تجارب أكبر وأبسط
اتضح مما سبق أن هناك بعض المشكلات الخطيرة جدًّا التي تعاني منها صناعة الدواء؛ فلقد أسأنا تصميم التجارِب، حتى إنها تَشينها جميع أنواع العيوب القاتلة؛ ففي بعض الأحيان تُجرى على عينةٍ غير ممثلة من المرضى، أو تستمر لفترةٍ قصيرة للغاية، أو يمكن أن تقيس نتائج إكلينيكية خاطئة، أو يمكن أن تُخفى إذا ما كانت النتائج غير مُرضية، أو تُحلَّل على نحوٍ غبي أو غالبًا ما لا تُجرى من الأساس، لا لشيءٍ إلا لتكلفتها أو لقلة الحوافز. وهذه المشاكل شائعة بدرجةٍ مخيفة، سواء بالنسبة إلى التجارِب المستخدَمة لطرح عقَّار في السوق، أو التي تُجرى بعد ذلك، والتي كلها ترشد القرارات العلاجية للأطباء والمرضى. والأمر يبدو كما لو كان بعض الناس ربما يرَون البحث العلمي لعبةً تكمن فكرتها في الحصول على أكبر قدرٍ ممكن من المكاسب، وليس إجراء اختباراتٍ سليمة للعلاجات التي نستخدمها.
أيًّا كانت الطريقة التي نرى بها الدوافع، فإن هذا الوضع السيئ يتركنا في مشكلةٍ حقيقية؛ فبالنسبة إلى الكثير من الأمراض المهمة التي يعاني منها المرضى، ليست لدينا أدنى فكرة عن أفضل علاجٍ من بين العلاجات الكثيرة المتوافرة؛ ومن ثَمَّ فإن الناس يعانون ويموتون بلا ضرورة. ولا يعي المرضى، والعامة، والكثير من الأطباء أيضًا هذه الحقيقة المُخيفة، رغم الإشارة إليها مرةً بعد أخرى في الأدبيات الطبية.
منذ أكثر من عَقد، وصف بحث في دورية «بي إم جيه» حول مستقبل الطب القدرَ الهائل من الجهل الذي نعيش فيه، وأوضح أننا ما زلنا لا نعرف أيٌّ من العلاجات الكثيرة المتوافرة حاليًّا هو الأفضل، لشيءٍ في بساطة علاج المرضى الذين فاجأتْهم للتوِّ سكتة دماغية، ولكنه أشار إلى ملاحظةٍ غاية في البساطة، وهي أن السكتات الدماغية شائعة «جدًّا»، لدرجة أننا إذا أخذنا كل مرضى العالم الذين أصابتهم سكتة دماغية، وأدخلناهم في تجرِبةٍ عشوائية لمقارنة أفضل العلاجات في هذا الشأن، فإننا سنحصل على ما يكفي من المشاركين للإجابة عن هذا السؤال في مدةٍ لا تتجاوز أربعًا وعشرين ساعة. والأفضل من ذلك أن الكثير من عواقب السكتة الدماغية — كالوفاة — تصبح واضحةً في غضون أشهُر معدودة، بل وأسابيع في بعض الأحيان. وإذا بدأنا إجراء هذه التجرِبة اليوم، وحلَّلنا النتائج عند الحصول عليها مباشرة، فإن علاج السكتات الدماغية يمكن أن يَحدث تَحوُّل كبير فيه في فترةٍ زمنية أقل من تلك التي تستغرقها زراعة زهرة دوَّار الشمس.
كان المعنى المُضمَّن في هذا البحث شديد الوضوح: أينما وُجد شك حقيقي فيما يتعلق بالعلاج الأفضل، فعلينا أن نُجريَ تجرِبة عشوائية؛ فمجال الدواء يجب أن يدخل في دورةٍ مستمرة من المراجعة وجمع بيانات المتابعة وتحسين إجراءاتنا التدخُّلية، ليس كاستثناء، ولكن كلما أمكن ذلك.
لجعْل تصميم هذه التجارِب أكثر واقعية، فلننظر معًا إلى الدراسة التجريبية التي تقارن بين عقَّارَين من عقاقير الاستاتين لمعرفة أيهما أفضل لمنع النوبة القلبية والوفاة. قد تكون هذه التجرِبة بالذات من نوع التجارِب التي قد تظن بسذاجةٍ أنها قد أُجريت بالفعل، ولكن كما شاهدنا في الفصل السابق، تُركت الأدلة على فاعلية تلك العقاقير غير كاملة، رغم أنها من أكثر العقاقير التي تُوصف في العالم (ولهذا السبب، بطبيعة الحال، نحن لا نلبث أن نذكرها من حينٍ لآخر في هذا الكتاب). أُجريت تجارب تقارن كل عقَّارٍ من تلك العقاقير بدواءٍ وهمي؛ أي حبة لا دواء فيها تُستخدم للمقارنة فقط، ووُجد أن تلك العقاقير تنقذ حياة الكثيرين. كما أُجريت أيضًا تجارب تقارن تلك العقاقير كلًّا منها بالآخر، وهي مقارنة منطقية، ولكن هذه التجارِب كلها استخدمت معدل الكولسترول كنتيجة إكلينيكية بديلة، وهو أمر مضلل تمامًا؛ فقد رأينا في تجرِبة «المعالجة بأدوية ضغط الدم والأدوية الخافضة للدهون للوقاية من النوبات القلبية»، على سبيل المثال، أنه قد يكون هناك عقَّاران متشابهان للغاية في كفاءتهما في علاج ضغط الدم، ولكنهما مختلفان للغاية في كفاءتهما في منع النوبات القلبية؛ مختلفان للغاية، في واقع الأمر، لدرجة أن عددًا كبيرًا من المرضى ماتوا بلا داعٍ على مدار سنينَ عديدةٍ قبل إجراء التجرِبة المشار إليها؛ ببساطةٍ لأن أطباءهم وصفوا لهم العقَّار الأقل فاعلية (الذي كان، بالمصادفة، العقَّار الأحدث والأغلى ثمنًا).
لذلك، نحن في حاجةٍ إلى إجراء تجارب واقعية، لنعرف عقَّار الاستاتين الأفضل في إنقاذ حياة المرضى، بالجرعات الشائعة الاستخدام، وأعتقد أيضًا أننا في حاجةٍ لأن نفعل ذلك على الفور. أكثر عقاقير الاستاتين شيوعًا في المملكة المتحدة الأتورفاستاتين والسيمفاستاتين؛ لأن كليهما انتهت فترة براءة الاختراع الخاصة به وأصبح متاحًا لأي شركةٍ إنتاجُه ومن ثَمَّ رخيص. فإذا تبين أن أحدهما أفضل من الآخر بمقدار ٢ في المائة فقط في منع النوبات القلبية والوفاة، فإن هذا قد يُنقذ حياة عددٍ كبير من المرضى في جميع أنحاء العالم؛ لأن النوبات القلبية شائعة جدًّا، ولأن عقاقير الاستاتين تُستخدم على نطاق واسع جدًّا. والعجز عن تحديد ذلك يمكن أن يكلفنا حياة الكثيرين كل يومٍ نظل فيه في جهلٍ بالأمر؛ فعشرات الملايين من الناس حول العالم يتناولون هذه العقاقير في هذه اللحظة، وجميعهم يتعرَّضون لمخاطر غير ضرورية من عقاقير لم يُقارَن على نحوٍ لائق كلٌّ منها بالآخر، ولكنهم جميعًا قادرون على توفير بيانات يمكن استخدامها لجمع معلوماتٍ جديدة حول العقَّار الأفضل، فقط لو تم هذا في تجرِبةٍ عشوائية على نحوٍ ممنهج وحدثت متابعة للنتائج.
تجربتنا الكبيرة العملية بسيطة للغاية؛ فكل شيءٍ في عيادات الأطباء الممارسين اليوم مُمَيكَن بالفعل من خلال الكمبيوتر، بدايةً من المواعيد وحتى الملاحظات والأدوية الموصوفة، كما تعرف غالبًا من ذهابك لأحدهم بنفسك. عندما يفحص الممارس العام مريضًا ويقرر وصف عقَّار استاتين له، عادةً ما ينقر فوق الزر الخاص بوصف العقاقير، ويُوجه إلى صفحةٍ يختار فيها عقَّارًا، ثم يطبع تذكرة العلاج. بالنسبة إلى الأطباء المشاركين في تجربتنا، أُضيفت صفحة أخرى تقول ما مفاده: «انتظر. نحن لا نعرف أي عقَّارَي الاستاتين هذين أفضل؛ فبدلًا من أن تختار أحدهما، اضغط على هذا الزر الأحمر الكبير لتخصيص أحدهما لمريضك، وإدخاله في تجربتنا، ولن تحتاج للتفكير في هذا الأمر ثانيةً على الإطلاق.»
الجزء الأخير من العبارة السابقة مهم. في الوقت الحالي، تحتاج التجارِب لجهدٍ إداري ضخم ومرتفع التكاليف؛ فعدد كبير منها يكافح من أجل اختيار مرضى كافين، وعدد أكبر يكافح من أجل اختيار أطباء يمارسون العمل يوميًّا؛ لأنها لا تبغي الدخول في دوامة ملء استمارات تقارير المرضى، واستدعاء المرضى مرةً أخرى لمواعيد إضافية، والقيام بعمليات قياس إضافية وما إلى ذلك. في تجربتنا، لا ينطوي الأمر على أيٍّ من ذلك؛ إذ تحدث متابعة للمرضى من حيث مستويات الكولسترول والنوبات القلبية والآثار الجانبية التحسسية الغريبة والسكتات الدماغية والنوبات المَرضية وحالات الوفاة، وتؤخذ كل تلك البيانات من سِجلاتهم الصحية تلقائيًّا دون أي عناء.
هذه التجارِب البسيطة لها عيب واحد، لعلك تكون قد اكتشفته بالفعل، وهو أنها ليست تجارب «عمياء»، بمعنى أن المرضى يعرفون اسم العقَّار الذي يتناولونه. وتُعَد هذه مشكلةً في بعض الدراسات؛ فإذا كنت تعتقد أنك تتناول عقَّارًا شديد الفاعلية، أو شديد السوء، فإن قوة اعتقادك وتوقعاتك قد تؤثر على صحتك، من خلال ظاهرةٍ يُطلَق عليها اسم «تأثير العلاج الوهمي». فإذا كنت تقارن بين دواء مُسكن وقرص سكري لا علاج فيه، فالمريض الذي يعرف أنه يتناول قرصًا سكريًّا وهميًّا لتسكين الألم من المرجح أن يشعر بالانزعاج وبمزيدٍ من الألم. ولكن من الأصعب أن نصدق أن المرضى لديهم معتقدات راسخة حول الفوائد النسبية لعقَّارَي الأتورفستاتين والسيمفاستاتين، وأن هذه المعتقدات سوف تؤثر على معدل الوفاة بسبب الأمراض القلبية الوعائية بعد خمس سنوات. في كل الأبحاث، نحن نوازن بين ما هو مثالي وما هو عملي، مع الانتباه الشديد لتأثير أي عيوبٍ منهجية على نتائج الدراسات.
إذًا، وبصرف النظر عن هذا العيب، الأمر يستحق أن نأخذ بعض الوقت لملاحظة عدد المشاكل الخطيرة الموجودة بالتجارِب التي نستطيع أن نتعامل معها بتصميمنا للدراسات القائم على إجراء تجارب بسيطة اعتمادًا على السجلات الصحية الإلكترونية. وإذا ما نحَّينا جانبًا افتراضَ تحليلها على النحو اللائق، دون الحيل المريبة التي ذكرناها في الفصل السابق، فإن هناك فوائد أخرى أكثر تحديدًا؛ أولًا، كما نعرف، غالبًا ما تُجرى التجارِب على «مرضى مثاليين» لا يُمثلون المرضى العاديين، وفي أجواءٍ غريبة. ولكن المرضى في تجاربنا العملية البسيطة مثل المرضى في العالم الواقعي تمامًا؛ لأنهم مرضى فعليون. إنهم كل الأشخاص الذين يصف لهم الأطباء الممارسون عقاقير الاستاتين. ثانيًا، نظرًا لأن التجارِب كيانات إدارية مستقلة باهظة التكاليف، ونظرًا لأن القائمين عليها يكافحون من أجل استقدام المرضى المشاركين فيها، فهي في الغالب تكون صغيرة الحجم. أما تجربتنا العملية، فهي زهيدة التكاليف للغاية؛ لأن كل العمل تقريبًا يتم باستخدام بياناتٍ موجودة بالفعل؛ فقد تكلف إعداد هذه التجرِبة الأولى ٥٠٠ ألف جنيه إسترليني، وشمل ذلك إنشاء المنصة التي يمكن استخدامها لإجراء أي تجرِبةٍ ترغب فيها في المستقبل. وهذا مبلغ قليل للغاية في عالم التجارِب. ثالثًا، التجارِب في الغالب تكون قصيرة للغاية، وتعجز عن فحص النتائج الإكلينيكية الواقعية. أما تجربتنا البسيطة، فهي تُجرى للأبد، ويمكننا جمع بيانات المتابعة ومراقبة ما إذا كان الناس قد أصيبوا بنوبةٍ قلبية أو سكتةٍ دماغية أو وافتْهم المنية، لعقودٍ آتية، بلا تكلفةٍ تقريبًا، عن طريق متابعة تقدُّم حالاتهم من خلال السجلات الصحية الإلكترونية التي ينتجها أطباؤهم على أي حال.
كل هذا أصبح ممكنًا في بريطانيا بسبب قاعدة البيانات البحثية للأطباء الممارسين التي تعمل منذ سنواتٍ عديدة. تضم هذه القاعدة سِجلاتٍ طبيةً مجهولة الاسم خاصة بملايين المرضى من عيادات الأطباء الممارسين المشاركة، وهي تُستخدم بالفعل على نطاقٍ واسع في دراسات مراقبة الآثار الجانبية التي ناقشتها من قبل، وتملكها وتديرها حاليًّا وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية نفسها. ومع ذلك حتى الآن لم تُستخدم إلا في الأبحاث القائمة على الملاحظة وليس في التجارِب العشوائية؛ إذا تُراقب الأدوية الموصوفة للمرضى وحالاتهم الصحية وتُحلل بنحوٍ مجمع، على أمل أن نستطيع اكتشاف أنماطٍ معينة. ويمكن أن يكون هذا مفيدًا، وقد استُخدم في إنتاج معلوماتٍ مفيدة عن العديد من الأدوية، ولكنه يمكن أيضًا أن يكون مضللًا جدًّا، ولا سيما إذا كنت تحاول مقارنة فوائد خيارات العلاج المختلفة.
ويرجع هذا، في كثيرٍ من الأحيان، إلى أن الأشخاص الذين يُعطَون علاجًا ما يختلفون تمامًا عن الذين يُعطَون علاجًا آخر، رغم أنك قد تظن أنهم ليسوا كذلك. قد تكون هناك أسباب غريبة غير متوقعة لوصف دواءٍ معين لمرضى معينين ودواءٍ آخر لغيرهم، ومن الصعب جدًّا أن تكتشف هذه الأسباب أو أن تفسرها بعد حدوث الأمر، عندما تُحلل البيانات التي جمعتها من الممارسة الطبية الروتينية في العالم الواقعي.
على سبيل المثال، من المرجَّح أكثر أن يُوصف الدواء الأغلى بين دواءين متشابهين للمرضى الذين يعيشون في منطقةٍ ثرية؛ لأن الميزانيات في عيادتهم تكون أقل انضغاطًا، والدواء الغالي يُسوَّق له بدرجةٍ أكبر. فإذا كان الأمر كذلك، إذًا، فعلى الرغم من أن الدواء الأغلى ليس أفضل من البديل الأرخص، فإنه قد يبدو أكثر تفوُّقًا في بيانات الملاحظة؛ لأن الأثرياء، بوجهٍ عام، أصح بدنًا من غيرهم. هذا التأثير يمكن أيضًا أن يجعل الأدوية تبدو أسوأ مما هي عليه. على سبيل المثال، الكثير من الناس يعانون من مشاكل بسيطة في الكُلى تبدو في الخلفية بالمقارنة بمشاكلهم الصحية الأخرى؛ فهي لا تسبب لهم متاعبَ صحيةً محددة، ولكن أطباءهم يعرفون، من اختبارات الدم، أن الكُلى لا تُنقِّي مجرى الدم من السموم بنفس فاعلية الكُلى لدى الأصحاء؛ فعندما يعالج هؤلاء المرضى من الاكتئاب، مثلًا، أو من ارتفاع ضغط الدم، فإنه قد يُوصف لهم دواء يُعَد آمنًا أكثر بالنسبة إليهم فيما يتعلق بمشكلات الكُلى البسيطة التي يعانون منها. في هذه الحالة، هذا الدواء سيبدو «أقل» فاعليةً بكثيرٍ مما هو عليه، عندما تتابع نتائج المرضى؛ لأن الكثير من المرضى الذين يتعاطَونه يكونون أكثر مرضًا أساسًا؛ المرضى الذين يعانون من مشاكل بسيطة، مثل مشاكل الكلى البسيطة، يُوجَّهون للدواء الذي يُعتقد أنه الآمن لحالتهم.
وحتى عندما تدرك أن مثل هذه الأمور تحدث، فمن الصعب أن تجد تفسيرًا لها أثناء التحليل؛ ولكن غالبًا ما توجد أشياء تُشوِّه نتائجك، وأنت لا تكتشف حتى أنها موجودة. في بعض الأحيان، أدَّى هذا إلى مشاكل خطيرة، والعلاج الهرموني التعويضي واحد من الأمثلة الجديرة بالذكر على تعرُّض الناس للتضليل، بسبب الثقة في بيانات «الملاحظة»، بدلًا من إجراء تجرِبة.
يُعَد العلاج الهرموني التعويضي علاجًا قصير المدى آمنًا وفعالًا إلى حدٍّ كبير لتقليل الأعراض المزعجة التي تشعر بها بعض النساء في سن اليأس. ولكنه كان يُوصف أيضًا بحُريةٍ أكبر للمرضى، حتى إن بعضهم تلقَّاه دون توقُّف لسنواتٍ عديدة، لأسبابٍ تتعلق بالتجميل؛ فهو يُعَد طريقةً لمواجهة التقدُّم في العمر، ويحافظ على العديد من سمات الجسم الأصغر سنًّا، على نحوٍ جعله مفضلًا بالنسبة إلى الكثير من النساء. ولكن هذا لم يكن السبب الوحيد الذي جعل الأطباء يصفونه لفتراتٍ طويلة لمرضاهم؛ فعند ملاحظة السِّجلات الطبية للنساء الأكبر سنًّا، وجد الباحثون نمطًا اعتقدوا أنه مُطَمئن للغاية، وهو أن النساء اللاتي يخضعن لهذا العلاج لسنواتٍ كثيرة يعشن حياةً أطول وفي صحةٍ أفضل. وكانت هذه أخبارًا مثيرة جدًّا، وقد ساعدت في تبرير وصف هذا العلاج حتى لنطاقٍ أكبر. ولم يُجرِ أحدٌ تجرِبةً عشوائية؛ اختيارًا عشوائيًّا لمجموعتين من النساء بحيث تتلقَّى الأولى هذا العلاج والأخرى علاجًا عاديًّا. وبدلًا من ذلك، أُخذت نتائج الدراسات المستندة إلى «الملاحظة» دون تمحيص.
عندما أُجريت أخيرًا تجرِبة عشوائية، كشفت عن مفاجأةٍ مرعبة؛ فبدلًا من أن يعمل هذا العلاج على حمايتك، «يزيد» في الحقيقة فرص تعريضك لمشاكلَ قلبيةٍ عديدة. وقد بدا لنا أنه مفيد لأنه في العموم كان النساء اللاتي يطلبنه من أطبائهن في الغالب من الثريات اللاتي تتمتعن بالحيوية والنشاط والكثير من الأشياء الأخرى التي نعرف بالفعل ارتباطها بالعيش لفترةٍ أطول؛ فنحن لم نكن نُجري مقارنةً عادلة بين نِدَّيْن، ولأننا قبلنا بيانات الملاحظة دون تمحيص، ولم نُجرِ أي تجرِبة عشوائية، واصلنا وصف علاج عرَّض النساء لمخاطر لم يعلم بها أحد. وحتى إذا قبلنا أن بعض النساء ربما يَكُنَّ قد اخترنَ تعريض حياتهن للخطر بغية الحصول على الفوائد الأخرى لتَلقِّي هذا العلاج على المدى الطويل، فإن جميع النساء حُرِمن من هذا الاختيار بسبب عجزنا عن إجراء اختباراتٍ سليمة.
لهذا السبب نحن نحتاج لإجراء تجارب «عشوائية» كلما وُجدت ريبة حقيقية فيما يتعلق بالدواء الأفضل للمرضى؛ لأننا إن أردنا عمل مقارنةٍ عادلة بين علاجَين مختلفين، فعلينا أن نكون على يقينٍ من أن الأشخاص الذين يحصلون عليهما متشابهون تمامًا. ولكن الاختيار العشوائي لمرضى حقيقيين لتَلقِّي أحد علاجين، حتى إذا كنت لا تعلم أيهما أفضل، يستدعي كل أشكال الانتباه القلق.
وأفضل ما يوضح ذلك مفارقة غريبة توجد حاليًّا في قواعد الممارسة الطبية اليومية؛ فعندما لا توجد أدلة ترشد قرارات العلاج، من اختيارين متاحين، يمكن أن يختار الطبيب أيهما على نحوٍ اعتباطي، وفق هواه. وعندما تفعل ذلك، فليس هناك احتياطات خاصة، تتجاوز المتطلبات الباهتة، في رأيي، التي يفرضها المجلس الطبي العام فيما يتعلق بكل الأبحاث الطبية. أما إذا قررت أن تُخصِّص على نحوٍ عشوائي علاجًا معينًا لمرضاك دون الآخر، في حين أنه ليس لدى أحدٍ أي فكرةٍ عن أيهما أفضل، فسيظهر أمامك فجأة عالَم من الإجراءات الروتينية العقيمة؛ فالطبيب الذي يحاول إنتاج معرفةٍ جديدة وتحسين وسائل العلاج وتقليل المعاناة، دون تعريض المرضى لمزيدٍ من المخاطر، يكون مُعرَّضًا لمستوًى أعلى بكثيرٍ من التدقيق والوصاية من الجهات الرقابية، ولكن الأهم أن هذا الطبيب سيكون عليه أداء قدرٍ كبير جدًّا من الأعمال الكتابية؛ مما يبطئ العملية لدرجةٍ تجعل البحث ببساطةٍ غير عملي؛ ومن ثَمَّ سيعاني المرضى بسبب غياب الأدلة.
يتضح الضرر الناتج من هذه التأخيرات والعوائق من خلال تجربتَين أُجريتا في أقسام الحوادث والطوارئ بالمستشفيات في المملكة المتحدة؛ فلسنواتٍ عديدة كان من الشائع علاج المرضى الذين لديهم إصابة في الرأس بحقنة إستيرويد. كان هذا منطقيًّا للغاية نظريًّا؛ فبعد حدوث إصابةٍ في الرأس يتورَّم المخ، وبما أن الجمجمة عبارة عن صندوقٍ ذي حجمٍ ثابت، فإن أي ورمٍ فيه سيؤدي إلى تلف المخ. ومن المعروف أن عقاقير الإستيرويد تُقلل التورم؛ ولهذا السبب نحقنها في الركبة وما إلى ذلك؛ من ثَمَّ فإنَّ إعطاءها للمصابين بإصاباتٍ في الرأس ينبغي، نظريًّا، أن يمنع تلف المخ. كان بعض الأطباء يُعطُون تلك العقاقير استنادًا إلى هذا الاعتقاد، والبعض الآخر لا يفعل. ولم يكن معروفًا أيهما على حق. وكان كل فريقٍ مقتنعًا تمامًا بأن الفريق الآخر يرتكب خطأً جسيمًا وخطيرًا.
عندما تمت أخيرًا الموافقة على التجرِبة وأُجريت، تَبيَّن أن عقاقير الإستيرويد كانت تؤذي المرضى وبأعداد كبيرة؛ فربع الأشخاص الذين لديهم إصابات خطيرة في الرأس كانوا يموتون، أيًّا كان العلاج الذي يتلقَّونه، ولكن زاد خطر وفاة الذين تلقَّوا تلك العقاقير بنسبة ٢٫٥ بالمائة. وقد أدَّى تأخير اكتشاف هذه الحقيقة إلى الوفاة غير المبررة، والتي كان يمكن تجنُّبها لعددٍ كبير جدًّا من الأشخاص، وكان القائمون على هذه الدراسة واضحين جدًّا فيما يتعلق بالمسئول عن هذه الوفيات، حيث قالوا: «التأثيرات القاتلة التي أوضحناها كان من الممكن اكتشافها منذ عقودٍ لو كانت لجان أخلاقيات البحث تحملت مسئولياتها فيما يتعلق بتوفير أدلةٍ قوية على أن عقاقيرها من المرجح أن تفيد أكثر مما تضر.»
لكن هذا لم يكن هو الضررَ الوحيد؛ فالكثير من مراكز التجارِب كان يُصر على تأخير العلاج من أجل الحصول على موافقةٍ كتابية من أهل المريض الفاقد الوعي للمشاركة في التجرِبة. هذه الموافقة الكتابية لم تكن تُعتبر ضروريةً لتَلقِّي تلك العقاقير، إذا تصادف أن الطبيب الذي يعالجك كان يؤمن بفاعليتها، وكذلك الحال لعدم تلقيها من طبيب لا يؤمن بفاعليتها. لقد أصبح هذا الأمر محل نقاشٍ فقط لأن المرضى يُقسَّمون عشوائيًّا لتَلقِّي علاجٍ أو آخر، ولجان الأخلاقيات الطبية تختار وضع عوائق أكبر عند حدوث ذلك، رغم أن العلاجات التي يتلقاها المرضى عشوائيًّا هي نفسها العلاجات التي كانوا سيحصلون عليها على أي حال. وفي مراكز العلاج التي أصرَّ فيها المراقبون المحليون على الحصول على موافقة الأهل على التوزيع العشوائي للعلاجات، تأخر العلاج بعقاقير الإستيرويد نحو ١٫٢ ساعة في المتوسط. وهذا التأخير، من وجهة نظري، غير ضروريٍّ وغير ملائم، ولكن ما دام قد حدث، ففي هذه الحالة لم يُحدِث ضررًا؛ لأن تلك العقاقير لا تُنقذ حياة المرضى (بل إنها في الحقيقة تؤدِّي لوفاتهم، كما نعرف الآن).
في دراساتٍ أخرى، مثل هذا التأخير قد يكلفنا حياة المريض. على سبيل المثال، أُجريت تجرِبة لمتابعة نتائج التجرِبة السابقة، وكانت تحت اسم «دراسة إكلينيكية عشوائية عن مضادات مذيبات التجلط في حالات النزف الشديد» (كراش-٢) وقام بها الفريق نفسه في أقسام الحوادث والطوارئ بالمستشفيات في المملكة المتحدة. تناولت هذه الدراسة ما إذا كان الذين يتعرَّضون لإصاباتٍ ويعانون من نزيفٍ حادٍّ يقل احتمال تعرُّضهم للوفاة إذا تناولوا عقَّارًا اسمه حمض الترانيكساميك الذي يؤدِّي إلى تحسين عملية تجلط الدم. ونظرًا لأن هؤلاء المرضى ينزفون حتى الموت، فإن هناك ضرورةً مُلحة لعلاجهم. بالطبع، حصل كل المرضى على كل العلاج المعتاد الذي تتوقع أن يحصلوا عليه، ولكن الميزة الوحيدة التي تلقَّوها وحددتْها التجرِبة كانت تقسيمهم عشوائيًّا بحيث يحصل البعض على حمض الترانيكساميك بالإضافة إلى العلاج العادي، وأما البعض الآخر، فلا.
وجدت التجرِبة أن حمض الترانيكساميك مفيد جدًّا ويؤدِّي إلى إنقاذ حياة المرضى. ولكن مرةً أخرى، بعض مراكز التجارِب أخَّرت إعطاءه للمرضى عندما حاولوا التواصل مع أهل المرضى والحصول على موافقتهم على المشاركة في التجرِبة. ويؤدِّي تأخير إعطاء هذا الدواء لمدة ساعةٍ إلى تقليل نسبة المرضى المستفيدين من العلاج من ٦٣ بالمائة إلى ٤٩ بالمائة؛ لذا فإن المرضى الذين شاركوا في التجرِبة تضرَّروا على نحوٍ مباشر من تأخير تَلقِّي العلاج من أجل الحصول على موافقة الأهل على تقسيمهم عشوائيًّا بين خيارَي علاجٍ ليس من المعروف أيهما أفضل على أي حال، والمرضى في جميع أنحاء المملكة المتحدة مُعرَّضون لأخذ أحدهما أو الآخر على نحوٍ اعتباطي تمامًا على أي حال.
من وجهة نظري، أنا أعتبر هذا الوضع غير ملائم، وأعتقد أن كلمة غير ملائم هي الكلمة المناسبة للسياق؛ فمن المهم جدًّا أن نحميَ حقوق المرضى، وألا نُعرِّضهم لعلاجاتٍ خطيرة باسم البحث العلمي؛ فعندما تبحث التجارِب تأثيرات علاجاتٍ جديدة تجريبية، فمن الصائب جدًّا أن يكون هناك قدر هائل من الإشراف الرقابي، وأن يُوصل إلى المريض على نحوٍ واضح وإجباري كمية هائلة من المعلومات، وهذا غاية ما أتمناه. ولكن عندما يخضع شخص لتجرِبةٍ تقارن بين علاجين مستخدَمين حاليًّا، يُعتقد أنهما متساويان في الأمان والفاعلية، والتقسيم العشوائي للمرضى لا يضيف أي مخاطرة، فالموقف مختلف تمامًا.
هذه هي الحال بالنسبة إلى تجربتنا الخاصة بممارسات الأطباء الممارسين، والتي تقارن بين عقَّارَين من عقاقير الاستاتين؛ ففي الممارسات اليومية الروتينية في المملكة المتحدة، أحيانًا يُعطى المرضى عقَّار الأتورفاستاتين، وأحيانًا يُعطَون السيمفاستاتين. ولا يعرف أي طبيبٍ حاليًّا أيهما أفضل؛ لأنه لا يوجد أي دليلٍ على مقارنة العقَّارين فيما يتعلق بنتائج إكلينيكية واقعية مثل النوبات القلبية أو الوفاة. وعندما «يختار» الأطباء اعتباطيًّا إعطاء أحدهما، دون استنادٍ إلى أي أدلة، لا يهتم أي شخصٍ بمراقبة ذلك؛ ومن ثَمَّ ليست هناك عملية خاصة أو استمارة يجب ملؤها لشرح عدم وجود دليلٍ يُتخذ القرار على أساسه. يبدو لي أن هذا الطبيب الذي يعطي عقَّارًا أو آخر بلا مبالاةٍ في غياب الأدلة، ولا يحاول تحسين فهمنا للعلاج الأفضل، يرتكب نوعًا من الجرائم الأخلاقية، لا لسببٍ إلا لأنه يُبقي على جهلنا؛ فهذا الطبيب يُعرِّض أعدادًا كبيرة من المرضى المستقبليين حول العالم لأخطارٍ يمكن تجنُّبها، ويُضلل مرضاه الحاليين حيال ما نعرفه من فوائد ومخاطر العلاجات التي يتلقَّوها، من خلال يقينه الزائف أو عدم تَحرِّيه الأمانة — في أفضل الأحوال — فيما يتعلق بريبتنا وجهلنا بفوائد العلاجات. ولكن ليس هناك لجان أخلاقيات طبية خاصة تُشرف على نشاط مثل هذا الطبيب.
في الوقت نفسه، عندما يُعطى أحد عقَّارَي الاستاتين لمريضٍ في تجربتنا على نحوٍ عشوائي، فجأةً تصبح هذه قضيةً أخلاقية كبرى؛ فيتوجب على المريض ملء صفحاتٍ عديدة من الأوراق، على مدار عشرين دقيقة، للتأكد من أنه يفهم كل مخاطر العلاج الذي يتلقَّاه، وأنه يقبل الخضوع للتجرِبة. إنه يجب أن يفعل ذلك، رغم أنه لا يتعرَّض لأي مخاطرَ إضافيةٍ على مدار التجرِبة، ورغم أنه كان سيحصل على هذا العقَّار أو ذاك على أي حال، ورغم أن التجرِبة لا تفرض أي عبءٍ إضافي على وقته؛ ورغم أن سِجله الطبي موجود بالفعل في قاعدة البيانات البحثية للأطباء الممارسين؛ ومن ثَمَّ فهي تخضع للفحص من أجل الأبحاث القائمة على الملاحظة بصرف النظر عن مشاركته في التجرِبة. كما أن هذين العقَّارين يستخدمهما بالفعل ملايين الأشخاص على مستوى العالم، وثبت أنهما آمنان وفعالان، ولكن السؤال الوحيد الذي تحاول التجرِبة الإجابة عنه هو أيهما أفضل. فإذا كان هناك فارق حقيقي بين العقَّارين، فإن أعدادًا كبيرة من المرضى يَلقَون حتفهم بلا ضرورةٍ دون أن نعرف.
لكن الأكثر من هذا هو أن عملية الموافقة التي تستغرق عشرين دقيقة لتَلقِّي علاجٍ كنت ستتلقاه على أي حال تُهدد الغرض الأساسي من التجرِبة، ألا وهو محاولة تقسيم المرضى عشوائيًّا بسلاسةٍ ودون عوائق قدر الإمكان في الرعاية الإكلينيكية الروتينية؛ فهي لا تبطئ التجارِب البسيطة العملية وتزيد من تكلفتها فحسب، بل إنها تجعلها أقل تمثيلًا للممارسة الطبيعية أيضًا؛ فعندما تطبق عملية تستغرق عشرين دقيقة للموافقة على عقَّار استاتين كان المريض سيحصل عليه على أي حال، فإن الأطباء والمرضى الذين سيُستعان بهم في التجرِبة ليسوا أطباء ومرضى عاديين، ولكنهم يصبحون أشخاصًا غير ممثلين لفئاتهم لأنهم سيكونون مستعدين لإيقاف ما يفعلونه وقضاء عشرين دقيقة في ملء الاستمارة.
هذه ليست مشكلة بالنسبة إلى تجرِبة عقاقير الاستاتين العملية التي عرضتها؛ لأن الغرض من التجرِبة ليس في الحقيقة أن نعرف عقَّار الاستاتين الأفضل؛ ففي الواقع تتناول التجرِبةُ العمليةَ نفسها، وتهدف إلى الإجابة عن سؤالٍ أكثر أهميةً وجوهرية، وهو: هل نستطيع تقسيم المرضى عشوائيًّا في الرعاية الروتينية، بتكلفةٍ بسيطة وببساطة؟ إذا كنا لا نستطيع فعل ذلك، فعلينا أن نعرف السبب وراء فشلنا في ذلك، ومعرفة ما إذا كانت العوائق ملائمةً وما إذا كنا نستطيع تجاوُزَها بأمان. يبدو أن مسئولي لجان الأخلاقيات الطبية يرَون أن عملية الموافقة التي تستغرق عشرين دقيقة مهمة جدًّا لدرجة أنه من الأفضل أن نترك المرضى يموتون بسبب الاستمرار في ممارستنا القاصرة.
إنني لا أقول ببساطةٍ إنني لا أوافق على هذا، ولكن ما أقوله هو أنني أعتقد أن الناس من حقهم أن يُقرِّروا ما إذا كانوا يوافقون على ذلك، من خلال إجراء مناقشةٍ واعية وواسعة النطاق.
لكنني، بالإضافة إلى ذلك، يراودني القلق من أن هذه القواعد تُعبِّر عن وهمٍ مُضمَّن حول الممارسة الإكلينيكية المعتادة، والذي لم يتم تَحدِّيه إطلاقًا بالقدر الكافي: ألا وهو اليقين الزائد دون حق؛ فربما إذا أُجبر جميع الأطباء على الاعتراف بالشكوك الموجودة في علاجنا اليومي للمرضى، فإن هذا قد يجعلنا أكثر تواضعًا، وأكثر ميلًا لتحسين الأدلة التي تستند قراراتنا إليها. وربما إذا أخبرنا المرضى بصراحة: «نحن لا نعرف أيٌّ من هذين العلاجين الأفضل بالنسبة إليكم» عندما يكون هذا هو الوضع بالفعل، فسوف يبدءون في طرح الأسئلة. وربما يكون السؤال الأول: «لمَ لا؟» وربما يأتي بعده بوقتٍ قصير: «لمَ لا تحاولون اكتشاف ذلك؟»
بعض المرضى سيُفضلون تجنُّب التقسيم العشوائي، لوَهم اليقين، ووهم أن طبيبهم قادر على اتخاذ قرارٍ يتلاءم مع حالتهم بنحوٍ خاص حول نوع عقَّار الاستاتين — أو أي عقَّارٍ آخر — المناسب لحالتهم. ولكنني أعتقد أننا ينبغي أن نكون قادرين على إعطاء الجميع فرصة التلقِّي العشوائي للعلاج داخل تجرِبة إكلينيكية، عندما تكون هناك ريبة حقيقية فيما يتعلق بالأفضل بين علاجَين واسعَي الاستخدام من المعروف أنهما آمنان وفعَّالان. وأعتقد أننا يجب أن نفعل ذلك بالاستناد إلى استمارة موافقة مختصرة، لا تزيد عن مائة كلمة، مع إتاحة إمكانية الوصول إلى مادة توضيحية أكثر تفصيلًا لمن يرغب في ذلك. وأعتقد أن مسئولي لجان أخلاقيات البحث ينبغي أن يُطلب منهم توفير أدلةٍ على أن الضرر الذي يتسببون فيه للمرضى حول العالم بفرضهم قواعدَ غير مرنة، مثل عملية الموافقة التي تستغرق ٢٠ دقيقة، يتناسب مع الفائدة التي يظنون أنهم يحققونها.
علاوةً على ذلك، أعتقد أننا في حاجةٍ إلى تَحوُّل ثقافي في الطريقة التي ننظر بها جميعًا، كمرضى، إلى علاقتنا التبادلية مع الأبحاث الدوائية؛ فنحن لا نعرف الدواء الفعَّال إلا من خلال التجارِب، وكلنا نستفيد من مشاركة المرضى السابقين في هذه التجارِب، ولكن الكثير منا يبدو أنهم ينسَون ذلك. فإذا ما تذكروا ذلك، يمكننا أن نخلق عقدًا اجتماعيًّا يتوقع الجميع بموجبه أن تُجريَ دائمًا هيئاتُهم الصحية تجاربَ واختباراتٍ بسيطة مكونة من أسئلة اختيار بين اختيارين أ/ب، لمقارنة العلاجات كلٍّ منها بالآخر لمعرفة أيها أفضل، أو حتى أرخص، إذا كانت كلها فعَّالة. والطبيب الذي يرفض المشاركة في مثل هذه الاختبارات يمكن أن يُعَد حالة شاذة تسعى لإيذاء المرضى المستقبليين. ويمكن أن يكون من الواضح لجميع المرضى أن المشاركة في هذه التجارِب انعكاس طبيعي للحاجة لإنتاج أدلةٍ أفضل لتحسين العلاج الطبي، لصالح أنفسهم في المستقبل، ولصالح الآخرين في المجتمع الذين يشاركونهم نظامهم الطبي.
تقريبًا في كل البلدان المتقدمة في العالم، يُوفَّر الدواء مجانًا في الأماكن المخصصة لذلك، من قِبل المجتمع، ويُموَّل ذلك من خلال الضرائب. ومن وجهة نظر المجتمع، يمكن اعتبار كل هذه العملية صفقة بسيطة: نحن نوفر الأدوية مجانًا في الأماكن المخصصة لذلك، وفي المقابل، عليك أن تسمح لنا بأن نكتشف أفضل دواءٍ بالنسبة إليك وإلى الآخرين. ويمكن أن تكون هيئة الخدمات الصحية الوطنية في دورةٍ مستمرة من الاختبار والتعلم، لتحسين أدائها وتحسين النتائج لجميع مَن في البلاد، ومَن في العالم بأسره، وذلك بخلق معرفةٍ أفضل بالأدوية الفعَّالة.
إن تلك صورةٌ من صور التاريخ التي غابت إلى حدٍّ بعيد عن أذهان معظم الأطباء والأكاديميين، والتي كانت سائدةً عند إجراء أول تجرِبةٍ عشوائية حديثة؛ ففي عام ١٩٤٦ كان المضاد الحيوي الإستريبتومايسين قد اكتُشف للتو، وبعد مجهودٍ ضخم أُنتج ٥٠ كيلوجرامًا منه للمملكة المتحدة. وكان من المرجوِّ أن يعالِج هذا العقَّار مرض السُّل، ولكنه كان غاليًا بدرجةٍ لا تُصدق، وكان علينا أن نعرف ما إذا كان علاجًا ناجعًا أم لا. لم يكن المرضى المصابون بالتهاب السحايا السُّلي الذي يصيب الدماغ هم المشكلة؛ فهم كانوا يموتون أمام عينيك وبسرعةٍ دائمًا تقريبًا؛ لذلك إذا نجا «أيٌّ» منهم بعد إعطائه العقَّار الجديد، كنت ستعرف أن العقَّار على الأرجح فعَّال. أما بالنسبة إلى السل الرئوي، فكانت المسألة أكثر تعقيدًا؛ ففي كثيرٍ من الأحيان يُشفى المرضى بمرور الوقت، دون أي دواء؛ لذلك كان من الصعب أن نعرف ما إذا كان العقَّار قد حسَّن بالفعل فرصتهم في الشفاء أو عجَّل بشفائهم.
في الولايات المتحدة كان هذا العقَّار متوافرًا في الأسواق بأسعارٍ باهظة. وإذا أردت تجربته، فكل ما عليك أن تفعله هو أن تشتريَه وتتناوله وتتمنَّى أن يؤتيَ ثماره المرجوَّة. ولكن مجلس البحوث الطبية البريطاني كان هو المسئولَ الوحيد عن الخمسين كيلوجرامًا المتوافرة منه، وقرَّر أن يستخدم هذا العقَّار الجديد الباهظ على نحوٍ فعال، في تجرِبةٍ عشوائية، ليكتشف ما إذا كان بالفعل يصنع فارقًا في إنقاذ حياة المرضى (وأيضًا ما إذا كان يُسبب أي آثارٍ جانبية غير متوقعة). لم يكن الأطباء سعداء بهذا، ولكن في بيئةِ ما بعد الحرب مباشرة، بينما كان التقنين لا يزال شائعًا، لم تكن فكرة السيطرة المركزية من أجل الصالح العام فكرةً مستغربة. وهكذا أُطلقت أول تجرِبةٍ عشوائية حديثة، وتكوَّنت صورة العالم بأسره عن فاعلية العقَّار الجديد، وكان السبب الرئيسي وراء ذلك هو أن مجلس البحوث الطبية أجبرنا على القيام بها.
إذا كانت هذه القصة بأسرها تبدو لك استالينية، فإنني أعتذر لك، ولكنك هكذا تكون قد أسأت فهمي. أنا لا أقترح أن نجبر كل المرضى على المشاركة في التجارِب، كلما كان هناك ريبة فيما يتعلق بأفضل علاجٍ لهم، عن طريق استغلال فرصة أن الدولة ينبغي أن تُقنِّن ما لديها من موارد. كل ما أقترحه هو أن التجارِب ينبغي تضمينها روتينيًّا في كل الممارسات الإكلينيكية كإجراءٍ يومي، مع اعتبار ذلك القاعدةَ وليس الاستثناء. وإذا أراد شخص عدم المشاركة فيها، وتناول عقاقير غير معلومة الفاعلية دون إنتاج معرفة جديدة، فأنا بطبيعة الحال أحترم رغبته في أن يكون معاديًا للمجتمع دون أن يحصل على أي مكسبٍ شخصي.
لكن هذه حاجة تزداد إلحاحًا يومًا بعد يوم؛ فالرعاية الصحية أصبحت غاليةً بدرجةٍ مخيفة، والتجارِب هي أفضل أداةٍ لدينا لجعْل قرارات العلاج التي نتخذها ذات مردوديةٍ أعلى، ويمكن إجراؤها على الكثير من المسائل الأكثر أهميةً في الطب وبتكاليف بسيطة جدًّا، دون إيقاع أي ضررٍ على المشاركين فيها. إن وصف الأدوية بنحوٍ غير عقلاني يكلفنا حياة الناس، كما يكلفنا أموالًا، في حين أن تكلفة إجراء أبحاث لتجنُّب هذا الوصف غير العقلاني تكلفة تافهة بالمقارنة، والتجارِب الروتينية البسيطة الضخمة سوف تمحو الأدلة المَعيبة التي لوَّثت الممارسة الطبية، وذلك في غضون سنواتٍ قليلة فحسب. ومشروعنا الذي عرضناه هنا، والذي يهدف لإجراء تجارب دون تكلفةٍ تقريبًا اعتمادًا على السِّجلات الصحية الإلكترونية التي تُجمع بنحوٍ روتيني، ما هو إلا مثال واحد على كيفية القيام بذلك.
بدلًا من ذلك، نحن نُجري تجارب عرَضيةً صغيرة وقصيرة المدة على أشخاصٍ لا يمثلون المرضى الحقيقيين، والتي تعقد مقارناتٍ غير مهمة، وتقيس نتائج إكلينيكية غير مهمة، بالإضافة إلى أن بعضها يختفي تمامًا. هذا إلى جانب أن بها أخطاءً في التصميم يمكن تجنُّبها، وتحيزات لا نهاية لها في عرض النتائج التي تظل مستمرةً، لا لشيءٍ إلا لأن الأبحاث تُجرى بنحوٍ فوضوي؛ لتحقيق مكاسب تِجارية في تجاربَ باهظةِ التكاليف. كما تتسبَّب الأدلة المَعيبة التي ينتجها هذا النظام في إيذاء المرضى في جميع أنحاء العالم.
لكننا نستطيع إصلاح كل هذا، إذا رغبنا في ذلك.