقًّا مسألةً إكلينيكية مهمة؛ ومن ثَمَّ يُمكننا إلى حدٍّ ما أن نتفهَّم إحجام الناس عن المشاركة في التجارِب. ولكن على أي حالٍ وبوجهٍ عام، فقد صار المرضى الأثرياء من العالم المتقدِّم أكثر إحجامًا عن المشاركة فيها، وهذا يُثير قضايا مُهمَّة، على المستوى الأخلاقي والعملي.
وهذه النتائج تعكس ما لاحظناه في المرحلة الأولى من التجارِب، حيث كان من يُعانون الفقر الشديد هم وحدَهم الذين يتقدمون للاشتراك في الأبحاث، وهذا يثير القضية الأخلاقية نفسها؛ إذ يُفترض أن المشاركين في التجارِب ينتمون أصلًا إلى الذين يُمكن واقعيًّا أن يستفيدوا من النتائج والحلول التي تُقدِّمها تلك التجارِب. فإذا كان المشاركون هم غير المتمتعين بالتأمين الصحي وكانت العقاقير مُتاحةً فقط للمتمتعين به، فمن الواضح أن ذلك الافتراض لا يكون واقعيًّا.
إلا أن الاستعانة الانتقائية بالفقراء في التجارِب في الولايات المتحدة يُعَد أمرًا هيِّنًا إذا ما قورن بتطوُّر جديد نجد الكثير من المرضى، بل الكثير أيضًا من الأطباء والأكاديميين، يجهلونه تمامًا، وهو أن تجارب العقاقير أصبحت تُجرى على نحوٍ متزايد في دولٍ تتسم بتدني مستوى الرَّقابة على الأدوية والرعاية الطبية، وتعاني مشكلات طبية مختلفة، كما تحتوي — في بعض الحالات — على مجموعاتٍ سكانية مُختلفة تمامًا.
(٥) مؤسسات الأبحاث الإكلينيكية وإجراء التجارِب حول العالم
تثير تلك النزعة التجارية التي تكتنف إجراء الأبحاث التجارية مخاوف جديدة عديدة. أولًا، وكما ذكرنا من قبل، كثيرًا ما تفرض شركات الأدوية ضغوطًا على الأكاديميين الذين تُموِّل تجاربهم، وتثبطهم عن نشر النتائج التي في غير صالحها، وتشجعهم على تغيير طرق بحثهم واستنتاجاتهم حسب هواها. وحينما يتصدى الأكاديميون لهذه الضغوط، تتحوَّل التهديدات الموجَّهة إليهم إلى وقائع مَقِيتة. فمَن ذلك الموظف بإحدى مؤسسات الأبحاث الإكلينيكية أو الرئيس التنفيذي لها الذي يجرؤ على التصدِّي لشركة الأدوية التي تدفع له مباشرة، بينما يعرف كل طاقم العمل في تلك المؤسسة أن آمالهم في الحصول على أعمال مستقبلية تتوقَّف على كيفية إرضائهم لكل عميلٍ يعملون معه؟
ليس ما سبق أدلةَ إدانةٍ ضد هذه المؤسسات، وإنما يُوضِّح ببساطةٍ الحقيقةَ التجارية المبتذلة لما تفعله؛ إنها تُجري بالطبع التجارِب الخاصة بالأدوية، ولكن هدفها الرئيسي هو أن تجعل دواء أي شركة يبدو جيدًا حتى يقبله مراقبو الأدوية والأطباء والمرضى دون مناقشة. وهذا الأمر ليس مثاليًّا في العلم، وهو أيضًا ليس غشًّا صريحًا، وإنما هو غير مثاليٍّ فحسب.
وهناك أيضًا مسألة تحيُّز النشر، حيث تختفي تجارب بأكملها. ولقد عرفنا في الفصل السابق كيف يُمكن أن تختفيَ البيانات التي في غير صالح شركات الأدوية. ويواجه باحثون أوروبيون وأمريكيون ذوو مكانةٍ أكاديمية معروفة صعوباتٍ في الاحتفاظ بحقوقهم في النشر، وقد يدخلون أحيانًا في معاركَ كبيرةٍ مع شركات الأدوية. ومن الصعب تخيُّل أن مشكلاتٍ كتلك لن تتفاقم في أي دولةٍ نامية، حيث جلبت الأبحاث التجارية استثمارًا غير مسبوقٍ للأفراد والمؤسسات والمجتمعات. وهذا على وجه الخصوص يُثير مشكلات؛ لأن سجلات التجارِب، التي يجب أن تُرسَل إليها البروتوكولات البحثية للتجارب قبل بدئها، غالبًا ما لا تخضع لمراقبةٍ في معظم دول العالم، وقد لا يعرف المجتمع الدولي شيئًا عن التجارِب التي تُجرى في العالم النامي — أو ببساطةٍ بياناتها التي يُتوصل إليها في أماكن جديدة — إلا بعد انتهائها.
إلا أن هناك مُشكلةً أكثر أهميةً تتعلق بالتجارِب التي تُجرى في مثل هذه المجتمعات المُتباينة؛ وهي أن الناس والطب ليسا متماثلَين في جميع أنحاء العالم؛ فمن المعروف، كما سنرى فيما بعد، أن التجارِب بصفةٍ عامة تُجرى على مرضى «مثاليين» جدًّا لا يُمثِّلون الواقع تمامًا، وعادةً ما يكونون أقل مرضًا من المرضى في الواقع، ويتناولون عددًا أقل من الأدوية الأخرى. وفيما يتعلق بالتجارِب التي تُجرى في الدول النامية، يُمكن أن تستفحل هذه المشكلة؛ فالمريض العادي في برلين أو سياتل، الذي يُعاني ارتفاع ضغط الدم، ربما يكون مُداومًا على تناول عقاقير مُتعددة لسنوات عديدة. والآن، افترض أنك تجمع بياناتٍ عن فوائد أحد عقاقير ارتفاع ضغط الدم الجديدة في رومانيا أو الهند، حيث يَحتمِل أن المرضى لا يتناولون أيَّ أدويةٍ أخرى لأنه يقل احتمال التزامهم بما يُعَد علاجًا طبيًّا معتادًا في الغرب. فهل تُعَد النتائج التي ستتوصل إليها حقًّا ذات صلةٍ بالنسبة للمرضى الأمريكيين وتنطبق عليهم مع كل ما يتناولونه من أدوية؟
وهناك اعتبارات ثقافية أخرى؛ فالتجارِب ليست طريقًا باتجاهٍ واحد؛ فهي أيضًا وسيلة لخلق أسواقٍ جديدة، في دول مثل البرازيل، وذلك بإعادة صياغة أعراف الممارسة الإكلينيكية، وتغيير توقُّعات المرضى. أحيانًا يكون هذا أمرًا حسنًا، ولكن يُمكن أن تخلق التجارِب أيضًا توقُّعاتٍ في عقاقير لا يمكن الحصول عليها. بل ويُمكن حتى — عن طريق تشويه أسواق التوظيف المحلية — أن تسحب الأطباء الجيدين بعيدًا عن أعمالهم الإكلينيكية في مُجتمعاتهم الأصلية إلى وظائف بحثية (تمامًا كما اجتذبت أوروبا إليها عن طريق الهجرة أطباء وممرضين أنفقت عليهم دولهم النامية أموالًا طائلةً لتعليمهم وتأهيلهم).
كما تثير التجارِب التي تُجرى في العالم النامي قضية العدالة التي صادفناها من قَبلُ عند مناقشتنا للمرحلة الأولى من التجارِب. فمن المفترض أن يأتيَ الأشخاص المشاركون في التجارِب من مجتمعاتٍ يمكن أن تأمل منطقيًّا الإفادة من نتائج تلك التجارِب. وفي حالاتٍ مُزرية كثيرة، ولا سيَّما في أفريقيا، نجد بوضوحٍ أن هذا ليس هو الحال على الإطلاق. وفي بعض الحالات الأكثر فظاعة، يبدو أنه قد يُحجب علاجٌ فعَّال كان مُتاحًا كجزءٍ من سعي شركة الأدوية لإجراء تجرِبةٍ من التجارِب.
وأبشع القصص في هذا الصدد قصة دراسة عقَّار التروفان، وهو أحد المضادات الحيوية، التي أجرتْها شركة فايزر في مدينة كانو بنيجيريا، إبان انتشار وباء الالتهاب السِّحائي. ومن خلال تجرِبة عشوائية أُجريت مقارنةٌ بين مضاد حيوي تجريبي جديد، ومضاد حيوي آخر معروف بفاعليته، لكن مع إعطائه بجرعةٍ منخفضة. ونتج عن هذه التجرِبة أنْ مات أحدَ عشَرَ طفلًا، بالمعدل نفسه تقريبًا في كل مجموعةٍ من مجموعتَي المشاركين. والمهم أن نذكر أن المشاركين على ما يبدو لم يُخبرهم أحد بالطبيعة التجريبية للعلاجات، وعلاوةً على هذا لم يُخبرهم أحد بأن هناك علاجًا فعالًا ومُتاحًا لمن يطلبه على الفور لدى منظمة «أطباء بلا حدود» التي توجد بجوار المكان الذي أُجريت فيه التجرِبة وفي المبنى نفسه.
وفي ساحة المحاكم، نجحت شركة فايزر في الدفاع عن نفسها محتجَّةً بعدم وجود معيار دولي يُلزمها بالحصول على موافقةٍ واعية من قِبل المشاركين في تجرِبةٍ على عقاقير تجريبية في أفريقيا؛ ومن ثَمَّ يجب أن تُسمَع الدعاوى القضائية المتعلقة بتلك التجرِبة في نيجيريا وحدها. إن هذا من أسوأ الدفوع التي يمكن أن تُقدِّمها شركة أدوية فيما يتعلق بالتجارِب الإكلينيكية الخاصة بالعقاقير، وقد دُحض في عام ٢٠٠٦ حينما أصدرت وزارة الصحة النيجيرية تقريرها عن التجرِبة، والذي نصَّ على أن شركة فايزر انتهكت القانون النيجيري وميثاق الأمم المتحدة لحقوق الطفل وإعلان هلسنكي.
تثير مثل هذه الأمور القلق في حد ذاتها، ولكن يجب أيضًا أن يُنظَر إليها في إطار السياق الأوسع للتجارب التي تُجرى في الدُّول النامية على عقاقيرَ ليست مُتاحةً للاستعمال الإكلينيكي العادي في تلك الدول. إنه مأزق أخلاقي كلاسيكي، ولكنه تَحقَّق بشدةٍ على أرض الواقع. تخيل معي أنَّك في بلدٍ لا يمكن الحصول فيه على أدويةٍ حديثة لعلاج مرض الإيدز. فهل من المنطقي في تلك الحالة أن تُجرى تجرِبة على عقَّارٍ جديد للإيدز غالي الثمن، حتى لو تَبيَّن على نطاقٍ واسع أنه مأمون؟ وماذا لو كان أفراد المجموعة الضابطة في تجربتك يتلقَّوْن مجرد حبوبٍ وهمية زائفة، بمعنى أنَّهم في الواقع لا يأخذون شيئًا؟ في أمريكا لا يمكن أن يتلقى أيُّ مريضٍ حبوبًا سُكرية وهمية لعلاج الإيدز، ولكن في هذا البلد الأفريقي وغيره ربما كانت كلمة «لا شيء» هي العلاج الشائع.
ينصُّ إعلان هلسنكي على أن الأبحاث يجب أن تُفيد الاحتياجات الصِّحية للجماعات التي تُجرى عليها، ولكن إرشادات الممارسة الإكلينيكية الجيدة لا تنصُّ على هذا. ويناقش إعلان هلسنكي الحاجة الأخلاقية للحصول على العلاج بعد أن تنتهيَ التجرِبة الخاصة به، ولا تفعل هذا إرشادات الممارسة الإكلينيكية الجيدة. ويُقيد إعلان هلسنكي استعمال الحبوب السُّكرية الوهمية في التجارِب إذا كانت هناك علاجات فعَّالة مُتاحة، ولا تفعل هذا إرشادات الممارسة الإكلينيكية الجيدة. كما أن إعلان هلسنكي بالمصادفة يُشجِّع الباحثين على الكشف عن تمويل الدراسة ورُعاتها، والإعلان عن تصميم الدراسة، ونشر النتائج السَّلبية والإعلان عن النتائج بدقَّة، ولا تفعل هذا إرشادات الممارسة الإكلينيكية الجيدة؛ ومن ثَمَّ لم يكن هذا التحوُّل التنظيمي يبعث على الاطمئنان، ولا سيَّما فيما يتعلق بالتجارِب التي تُجرى خارج الولايات المتحدة، وتحديدًا في عام ٢٠٠٨، وهو وقت كانت فيه الدراسات تنتقل إلى خارج الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بمعدلٍ سريع للغاية.
وجدير بالذكر أيضًا أن شركات الأدوية تقسو على مواطني الدُّول النامية فيما يتعلق بأسعار الأدوية. وهذا الأمر مثل غيره من الأمور التي نناقشها هنا يستحق أن يُخصَّص له كتاب يشرحه بإسهاب، ولكن فيما يلي قصة تُوضِّحه باختصار. في عام ٢٠٠٧، حاولت تايلاند أن تتخذ موقفًا حازمًا تجاه شركة أبوت للأدوية بخصوص عقَّار الكاليترا الذي تُنتجه؛ فهناك أكثر من نصف مليون شخص حاملين لفيروس العوز المناعي البشري في تايلاند (والكثيرون منهم ابتُلُوا بهذا الفيروس من جرَّاء ممارستهم الجنس مع سياح الجنس الآتين من دول الغرب)، و١٢٠ ألف شخص مصابين بمرض الإيدز. وتستطيع هذه الدولة أن تفيَ بتكاليف عقاقير الإيدز الأولية، ولكن الكثير من هذه العقاقير فقدَ فاعليته بمرور الوقت بسبب المقاومة الفيروسية المكتسبة. وتتقاضى شركة أبوت سنويًّا عن كل مريضٍ يحصل على عقَّار الكاليترا في تايلاند ٢٢٠٠ دولار، وهو ما يُساوي تقريبًا — بالمصادفة السيئة — إجمالي دخل الفرد سنويًّا هناك.
إننا نمنح شركات الأدوية حقوقًا حصرية لتصنيع العلاجات التي اكتشفتها لفترةٍ زمنية محددة — حوالي ثمانية عشر عامًا في العادة — وذلك للتشجيع على الابتكار. ولكن من غير المرجَّح أن يشجع العائد المحقق من بيع العقاقير في الدول الأكثر فقرًا على ابتكار علاجاتٍ جديدة بدرجةٍ كبيرة، (ويمكننا أن نرى هذا بوضوحٍ شديد من خلال حقيقة أن الكثير من الحالات الطبية التي تحدث بنحوٍ أساسي في الدُّول النامية تهمله شركات الأدوية). من أجل هذا وُقِّعت معاهدات دولية مختلفة، مثل إعلان الدوحة في عام ٢٠٠١، الذي بمقتضاه تستطيع إحدى الحكومات أن تعلن حالة طوارئ تتعلق بالصحة العامة، وتبدأ في تصنيع أو شراء نسخ من عقَّار تملك شركةٌ حقوقَ إنتاجه الحصرية. وأبرز الأمثلة على استخدام هذه «التراخيص الإجبارية» كان حينما أصرَّت حكومة الولايات المتحدة في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر على وجوب السَّماح لها بشراء كميات كبيرة من عقَّار السيبروفلوكساسين الرخيص الثمن لعلاج مرض الجمرة الخبيثة، حينما خشيت من أن جراثيمه كانت تُرسل في طرودٍ إلى السياسيين من قِبل الإرهابيين.
ومن ثَمَّ في يناير عام ٢٠٠٧ أعلنت الحكومة التايلاندية أنها ستُنتج نسخة من عقَّار شركة أبوت تُخصَّص فقط لفقراء الدولة حتى تنقذ حياتهم. وكان رد أبوت مثيرًا؛ كان ردًّا ثأريًّا تَمثَّل في سحبها التام لنسختها الجديدة المقاوِمة للحرارة من عقَّار الكاليترا من السوق التايلاندية، كما سحبت ستة عقاقير أخرى جديدة وأعلنت أنها لن تعيد هذه العقاقير مجدَّدًا إلى السوق التايلاندية إلا بعد أن تَعِد الحكومة بألا تستخدم «الترخيص الإجباري» فيما يتعلق بعقاقيرها مرةً أخرى. ومن الصعب أن تتخيل أن يحدث شيء مثل هذا في ظل وجود إعلان الدوحة. وإذا أردت معرفة المزيد عن السياق الأخلاقي، فإن منظمة الصحة العالمية قدَّرت أن نصف عدد حالات انتقال العدوى بفيروس العوز المناعي البشري في تايلاند يأتي من الاتصال الجنسي بين العاملات في الدعارة وزبائنهن. ويقال إن هناك مليونَي امرأة و٨٠٠ ألف طفل تحت سن الثامنة عشرة يعملن في تجارة الجنس في تايلاند، وكثيرات منهن يتعاملن مع رجالٍ من دول غربية.
وهكذا نكون قد انتهينا من تناول المراحل الأولى والثانية والثالثة من التجارِب الإكلينيكية، سواءٌ فيما يتعلق بالجانب النظري، أو بما يحدث على أرض الواقع فيما وراء البروتوكولات البحثية، سواءٌ في المراكز الإكلينيكية أو خارجها، والذي آمل أن أكون قد أعطيتك فكرةً عنه، والذي قد يجعلك تشعر بالغضب والاستياء. أما عن مسار العقَّار بعد ذلك، فواضح وبسيط؛ فالجهة القائمة على رقابة الأدوية، سواءٌ أكانت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية أم الوكالة الأوروبية للأدوية أو ما شابه، تنظر في النتائج المتمخضة عن المراحل الأولى والثانية والثالثة من التجارِب لتعرف منها ما إذا كان العقَّار فعَّالًا وآثاره الجانبية مقبولة أم لا، وبعد ذلك تَطْلب إجراء المزيد من التجارِب أو تَطْلب من شركة الأدوية أن تحجب العقَّار أو تتركه ليُطرح في السوق ويُوصف من قِبل الأطباء. هذا هو المسار من الناحية النظرية على أي حال.
لكن على أرض الواقع الأمور أكثر فوضويةً وسوءًا.