عدم كفاءة الرقابة على الأدوية
(١) كيف تحصل على تصديق بتداول عقَّارك؟
مبدئيًّا، إن عمل مراقب الأدوية بسيط؛ فمهمته التصديق على العقَّار في المقام الأول، بعد أن يفحص التجارِب التي تُظهر جدواه، ويراقب أمان تناوله بِمُجرد طرحه في السوق، ويُبلغ الأطباء بمحاذير تناوله وأضراره، كما أنه يسحب الأدوية غير المأمونة وغير الفعَّالة من السوق. ومما يؤسَف له — كما سنرى — أنه برغم وجود الكثيرين من المراقبين الشرفاء الذين يبذلون كل ما بوسعهم من أجل صالح المرضى، فإنهم مُحاصَرون بالمشكلات؛ فهناك ضغوط واقعة عليهم من شركات الأدوية، وضغوط من الحكومة، ومشكلات تمويلية، ومشكلات تتعلق بالكفاءة، وتضاربات مصالح في محيطهم، ثم أسوأ المشكلات جميعًا التي تظهر هنا مجددًا، وهي الهواجس بشأن الحفاظ على سِرية البيانات.
(٢) الضغوط التي يتعرَّض لها المراقبون
ثم هناك حرية انتقال الأشخاص فيما بين الهيئات الرقابية وشركات الأدوية، وهو الأمر الذي يخلق مشكلاتٍ يصعب كثيرًا مراقبتها واحتواؤها. وتميل الهيئات الرقابية الحكومية لعدم إعطاء العاملين بها مرتباتٍ مجزية؛ لذا بعد عملك لبعض الوقت مثلًا لدى وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية قد تبدأ في ملاحظة أن العاملين بقسم الشئون الرقابية في الشركات التي تتعامل معها، وهم الذين تنشئ معهم علاقاتٍ اجتماعية، قد صاروا يمتلكون سياراتٍ أفضل من سيارتك، ويعيشون في أحياءٍ سكنية أرقى من الحي الذي تسكنه، ويذهب أطفالهم إلى مدارس أفضل من التي يدرس بها أطفالك، وذلك برغم أنهم يقومون أساسًا بالعمل نفسه الذي تقوم به، ولكن على الطرف المقابل من العملية. وفي واقع الأمر، فإنك، بما لديك من معلوماتٍ وخبرة بالجهة الرقابية التي تعمل لديها، يمكن أن تكون مهمًّا جدًّا لدى أي شركة أدوية، ولا سيَّما أن مجال الرقابة هذا غالبًا ما تكون قواعده المكتوبة مفصلة ولكنها مبهمة، والكثير من التفاصيل حول «ما يمكن أن تقتنصه منه» في واقع الأمر يعرفه فقط العاملون به.
ومن ثَمَّ تخلق عملية الانتقال هذه مشكلةً أخرى؛ فماذا لو كان العاملون لدى إحدى الهيئات الرقابية، وهم لا يزالون في موقع عملهم، يُفكِّرون في العمل مستقبلًا لدى إحدى شركات الأدوية؟ فيَحتمِل حينئذٍ أن يتقاعسوا عن اتخاذ قراراتٍ قد تُصعِّب انتقالهم في المستقبل بهذه الشركة أو تلك. هذا تضارب مصالح يصعب كثيرًا ملاحظته والسيطرة عليه؛ حيث لا يوجد اتفاق حاليٌّ يمكن اكتشافه، كما أن من الصعب التنبؤ بمن سينتقل إلى شركةٍ ما، ويقل احتمال فرض عقوبات بأثرٍ رجعي. وبالإضافة إلى هذا، لو كان بعض العاملين لدى إحدى الهيئات الرقابية يُغيرون سلوكهم على أساس أفكارٍ مُبهمة عن توظيفهم في المستقبل، فالأرجح ألا يكون هذا على أساس خطةٍ وظيفية مُحدَّدة، أو تبادُلٍ محدد للخدمات؛ ومن ثَمَّ سيكون من الصَّعب رصد دليلٍ واضح على الفساد. وقد لا يمكن حتى إدراك العملية برُمَّتها، وعلى أي حال، فإن جميع المؤسسات الكبيرة هي كَسُفن الحاويات الضخمة التي تستغرق وقتًا طويلًا لتُغير اتجاهها. أو بالأحرى قد تلاحظ تحوُّلًا في الرُّوح المعنوية للعاملين وإعادة ترتيب تدريجي وبطيء للأولويات والأهداف التنظيمية الضمنية.
إلا أن موظفي الرقابة على الأدوية ليسوا الأشخاص الوحيدين الذين يُواجهون تضارُب مصالح (وهي فكرة سأتناولها بتوسُّع أكبر في الفصل السادس)؛ فكثيرٌ من مُمثلي المرضى الأعضاء في اللجان التابعة للوكالة الأوروبية للأدوية، بمن فيهم الاثنان الموجودان في مجلس إدارتها، يأتون من منظمات تُموَّل بكثافةٍ من قِبل شركات الأدوية، وذلك برغم أن قوانين الوكالة تنصُّ على أن «أعضاء مجلس الإدارة … يجب ألا تكون لهم مصالح مالية أو غيرها في صناعة الدواء يمكن أن تؤثِّر على نزاهتهم».
ثم هناك الشهادات التي من داخل الهيئة ذاتها؛ فأثناء سحب عقَّار الفيوكس من سوق الدواء، اتخذت الهيئة قراراتٍ عدةً مثيرة للجدل. وفيما بعد، قال ديفيد جراهام، المدير المساعد للشئون العلمية والدوائية بمكتب أمان الدواء، أمام لجنة مجلس الشيوخ الأمريكي للشئون المالية ما يلي: «صارت الهيئة خاضعةً لشركات الأدوية. ولقد حضرت الكثير والكثير من الاجتماعات الداخلية بها، وبمجرد أن تقول إحدى شركات الدواء إنها لن تفعل شيئًا ما، فإن الهيئة تتراجع وتتنازل عن مطلبها. وعندما تتحدَّث عن تلك الشركات، تصفها ﺑ «زملائنا في الصناعة».»
قُدِّمت اقتراحات متعددة على مرِّ السنين عن كيفية التعامُل مع مشكلة الخبراء الرقابيين الذين لديهم مصالح مع شركة الأدوية. ومنها بالطبع استبعادهم من عملية اتخاذ القرار تمامًا، وإن كان هذا يُمكن أن يُحدث مشكلاتٍ جديدةً؛ إذ إن من الصعب أن تجد «أي أحد» ليست لديه مثل هذه المصالح. وليس هذا لأن الأكاديميين جميعهم فاسدون أو جشعون يسعَوْن وراء المال، ولكن لأن الأكاديميين قد شُجعوا على نحوٍ كبير على التعاون مع شركات الأدوية على مدى ما يزيد عن عَقدين من قِبل العديد من حكومات العالم، اعتقادًا منها بأن هذا سيحثُّ على الابتكار ويُقلِّل التكاليف على القطاع العام. ومع ترسيخ هذا الوضع بقوة، سيكون غريبًا أن يتعين علينا الآن أن نفكر بجديةٍ في استبعاد بعضٍ من أفضل ما لدينا من أكاديميين من المساهمة في إعلامنا بما يتعلق بمسائلِ فاعليةِ العقاقير وأمانها؛ ومن ثَمَّ يصير السؤال هو: كيف يُمكننا مُراقبة تضاربات المصالح التي تحدث واحتواؤها؟
هناك اقتراح ثانٍ، وهو أن تكون العضوية والتصويت في هذه اللجان الرقابية مفتوحين. وفي هذا الشأن، نجد أن هيئة الغذاء والدواء الأمريكية تسبق بكثيرٍ الوكالة الأوروبية للأدوية؛ حيث ظلت العضوية والتصويت والتعليقات في لجانها سِريةً منذ بداية ظهورها، مع إعطاء بعض الوعود في العام الماضي بمزيدٍ من الشفافية (ستتعلم مما قرأت حتى الآن ألَّا تحكم على وعدٍ تعطيه تلك الوكالة على عواهنه، ولكن أن تتريَّث حتى ترى ما سيحدث على أرض الواقع). وجدير بالذكر هنا أن أقول أمرًا وإن كنت أظن أنه يجب ألا يُغيِّر فكرة أي شخصٍ عن الشفافية، وهو أن هناك رأيًا يُحبِّذ سِرية الاجتماعات مع عدم ذكر أصحاب التعليقات؛ فقد يكون الناس أكثر صراحةً إذا عرفوا أنهم يتحدثون خارج نطاق التسجيل وأنهم لن تُذكر أسماؤهم. فقد يقول أحد الأساتذة الجامعيين في غرفةٍ مليئة بأناسٍ يثق بهم: «لا ينبغي أن أقول لكم هذا، لكن الجميع في شركة إم جي بي يعرفون أن هذا العقَّار لا فائدة له، وأن التجرِبة الأخيرة غير المعلنة تبدو سلبية كذلك.»
وفي كلٍّ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تُموَّل هيئات مراقبة الأدوية من قِبل شركات الأدوية بالكامل تقريبًا، وذلك من خلال الرسوم التي تدفعها الشركات للحصول على تصديقٍ على منتجاتها وغير ذلك من الخدمات الرقابية. وحتى بضعة أعوامٍ مضت، حينما كان التصديق على الأدوية متركِّزًا في يد الوكالة الأوروبية للأدوية، كان هذا يُشكِّل مصدرًا للقلق بصفةٍ خاصة في أوروبا؛ لأن شركات الأدوية كان بإمكانها أن تختار الدولة التي يمكن أن تحصل على تصديقٍ منها، وهذا خلق نوعًا من التنافس. وفوق هذا كله، فإن هذا النموذج من التمويل خلق انطباعًا بأن تلك الشركات هي العميل، ولكن هذا ليس لمجرد أنها من تُموِّل الهيئات الرقابية؛ فقد كان الهدف من هذا التغيير في التمويل بالتحديد هو تقليل وقت عمليات التصديق لصالح شركات الأدوية.
(٣) التصديق على عقَّار جديد
والآن، ماذا يعني مراقبو الأدوية بكلمة «فعَّال» حينما ينظرون في فوائد عقَّارٍ جديد؟ فكثيرًا ما تكون التفاصيل الدقيقة الخاصة بكل عقَّار موضوعًا للتفاوض، وفي العملية المعقَّدة المتعلقة بالتصديق على العقاقير، عادةً ما تكون المعرفة ببواطن الأمور والعلم بالعُرف السائد غير المكتوب مُهمَّين تمامًا مثل معرفة القواعد والقوانين؛ فعلى سبيل المثال، أظهرت الأبحاث أن الطلبات الخاصة بالتصديق المقدَّمة من الشركات الكبيرة، التي تتمتع بخبرةٍ أكبر بالعملية الرقابية، تحصل على موافقةٍ أسرع من تلك الخاصة بالشركات الأصغر حجمًا. ولكن بصفةٍ عامة، تعرف أي شركة أنه يتعيَّن عليها أن تقوم بتجربتين أو ثلاث، يشارك فيها ألف شخص أو أكثر، وتُظهر أن عقَّارها فعَّال ومفيد.
ومن هنا يبدأ التحايل والتضليل؛ فرغم أن مفهوم التجرِبة العشوائية البسيطة من المفترض أن يكون واضحًا، يقول الواقع إنه تحدث جميع أنواع التشوُّهات والانحرافات التي يمكن أن تتدخَّل في المقارنات التي تُعْقد، والنتائج الإكلينيكية التي تُفحص لتحديد مدى نجاح العقَّار. وفي رأيي أن السؤال العملي الأساسي الأهم الذي يطرحه كل مريضٍ هو «ما العلاج الفعال؟» وجوابه ليس مُعقَّدًا؛ فالمرضى يريدون أن يعرفوا جواب هذا السؤال: ما أفضل علاجٍ لحالتنا؟
والطريقة الوحيدة للإجابة عن هذا السؤال حينما يظهر دواء جديد هي مقارنته بأفضل علاجٍ مُتاح حاليًّا، ولكن هذا ليس مما يشترطه مراقبو الأدوية في العلاج الجديد حتى يُطرح في سوق الدواء، بل كثيرًا ما يحدث حينما تكون هناك بالفعل علاجات فعَّالة ومُتاحة أن يُعرِب مراقبو الأدوية عن سعادتهم لمجرد أن تُظهِر إحدى شركات الأدوية أن علاجها أفضل من لا شيء — أو لنَقُل أفضل من حبة علاجٍ وهمي لا دواء فيها — وتَسعَد الشركة لعبورها هذا الحاجز السهل.
(٤) «أفضل من لا شيء»
هذا يثير مشكلاتٍ خطيرةً عديدة، أُولاها أخلاقية؛ فمن الخطأ الواضح أن تُخضِع مرضى لتجرِبةٍ تعطي فيها نِصفهم علاجًا وهميًّا، إذا كان هناك خيار مُتاح حاليًّا ومعروف بفاعليته؛ لأنك بهذا تُقْدِم بالفعل على حرمان نصف مرضاك من علاج مرضهم. وتذكَّر أنهم ليسوا متطوِّعين أصِحَّاء يهبون أجسادهم طواعيةً مقابل مكافأةٍ مالية، بل إنهم مرضى حقيقيون، وهم في الغالب يُعانون مشكلاتٍ طبيةً خطيرة، آملين في العلاج ومُعرِّضين أنفسهم لبعض الأضرار (ولكنهم يأملون ألا يزيد الأمر عن هذا) في سبيل أن تتطوَّر المعرفة الطبية لصالح المرضى الآخرين في المستقبل.
بالإضافة إلى ذلك، إذا شارك المرضى في تجرِبةٍ ما تستخدم علاجًا وهميًّا بدلًا من أحد العلاجات الفعَّالة المتاحة حاليًّا، فإنهم يُعانون بلاءً مُزدوجًا؛ ففي الغالب، لا تحاول التجرِبةُ التي يشاركون فيها الإجابةَ عن سؤالٍ ذي مغزًى من الناحية الإكلينيكية وذي صلة بالممارسة الطبية؛ لأن الأطباء والمرضى لا يهمهم ما إذا كان دواءٌ جديد أفضلَ من لا شيء إلا من واقع العلم الأكثر تجرُّدًا وبُعدًا عن الصلة بالحياة العملية. فما يهمُّنا هو السؤال العملي عما إذا كان العقَّار أكثر فاعليةً من أفضل خيارٍ مُتاح حاليًّا أم لا، وحينما يُصدَّق على العقَّار، فإننا على الأقل نتوقَّع أن نجد تجارب تُجيب عن هذا السؤال.
لأسبابٍ منهجية قهرية وسليمة علميًّا وضرورية لتحديد فاعلية أو أمان تدخُّل طبي معيَّن، ولا يكون المرضى الذين يتلقَّوْن العلاج الوهمي … عرضةً لأي احتمالٍ لحدوث ضررٍ خطير أو غير قابلٍ للشفاء. ويجب اتخاذ أقصى قدرٍ من الحذر لتجنُّب إساءة استخدام هذا الخيار.
(٥) النتائج الإكلينيكية البديلة
ليس إعطاء علاجٍ وهمي لمجموعات المرضى الضابطة هو المشكلةَ الوحيدة فيما يتعلق بالتجارِب التي تُستخدم للحصول على تصديق بالتسويق؛ فكثيرًا ما يُصدَّق على عقاقير رغم أنها لا تُبدي أيَّ فائدةٍ على الإطلاق فيما يتعلق بالنتائج الإكلينيكية الرئيسية أو الواقعية المرجوة منها، مثل تجنب النوبات القلبية أو الوفاة؛ بدلًا من هذا، يُصدَّق عليها لإبدائها فائدةً فيما يتعلق ﺑ «النتائج الإكلينيكية البديلة»، مثل اختبارات الدم التي لا ترتبط بالمرض الحقيقي والوفاة اللذين نحاول تحاشيَهما إلا بدرجةٍ ضعيفة أو بصفةٍ نظرية.
ويمكن فهم هذا بأفضل نحوٍ بأن نضرب مثالًا؛ تخفض عقاقير الاستاتين الكولسترول، ولكنك لا تتناولها لأنك تريد أن تُغيِّر معدل الكولسترول لديك بِناءً على اختبار دمٍ أجريته خصوصًا لذلك، بل تتناولها لأنك تهدف إلى خفض قابليتك للإصابة بالنوبات القلبية، أو الوفاة؛ فالنوبات القلبية والوفاة هما النتيجتان الإكلينيكيتان الحقيقيتان اللتان تهماننا هنا، ونسبة الكولسترول مجرد نتيجةٍ إكلينيكية بديلة عنهما، فهي نتيجة إجرائية وشيء نأمل أن يكون مرتبطًا بالنتيجة الحقيقية، ولكنه قد لا يكون كذلك، فإمَّا ألَّا يكون له أي صلةٍ بها على الإطلاق أو ربما لا يكون قويَّ الصِّلة بها.
وكثيرًا ما يكون ثَمَّةَ سبب معقول لاستخدام نتيجةٍ إكلينيكية بديلة، ليس كمؤشرٍ وحيد لك، وإنما كمؤشرٍ لبعض البيانات على الأقل؛ فالناس يستغرقون وقتًا طويلًا قبل أن يموتوا (وهذه واحدة من المشكلات الكبيرة في مجال البحث، وأستميحك عذرًا لتفكيري هذا)، ومن ثَمَّ إذا أردت حلًّا سريعًا، لا يُمكنك أن تنتظر حتى يُصابوا بنوبةٍ قلبية ويموتوا. وفي هذه الأحوال تكون النتيجة البديلة مثل اختبار الدم شيئًا معقولًا يمكن قياسه، كإجراءٍ مؤقت. ولكن يلزمك أيضًا أن تُجريَ دراساتِ متابعةٍ طويلةَ الأمد في مرحلةٍ ما لتكتشف ما إذا كان حدْسك عن استخدام النتيجة البديلة كان صحيحًا في نهاية الأمر أم لا. ولكن ما يُؤسَف له أن شركات الأدوية — التي تُعَد أكبر مُموِّل للتجارب — يكون كل همها تحقيق مكاسب قصيرة الأجل، كأن تطرح عقَّارها في سوق الدواء بأسرع وقتٍ ممكن، أو تحصل على نتائج عن العقَّار قبل أن تنتهيَ الفترة التي يكون لها فيها الحق الحصري لإنتاجه، بينما لا يزال في حوزتها.
إنها مشكلة كبيرة للمرضى لأن الفوائد فيما يتعلق بالنتائج الإكلينيكية البديلة كثيرًا ما لا تُترجم إلى فوائد فيما يتعلق بالنتائج الإكلينيكية الحقيقية، بل في الواقع إن تاريخ الطب مليء بأمثلةٍ يحدث فيها العكس تمامًا.
حينما تطلب الحصول على تصديقٍ على عقَّارك ليُطرح في سوق الدواء، فسيَسمح لك مراقبو الأدوية في الغالب بأن تُظهر الدليل على فاعليته على أساس النتائج الإكلينيكية البديلة فحسب. ولكي تحصل على «تصديق عاجل» على العقاقير التي تُعَد الأولى في فئةٍ جديدة، أو تعالج حالةً ليس لها علاج مُتاح حاليًّا، فقد يعطونك إياه على أساس نتيجةٍ إكلينيكية بديلة هناك بالكاد دليل على قدرتها على التنبؤ بفاعلية العقَّار في علاج النتيجة الإكلينيكية الحقيقية، بما يعني أنه لم يُجرَ عليه إلا القليل جدًّا من البحث لمعرفة مقدار صلته واقعيًّا بالنتائج الإكلينيكية الحقيقية المتعلقة بالمرض المعنِي. وفي هذا السياق يجدر بنا أن نتذكر أن الأمثلة المذكورة عاليه التي تعرَّضنا فيها للخداع والتضليل جاءت من نتائج إكلينيكية بديلة اعتُبرت جيدة. وقد يكون هذا جيدًا لو كان طرْح العقَّار في السوق مجرد بداية للقصة، أو توطئة لوصفٍ حذِر للعقَّار في سياق مراقبةٍ أكبر للنتائج الإكلينيكية الحقيقية. ولكن لسوء الحظ، كما سنرى الآن، لا تجري الأمور على هذا المنوال.
(٦) التصديق العاجل
يستغرق جمع أدلة التجارِب وتقييمها وقتًا طويلًا، ولكن يتعيَّن على مراقبي الأدوية أن يُوازنوا بين قُوًى عدةٍ متعارضة؛ فالأطباء الذين أعيُنهم على صالح الصحة العامة عادة ما يحرصون على التثبُّت من أن الأدلة الخاصة بأي منتجٍ جديد جيدةٌ قدْر الإمكان، ويرجع هذا جزئيًّا إلى أن الكثير من العقاقير الجديدة لا يكون مفيدًا إلا بدرجةٍ طفيفة مقارنةً بما يوجد بالفعل من العقاقير، وكذلك لأن فترة ما قبل التصديق هي الفترة التي تكون فيها مطالبة شركات الأدوية بالقيام ببحثٍ جيد أكثر قابليةً للاستجابة لها.
وفي الوقت نفسه ترغب شركات الأدوية في طرْح عقاقيرها في سوق الدواء بأسرع وأرخص ما يُمكن. ليس هذا مجرد تلهُّف للحصول على الربح، بل هو كذلك خوف من فقدان مصدر دخْل بالكامل؛ وذلك لأن الزمن يمرُّ ويقترب من تاريخ انتهاء فترة براءة الاختراع حتى قبل أن تبدأ عملية التصديق نفسها. وهذا الدافع التجاري القوي تُعرب عنه بقوةٍ الشركاتُ للحكومات التي بدورها تحمل مراقبي الأدوية على أن يُعطُوا التصديق بسرعة، بل وكثيرًا ما تُعَد سرعة التصديق مقياسًا لكفاءة هؤلاء المراقبين.
يمكن ملاحظة مثل هذه الأنواع من الضغوط أيضًا في الوقت الذي يستغرقه إصدار التصديق على الأدوية، الذي انخفض بنحوٍ كبير في أنحاء العالم؛ ففي الولايات المتحدة انخفض بمقدار النصف منذ عام ١٩٩٣، وذلك بعد انخفاضه عدة مرات قبل ذلك، وفي المملكة المتحدة انخفض بمعدلٍ أكبر بكثير؛ من ١٥٤ يوم عمل في عام ١٩٨٩ إلى ٤٤ يوم عمل بعدها بعَقدٍ واحد فقط.
ومن الخطأ أن نتصوَّر أن شركات الأدوية هي وحدها من تفرض الضغوط لتسريع وتيرة عملية التصديق؛ فالمرضى كذلك يمكن أن يشعروا بأنهم يُحرَمون من الحصول على العقاقير، ولا سيَّما إذا كانوا في أمسِّ الحاجة إليها. وفي واقع الأمر، في عَقدَي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، جاء المحرك العام الرئيسي لتسريع التصديقات من تحالفٍ تَشكَّل من شركات الأدوية والحركات الناشطة في مجال مرض الإيدز مثل حركة «أكت-أب».
ففي تلك الفترة، ظهر فيروس العوز المناعي البشري ومرض الإيدز فجأة، وبدأ الشواذ جنسيًّا من الرجال الأصِحَّاء يقعون فريسةً للمرض ويموتون بأعدادٍ مخيفة مع عدم وجود علاجٍ متاح. وكانوا يقولون: إننا لا نكترث بما إذا كانت العقاقير التي تُجرى عليها الأبحاث حاليًّا لتحديد مدى فاعليتها قد تقتلنا؛ فنحن نريدها لأننا نموت بالفعل. وإن فقدان الإنسان لشهرَين من حياته بسبب عقَّارٍ لم يُصدَّق عليه حاليًّا وتبيَّنت خطورته فيما بعد، لا شيء إذا قورن باحتمال شفائه وعودته لحياته الطبيعية. وكان المصابون بفيروس العوز المناعي البشري على نحوٍ متطرفٍ لديهم أقوى الدوافع التي تُحفز الناس للمشاركة في التجارِب الإكلينيكية؛ فقد كانوا مستعدين لأخْذ المخاطرة، آملين في التوصُّل إلى علاجاتٍ أفضل لهم ولآخرين مثلهم في المستقبل. ومن أجل تحقيق هذا الهدف أعاقوا المرور في شارع وول ستريت، وساروا باتجاه مقر هيئة الغذاء والدواء في مدينة روكفيل بولاية ماريلاند، منادين بلا كللٍ أو مللٍ بضرورة تسريع وتيرة التصديقات.
ونتيجةً لهذه الحملة أُدخلت سلسلة من القواعد التنظيمية الجديدة التي تسمح بتسريع التصديق على عقاقيرَ جديدةٍ مُعينة. وكان هذا التشريع موجهًا بالأساس للعقاقير المُنقِذة للحياة، في الحالات التي لا يكون فيها علاج حاليٌّ متاح. ولكن مما يؤسف له أننا اكتشفنا الآن بعد تطبيق هذا التشريع لأكثرَ من عَقدٍ كامل أنه استُخدم في غير محله.
(٧) قصة عقَّار الميدودرين
بمجرد أن يُصدَّق على عقَّارٍ ما، يكون من النادر جدًّا أن يسحبه أحد مراقبي الأدوية من سوق الدواء، ولا سيَّما إذا كان عيبه الوحيد هو نقص فاعليته، وليس التسبُّب في وفاة المرضى بسبب آثاره الجانبية. وحينما يتخذون في النهاية هذا الإجراء، فإن هذا يحدث عادةً بعد تأخيرٍ ملحوظ.
وتحديدًا، صُدِّق على عقَّار الميدودرين على أساس ثلاث تجارب موجزة وصغيرة جدًّا (كانت اثنتان منها لمدة يومين فقط)، انسحب منها تمامًا الكثير من المشاركين فيها الذين تناولوا العقَّار. وأظهرت هذه التجارِب فائدة قليلة للعقَّار على أساس إحدى النتائج الإكلينيكية البديلة — وهي حدوث تغيرات في قراءة ضغط الدم عند وقوف المشاركين — ولكن لم تظهر أي فائدةٍ فيما يتعلق بالنتائج الإكلينيكية الرئيسية، مثل الشعور بالدوار والسقوط أرضًا، ونوعية الحياة وما شابه. وبسبب هذا، وبعد أن صُدِّق على العقَّار من خلال نظام التصديق العاجل، اضطُرت الشركة المنتجة له، وهي شركة شاير، للوعد بإجراء المزيد من الأبحاث عليه بمجرد طرحه في السوق.
ولكن لم تكن تلك نهاية القصة؛ ففجأةً برز جيش جرار من مستخدمي العقَّار ومجموعات دعم المرضى ذات الاهتمام الخاص، يقودهم بعض السياسيين؛ فطلب مائة ألف مريض الحصول على العقَّار في عام ٢٠٠٩ وحده؛ ففي نظرهم كان العقَّار يُعَد مُنقذًا للحياة، وهو العقَّار الوحيد المتاح لعلاج حالتهم المَرضيَّة. ورأَوْا أنه لو مُنعت جميع الشركات من إنتاجه، مع سحبه من السوق، فستكون هذه كارثة. ولم يلتفتوا إلى الحقيقة القائلة إن جميع التجارِب التي أُجريت عليه لم تُظهر أي فائدةٍ قوية له؛ فعلاجات الطب البديل مثل المعالجة المثلية لا يزال لها مريدوها المخلصون، وهذا برغم الحقيقة القائلة إن أدوية المعالجة المثلية بالأساس لا تحتوي على أي مكوناتٍ فعالة على الإطلاق، وبرغم كل الأبحاث التي أظهرت أنها ليست أفضل من العقاقير الوهمية (إذا أردت الاطلاع على المزيد حول هذا الأمر، فستجده معروضًا بالتفصيل في كتابي «العلم الزائف»). ولم يأبَهْ هؤلاء المرضى بما كشفته التجارِب؛ إذ كانوا «مؤمنين» بأن دواءهم ذو فاعلية، وكان لديهم يقين بذلك يشبه يقين المؤمنين. والآن وجدوا أن الحكومة تُخطِّط لسحبه من السوق بسبب وجود تجاوزٍ إداريٍّ مُعقَّد، وتعجبوا من مصطلح «النتيجة الإكلينيكية البديلة»، الذي ربما بدا لأسماعهم كأنَّه تلاعُب بالألفاظ لا محل له.
وهكذا أُجبِرت الهيئة على التراجع، وأبقت على تداول العقَّار في السوق. واستمرَّت المفاوضات البطيئة بشأن تجارب ما بعد التداول، ولكن لم يَعُد لدى الهيئة سوى القليل جدًّا من النفوذ على أي شركةٍ بشأن هذا العقَّار. وبعد مرور عَقدين تقريبًا من التصديق الأول على العقَّار كحالةٍ استثنائية عاجلة، لا تزال شركات الأدوية تُقدِّم الوعود بإجراء تجارب سليمة عليه، ولكن حتى عام ٢٠١٢ لم يُجرَ شيء منها.
إن الجيفيتينب (واسمه التجاري إيريسا) عقَّار معالج للسرطان تُصنِّعه شركة أسترازينيكا للمرضى اليائسين الذين وصلوا إلى مرحلةٍ متأخرة من المرض. وقد صُدِّق عليه لعلاج سرطان الرئة ذي الخلايا غير الصغيرة الذي يُعَد حالةً خطيرة ومهدِّدة للحياة، كما صُدِّق عليه باعتباره أحد علاجات الصف الثالث بعد فشل جميع العلاجات الأخرى. وكان التصديق العاجل عليه مدفوعًا جزئيًّا بمطالبات المرضى، تمامًا كما حدث في حالة الحركات الناشطة في مجال الإيدز التي كانت وراء إدخال تشريع التصديق العاجل في المقام الأول. وهي أيضًا دراسة حالة جيدة لأن الشركة المنتجة للعقَّار أجرت عليه دراسات المتابعة، وهو أمر غير معتادٍ إلى حدٍّ كبير (٢٥ بالمائة فقط من عقاقير السرطان التي درسها أبراهام قامت الشركة المنتجة لها بهذا الإجراء).
ولكي تحصل على تصديقٍ عادي على علاج لسرطان الرئة، يلزمك أن تُثبت قدرة عقَّارك على إحداث تحسُّن مقبول، إما في نسبة البقاء على قيد الحياة، وإما في الأعراض المَرضيَّة، إلا أن «استجابة الورم»، وهو تقلص في حجم الورم يُرى عند عمل أشعة للجسم، تُعَد نتيجةً إكلينيكية بديلة قياسية بعض الشيء يمكن لعقاقير السرطان استخدامها للحصول على تصديق عاجل؛ وبعد الحصول على التصديق، يلزمك أن تُجريَ مزيدًا من التجارِب لتكتشف ما إذا كان هذا الإجراء يُترجَم إلى فوائد فعلية تنفع المرضى أم لا.
في بادئ الأمر قدَّمت شركة أسترازينيكا أدلةً من تجرِبةٍ صغيرة أظهرت انخفاضًا بنسبة ١٠ بالمائة في حجم الورم عند استخدام عقَّار إيريسا. واعتبرت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية هذه النتيجة غير مهمة، ولا سيَّما أن المرضى في هذه التجرِبة كانوا غير عاديين؛ فأورامهم كانت أبطأ نموًّا مما يحدث عادة. ولكن الشركة استمرت في طريقها، وبدأت في إجراء تجارب أكبر بكثيرٍ لقياس تأثير العقَّار على معدَّل البقاء على قيد الحياة. وكانت تتوقَّع أن تُنهيَ هذه الدراسات بعد إتمام التصديق السريع على العقَّار، ولكن الذي حدث أنها انتهت قبل ذلك. ولم تجد التجارِب التي أُجريت على أساس النتائج الإكلينيكية الحقيقية أي فائدةٍ فيما يخص معدل البقاء على قيد الحياة. وعلاوةً على هذا، وخلافًا لما وجدتْه الدراسة الصغيرة السابقة، لم تَجِد التجارِب الجديدة أي تحسُّن في حجم الورم. ولخَّص أحد علماء هيئة الغذاء والدواء هذه النتائج باقتضابٍ قائلًا: «إنَّ ألفَي مريض قالوا إن عقَّار إيريسا لا فائدة منه، مقابل ١٣٩ قالوا إنه يفيد بنحوٍ هامشي.»
وفي الوقت نفسه كانت الشركة أيضًا تعطي العقَّار لإثنى عشر ألف مريض ممن يشعرون باليأس والاقتراب من الموت مع عدم وجود خيارٍ آخر، من خلال ما يُطلق عليه «برنامج الإتاحة الموسَّعة». وهو أمر شائع حينما لا يُبدي المرضى أيَّ استجابةٍ لأي دواءٍ آخر، ويُعتبرون غير لائقين جدًّا للخضوع للتجارب الإكلينيكية (وإن كنت أرى أن التجارِب يجب أن تشمل على نحوٍ مثاليٍّ أي مريضٍ يصلح للعلاج، ولا سيَّما أننا نقوم بها فقط لنحاول الإجابة عن السؤال المتعلق بما إذا كان العقَّار المعني يفيد المرضى في العالم الواقعي أم لا). وتلك البرامج يمكن أن تكلف الشركات أموالًا كثيرة، ولكنَّها كذلك تكتسب مزيدًا من الشهرة والسُّمعة الطيبة من خلال المرضى اليائسين وعائلاتهم وجماعات المرضى المنظمة الخاصة بمرضهم.
وهيئات مراقبة الأدوية نجدها اليوم، مثل الكثير من الهيئات العامة، تُعلي من شأن «المشاركة العامة»، وهو هدفٌ محمودٌ إذا تم بصورةٍ جيدة. ولكن ما نراه هنا ليس مثالًا للمشاركة العامة الجيدة؛ فالاختبارات الكبيرة المحايدة الجيدة التنظيم التي أُجريت على العقَّار أظهرت أنه ليس أفضل من الحبوب السُّكَّرية الوهمية التي لا تحتوي على أي دواء. إلا أن الكثير من المرضى المشرفين على الموت المشاركين في برامج الإتاحة الموسَّعة، الذين أُعطوا العقَّار مجانًا، سافروا إلى مقر هيئة الغذاء والدواء مع مجموعات الضغط للتأكيد على فاعلية العقَّار. فمن وجهة نظرهم هو «عقَّار مدهش أفضل بكثيرٍ من أي علاجٍ سابق … وقد بدأ يقضي على أعراض السرطان في سبعة أيام.» وقال أحدهم إن الأورام «اختفت بنسبة ٩٠ بالمائة في ثلاثة أشهر.» وسواءٌ كان هذا مبالغة أو مصادفة، فإن الواقع يقول إن الاختبارات المحايدة لم تُظهر له أي فائدة، ولكن المرضى اليائسين اعترضوا وأكَّدوا قضيتهم بوضوحٍ وبساطةٍ قائلين إن هذا العقَّار «سوف ينقذنا.» وقد كانت هذه الشهادة الشخصية في الغالب نتيجةً لمزيجٍ من تأثير العلاج الوهمي والتذبذب الطبيعي في الأعراض الذي يشعر به جميع المرضى، ولم تكن لها أي قيمة.
وحينما أخذت اللجنة المعنية بالتصديق على العقَّار الأصوات فيما يتعلق بالموافقة عليه أم لا، كانت النسبة ١١ إلى ٣ لصالح الموافقة عليه.
من الصعب أن نفهم لماذا سارت هذه العملية على هذا النحو؛ إذ لم يأتِ التصويت مخالفًا لبيانات النتائج الإكلينيكية البديلة فحسب، بل أيضًا للأدلة المستقاة من تجاربَ كبيرةٍ جدًّا أظهرت أن العقَّار لا نفع فيه فيما يتعلق بالنتائج الإكلينيكية الرئيسية أو البقاء على قيد الحياة. ولكننا جميعًا بشر، ومن الصعب أن ترفض عقَّارًا وأنت تواجه شهادةً مؤثرةً تتعلق بالحياة والموت. وقد قال أحد علماء هيئة الغذاء والدواء الأمريكية، جون أبراهام، أثناء بحثه الميداني: «إنها [أي شهادات المرضى] بالتأكيد لها تأثير على اللجان الاستشارية، وهذا ما تثبته حالة عقَّار إيريسا.» وقد دفعت شركة أسترازينيكا تكاليف حضور العديد من هؤلاء المرضى لاجتماع اللجنة الاستشارية التابعة للهيئة. ويمكن أن نتساءل ماذا كان سيحدث لو أن الأفراد الذين لم يُعالَجوا بنجاحٍ بهذا العقَّار سافروا عبر أنحاء البلاد ليُدْلوا بشهاداتهم الشخصية حول العقَّار. ربما لم يكن هذا ممكنًا؛ لأنهم ربما صاروا في عداد الأموات.
كان من الممكن أن ترفض الهيئة رأي لجنة الخبراء الخاصة بها، وربما كان هذا التصرف حكيمًا؛ إذ لم يقتصر الأمر على انعدام الدليل على وجود فائدةٍ للعقَّار، بل كانت هناك أيضًا تقارير واردة من اليابان عن حدوث التهاب رئوي قاتل مرتبط باستخدام العقَّار أصاب ٢ بالمائة من المرضى، بما يساوي ثلث الذين ماتوا خلال أسبوعين. إلا أن الهيئة أجازت العقَّار رغم كل ذلك. وقد اضطُرت شركة أسترازينيكا إلى إجراء دراسةٍ إضافية على ١٧٠٠ مريض، ولم تَجِد مُجدَّدًا أي فائدةٍ للعقَّار تفوق الدواء الوهمي. ومع ذلك بقي العقَّار في سوق الدواء. ثم ظهر علاج آخر في الساحة وكان فعَّالًا كعلاجٍ من الصف الثالث لسرطان الرئة ذي الخلايا غير الصغيرة، ورغم ذلك بقي إيريسا في سوق الدواء.
أرسلت الهيئة بالفعل خطابًا يشير إلى أنه يجب عدم وصف عقَّار إيريسا للمرضى الجدد، لكن الأطباء يعتادون على استخدام الأدوية الموجودة في السوق، في الغالب على نحوٍ عشوائي، مدفوعين بالتسويق والتعوُّد والشائعات ونقص المعلومات الحالية الواضحة؛ لذا، استمر الأطباء في وصف العقَّار للمرضى الجدد، وهكذا بقي متداولًا في السوق.
يمكن أن نستشف من النِّسب الموجودة في الاستقصاءات أن تجارب ما بعد التسويق التي يطلبها مراقبو الأدوية غالبًا ما تُتجاهل؛ فكثيرًا ما يخبرك الأطباء في تهكُّمٍ بأن العقاقير غير الفعَّالة تُسوَّق دون مشكلة. ولكن في اعتقادي أن عقَّارَي الميدودرين وإيريسا حالتان تُبرِزان بجلاءٍ حجمَ هذه المشكلة، وتشيران إلى أن نظام التصديق العاجل «لا» يُستخدم في إدخال العقاقير المهمة بغرض الاستخدام الطارئ أو التقييم السريع. كما لا تُجرى دراسات متابعة لتلك العقاقير. ومن هنا يتضح أن هذا النظام هو مجرد وسيلةٍ للتهرُّب من المتطلبات التنظيمية والرقابية للجهات المشرفة على الأدوية.
(٨) التأثير على الابتكار
كما رأينا، فإن مراقبي العقاقير لا يشترطون أن تكون العقاقير الجديدة جيدةً بصفةٍ خاصة، أو أنْ تُحقِّق تحسُّنًا أكبر مما سبقها من العقاقير، بل إنهم حتى لا يشترطون أن تكون العقاقير ذات فاعليةٍ أصلًا. وهذا الأمر له عواقب مهمة على سوق الدواء على نحوٍ أكثر شمولًا؛ لأنه يعني أن الدوافعَ لاستحداث عقاقير جديدة تُحسِّن حالات المرضى وحياتهم تقل. وهناك أمر يظهر بجلاءٍ من جميع القصص الواردة في هذا الكتاب، وهو أن شركات الأدوية تستجيب بعقلانيةٍ لتلك الدوافع؛ فعندما تقلُّ تلك الدوافع، تقل دوافع الشركات للمساهمة في ابتكار عقاقير جديدة.
كما يمكنك أن تتوقع الآن، فقد وجدوا عدة مشكلاتٍ خطيرة في البيانات التي أُعطيت لدعم طلبات التصديق على هذه العقاقير، وتبيَّن أن كل العقاقير التي حصلت على تصديقٍ كانت فقط أفضلَ من العقاقير الوهمية. كما كان ثَمَّةَ معلومات مهمة غائبة في تقارير التجارِب؛ فعلى سبيل المثال، لم تكن هناك بيانات واضحة عن عدد الأشخاص الذين انسحبوا من كل تجرِبة، وهي معلومة مهمة؛ إذ تساعد في إظهار ما إذا كان العقَّار لا يمكن تحمُّله بسبب آثاره الجانبية. ثم كانت هناك مشكلات كبيرة في تصميم التجارِب؛ إذ كانت غالبيتها (خمسٌ وسبعون من بين ثلاثٍ وثمانين) قصيرةً للغاية، كما كانت صغيرة؛ فلم يكن لدى أيٍّ من الدراسات التي قُدمت ما يكفي من المشاركين من أجل الاكتشاف الدقيق للفارق بين العلاجات المتاحة حاليًّا والعلاج الجديد، وذلك في الحالات النادرة التي جرت فيها محاولات لفعل هذا.
وخلص الباحثون إلى أن المشكلة كانت واضحةً بصورةٍ مُباشرة، وهي أن اللوائح إذا كانت لا تشترط على الشركات أن تُثبت أفضلية عقاقيرها الجديدة على العلاجات الحالية، فليس من المرجَّح أن تُنتج أدوية أفضل.
وهذا الأمر يتضح بجلاءٍ في الظاهرة التي تُسمَّى «العقاقير الشبيهة». لو رجعتَ بذهنك إلى الفصل السابق، فستتذكر أننا قلنا إن استحداث جزيءٍ جديد تمامًا بآلية عملٍ في الجسم جديدة تمامًا هو عمل صعب ومحفوف بالمخاطر. وبسبب هذا، بمجرد أن تطرح إحدى الشركات عقَّارًا ناجحًا في سوق الدواء فغالبًا ما يحاول الآخرون إنتاج نسختهم من هذا العقَّار؛ فعلى سبيل المثال، نجد حولنا الكثير جدًّا من مضادات الاكتئاب التي تنتمي إلى فئةٍ تُعرف باسم «مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية»؛ إذ يُعَد إنتاج عقَّار مثل هذا رهانًا مأمونًا إلى حدٍّ كبير.
غالبًا ما لا تمثل هذه العقاقير الشبيهة منفعةً علاجية جوهرية؛ ومن ثَمَّ يعتبرها الكثيرون من الناس تبديدًا للجهد البحثي، ومضيعةً للمال المخصَّص لاستحداث العقاقير، مع تعريض المشاركين في التجارِب لأضرارٍ لا لزوم لها من أجل الكسب المادي لشركات الأدوية وليس إحداث تقدم طبي. أنا لست على ثقةٍ تمامًا من صحة هذا الزعم؛ فمِن بين فئةٍ ما من العقاقير ربما نجد عقَّارًا أفضل أو تكون آثاره الجانبية التحسسية أقل، وفي هذا الإطار، يمكن أن تكون هذه النسخ مفيدةً أحيانًا. ومن ناحيةٍ أخرى، ليست لدينا طريقة لنعرف ما كان يمكن ابتكاره من عقاقير جديدة مذهلة لو حفَّزنا شركات الأدوية بإصرارنا على أن تُنتج عقاقير أكثر فاعليةً من نظيراتها الموجودة في السوق. فهذه ليست أمورًا يسهل توقُّعها، كما أنني لم أشعر يومًا قط بالارتياح التام لما يعرضه علماء الاقتصاد من نماذجَ لتأثير هذا على الابتكار.
ربما يتضح الأمر بجلاءٍ أكبر إذا تتبَّعنا التاريخ الحديث لفئةٍ أخرى من العقاقير تُسمَّى «مثبطات المضخة البروتونية»، وهي تُستخدم لعلاج الارتجاع المعدي المريئي وحُرقة المعدة، وهما من المشكلات الطبية الشائعة؛ ومن ثَمَّ فإنه مجال مربح، وكان عقَّار الأوميبرازول من أكثر عقاقير تلك الفئة تحقيقًا للربح؛ فعلى مدى عَقدٍ سابق، كان هذا العقَّار يُحقِّق لشركة أسترازينيكا ٥ مليارات دولار كل عام، بما يساوي حوالي ثلث دخْلها الإجمالي من جميع العقاقير. ولكن كانت فترة براءة الاختراع الخاصة به على وشك الانتهاء، وبمجرد أن تتمكن الشركات الأخرى من صنع عقاقير بديلة له، فإن سعره سينهار ويختفي العائد المتحقق من بيعه؛ لذا استحدثت الشركة شيئًا يُسمَّى «العقَّار المكرر».
يعد هذا الفعل تحويرًا جديدًا للفكرة الأصلية؛ فالعقاقير الشبيهة تحتوي على جزيئاتٍ جديدة تمامًا، ولكنَّها تعمل بطريقةٍ مماثلة لتلك الخاصة بالعقاقير القديمة، أمَّا العقاقير المكررة، فإنها تحتوي على الجزيئات «نفسها» لكن تُدخل إلى سوق الدواء ذاتها لعلاج المرض نفسه، ولكن مع وجود فارقٍ واحد ذكي.
يمكن أن توجد الجزيئات المعقدة مثل جزيئات العقاقير في صورتين، إحداهما يمينية، والأخرى يسارية، يُطلَق على كلٍّ منهما «الإنانتيومر». لا تختلف الصيغة الكيميائية لكلٍّ منهما، وستجد الذرات نفسها بالترتيب نفسه وقد ارتبطت بالأجزاء نفسها من الحلقات الجزيئية نفسها، والفارق الوحيد هو أن السلسلة الجزيئية تتجه في اتجاهٍ معين في أحدهما، وتتخذ الاتجاه الآخر في الثاني، تمامًا كما تكون الفردتان اليمنى واليسرى من قفازك متطابقتين كصورة المرآة، وهما مصنوعتان من المادة نفسها وبالوزن نفسه … إلخ. إلا أن النسختين اليمينية واليسارية من العقاقير يمكن أن تكون لهما خصائص مختلفة بدرجةٍ طفيفة؛ فربما كان الجزيء يتلاءم بدقةٍ فقط مع المستقبِل الكيميائي الذي يؤثر فيه إذا كان هو النسخة اليمينية، وربما يتلاءم أكثر مع الإنزيم الذي سيجعله يتفكك ويتحلل إذا كان هو النسخة اليسارية. وهذا سيؤثر على ما يفعله في جسمك. ومؤخَّرًا وبمعدلٍ متزايد، بدأت شركات الأدوية إنتاج «مستحضرات أحادية الإنانتيومر»، حيث تحصل فقط على النسخة اليمينية، مثلًا، من العلاج الموجود في دوائك. وتزعم تلك الشركات أن هذا عقَّار جديد؛ ومن ثَمَّ تحصل على فترة براءة اختراع جديدة كاملة لتزيد أرباحها.
وهذا يُمكن أن يكون رهانًا ماليًّا جيدًا؛ فمن السهل عادةً أن تحصل على تصديقٍ بالتسويق لأن عقَّارك الذي يمزج بين الإنانتيومرَين قد صُدِّق عليه بالفعل، ولأن لديك الكثير من التجارِب التي تُظهر أن تلك الصُّورة من العقَّار أفضل من لا شيء. أما مهمة إقناع الناس بأن الاعتماد على أحد الإنانتيومرَين أفضل من المزج بينهما، فترجع إلى قسم التسويق الذي يخصك، وقد لا تكون عرضة على الإطلاق للكثير من التدقيق الرسمي التفصيلي من قِبل مراقب الأدوية.
إذن، إذا كان من الممكن أن تكون لصورتَي جزيء العقَّار هاتين خصائص مختلفة حقًّا في الجسم، فلماذا يشعر الناس عادةً بالريبة ويشعرون بأنه نوع من التحايل عندما تنتج إحدى شركات الأدوية نسخةً من عقَّار موجود بالفعل، في صورة أحادية الإنانتيومر فقط؟ أولًا، هذه الخصائص المختلفة غالبًا ما تكون طفيفة؛ ومن ثَمَّ يكون كل ما يتعلق بالعقاقير المتشابهة قابلًا أيضًا للتطبيق على العقاقير المكررة. ثم هناك أيضًا مسألة التوقيت؛ فمما يصدم المرء أن الشركات غالبًا ما تنتج العقَّار المكرر قُبيل انتهاء فترة براءة الاختراع الخاصة بالعقَّار الأصلي. ومما هو جدير أيضًا بأن نضعه في اعتبارنا أن العلاجات التي لها تأثيرات مُفيدة قد تكون لها أيضًا آثار جانبية؛ فعلى سبيل المثال، كانت النسخة اليمينية من عقَّار الفلوكسيتين (بروزاك) تبدو فكرةً رائعة؛ إذ تتميز بعمر نصفي أطول من المزيج الأصلي، وهذا أثار إمكانية إنتاج عقَّار مضاد للاكتئاب يمكن تناوله مرة واحدة أسبوعيًّا بدلًا من مرة يوميًّا، ولكن تبيَّن أيضًا أن ذلك العقَّار يُسبِّب ما يُسمَّى «إطالة فترة كيو تي»، وهي تَغيُّر في الأنماط الكهربية للقلب يرتبط بزيادة احتمال التعرُّض للوفاة المفاجئة. وفي النهاية، إن أشد ما يصدم المرء علاوةً على تلك المخاطر المحتملة، أن الدواء الجديد «الأحادي الإنانتيومر» في الغالب لا يبدو أكثر فاعليةً من الصورة المختلطة منه، وإن كان أغلى سعرًا بكثير.
والآن لِنعُدْ إلى عقَّار الأوميبرازول المعالج لحُرقة المعدة؛ فعندما حل عام ٢٠٠٢، كانت شركة أسترازينيكا تعرف أنها على وشك أن تخسر ٥ مليارات من الدولارات سنويًّا بما يوازي ثلث دخْلها؛ مما قد يُشكل كارثة لأرباحها ولسعر أسهُمها في البورصة. ولكنها في عام ٢٠٠١ كانت قد أطلقت عقَّار الإيسوميبرازول الذي حقَّق نجاحًا كبيرًا؛ في واقع الأمر، هي لا تزال تجني اليوم ٥ مليارات دولار من هذا العقَّار سنويًّا. وفي الولايات المتحدة يُعَد العقَّار على قمة أشهَر وأكثر ثلاثة عقاقير جنيًا للأرباح. وأمَّا في المملكة المتحدة فيحقق العقَّار ٤٤ مليون جنيه إسترليني سنويًّا، إلا أن كمية العقَّار التي تُباع للحصول على هذه الأرباح الضخمة متدنية لأن هذا العقَّار بعلامته التجارية الجديدة يتكلف عشرة أضعاف ما يتكلفه العقَّار القديم الأوميبرازول.
(٩) أبحاث مقارنة الفاعلية
لا يمكن أن تجعل القصص السابقة أيَّ أحدٍ يشعر بالارتياح. ولكن توجد مشكلة أكثر أهميةً تتجاوز مخاوفنا الأخلاقية حيال ما تفعله الشركات في مواقف مثل هذه، وهي أننا سمحنا لأنفسنا بأن نُترك — كأطباء، أو كمرضى، أو كأناسٍ يدفعون أموالًا مقابل الرعاية الصحية — بدون أدلة واضحة تقارن العلاجات المختلفة كلًّا منها بالآخر؛ فنحن ليست لدينا أيُّ فكرةٍ عما هو أفضل من العلاجات، بل أيضًا عمَّا هو ضار لنا. ولو مات المرء مِنَّا بسبب تَلقِّيه لثالث أفضل العلاجات المتاحة لحالةٍ معينة مثلًا، فإنه يكون قد مات بلا داعٍ، ولسبب كان من الممكن تجنُّبه، وله كل الحق في أن يشعر بغضبٍ شديد وهو راقد في قبره.
قد يبدو ما نحتاج إليه في هذا الصدد أمرًا بسيطًا؛ حيث نحتاج لأنْ يُجرى المزيد من التجارِب بعد وصول العقاقير إلى سوق الدواء، للمُقارنة بينها في اختبارات مباشرة. لكن الرعاية الصحية تشكل عِبئًا ماليًّا هائلًا على عاتق جميع المجتمعات في أنحاء العالم، وفي أغلب الدول فيما عدا الولايات المتحدة تتحمل الحكومة هذا العبء. فإذا كُنَّا ضِعافًا لدرجة أننا لا نستطيع إجبار شركات الأدوية، من خلال مراقبي الأدوية لدينا، على إجراء تجارب جيدة، أفلا يكون من المنطقي إذنْ أن تتولى الحكومات أمر تمويلها؟ وهذا يبدو منطقيًّا بصفةٍ خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أن تكلفة الوصف اللاعقلاني للأدوية تكون في أغلب الأحوال أكبر بكثيرٍ من تكلفة الأبحاث التي تُجرى لمنعه.
وهناك مثال واضح ومبكر لهذا نجده في تجرِبة «المعالجة بأدوية ضغط الدم والأدوية الخافضة للدهون للوقاية من النوبات القلبية» التي بدأت في عام ١٩٩٤، وتكلفت ١٢٥ مليون دولار. وكان هذا المشروع يبحث مشكلة ضغط الدم المرتفع، وهي حالة تُصيب حوالي ربع السكان البالغين، مع تَلقِّي نصف هذا العدد للأدوية المعالجة له. وقارنت هذه التجرِبة بين الكلورثاليدون، وهو دواء قديم ورخيص الثمن جدًّا لعلاج ضغط الدم، وبين الأملوديبين، وهو دواء جديد وغالي الثمن جدًّا، يُوصف على نطاقٍ واسع للمرضى. وكُنَّا قد عرفنا من قبلُ من تجارب أُجريت للمقارنة بين العقَّارين أن كليهما بالفاعلية نفسها في التحكم في ضغط الدم، ولكن الأرقام الناتجة عن هذه التجارِب ليست ما يهمُّ المرضى، الذين احتاجوا إلى تجرِبةٍ تُعطي بعض المرضى العقَّار القديم والبعض الآخر العقَّار الجديد، ثم تقيس عدد الأشخاص الذين أُصيبوا بنوباتٍ قلبية وماتوا. وحينما أجرت التجرِبةُ المشارُ إليها أخيرًا هذه المقارنةَ التي قاست نتائج إكلينيكية رئيسية تهمُّ المرضى، وجدتْ نتيجةً مذهلة، وهي أن العقَّار القديم أفضل كثيرًا من الجديد. واتضح أن ما يوفره هذا المشروع فقط من أموالٍ يزيد كثيرًا على تكلفة التجرِبة نفسها، رغم أنه كان مشروعًا ضخمًا؛ فقد بدأت تلك الدراسة في عام ١٩٩٤ حينما كنت لا أزال طالبًا بكلية الطب، وانتهت في عام ٢٠٠٢ حينما كنت قد أنهيت فترة تدريبي (إنني أذكر لكم هذا لأننا سنرى لاحقًا كم هو مهم وصعب للأطباء أن يواكبوا التطورات التي تحدث في هذا المجال).
وهكذا، تُعَد مثل هذه الأبحاث التي يُطلق عليها «أبحاث مقارنة الفاعلية» بالغة الأهمية، ولكنْ لم يبدأ إجراؤها إلا مؤخَّرًا. ولكي أُعطيَك فكرةً عن مدى بطء ومشقة هذه الرحلة الطويلة، دعني أعرض لك القصة التالية: في عام ٢٠٠٨، بعد فترةٍ قصيرة من انتخاب باراك أوباما رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، أثبت للكثيرين من الأكاديميين والأطباء أن لديه تفهُّمًا واضحًا للمشكلات العميقة الكامنة في الرعاية الصحية، وذلك بالتزامه بإنفاق مليار دولار على التجارِب التي تقارن بين العلاجات شائعة الاستخدام بغية التوصُّل إلى أيها أفضل. وفي مُقابل هذا تعرَّض للهجوم من قِبل بعض المنتقدين اليمينيين، واصفين إياه أنه «ضد شركات الأدوية.»
أقول فيما يتعلق بهذه القضية: حيث إن الأشخاص من ذوي النفوذ والمصالح غالبًا ما يدافعون عن شركات الأدوية مما تتعرَّض له من انتقاداتٍ تستحقها، فثَمَّةَ أمر يستحق أن نتذكره، وهو أن الرعاية الصحية تُعَد حقًّا من المجالات التي نكون فيها جميعًا — بكل ما تحمله هذه العبارة من معنًى — في خندقٍ واحد. فإذا كنت شديد الثراء، أي ضمن الفئة الواسعة الثراء التي تبلغ ٠٫٢ بالمائة من السكان، يمكنك أن تشتريَ أي شيءٍ تريده، ولكنك مهما كنت ثريًّا، إذا أُصبت بمرضٍ ما، فلن يمكنك أن تبتكر أدوية جديدة بين عشيةٍ وضحاها؛ لأن هذا الأمر يستغرق وقتًا طويلًا، كما يحتاج لمالٍ كثير قد يزيد عما لديك. ولا يمكنك أن تعرف الآثار الحقيقية للأدوية التي لدينا اليوم — لأنه لا أحد يعرفها — إذا لم تكن قد اختُبرت بطريقةٍ سليمة، وإذا أُخفيت بعض النتائج. بل إن أعلى الأطباء أجرًا في العالم لا يعرفون أكثر من أي شخصٍ آخر؛ حيث إن أي شخصٍ مؤهل علميًّا يمكنه أن يطَّلع على نحوٍ نقدي على أفضل المراجعات المنهجية الخاصة بعقَّارٍ معين، وتأثيره على متوسط العمر المتوقَّع بالنسبة إليك، ولا توجد محاولات أو حلول لإصلاح تلك المنظومة البالية؛ فحتى لو كنت شديد الغنى، وحتى لو كان دخلك ١٠ ملايين دولار سنويًّا، فأنت قابع هنا في الخندق نفسه معنا.
(١٠) ملاحظة الآثار الجانبية
إن فاعلية العقاقير هي مجرد جزءٍ من القصة؛ فإلى جانب المسائل المتعلقة بتحديد أكثر العقاقير فاعلية، هناك أيضًا مشكلة أمان الاستخدام؛ فأنا مثل الكثير غيري من الأطباء، طالما تعجبت من الحماس الذي ينتاب الأطباء ويجعلهم يُصرُّون على وصف العقاقير الجديدة؛ فحينما يصل دواء جديد إلى السوق دون أن يَثبُت أن له فوائدَ تفوق تلك الخاصة بعقَّارٍ حاليٍّ، يكون أمام الأطباء والمرضى خيار بسيط: هل تريد استخدام عقَّار قديم ومعروف ولدينا خبرة كبيرة فيما يتعلق بآثاره الجانبية؟ أم تريد تعاطيَ عقَّارٍ جديد تمامًا، ليست له مزايا واضحة، وقد تكون له، دون أن ندري، بعض الآثار الجانبية التحسسية الرهيبة التي تتحيَّن الفرصة للظهور؟
لقد تعلمت في كلية الطب أنه في هذا الموقف يجب أن يترك الطبيب الأطباء الآخرين يقومون بتجرِبة العقَّار الجديد والقيام بهذه المخاطرة بالنيابة عنه، وينتظر ويشاهد ويتعلم، ولا يصف العقَّار الجديد إلا حينما يتأكد من أمانه. ويمكن القول بأن هذه من بعض النواحي تُعَد نصيحة مُفيدة يصلح تطبيقها في الحياة بصفة عامة. ولكن كيف تتم ملاحظة الآثار الجانبية؟
بمجرد أن يُصدَّق على عقَّارٍ ما، يلزم إجراء تقييم لدرجة أمانه. وهذه عملية معقَّدة بها، للأمانة، تحديات حقيقية في طرقها المنهجية، وثغرات واضحة غير مُبرَّرة. وهذه الثغرات تُعزى إلى عوامل، هي السِّرية غير المبررة وضعف التواصل وعدم رغبة الهيئات الرقابية في سحب عقاقير من سوق الأدوية. ولكي نفهم هذه الأمور يلزمنا أن نفهم أساسيات الحقل الذي يُسمَّى «أمان الدواء».
فإذا وضعنا هذا في سياقنا هنا، نقول إن عقَّارك قد يجعل واحدًا من كل خمسة آلاف شخص «ينفجر» بمعنى الكلمة — بمعنى أن ينفجر رأسه وتتطاير أمعاؤه — وذلك عبر آليةٍ خاصة ما لا يستطيع أي أحد التنبُّؤ بها قبلًا. ولكن في المرحلة التي يُصدَّق فيها على العقَّار، بعد أن يكون قد تناوله ألف شخصٍ فقط عند تجربته عليهم، فمن المحتمل جدًّا أنك لم ترَ قط أيًّا من تلك الوفيات المشئومة والمثيرة للدهشة. ولكن بعد أن يتناوله خمسون ألف شخصٍ حال طرحه في السوق، فقد تتوقع أن ترى حوالي عشر حالات انفجار مثل هذه بصفةٍ إجمالية (إذ إنه في المتوسط يتسبَّب في انفجار واحدٍ من كل ٥٠٠٠ شخص).
والآن إذا كان عقَّارك يسبب أثرًا سلبيًّا شديد الندرة، مثل الانفجارِ السابقةِ الإشارةُ إليه، فإنك تكون محظوظًا حقًّا لأن الآثار السلبية «الغريبة» تكون بارزة؛ إذ ما من شيءٍ مثلها يحدث في واقع الأمر. وسيتحدَّث الناس حينها عن المرضى الذين ينفجرون، كما يكتبون عنهم في تقارير قصيرة في دوريات أكاديمية، وربما يبلغون السُّلطات المختلفة، وقد يُعيَّن محققون للتحقيق في أسباب الوفيات، وعمومًا سوف تدقُّ أجراس التحذير، وسينظر الناس حولهم باحثين عما يجعل المرضى ينفجرون على نحوٍ مفاجئ في وقتٍ مبكر جدًّا، ربما بمجرد أن ينفجر أولهم.
إلا أن كثيرًا من الآثار السلبية التي تنتج عن العقاقير أمور كثيرة الحدوث على أي حال؛ فإذا كان عقَّارك يزيد احتمال الإصابة بالفشل القلبي، حسنًا، هناك الكثير من الناس حولنا مُصابون بالفعل بالفشل القلبي؛ ومن ثَمَّ إذا وجد الأطباء حالةً أخرى إضافية من الفشل القلبي في عياداتهم، فمن المحتمل ألا يلاحظوا السبب، ولا سيَّما إذا كان هذا العقَّار يُعطى لكبار السن، الذين تكثر بينهم بالفعل الإصابة بالفشل القلبي على أي حال. وحتى اكتشاف أي مؤشرٍ على زيادة الإصابة بالفشل القلبي في مجموعةٍ كبيرة من المرضى قد يكون أمرًا خادعًا ومحيِّرًا.
- (١)
الإخطارات التلقائية عن الآثار الجانبية التي يُقدِّمها المرضى والأطباء إلى مراقب الأدوية.
- (٢)
الدراسات «الوبائية» التي تبحث في السِّجلات الصحية التي تخص مجموعاتٍ كبيرةً من المرضى.
- (٣)
تقارير البيانات التي تُقدِّمها شركات الأدوية.
هذه الإخطارات التلقائية يُجرى بعد ذلك تصنيفها يدويًّا وتجميعها في جدول إلكتروني كبير، مع تخصيص صفٍّ لكل عقَّار من العقاقير الموجودة في السوق، وعمود لكل ما يمكن تخيُّله من أنواع الآثار الجانبية. ثم يُفحص عدد ما يتم تبليغه من كل نوعٍ من أنواع الآثار الجانبية فيما يتعلق بكل عقَّار، ويُقرر ما إذا كان العدد أكبر مما كان متوقَّعًا أن يحدث بمحض الصدفة. (إذا كنت مهتمًّا بالإحصاء، فإن أسماء الأدوات المستخدَمة، مثل «معدلات الإخطار التناسبية» و«شبكات الانتشار العصبية للثقة البايزية» ستعطيك لمحةً عن كيف تُجرى هذه العملية، أما إذا لم تكن مهتمًّا به، فلن يفوتك الكثير مما تحتاج لمعرفته.)
ولسوء الحظ أن آثارًا جانبية مختلفة لعقاقير مختلفة يُبلغ بها بمعدلاتٍ مختلفة جدًّا؛ فقد يزيد احتمال أن يَشتبه أحد الأطباء في أن يكون أحدُ الأعراض لدى مريضٍ ما أثرًا جانبيًّا إذا كان المريض يتعاطى عقَّارًا جديدًا في السوق، على سبيل المثال؛ ومن ثَمَّ فإن تلك الحالات قد يُبلغ عنها أكثر من الآثار الجانبية للعقاقير الأقدم. وبالمثل، لو أصيب مريضٌ ما بأثرٍ جانبي يكون معروفًا بالفعل بأنه يُصاحب عقَّارًا معيَّنًا، فسيقلُّ كثيرًا احتمال أن يكترث الطبيب بالإبلاغ عنه؛ إذ لا يعتبره إشارةً جديدة مُثيرة للاهتمام متعلقة بأمان العقَّار، ولكن مجرد تكرار مُمِل لظاهرةٍ معروفة. ولو كانت هناك إشاعات أو قصص إخبارية عن مشكلاتٍ تخص عقَّارًا ما، فقد يكون الأطباء أكثر ميلًا للإبلاغ التلقائي عن الآثار السلبية، ليس بغرض الأذى، ولكن لأنهم أكثر احتمالًا لأن يتذكروا وصف العقَّار المثير للجدل حينما يعود إليهم مرضاهم بمشكلةٍ طبية غير مُعتادة.
كذلك، فإن شكوك الأطباء في كون شيءٍ ما أثرًا جانبيًّا بأي نحوٍ تكون أقلَّ كثيرًا لو كان الأمر يتعلق بمشكلةٍ طبية تحدث كثيرًا على أي حال، وذلك كما رأينا سابقًا؛ فالناس كثيرًا ما يُصابون بالصُّداع، على سبيل المثال، أو آلام المفاصل أو السرطان، في كل يومٍ من الحياة؛ لذا قد لا يخطر حتى على بال الطبيب أن تكون لهذه المشكلات أي علاقةٍ بالعلاج الذي يصفه لمرضاه. وعلى أي حال، فإن تلك الآثار السلبية تَصعب ملاحظتها في مقابل تلك الخلفية من المعدلات العالية للأشخاص الذين يعانونها، وهذا يكون صحيحًا بصفةٍ خاصة لو كانت تحدث بعد بدء المريض في تعاطي عقَّارٍ جديد بفترةٍ طويلة.
ويمكن الحصول على بياناتٍ أفضل بالاطِّلاع على السِّجلات الطبية لأعدادٍ كبيرة جدًّا من الناس، فيما يُعرف بالدراسات «الوبائية». وفي الولايات المتحدة يكون هذا الأمر عسيرًا، وأكثر ما يمكنك الوصول إليه هو قواعد البيانات الإدارية المستخدمة في معالجة المدفوعات المتعلقة بالخدمات الطبية، والتي ينقصها أغلب التفاصيل. ولكن في المملكة المتحدة نُعتبر حاليًّا في وضع محظوظ وغير عادي؛ إذ إن الرعاية الصحية عندنا تُقدِّمها الدولة، وهي ليست مجانيةً فحسب، ولكنها تتم أيضًا من خلال جهةٍ إدارية واحدة، هي هيئة الخدمات الصحية الوطنية. ونتيجةً لتلك المصادفة السعيدة، صارت لدينا أعداد كبيرة من السِّجلات الصحية التي يمكن استخدامها في ملاحظة فوائد العلاجات ومخاطرها. ورغم أننا أخفقنا جميعًا في إدراك هذه الإمكانية، فإن هناك شيئًا يُسمَّى «قاعدة البيانات البحثية للأطباء الممارسين»؛ حيث تُتاح سِجلات الأطباء الممارسين التي تخص ملايين عديدة من الناس. وهذه السِّجلات تكون محميةً بعنايةٍ لضمان عدم إفشاء أسماء الناس، ولكن كان باستطاعة الباحثين في شركات الأدوية ومراقبي الأدوية، والجامعات، أن يُقدِّموا طلباتٍ للاطِّلاع على أجزاءٍ معينة من سجلاتٍ خالية من الأسماء، وذلك على مدى سنين عديدة، لمعرفة ما إذا كانت أدويةٌ معينةٌ مرتبطةً بأضرار غير متوقعة. (هنا أود أن أشير إلى أنني مثل الكثيرين غيري من الأكاديميين، أعمل على تنفيذ مهمةٍ ما تتعلق بتحليل هذه البيانات، وإن كانت لا تتعلق بالآثار الجانبية للعقاقير.)
إن دراسة أمان العقاقير من خلال السِّجلات الطبية الكاملة التي تخص المرضى الذين يتلقَّوْن وصفاتٍ طبيةً في الممارسة الإكلينيكية العادية لها ميزات هائلة تفوق بيانات الإخطارات التلقائية، وذلك لعدد من الأسباب؛ فسيكون لديك جميع الملاحظات الطبية الخاصة بالمرضى، في صورةٍ رموز، كما تظهر على شاشة كمبيوتر المركز الطبي، ودون أن يُضطَر أي طبيب لأنْ يتخذ قرارًا عما إذا كان عليه أن يكترث بالإبلاغ عن أثر طبيٍّ معين أم لا.
كما أن لديك عندئذٍ ميزةً تفوق التجارِب الصغيرة الخاصة بالتصديق؛ لأن لديك «الكثير» من البيانات التي تتيح لك أن تطَّلع على النتائج النادرة. وعلاوةً على هذا فإن المرضى عندئذٍ يكونون مرضى حقيقيين؛ فالأشخاص الذين يُشاركون في التجارِب يكونون بصفةٍ عامة «مرضى مثاليين» غير عاديين؛ حيث إنهم أصحُّ من المرضى الحقيقيين، ومشكلاتهم الطبية الأخرى أقل، والأدوية الأخرى التي يتناولونها أقل، ويقل احتمال أن يكونوا من كبار السن، وليس من المحتمل للنساء منهم أن يكنَّ حُبليات، وهلمَّ جرًّا. وتُفضِّل شركات الأدوية أن تجرب عقاقيرها على أولئك المرضى المثاليين؛ إذ إن المرضى الأكثر صحةً يكونون أكثر قابليةً لأن يتحسَّنوا وأن يجعلوا العقَّار يبدو جيدًا، كما أنهم أكثر قابليةً لأنْ يعطوا تلك النتيجة الإيجابية المطلوبة في تجرِبةٍ أقصر وقتًا وأقل تكلفة. وفي الواقع إن هذا أمر آخر يمكن أن يكون لدراسات قاعدة البيانات ميزة فيه؛ فتجارب التصديق تكون بصفةٍ عامة قصيرة الأمد؛ ومن ثَمَّ يتعرض المرضى خلالها للعقاقير لفترةٍ من الزمن تقل عن الفترة العادية التي يتناول فيها المريض العقَّار. ولكن دراسات قاعدة البيانات تعطينا معلوماتٍ عن أثر العقاقير على المرضى الحقيقيين، وفي ظل الظروف الواقعية (وكما سنرى لاحقًا، فإن هذا لا يقتصر فقط على مسألة الآثار الجانبية).
ومن خلال هذه البيانات يُمكنك، على سبيل المثال، البحث عن مدى وجود صلةٍ بين عقَّار مُعيَّن وزيادة قابلية حدوث حالة معينة شائعة بالفعل، مثل النوبات القلبية؛ ومن ثَمَّ يمكنك مقارنة قابلية حدوث النوبات القلبية فيما بين المرضى الذين تناولوا ثلاثة أنواعٍ مختلفة من أدوية علاج فطريات القدم، على سبيل المثال، إذا كان ثَمَّةَ اشتباه في أن يتسبَّب أحدها في تلف القلب. وهي ليست عملية بسيطة تمامًا، بالطبع؛ وهذا يرجع جزئيًّا إلى أنه يتعيَّن عليك أن تتخذ قراراتٍ مهمةً في كل ما يخص عملية المقارنة؛ حيث إن هذا قد يؤثر على النتائج التي ستتوصَّل إليها. فعلى سبيل المثال، هل يجب أن تقارن الأشخاص الذين يتناولون العقَّار الذي يقلقك أمره بأشخاص آخرين يتناولون عقَّارًا مماثِلًا، أم بأشخاص في نفس أعمارهم، ولكنهم لا يتناولون أي عقَّار؟ فإذا فعلت الأمر الأخير، هل المرضى المصابون بفطرياتٍ في القدم قابلون بالفعل لمقارنتهم بأشخاصٍ أصحَّاء في نفس الأعمار في قاعدة بياناتك؟ أو هل المرضى المصابون بفطرياتٍ في القدم ربما من المحتمل أكثر أن يكونوا مُصابين بمرض السُّكَّر؟
ويمكن أيضًا خلال ذلك أن تصادفك اتهامات بالقيام بعمليةٍ تُسمَّى «التوجيه»؛ وتحدث عند إعطاء المرضى الذين أعربوا عن معاناتهم من مشكلاتٍ عند تعاطيهم عقاقير سابقة عقَّارًا آخر بنحوٍ تفضيلي له سُمعة راسخة بأنه مأمون الاستخدام. ونتيجةً لهذا يصير المرضى الذين يتناولون العقَّار المأمون مُتضمنين لكثيرٍ من المرضى الذين هم أكثر مرضًا من البداية؛ ومن ثَمَّ يكونون أكثر قابليةً لأن يُعربوا عن معاناتهم من آثارٍ سلبية، لأسبابٍ لا علاقة لها بالعقَّار الذي يتناولونه. وهذا يُمكن أن يتسبَّب في جعْل العقَّار المأمون يبدو أسوأ مما هو عليه في الحقيقة، أو جعْل عقَّارًا أكثر خطورةً يبدو أفضل عند المقارنة.
ولكن على أي حال، وفيما عدا إجراء تجارب دوائية هائلة في الرعاية الروتينية — والتي ليست فكرة جنونية كما سنرى فيما بعد — فإن هذه الأنواع من الدراسات هي أفضل ما يمكن أن نستخدمه للتأكد من أن العقاقير ليست مصحوبةً بأضرارٍ بالغة؛ ومن ثَمَّ يجريها مراقبو الأدوية والأكاديميون، وكثيرًا ما يجريها صُناع الأدوية بطلبٍ من مراقبي الأدوية.
وفي محاولةٍ للتعامل مع هذه المشكلات، على مدى السنوات القليلة الماضية، أوجبت الوكالة الأوروبية للأدوية على شركات الأدوية أن تنشئ ما يُسمَّى «خطة إدارة المخاطر» فيما يتعلق بعقاقيرها، ومن هنا تبدأ مشكلاتنا مجددًا؛ فهذا المستند تكتبه الشركة وتشرح فيه دراسات الأمان التي اتفقت على إجرائها مع مراقب الأدوية، ولكن — دون أي سببٍ معقول على الإطلاق يمكنني تخيُّله — تبقى محتوياته طيَّ الكتمان؛ فلا يعرف أي شخصٍ على وجه التحديد أي الدراسات قد اتفقت الشركة مع المراقب على أن تُجريَها، أو أي قضايا الأمان قد أعطتها الأولوية أو كيف ستتولاها بالبحث.
وحينما يتعلق الأمر بمُراقبي الأدوية والحفاظ على سِرية البيانات، فمن الواضح أن هناك قضيةً ثقافية مهمَّة تحتاج إلى حل. ولقد قضيت بعض الوقت أحاول أن أفهم وجهة نظر المسئولين العموميين الذين من الواضح أنهم أناسٌ أخيار، ولكنهم على ما يبدو يعتقدون أن إخفاء المستندات عن الناس أمرٌ مُستحب. وأفضل ما أستطيع أن أُفسِّر به هذا هو أن المراقبين يعتقدون أن القرارات المتعلقة بالعقاقير من الأفضل أن يتخذوها وراء الأبواب المغلقة، وأنهم ما داموا يتخذون قراراتٍ صائبة، فلا بأس من أن يكون الإعلان عن تفاصيلها للناس مُختصرًا.
وفي اعتقادي أن وجهة النظر هذه منتشرة، ولكنها أيضًا خاطئة، لسببين؛ فلقد رأينا سالفًا كثيرًا من الأمثلة التي توضِّح كيف يمكن أن يكون إخفاء البيانات وسيلةً للفساد، وكيف أنه من المهم غالبًا أن تكون هناك أعيُن كثيرة لرصد المشكلات. ولكنَّ اعتقاد مراقبي الأدوية الواضح بأننا يجب أن نتحلى بالثقة العمياء في أحكامهم يغيب عنه أيضًا نقطة مهمة جدًّا.
يحاول مراقب الأدوية والطبيب اتخاذ قرارَين مختلفين تمامًا فيما يتعلق بعقَّارٍ ما، حتى وإن كانا يستخدمان (أو في حالة الأطباء أقول فحسب إنهم «يودُّون» استخدام) المعلومات نفسها؛ فمراقب الأدوية يُقرر ما إذا كان في صالح المجتمع ككلٍّ أن يكون عقَّار معين مُتاحًا للاستخدام في بلده، حتى لو كان هذا يتم في ظروفٍ مبهمة للغاية، مثلما يحدث حينما تخفق جميع العقاقير الأخرى. وفي الوقت نفسه يتخذ الأطباء قرارًا عمَّا إذا كان عليهم وصف هذا العقَّار للمريض الذي أمامهم. يستخدم كلاهما بيانات الأمان والفاعلية نفسها التي يُمكنهما الوصول إليها، ولكنْ كلاهما يحتاج للاطِّلاع عليها بالكامل لكي يتخذا قراراتهما المختلفة للغاية.
وليس هذا الكلام حذلقةً تافهة من جانبي؛ ففي عام ٢٠٠٤، قال الاختصاصي الوبائي لدى مكتب أمان الدواء الأمريكي، الذي قاد المراجعة التي أُجريت على عقَّار الفيوكس أمام لجنة مجلس الشيوخ للشئون المالية: «إن تجربتي مع عقَّار الفيوكس نموذج لاستجابة مركز تقييم وأبحاث الدواء [التابع لهيئة الغذاء والدواء] للقضايا الخطيرة المتعلقة بأمان العقاقير بصفةٍ عامة … فقد تبيَّن لي أن الإدارة المختصة بمراجعة العقاقير الجديدة التي صدَّقت على العقَّار في المقام الأول، واعتبرته أحد أبنائها، أكبر عقبةٍ كئود تَحُول دون التعامل الفعَّال مع القضايا الخطيرة المتعلقة بأمان العقاقير.» ومما أفزعني أنه في عام ١٩٦٣، أي منذ نصف قرن، قال مسئول طبي تابع للهيئة نفسها يُدعى جون نستور أمام الكونجرس الشيء نفسه تقريبًا؛ إذ أكد أن قرارات التصديق السابقة تُعَد أشبه بالأمور المقدَّسة التي لا يمكن المساس بها. وأضاف: «لا يُسمح لنا أن نُراجع القرارات التي اتُّخذت في الماضي.»
هذا هو السبب في انطلاق الكثير من المطالبات للاتحاد الأوروبي بتأسيس وكالةٍ جديدة لأمان العقاقير، وشعورنا بالقلق الشديد من تجاهُل هذه المطالبات. في واقع الأمر، ما يحدث هو أن الأطر القديمة نفسها يُعاد تطبيقها، ولكن بأسماءٍ مختلفة؛ فلجنة تقييم المخاطر الخاصة بأمان الدواء التابعة للوكالة الأوروبية للأدوية، التي تُقرِّر ما إذا كان يجب سحب عقَّار ما مُصدَّق عليه من السوق، لا تزال تابعة للجنة المنتجات الطبية للاستخدام البشري، المنوط بها التصديق على العقاقير في المقام الأول. وهذا يعمل على استمرار جميع المشكلات القديمة المتمثلة في صعوبة سحب العقاقير من السوق، وكون معدل هذا السحب أقلَّ من التصديق على العقاقير، والإحراج الذي يشعر به المُصدِّقون على العقاقير عند الرغبة في القيام بعملية السحب.
والآن، ما الخطوات التي يمكن أن يتخذها مراقب الأدوية إذا تبيَّن أن هناك مشكلةً ما في عقَّارٍ ما؟ في الحالات الشديدة جدًّا، يمكنه أن يسحب العقَّار من السوق (وإن كان في الولايات المتحدة الأمريكية عادةً ما يبقى العقَّار في السوق، مع إصدار هيئة الغذاء والدواء الأمريكية توصيةً بعدم استعماله). والأكثر شيوعًا أن يُرسِل تحذيرًا إلى الأطباء من خلال إحدى وسائله للإخطار بالمستجدات المتعلقة بأمان العقاقير، والمتمثلة في الخطاب التحذيري، أو بتغيير «النشرة الدوائية» التي تأتي مع العقَّار. وتُرسل تلك الإخطارات إلى أغلب الأطباء، وإن لم يكن من الواضح تمامًا ما إذا كانوا يقرءونها على نطاقٍ واسع أم لا. ولكن ما يثير الدهشة أن مراقب العقاقير حينما يُقرِّر أن يُبلغ الأطباء بأحد الآثار الجانبية، فإن شركة الأدوية تستطيع أن تطعن على هذا، وتؤخر إرسال هذا الإخطار لشهورٍ أو حتى لسنوات.
ففي فبراير عام ٢٠٠٨، على سبيل المثال، نشرت وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية مقالًا قصيرًا في نشرتها «دراج سيفتي أبديت» التي يقرؤها عدد قليل جدًّا من الأشخاص. ونَصَّ المقال على أن الوكالة تخطط لتغيير النشرة الدوائية لجميع عقاقير الاستاتين، وهي فئة من العقاقير تُعطى لخفض الكولسترول ومنْع النوبات القلبية، وهذا على إثر مراجعة بيانات التجارِب الإكلينيكية، والإخطارات التلقائية عن الاشتباه في وجود آثارٍ سلبية للعقاقير، وكذلك الأبحاث المنشورة. وأضاف المقال: «تُحدَّث حاليًّا معلومات المنتج المتعلقة بعقاقير الاستاتين حتى تعكس عددًا من الآثار الجانبية المختلفة لهذه الفئة من العقاقير.» واستطرد: «ويجب أن يَعِيَ المرضى أن العلاج بأيٍّ من عقاقير الاستاتين قد يؤدي في بعض الأحيان إلى الإصابة بالاكتئاب واضطرابات النوم وفقدان الذاكرة واختلال الأداء الجنسي.» كما خطَّطت الوكالة لإصدار تحذيرٍ جديد بأن العلاج بتلك العقاقير قد يؤدي، في حالاتٍ نادرة جدًّا، إلى الإصابة بأحد الأمراض الرئوية الخلالية، التي تُعَد حالاتٍ طبيةً خطيرة.
ولكن ما الفائدة التي كان يمكن أن تنجم عن تغيير النشرة الدوائية على أي حال؟
ذلك هو الجزء الأخير من قصتنا؛ فمن الصعب على الأطباء والمرضى أن يحصلوا على صورةٍ واضحة ومحدَّثة عن أخطار العقاقير وفوائدها من أي مصدر، ولكن نظرًا لأن مراقبي الأدوية لديهم وصول مميَّز إلى المعلومات، فإننا نتوقع منهم أن يتولَّوْا بصفةٍ واضحة مَهمةَ توصيل ما لديهم لمن يهمهم الأمر؛ إذ لا توجد بالتأكيد أي منافسةٍ هنا لتقديم المعلومات، ولا توجد فرصة للمفاضلة بين هذا وذاك؛ فالمراقبون هم الوحيدون الذين لهم حق الاطِّلاع على جميع البيانات.
يُثني مراقبو الأدوية على النشرات الدوائية لأنهم يعتبرونها مستودعًا رائعًا ووحيدًا للمعلومات، يمكن من خلاله توعية واصفي الأدوية والمرضى وتثقيفهم طبيًّا. ولكن تلك النشرات في الواقع تكون سيئة التنظيم ولا تُقدِّم معلوماتٍ كافية؛ فهي كثيرًا ما تناقش التجارِب، ولكنها لا تعطي المراجع اللازمة حتى تعرف المزيد، أو حتى لتعرف أي تجرِبةٍ تناقشها. وأحيانًا ما تكون العناصرُ الأساسية لتجرِبةٍ ما مختلفةً بنحوٍ غريب فيما بين مستند المراقب والبحث المنشور؛ مما يجعل من الصعب المقارنة بينهما، حتى لو حاولت ذلك وحتى لو كانت التجرِبة قد نُشرت بالفعل. بالإضافة إلى ذلك، فإن أغلب النشرات الدوائية تتضمَّن قوائم طويلةً من مئات الآثار الجانبية، مع القليل من المعلومات عن مدى شيوع تلك الآثار، حتى وإن كان أغلبها شديد النُّدرة، وحتى لو كان ارتباطها بالعقَّار غيرَ مؤكدٍ بأيِّ حال. واعلم أن تقديم كمٍّ كبير من المعلومات ولكن بنحوٍ فوضوي غيرُ مفيد تمامًا مثل الشُّحِّ الشديد في المعلومات.
يمكنك أن تلاحظ الفارق بنفسك إذا اطَّلعت على مربع الحقائق التالي الخاص بدواء منوم يُسمَّى اللونستا.
يُعَد هذا المربع أكثر اختصارًا من النشرة الدوائية الرسمية للعقَّار نفسه، والمبينة في الشكل التالي، وأعتقد أيضًا أنها أكثر توفيرًا للمعلومات. صحيح أنها لا تحل كلَّ المشكلات المتعلقة بالتكتُّم على بيانات العقاقير، أو حتى كل مشكلات ضعف التواصل، ولكنها تُظهر بوضوحٍ شديد أن مراقبي الأدوية لا يستحقون وضعهم المميز فيما يتعلق بتقييم مخاطر العقاقير وتعريف الناس بها، وكذلك لا يحترمونه.
(١١) الحلول
اتضح لنا مما سبق أن هناك بعض المشكلات الشديدة الخطورة التي تتعلق بكيفية التصديق على العقاقير، وأيضًا بكيفية مراقبة أمانها بعد أن تصير متاحةً في السوق؛ إذ يُصدَّق على العقَّار بِناءً على أدلةٍ واهية، لا تُظهِر أن له أي فائدة تفوق العلاجات الموجودة قبله، وأحيانًا تُظهِر أنه لا فائدة له مطلقًا. وهذا يجعل سوق الدواء مليئةً بعقاقير غير جيدة. ثم إننا نخفق في جمع أدلةٍ أفضل عن تلك العقاقير بعد أن تصير مُتاحة، حتى لو كانت لدينا السلطة القانونية لإجبار الشركات على إجراء تجارب أفضل، وحتى ولو كانت تلك الشركات قد وعدت بهذا. وأخيرًا، فإن بيانات الآثار الجانبية تُجمع بطريقةٍ مرتجلة بعض الشيء، خلف أبوابٍ مغلقة، مع إضفاء السِّرية على المستندات و«خطط إدارة المخاطر» التي تُخفى عن أنظار الأطباء والمرضى بغير مُبرِّر مقبول. وحتى نتائج مراقبة الأمان تلك يجري الإعلام بها بصورةٍ غير سليمة، من خلال آلياتٍ لا تُقدِّم معلوماتٍ كافية؛ ومن ثَمَّ لا تُستخدم كثيرًا، وهي، على أي حال، عرضة لتأخيراتٍ عجيبة تفرضها شركات الأدوية.
بإمكاننا أن نتحمَّل بعضًا من هذه المشكلات، ولكنَّ تحمُّلها جميعًا يخلق وضعًا خطيرًا يلحق فيه الضرر بالمرضى باستمرارٍ بسبب نقص المعلومات؛ فربما لا نهتمُّ كثيرًا، على سبيل المثال، لو كانت السوق ممتلئةً بعقاقير قليلة الفائدة، أو حتى أسوأ من العقاقير المنافسة لها، إذا كان الأطباء والمرضى على علمٍ بهذا الأمر، ويستطيعون بنحوٍ فوريٍّ وملائم تحديدَ الخيارات الأفضل، وتغيير تصرُّفهم على هذا الأساس. ولكن هذا لا يكون ممكنًا إذا كُنَّا محرومين من المعلومات الموجودة فعلًا عن مخاطر العقاقير وفوائدها بسبب فرض المراقبين السِّريةَ عليها، أو حتى إذا كانت بيانات التجارِب الجيدة لا تُجمع.
- (١)
يجب أن يُفرض على شركات الأدوية، قبل أن تطرح أي عقَّارٍ جديد في السوق، تقديم البيانات التي تقارن بينه وبين أفضل علاجٍ مُتاح حاليًّا. ولا بأس بأن يُصدَّق أحيانًا على عقاقير لا تُظهِر أي فائدةٍ تفوق العلاجات الحالية؛ ذلك لأنه إذا كان مريضٌ ما يعاني تفاعُلًا تحسسيًّا تجاه العلاج الحالي الشائع، فمن المفيد أن تكون لدينا خيارات أخرى في جَعْبتنا الطبية وإن كانت أقلَّ فاعلية. ولكن يلزمنا أن نعرف المخاطر والفوائد النسبية، إذا أردنا اتخاذ قراراتٍ مستنيرة.
- (٢) يجب على مراقبي الأدوية وموفري الرعاية الصحية أن يمارسوا سلطتهم في إجبار الشركات على إجراء تجارب تكون أكثر تقديمًا للمعلومات. وتُعَد الحكومة الألمانية رائدةً في هذا المجال؛ إذ أنشأت وكالةً في عام ٢٠١٠ تُسمَّى معهد جودة وفاعلية الرعاية الصحية، والتي تفحص الأدلة الخاصة بجميع العقاقير المُصدَّق عليها حديثًا لتقرير ما إذا كان يجب شراؤها من قِبل موفري الرعاية الصحية في ألمانيا. تحلت هذه الوكالة بالشجاعة الكافية لأن تُطالب بإجراء تجارب عالية الجودة، تقيس نتائج إكلينيكية رئيسية، ورفضت بالفعل الموافقة على شراء العقاقير الجديدة إذا كانت الأدلة على فاعليتها ضعيفة؛ ونتيجةً لهذا أخَّرت الشركات تسويق عقاقيرها الجديدة في ألمانيا، وحاولت أن تُقدِّم أدلةً أفضل على فاعلية هذه العقاقير؛54 وهكذا لا يتضرَّر المرضى بسبب عدم وجود أدلةٍ جيدة على أن هذه العقاقير الجديدة مفيدة. هذا، وتُعَد ألمانيا أكبر سوقٍ دوائية في أوروبا؛ فعدد سكانها ٨٠ مليون نسمة، وهي دولة غنية. ولو أن كل مشتري الأدوية حول العالم اتفقوا على رفض شراء العقاقير التي توجد أدلة ضعيفة على فاعليتها، فستُضطر الشركات لإجراء تجارب أفضل بسرعةٍ أكبر كثيرًا.
- (٣)
يجب أن يُكشف عن كل المعلومات الخاصة بأمان العقاقير وفاعليتها التي تُتداول بين مراقبي الأدوية والشركات، وكذلك جميع البيانات التي لدى الهيئات الوطنية والدولية المعنية عن الآثار السلبية الناجمة عن الأدوية، ما لم تكن ثَمَّةَ اعتبارات مقبولة متعلقة بالخصوصية بشأن سِجلات المرضى الفردية. ولهذا فوائد عديدة تتجاوز مسألة الشفافية المباشرة؛ فعندما تكون هناك إمكانية للاطِّلاع الحُر على المعلومات المتعلقة بالعلاجات، فإننا نفيد من وجود «أعيُن كثيرة» تفحص ما قد يُحيط بها من مشكلات، وتُحللها بدقةٍ أكبر، وكذلك من وجود وجهات نظرٍ أكثر تنظر إلى الأمر؛ فعلى سبيل المثال، سُحب عقَّار روزيجليتازون، المخصص لعلاج مرض السُّكَّر، من السوق بسبب مشكلاتٍ تتعلق بالفشل القلبي، ولكن تلك المشكلات لم يكتشفها مراقب الأدوية ولم يتخذ إجراءاته بِناءً على ذلك؛ فقد رصدها أحد الأكاديميين وهو يعمل على بياناتٍ جُعلت متاحةً بصفةٍ أكبر نتيجةً لحكمٍ قضائي. كما اكتشف المشكلاتِ التي يُسبِّبها عقَّار فيوكس المُسكِّن للألم أكاديميون مستقلُّون خارج نطاق مراقبي الأدوية، وهكذا الحال بالنسبة إلى المشكلات المتعلقة بعقَّار بنفلوركس المعالج لمرض السُّكَّر؛ لذا، يجب ألا يكون مراقبو الأدوية وحدهم من لهم حق الاطِّلاع على هذه البيانات.
- (٤)
يجب أن نهدف إلى خلق سوقٍ أفضل فيما يتعلق بالإعلام بمخاطر الأدوية ومنافعها؛ فالسبل التي يوفرها مراقبو الأدوية غير منظمة وتحوطها الأمور القانونية، وصعبة الفهم، وتعكس مصالح المراقبين وليس الأطباء ولا المرضى. وعندما تكون جميع المعلومات متاحةً بحرية، يمكن حينئذٍ إعادة توظيفها لما فيه المنفعة من قِبل الذين يطَّلعون عليها، وبلورتها في صورٍ أفضل، وهي التي يمكن تمويلها من جانب الحكومات ثم توفيرها للناس مجانًا، أو من القطاع الخاص ثم بيعها لهم، وذلك تبعًا لنماذج العمل المتبعة.
وهذا يمكن تحقيقه تمامًا، وفي نهاية الفصل التالي سوف أُقدِّم اقتراحاتٍ محددةً عن كيف يمكننا أن نُجريَ تجاربنا بتكاليف قليلة، وبصورةٍ فعالة، وفي جميع الأحوال تقريبًا، أينما وُجد شك حقيقي. ويمكن استخدام تلك الاقتراحات في مرحلة التصديق على أي عقَّارٍ جديد، بل وعلى مدى الفترة العلاجية المعتادة الخاصة به بالكامل.
ولكن، الآن يلزمنا أولًا أن ننظر كيف يمكن أن تُجرى بعض التجارِب الدوائية على نحوٍ سيئ ومَعيب جدًّا.