التسويق
لقد أثبتنا في الجزء السابق من الكتاب أن الأدلة التي تُجمَع لإرشاد قرارات العلاج في مجال الأدوية تعاني من عددٍ كبير من التحيزات والمشاكل التي يمكن تجنُّبها. ولكن هذا ليس إلا جزءًا بسيطًا من القصة؛ فهذه الأدلة التي جُمعت بطريقةٍ سيئة يُروَّج لها وتُنشر وتُنفَّذ عبر نُظُم فوضوية ومتحيزة، تضيف مستوًى آخر من المبالغة والخطأ.
لكي ندرك ما يحدث هنا، علينا أن نطرح سؤالًا بسيطًا: كيف يُقرِّر الأطباء الدواء الذي يصفونه؟ الغريب أن هذا الموضوع شديد التعقيد، ولكي نتحسَّس طريقنا فيه، علينا أن نفكر في العناصر الأساسية الأربعة في تلك العملية، ألا وهي: المريض، والجهة المُموِّلة (التي تعني هيئة الخدمات الصحية الوطنية بالنسبة إلى المملكة المتحدة)، والطبيب، وأخيرًا شركة الأدوية.
بالنسبة إلى المرضى، الأمور بسيطة: أنت تريد أن يصف لك الطبيب أفضل علاجٍ لمشكلتك الصحية. أو بالأحرى، تريد العلاج الذي تَبيَّن بوجهٍ عام من خلال الاختبارات السليمة أنه أفضل من غيره من العلاجات. وفي الغالب أنت ستوكل طبيبك باتخاذ هذا القرار وتتمنَّى وجود نُظُم فاعلة تضمن قيامه بذلك على النحو اللائق؛ لأن تدخُّلك في كل القرارات العلاجية سيكون أمرًا مهدِرًا للوقت إلى أقصى درجةٍ ممكنة.
هذا لا يعني أن المرضى يُنحَّون جانبًا في هذا الشأن، سواءٌ عن قصدٍ أو بحُكم العادة من جانبهم. فمن النادر أن يتخذ المرضى قراراتٍ تتعلق بالعلاج الأفضل تمامًا بالنسبة إليهم، عن طريق قراءة الأعمال البحثية الأساسية، وتحديد نقاط القوة والضعف في كل تجرِبةٍ بأنفسهم. وأنا أشعر بالحزن تجاه ذلك وأتمنى أن يُعلمك هذا الكتاب كل شيءٍ تحتاج لمعرفته، ولكن الواقع هو أن اتخاذ القرارات الطبية يتطلب الكثير من المعرفة المتخصصة والمهارات الخاصة التي تحتاج وقتًا وممارسةً لاكتسابها على مستوًى آمن من الكفاءة، وهناك احتمالات خطيرة أن يتخذ المريض قراراتٍ سيئةً جدًّا عندما لا تتم على أساسٍ صحيح.
مع ذلك، يتخذ الأطباء والمرضى قراراتٍ معًا طوال الوقت، عندما تكون الممارسة الطبية في أفضل أحوالها، في المناقشات التي يقوم الأطباء فيها بدور مسئول المشتريات الذي يسعى للحصول على النتائج التي يرجوها المريض ويُوصل له أفضل الأدلة المتاحة بوضوح؛ ليتيح له فرصة اتخاذ قرارٍ مستنير. على سبيل المثال، بعض المرضى قد يريدون حياةً أطول بأي ثمن، في حين أن بعضهم ربما يكرهون صداع تناول قرصٍ مرتين يوميًّا، ويُفضلون تقبُّل احتمالية تعرُّضهم لعواقب سيئة على المدى الطويل. وسوف نناقش لاحقًا كيف يمكننا القيام بذلك على أكمل وجه، ولكننا سنتفق الآن على حقيقة أن المرضى في أغلب الأحوال يريدون أفضل علاجٍ بالنسبة إلى حالتهم.
العنصر الثاني هو الجهات المُموِّلة (هيئة الخدمات الصحية الوطنية، أو الجهة المؤمِّنة)، وبالنسبة إليها، الأمور أيضًا بسيطة إلى حدٍّ كبير؛ فهي تريد الشيء نفسه الذي يريده المريض، إلا إذا كان باهظ التكاليف بنحوٍ مبالَغ فيه. وبالنسبة إلى الأدوية الشائعة والقرارات الشائعة، ربما يكون لديها «مسار» مُحدَّد يُملي على الأطباء الممارسين (أكثر من أطباء المستشفيات) الدواء الذي سيصفونه، ولكن خارج حدود هذه القواعد البسيطة للمواقف البسيطة، فهي تعتمد على تقدير الأطباء.
والآن نأتي للعنصر المحوري في قرار العلاج الفردي، ألا وهو: الأطباء. يكون الأطباء في حاجةٍ إلى معلوماتٍ عالية الجودة، ولكنهم يحتاجون أن تكون متاحةً لهم في الوقت المناسب. إن مشكلة العالم الحديث ليست فقر المعلومات، على أي حال، ولكنها وفرة المعلومات، أو بالأحرى، ما يُطلِق عليه كلاي شيركي «العجز عن فلترة المعلومات»؛ ففي فترةٍ قريبة كالخمسينيات من القرن العشرين تذكر أن الطب كان يستند تقريبًا بالكامل إلى القصص الخاصة بتجارب المرضى وآراء المتخصصين وليس الأدلة العلمية. في الواقع نحن لم نجمع أدلةً ذات جودةٍ عالية، إلا في الجيلين السابقين فحسب، وبكمياتٍ كبيرة، ورغم كل مشاكل النظم الحالية، أصبح لدينا فجأةً كمية هائلة من البيانات. ويتمثل المستقبل الزاهر للطب المستند إلى الأدلة، في وجود بنيةٍ معلوماتية تستطيع توفير الدليل المناسب للطبيب المناسب في الوقت المناسب.
هل هذا يحدث؟ الإجابة البسيطة عن هذا السؤال هي: لا. فعلى الرغم من وجود الكثير من النظم المُؤَتْمَتة لنشر المعرفة، فإننا في الغالب نواصل الاعتماد على النظم التي تطوَّرت منذ قرون، مثل المقالات الطويلة الملتوية المنشورة في الدوريات الأكاديمية التي ما زالت تُستخدم لنشر نتائج التجارِب الإكلينيكية. في الغالب، إذا سألت طبيبًا عما إذا كان يعرف أفضل علاجٍ لحالةٍ طبية معينة، فإنه يخبرك بأنه بالطبع يعرف، ويذكر لك اسم العلاج. ولكنك إذا سألته عن طريقة معرفته أنه الأفضل، فإن إجابته قد تخيفك.
قد يقول: هذا ما تعلمتُه في كلية الطب؛ أو هذا ما أخبرتْني به الطبيبة التي تعمل في الغرفة المجاورة؛ أو هذا ما أجد الاستشاري المحلي يصفه للمرضى الذين أحيلهم له؛ أو هذا ما أخبرني به مندوب شركة الأدوية المحلية؛ أو هذا ما عرفته في ندوةٍ منذ عامين؛ أو هذا ما أعتقد أني قرأته في مقالٍ في دوريةٍ لا أتذكرها؛ أو هذا ما أتذكره من بعض الأدلة الإرشادية التي بحثتُ فيها ذات مرة؛ أو هذا ما يوصي به الدليل الإرشادي المحلي الخاص بوصف الأدوية؛ أو هذا ما وصلتْ إليه تجرِبة قرأتُ عنها؛ أو هذا ما أستخدمه دومًا؛ أو ما إلى ذلك من إجابات.
إذًا، فالأطباء لن يطَّلعوا على كل التجارِب، المتعلقة بكل العلاجات ذات الصلة بمجالهم، ويفحصوا كلًّا منها ليتأكدوا من أنها لا تنتهج الحيل المنهجية المذكورة في هذا الكتاب، محاولين بشتى الطرق تحديث معرفتهم على نحوٍ تام، ولكنهم سيسلكون طرقًا مختصرة، وهذه الطرق المختصرة يمكن استغلالها.
لنرى مدى سوء الأطباء في وصف الأدوية بكفاءة، يمكننا أن ننظر إلى أنماط وصف الأدوية على المستوى الوطني. تنفق هيئة الخدمات الصحية الوطنية ١٠ مليارات جنيه إسترليني سنويًّا على الأدوية. وأنت الآن تعلم أن الكثير من الأدوية المتوافرة في السوق هي أدوية «شبيهة»، ليست أفضل بأي حالٍ من الأدوية التي تقلدها، وأن تلك الأدوية الشبيهة المسجلة يمكن أن يُستبدل بها أدوية تعادلها في الفاعلية من الفئة نفسها، والتي تكون قديمة بما يكفي بحيث تكون قد انتهت فترة براءة الاختراع الخاصة بها.
على سبيل المثال، يُعَد عقَّارا الأتورفاستاتين والسيمفاستاتين متساويين في الفاعلية، وفقًا لمعلوماتنا الحالية (لعلك تشعر أننا لا نلبث أن نرجع إلى عقاقير الاستاتين، ويرجع هذا إلى أن عددًا كبيرًا من الأشخاص يتناولونها)، وقد انتهت فترة براءة اختراع عقَّار السيمفاستاتين منذ ست سنوات؛ لذلك، قد تتوقَّع أن يتناوله كل المرضى بدلًا من عقَّار الأتورفاستاتين، إلا في حالة وجود سببٍ تحسُّسي وجيه جدًّا يدفعنا لاختيار الدواء الغالي دون داعٍ مع مريضٍ معين. ولكن حتى في عام ٢٠٠٩، وُصف عقَّار الأتورفاستاتين ثلاثة ملايين مرة، وهو عدد ليس أقل بكثيرٍ من الستة ملايين مرة في عام ٢٠٠٦، وقد كلف هذا هيئة الخدمات الصحية الوطنية ١٦٥ مليون جنيه إسترليني دون داعٍ في السنة. وكل هذه المرات التي وُصف فيها العقَّار للمرضى كانت رغمًا عن البرامج الوطنية الكبرى التي حاولت إقناع الأطباء بالتحويل إلى البديل الأرخص.
يمكن ملاحظة النمط نفسه في حالاتٍ كثيرة أخرى؛ فمثلًا، عقَّار اللوسارتان هو عقَّار معالج لضغط الدم من فئة مضادات مستقبلات الأنجيوتينسن، وهناك الكثير من الأدوية الشبيهة به في هذه الفئة، ولأن ارتفاع ضغط الدم مرض شائع جدًّا، فإن هذه الفئة من الأدوية هي رابع أغلى فئةٍ بالنسبة إلى هيئة الخدمات الصحية الوطنية؛ وفي عام ٢٠١٠، انتهت فترة براءة اختراع عقَّار اللوسارتان، وحيث إنه لا يختلف كثيرًا إكلينيكيًّا عن أي عقَّارٍ آخر في نفس فئته، فقد تتوقع أن تُحوِّل هيئة الخدمات الصحية الوطنية كل المرضى لاستخدامه استعدادًا للانخفاض الرهيب الذي سيحدث في سعره. ولكن حتى بعد انخفاض سعره، أصبح ٠٫٣ مليون فقط يتعاطون هذا العقَّار من إجمالي ١٫٦ مليون شخص يتناولون تلك الفئة من العقاقير، وهكذا تُهدر الهيئة ٢٠٠ مليون جنيه إسترليني سنويًّا.
إذا كنا عاجزين عن اتخاذ قراراتٍ عقلانية فيما يتعلق بعملية الوصف حتى بالنسبة إلى هذه الأدوية الشائعة جدًّا، فهذا دليل واضح على أن هذه العملية تتم على نحوٍ اعتباطي، حيث لا تُنقل معلومات واضحة، فيما يتعلق بفاعلية الأدوية أو مردوديتها، على النحو اللائق للأشخاص الذين يتخذون القرارات. وأستطيع بكل أمانةٍ أن أقول إنني إذا كنت مسئولًا عن ميزانيات البحث الطبي، فإنني كنت سألغي كل الأبحاث الأولية لمدة عام، ولا أُموِّل غير المشروعات التي تبتكر طرقًا جديدة لتحسين طرقنا في نشر المعلومات، وضمان تلخيص الأدلة التي لدينا بالفعل وتوصيلها إلى الفئة المستهدفة ووضعها محل تطبيق. ولكنني لست مسئولًا، وثَمَّةَ الكثير جدًّا من العوامل الأكثر تأثيرًا في هذا الشأن.
والآن دعونا نفكر في قرار الطبيب المتعلق بوصف دواءٍ معين من وجهة نظر شركة الأدوية. أنت تريد أن يصف الطبيب منتَجك، وسوف تفعل أي شيءٍ باستطاعتك لكي يحدث ذلك. قد تسمي ذلك «رفع درجة الوعي بمنتَجك»، أو «مساعدة الأطباء في اتخاذ القرارات»، ولكن الحقيقة هي أنك تريد رفع نسبة مبيعاتك؛ لذا سوف تُعلن عن علاجك الجديد في الدوريات الطبية، ذاكرًا كل فوائده ولكن في الوقت نفسه سوف تُهوِّن من مخاطره وتبعد تمامًا عن مقارنته بالأدوية المنافِسة له. وسوف ترسل مندوبي الشركة لمقابلة الأطباء على نحوٍ شخصي، للتحدث عن مزايا هذا العلاج. وسوف يُقدِّمون لهم الهدايا ويدعونهم إلى حفلات غداءٍ، ويحاولون إقامة علاقاتٍ شخصية معهم، وقد تكون مفيدةً للطرفين فيما بعد.
ولكن الأمور أعمق من هذا؛ يحتاج الأطباء للتعليم المستمر؛ فهم يمارسون الطب لعقودٍ بعد تركهم كلية الطب، وإذا ما نظرنا للأعوام السابقة، فسنجد أن الطب قد تغير تغيرًا جذريًّا، لنقل، منذ سبعينيات القرن الماضي؛ أي في الوقت الذي أنهى فيه الكثير من الأطباء الممارسين حاليًّا تعليمهم. وهذا التعليم باهظ التكاليف، والدولة غير مستعدة ولا راغبة في دفع تكاليفه؛ لذلك، فإن شركات الأدوية هي التي تدفع مقابل المناقشات العلمية والدورات التعليمية والمواد التدريسية وجلسات المؤتمرات، والمؤتمرات بأكملها، والتي تدعو فيها الخبراء الذين تعرف أنهم يفضلون منتجاتها الدوائية.
ويستند كل ذلك إلى قاعدةٍ من الأدلة الأكاديمية المنشورة التي غَذَّتها شركات الأدوية بعناية، من خلال النشر الانتقائي للنتائج المُرضية لها والاستخدام الحكيم لأخطاء التصميم، لكي تُعطيَ صورة متحيزة لمنتجاتها. ولكن هذه ليست هي الأدوات الوحيدة المتاحة لتلك الشركات للتأثير على ما يظهر في الدوريات الطبية؛ فهي تدفع لكُتابٍ محترفين لإنتاج أوراقٍ بحثية أكاديمية، تتماشى مع متطلباتهم التجارية، ثم تجعل الأكاديميين يضعون أسماءهم عليها. ويُعَد هذا بمنزلة إعلاناتٍ مخفية، تؤدي إلى نشر المزيد من الأبحاث الأكاديمية عن أدويتها، وبسرعةٍ أكبر. كما أن ذلك يُثري السير الذاتية للخبراء الداعمين لها، ويساعد الأطباء الأصدقاء للشركة في التمتع بالاستقلالية التي تتأتى من المنصب الجامعي.
ويمكن للشركات أيضًا أن تُعطيَ أموالًا لمجموعات دعم المرضى، إذا كانت آراء وتقييمات هذه المجموعات تساعدها على بيع المزيد من العقاقير؛ ومن ثَمَّ تمنحها مكانةً ونفوذًا وحيزًا أكبر في السوق. بالإضافة إلى كل ذلك، يمكنها أن تدفع للدوريات الأكاديمية للموافقة على نشر أوراقٍ بحثية معينة، وذلك في صورة عائد الإعلان وطلبات «إعادة الطبع». وبالاستعانة بهذه الأوراق البحثية يمكنها أن تَلفت النظر إلى الأدلة التي توضح أن علاجها فعَّال، وربما أيضًا توسع سوقه عن طريق إنتاج بحثٍ يُبيِّن أن المشكلة التي يعالجها أكثر انتشارًا مما يظن الناس.
يبدو كل هذا باهظ التكاليف، وهو بالفعل كذلك؛ فمن الصعب حساب ما يُنفق على التسويق، في مثل هذه الصناعة الواسعة، التي تكون فيها الأرقام في الغالب محلَّ جدلٍ كبير. قدَّر البعض أن صناعة الأدوية في المجمل تنفق على التسويق والترويج ضعف ما تنفقه تقريبًا على الأبحاث والتطوير. وبصرف النظر عن المقارنة بين الرقمين، فإن حقيقة أنهما متقاربان تجعلنا نتوقف قليلًا لنفكر، وهذا يستحق التأمل العميق في سياقاتٍ عديدة؛ فعلى سبيل المثال، عندما ترفض شركة أدوية السماح لبلد نامٍ بالحصول على دواءٍ جديد للإيدز بمقابلٍ معقول، وتُرجِع السبب في هذا إلى أنها تحتاج للمال الناتج من المبيعات لتمويل البحث والتطوير من أجل إنتاج أدوية إيدز أخرى جديدة للمستقبل. وبما أن البحث والتطوير يمثلان جزءًا صغيرًا من مصروفات الشركة، وبما أنها تنفق مبلغًا مشابهًا على الترويج، فإن تلك الحجة العملية والأخلاقية ليست مقنعةً إلى حدٍّ كبير.
إن معدل هذا الإنفاق مذهل في حد ذاته، إذا ما نظرنا إليه في ظل ما نتوقعه جميعًا من الطب المستند إلى أدلة؛ فنحن نتوقع أن يستخدم الناس ببساطةٍ أفضل علاجٍ يناسب حالتهم. ولأنك عندما تتخلص من الاعتقاد الذي زرعتْه صناعة الدواء بعنايةٍ في أذهاننا بأن النشاط التسويقي هذا طبيعي تمامًا، وتتوقف عن التفكير في الأدوية باعتبارها سلعًا استهلاكية مثل الملابس أو مستحضرات التجميل، ستكتشف فجأةً أن تسويق الأدوية يوجد فقط لسببٍ وحيد؛ ففي مجال الدواء، تُعَد هوية العلامات التجارية غير ذات صلة، وهناك إجابة موضوعية حقيقية على ما إذا كان دواء معين هو الذي يُرجح أن يخفف ألمَ المريض ومعاناتَه وينقذ حياته؛ لذا فإننا نستطيع القول إن التسويق يوجد لسببٍ وحيد، وهو تضليل عملية اتخاذ القرار المستندة إلى الأدلة في مجال الدواء.
كل هذا يأتي في إطار نظامٍ للطب المستند إلى أدلةٍ، مُضار بشدة بالفعل من جرَّاء التجارِب التي في الغالب تكون منخفضة الجودة ولا تصل نتائجها إلى الأطباء على النحو اللائق في أفضل الأحوال.
هذا مذهل حقًّا. والآن ندلف إلى التفاصيل.
(١) الإعلانات الموجهة للمرضى
الأطباء هم المسئولون عن اتخاذ القرار النهائي فيما يتعلق بوصف الأدوية بتوقيعهم على تذكرة العلاج، ولكن في الحقيقة إن المرضى يشاركونهم في قرار اختيار العلاج المناسب — وقرار العلاج من الأساس. وهذا بالضبط هو الوضع الذي نريده؛ ولكنه يجعل المرضى أدواتٍ للتحكم في قرارات الأطباء، من قِبل صناعة حريصة على زيادة المبيعات.
سوف نرى في هذا الفصل أن التقنيات المستخدَمة من قِبل شركات الأدوية للقيام بهذا عديدة ومتنوعة مثل ابتكار أمراضٍ ونماذجَ تفسيرية جديدة، وتمويل مجموعات دعم المرضى، وصُنع نجوم من المرضى الذين يحاربون (بمساعدةٍ حرفية من اختصاصيي علاقات عامة) ضد الحكومات التي رفضت مَنْحهم أدويةً غالية الثمن، وغير ذلك. ولكننا سنبدأ بالإعلان؛ لأن هناك معركة قائمة حاليًّا لإدخاله إلى المملكة المتحدة، ولأنه بالمقارنة بالاستراتيجيات المخفية أكثر يبدو شفافًا على نحوٍ إيجابي.
تم حظر إعلانات الأدوية المباشرة للمستهلك في كل الدول الصناعية تقريبًا منذ أربعينيات القرن العشرين، لسببٍ بسيط للغاية، هو أنها تنجح في مهمتها؛ فهي تُشوِّه سلوك الأطباء فيما يتعلق بوصف الأدوية، وذلك عن عمد، وترفع التكاليف دون داعٍ. وقد غيرت الولايات المتحدة الأمريكية ونيوزيلندا (بالإضافة إلى باكستان وكوريا الجنوبية) رأيها في بداية الثمانينيات وسمحت بإعادة هذا الشكل من التسويق المباشر. ولكن هذا لا يعني أن هذه الإعلانات لم تَعُد مشكلتنا وأنها مشكلة بلدانٍ أخرى؛ فهناك معركة مستمرة لإعادة إتاحة ذلك في دول جديدة، كما أن هذه الإعلانات تتسرب عبر الحدود الوطنية في عصر الإنترنت، وهي تكشف أيضًا عن بعض الحقائق الواضحة فيما يتعلق بفكر صناعة الأدوية.
دعونا نُلقِ نظرة على هذا العالم الغامض. عندما أصبحت الإعلانات الدوائية قانونيةً مرة أخرى في الولايات المتحدة، لم يكن مسموحًا بظهورها إلا في الشكل المطبوع؛ نظرًا لوجود شرطٍ يشترط تضمين كل معلومات الآثار الجانبية المكتوبة في نشرة الدواء. منذ عام ١٩٩٧ خُففت هذه القيود، والآن أصبح من الممكن اختصار الآثار الجانبية (فهي تُقرأ بسرعةٍ شديدة في نهاية الإعلانات التليفزيونية). وبعد هذا التغيير ارتفعت ميزانية إعلانات صناعة الأدوية السنوية من ٢٠٠ مليون دولار إلى ٣ مليارات دولار في بضع سنواتٍ فحسب. ومن أبرز الأمثلة في هذا الإطار عقَّار الفيوكس، الذي صُرف على إعلاناته ١٦١ مليون دولار، والذي سُحب من السوق بسبب مخاوف خطيرة تتعلق بإخفاء بعض بياناته، وعقَّار السيليبركس، الذي صُرف عليه ٧٨ مليون دولار، والذي كاد يُسحب من السوق لأنه يزيد النوبات القلبية.
لذلك أرسل الباحثون في الدراسة نفسها المزيد من المرضى الممثلين إلى الأطباء، ولكن هذه المرة أعطوا تاريخًا مرضيًّا واضحًا من المعاناة من «اضطراب التكيُّف»، وهو مصطلح يستخدمه بعض الناس لوصف الظاهرة الإنسانية البسيطة للشعور بالانزعاج في أعقاب حدوث شيءٍ سيئ جدًّا في حياتهم. وهذا الشعور طبيعي ومناسب للغاية، رغم أنه غير سار، كما قد يعرف أي شخص سوي من الناحية العاطفية، وأخذ أقراص لعلاجه ليس فكرة جيدة. ولكن المرضى الذين ذهبوا إلى الأطباء وأظهروا أنهم يعانون من «اضطراب التكيُّف» وطلبوا عقَّارًا معينًا لعلاجه حصلوا على ما يريدون، في ٥٠ بالمائة من الحالات، بالمقارنة ﺑ ١٠ بالمائة من المرضى الذين لم يطلبوا أي دواء. هذا هو الجانب المظلم لهذه الإعلانات. وكطبيب، كنت أندهش دومًا من الناس الذين يقولون إن الأطباء هم من يُجبِرون المرضى على تناول الأدوية؛ فالأطباء بوجهٍ عام أشخاص لطفاء، يرغبون في إسعاد الآخرين؛ فهم يُدفعون لإعطاء المرضى ما يريدون، والكثير من المرضى أُقنعوا، بطرقٍ اجتماعية عديدة في عالمهم، بأن الأدوية هي التي تحل المشاكل. وسوف أعيد صياغة ذلك من أجل شيءٍ سأتناوله لاحقًا في هذا الفصل، فأقول: إن الكثير من «الناس» يتم إقناعهم بأنهم «مرضى».
لا بأس في ذلك إذا كنا ندفع مقابل الحصول على معلوماتٍ موثوق فيها، وموضحة بعناية، ولكن الحقيقة هي أن الإعلانات حتى إذا ضُبطت على النحو اللائق (سأتناول المشاكل التي لا نهاية لها التي تحدث في هذا الإطار لاحقًا)، فإنها لا تزال تركز فقط على العقاقير والمنتجات التجارية؛ الأمر الذي يُشوِّه نظرتنا الشاملة للتدخلات الطبية؛ فأي حملةٍ رشيدة للصحة العامة تسعى لزيادة وعي الناس بطرق تقليل مخاطر مرضٍ ما أو تداعياته سوف تتطرق بالتأكيد إلى العقاقير الموصوفة لهذا المرض. ولكنها تستطيع أيضًا أن ترفع بحماسٍ مماثل درجةَ وعيهم بأشياء مثل التمرينات الرياضية والكحوليات والتدخين والنظام الغذائي الصحي وتعاطي العقاقير الترفيهية والترابط الاجتماعي وربما أيضًا الظلم الاجتماعي. وقد يُحقق أي برنامج إدماج وتوعية عام يتكلف ٣٥٠ مليون دولار — المبلغ الذي رأيناه للتوِّ يُنفَق على عقَّار الكلوبيدروجيل وحده — جانبًا كبيرًا من كل هذه الأهداف، ولكن بدلًا من ذلك، يُنفَق المال الذي يؤخذ من المرضى ومن الحكومة على الإعلانات التليفزيونية لعقَّارٍ واحد.
سوف نرى هذا النمط يتكرر: تُشوَّه إحدى الأولويات مع بيع العلاجات الفردية. ولكن أولًا علينا أن نلاحظ أن الإعلانات ليست هي الوسيلةَ الوحيدة التي يُعلن من خلالها عن العقاقير.
(٢) الاستعانة بالمشاهير في الترويج للمنتجات
الإعلانات التليفزيونية التي يُعلَن فيها صراحةً عن رُعاتها تكون في الغالب أكثر غرابةً بكثير. على الرغم من أنها موجهة للسوق الأمريكية فقط، فإنني أُشجع القُراء البريطانيين بشدةٍ حتى يحصلوا على لمحةٍ سريعة عن هذا العالم أن يبحثوا عن فيديو باري مانيلو «العودة إلى الإيقاع» على الإنترنت ويطَّلعوا عليه، والذي يُروَّج فيه لعقَّارٍ يعالج اضطرابًا في إيقاع ضربات القلب («مرحبًا، معكم باري مانيلو، وهذا «إيقاع» أغنيتي «كوباكابانا» …») بل إن إعلان المُسكن الذي أدَّاه جون بون جوفي يُعَد أكثر غرابة. وقام أنطونيو بانديراس بأداء صوت النحلة في إعلان عقَّار النازونيكس الذي أنتجتْه شركة ميرك.
كان الموضوع الأساسي لهذه التغطية الإعلامية هو أن المعهد الوطني للصحة والتميُّز الإكلينيكي ينبغي أن يوافق على استخدام العقَّار في هيئة الخدمات الصحية الوطنية. ولكن الغريب أن الحملة نُسقت قبل تقديم أي دليلٍ على فاعلية العقَّار للمعهد. بالمثل، قال وزير الصحة إن العقَّار لا بد من الموافقة عليه، ولكن مرةً أخرى قبل توافر أي بياناتٍ عن فاعليته.
تحدَّث نصف المقالات عن المشاكل التي تواجه الحصول على ترخيصٍ باستخدام العقَّار في علاج سرطان الثدي في مراحله المبكرة، ولكنها لا تكاد تَذكر أبدًا أن الشركة المصنعة، روش، تحتاج إلى أن تُقدِّم طلبًا للحصول على هذا الترخيص بنفسها، وأنها لم تفعل ذلك حتى الآن. وهاجم الكثير منها المعهد الوطني للصحة والتميُّز الإكلينيكي، لكنها لم تَذكر إطلاقًا أنه لم يكن يستطيع حتى فحص هذا العقَّار والموافقة على استخدامه على هذا النحو إلا بعد حصوله على الترخيص، وبعد أن تطلب منه الحكومة القيام بذلك.
لماذا لم يُعلَن قبلًا عن مشاركة شركة علاقات عامة تعمل لصالح شركة الأدوية؟ فيما يلي تفسير صريح بدرجةٍ غير عادية للأمر. في عام ٢٠١٠ اقترحت الحكومة البريطانية خطة تتيح للصيادلة وصف أدوية بديلة بدلًا من الأدوية التي تحمل علاماتٍ تجارية. والدواء البديل أو المكافئ، كما تعرف الآن، هو نسخة مطابقة من جزيءٍ دوائيٍّ ما، ولكنها مُصنَّعة بسعر أرخص من قِبل شركةٍ أخرى عندما تنقضي فترة براءة الاختراع الخاصة بالمخترع الأصلي. وغالبًا ما يكتب الأطباء الذين يتأثرون بإعلانات شركات الأدوية الاسم التجاري للعقَّار في التذكرة الطبية، ولا يكتبون الاسم العلمي الأصلي. وهذا القانون الجديد المقترح يتيح للصيادلة تجاهُل الأدوية صاحبة العلامات التجارية واستخدام بدائل مطابقة لها، مُصنَّعة بواسطة أي شركةٍ تبيعها بأرخص سعرٍ ممكن؛ مما يوفر لهيئة الخدمات الصحية الوطنية قدرًا هائلًا من المال، دون تعريض المرضى لأي مخاطر. وعلى الفور ظهرت رسالة اعتراض في جريدة «ذا تايمز»، مُوقَّعة من عدة مجموعاتٍ من المرضى والخبراء، وقد تلقَّت تغطيةً إيجابية في الجرائد الواسعة الانتشار. وكتبت جريدة «ذا تايمز» في أحد عناوينها الرئيسية: «خبراء يقولون: خطة التحوُّل إلى الأدوية الأرخص سوف تضر المرضى». بل إنها حتى نشرت دراسة حالة بعنوان: «مريض تسوء حالته بعد يومين من تناول بديل عقَّار السيروكسات». إلا أن مارجريت ماكارتني، الممارسة العامة التي تكتب لصالح دورية «بريتيش مديكال جورنال»، اكتشفت أن هذه الرسالة نُسِّقت وكُتبت بواسطة شركة علاقات عامة تُدعى بيرسون-مارستيلر، ودفعت لها المقابل شركة نورجين للأدوية. وكان بيتر مارتن، مدير العمليات في شركة نورجين، هو مَن وقف وراء الحملة، ولكنه لم يُوقِّع على الرسالة بنفسه. وعندما سُئل عن السبب وراء ذلك، أجاب بابتسامةٍ عريضة: «لم تكن ثَمَّةَ مؤامرة. الحقيقة الواضحة، والصادقة، هي أنني تصوَّرت أن كوني مديرًا في شركة أدوية سوف يجعل الرسالة تبدو متحيزةً ومثيرة للريبة بعض الشيء.»
مثل هذه القصص الفردية هي أساس الصحافة الطبية. ولكن بعيدًا عن الرغبة في الحديث عن «حالات شفاء إعجازية»، هناك أيضًا مشكلة أكبر وأعمق بكثير؛ إذ يميل الصحفيون، مثلنا جميعًا، إلى تفسير العالم من حولهم. لكن، في بعض الأحيان يمكن أن يكون لأحد التفسيرات البسيطة الخادعة لظاهرةٍ معقدة أثرٌ قوي جدًّا؛ فيمكن أن يشجع القارئ على قَبول علاجٍ معين، ولكنه يستطيع أيضًا أن يُغير بالكامل فهمنا الثقافي لمرضٍ ما.
(٣) أكثر من مجرد جزيئات
تناولتْ مقالة في صحيفة «نيويورك تايمز» أحد مؤسسي النظرية الكيميائية للاكتئاب قائلة: «اقترحتْ ورقة بحثية رائدة له نُشرت في عام ١٩٦٥ أن الاختلالات الكيميائية التي تحدث بنحوٍ طبيعي في المخ مسئولة بالتأكيد عن التغيرات المزاجية، ويمكن أن تعالجها الأدوية، وهي فرضية ثبتت صحتها.» وعندما تتبَّع الأكاديميان المقالة، ذكرا ما يلي: «لم يُرَد على رسائل البريد الإلكتروني [التي أرسلناها إلى الصحفي] والتي تطالبه بدليلٍ يدعم ما قاله.» وفي مقالةٍ في صحيفة «ذا تايمز» بعنوان «في الأفق عقاقير اكتئاب مُشَخَّصَة»، اقتُبست عبارة لأكاديمي يقول: «بعض المرضى المصابين بالاكتئاب الذين لديهم مستويات منخفضة جدًّا من السيروتونين يستجيبون لمثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية، التي تخفف الاكتئاب، جزئيًّا، عن طريق زيادة مستويات السيروتونين بالمخ.» وكدليل على هذا، قدم الصحفي ورقة بحثية أكاديمية عن موضوع مختلف تمامًا.
تُعَد فرضية السيروتونين الخاصة بالاكتئاب، والترويج المتحمس لها من قِبل شركات العقاقير، جزءًا من عمليةٍ أوسع يُطلق عليها «المتاجرة بالمرض»، حيث تُوسَّع الفئات التشخيصية، وتُبتكر تشخيصات جديدة تمامًا، ويُضفى الطابع المرضي على التباينات الطبيعية في التجرِبة الإنسانية، بحيث يمكن علاجها بالأدوية. ومن الأمثلة البسيطة على ذلك الانتشار الحديث لقوائم الفحص التي تُمكِّن العامة من تشخيص — أو المساعدة في تشخيص — حالات مَرضية متعددة. على سبيل المثال، في عام ٢٠١٠ أطلق موقع الويب الشهير «ويب ميد» اختبارًا جديدًا، وهو: «قَيِّم مدى إمكانية تعرُّضك للاكتئاب: هل يمكن أن تكتئب؟» كان الموقع مُموَّلًا من قِبل شركة إيلي ليلي، المُصنِّعة لعقَّار الدولوكسيتين المضاد للاكتئاب، وكان هذا معلَنًا بنحوٍ واضح في الصفحة، ومع ذلك لم يُقلل هذا من سخافة ما كان يحدث بعد ذلك.
أقل عرضة للإصابة:
ربما تكون مُعرَّضًا للإصابة باكتئابٍ حاد.
إذا كنت تفكر كثيرًا في الموت أو الانتحار، فاتصل بطبيبك أو أي شخصٍ مؤهَّل لتقديم الرعاية الصحية على الفور. وإذا كنت تحتاج للمساعدة الفورية أو تعتقد أن حالتك تمثل حالةً طبية طارئة، فاتصل ﺑ ٩١١.
•••
إذا أجبت بأنك تشعر بأربعة أو أقل من الأعراض الشائعة للاكتئاب، فعلى وجه العموم، الأشخاص الذين يمرون بحالة اكتئاب يشعرون بخمسة أعراض أو أكثر من الأعراض الشائعة للاكتئاب. ولكن كل فرد له حالته الخاصة. إذا كنت قلقًا حيال الاكتئاب، فتحدَّث مع طبيبك.
في بعض الأحيان، عند التحدُّث في هذا الموضوع أمام جمهورٍ معادٍ ينتمي إلى شركات الأدوية، كنت أُتهم بالحمائية، والرغبة في الإبقاء على سيطرة الأطباء على التشخيص؛ لذلك دعوني أُصرِّحْ برأيي بوضوحٍ في هذا الموضوع (وهذا ربما يكون متأخرًا جدًّا بالفعل). ينجح الطب نجاحًا فائقًا عندما يتعاون الأطباء مع المرضى لتحسين الصحة. في العالم المثالي، يكون المرضى والعامة مدركين ومتعاونين بنحوٍ جيد. صحيح أنه من الرائع أن يكونوا مدركين للمخاطر الحقيقية التي تُهدِّد حياتهم، وأن يكونوا على درايةٍ كافية لتجنُّب نقص التشخيص، ولكن الإفراط في التشخيص مُقلق بالدرجة نفسها.
(٤) المتاجرة بالمرض
إن هذه العملية عملية اجتماعية تُوسِّع بمقتضاها شركاتُ الأدوية حدودَ التشخيص، لتُوسِّع سوقها وتُقنع العامة بأن أي مشكلةٍ اجتماعية أو مشكلة شخصية معقَّدة هي عبارة عن مرضٍ، من أجل بيع أدويتها، لحل هذه المشكلة. في بعض الأحيان، يمكن أن تكون المتاجرة بالمرض واضحةً وشنيعة؛ ولكنها في أحيانٍ أخرى قد تكون هشَّة لدرجة أنك لا تستطيع الإمساك بها؛ لأنه على الرغم من حِيل التسويق، فهذه الأدوية يمكن أن تفيد على نحوٍ ما. دعوني أعرض عليكم أفكاري القابلة للتغيُّر حول هذا الموضوع.
ما من شكٍّ في أن التسويق يؤثر على تناول الأدوية، أو في أن الشركات تحاول ترويج آلياتٍ تفيدها وتُوسِّع أسواقها. وقد رأينا ذلك كثيرًا بالفعل، في قوائم الفحص الخاصة بالاكتئاب وقصة السيروتونين. بطبيعة الحال، يُعَد الطب النفسي مُعرَّضًا بنحوٍ خاص لآليات التسويق هذه، ولكن المشاكل تمتدُّ خارجه، لتصل إلى «المثانة غير المستقرة» وغيرها من المتلازمات. في رأيي، هذه العملية تصل إلى ذروتها في إعلانٍ لعقَّار كلوميكالم الذي يُعَد «أول دواء مُرخَّص لعلاج قلق الانفصال لدى الكلاب».
في الغالب، الأمراض الحالية كانت موجودةً منذ الأزل، ولكنها كانت محلَّ تجاهلٍ أو غيرَ شائعةٍ إلى أن جاء دواء معين فأعادها إلى الحياة. على سبيل المثال، اضطراب القلق الاجتماعي، يصل عمره إلى مائة عامٍ على الأقل، ويمكنك أن تقول إن وصف أبقراط للخجل الزائد منذ عام ٤٠٠ قبل الميلاد يصفه على نحوٍ رائع للغاية: «يتجنب هذا الشخص الظهورَ أمام الناس، بدافعٍ من الخجل والشك والرعب … فهو لا يجرؤ على مصاحبة الآخرين خوفًا من الاستغلال السيئ أو من الخزي، أو من أن يجعل نفسه عرضةً للانتقادات تلميحًا أو تصريحًا، أو من أن يُصاب بالمرض؛ وهو يظن أن الجميع يراقبونه.»
بوجهٍ عام، كان الناس الذين يعانون من هذه المشكلة «نادرين»؛ في الثمانينيات من القرن العشرين، كان انتشار هذه الحالة يتراوح بين ١ و٢ بالمائة؛ ولكن في غضون عَقدٍ واحد نُشرت تقديرات بأنها وصلت إلى ١٣ بالمائة. في عام ١٩٩٩ رُخص عقَّار الباروكستين لعلاج القلق الاجتماعي، وأطلقت شركة جلاكسو سميث كلاين حملةً دعائية له ميزانيتها ٩٠ مليون دولار (تخيل أن تكون لديك حساسية من الناس من حولك). هل من الجيد أن يتحسَّن شعور الطلاب الذين يعانون من الضغط النفسي حيال القيام بعروضٍ تقديمية في فصولهم؟ نعم. هل أريد أن يحدث هذا باستخدام أقراص؟ أعتقد أن الأمر يتوقَّف على مدى فاعلية هذه الأقراص، وعلى آثارها الجانبية. هل من الجيد أن يُصدِّق الكثير من الأشخاص الخجولين أنهم مرضى؟ حسنًا، هذا قد يُعزِّز المعتقدات السلبية عن الذات، أو يُحسِّن الاعتداد بالنفس. هذه قضايا شديدة التعقيد، نظرًا لوجود مكاسب وخسائر على كلا طرفَي المعادلة.
تظهر المشكلات نفسها في «حملات التوعية بالمرض» التي تتسم بالعدوانية الخاصة بالضعف الجنسي، أثناء تطوير عقاقير مثل الفياجرا. هذه الحالة كان الكثير من الأطباء لا يأخذونها في الغالب على محمل الجد قبل ظهور أقراصٍ لعلاجها. أعتقد أنني أُفضل أن يُعالج المرضى، مثلًا، بتقنية «التركيز الحسي»، قبل إعطائهم حبوبًا للانتصاب. علاوةً على ذلك، فإنني أُفضل لو أن هذا قد حدث منذ فترةٍ طويلة قبل اختراع الفياجرا، ولكن الحقيقة كما يلي: اختصاصيو العلاج الجنسي — رغم أن عملهم مهم للغاية — ليسوا بالروعة الكافية لأن يزيدوا وعي الناس بخدماتهم بنفس درجة صناعةٍ أرباحها ٧٠٠ مليار دولار.
تكمن الفكرة، من وجهة نظري، في أننا لا ينبغي أن نعتبر ببساطةٍ أن الخجل الزائد أو ضعف الرغبة الجنسية ليسا مشكلتين، أو حتى أنهما مشكلتان بلا حل. ولكننا نحتاج لأنْ نُعيد التأكيد على درايتنا، وإن كان ذلك من أجل الاعتداد الجماعي بالنفس، بوجود عملياتٍ تجارية خفية في خلفية المشهد تتلاعب بهذه المركبات الثقافية الجديدة.
ربما كان المثال الأفضل لتوضيح هذه الظاهرة — ظاهرة «اليد الخفية» في الثقافة الطبية — هو حالة «الاضطراب الجنسي الأنثوي». ابتُكرت هذه الحالة في تسعينيات القرن العشرين كطريقةٍ جديدة لبيع أدويةٍ مثل الفياجرا للنساء، ويمكننا تتبُّع ظهورها، ثم بعد ذلك انهيارها، على مدار العَقدين التاليين.
هل يمكننا أن نفهم أي شيءٍ من هذا الرقم الكبير المبالَغ فيه؟ حاولَت الأبحاث التالية أن تقوم بالمهمة على نحوٍ أفضل. على سبيل المثال، قارنت دراسة استقصائية أُجريت في عام ٢٠٠٧ بين المناهج المختلفة لقياس انتشار هذه المشاكل لدى أربعمائة امرأةٍ في عيادة طبيبٍ ممارس عام (وهي مجموعةٌ احتمال إصابتها بالمرض أعلى من غيرها في المجتمع ككلٍّ، ولكننا سنستمر مع الدراسة على أي حال). بالنظر بنحوٍ أوَّلي إلى الأعراض والسلوكيات التي ذكرتْها هؤلاء النساء، ثم مقارنتها بقائمة الأعراض المسجَّلة في الدليل التشخيصي «المراجعة العاشرة للتصنيف الدولي للأمراض» (آي سي دي-١٠) لمنظمة الصحة العالمية (الذي يُستخدم كمرشدٍ فقط للتشخيص، وليس كمرجعٍ أساسي أو قائمة فحص)، سنجد أن ٣٨ بالمائة من النساء كان لديهن تشخيص واحد على الأقل بمعاناتهن من مشكلةٍ جنسية. ولكنك إذا قصرت بحثك — وهو التصرف الأكثر منطقيةً — على النساء اللاتي يعتقدن أن لديهن مشكلة، فستنخفض النسبة إلى ١٨ بالمائة. وإذا قصرته أكثر — أيضًا بمنطقية — على النساء اللاتي يَرَين مشكلتهن متوسطة أو خطيرة، فستصل النسبة إلى ٦ بالمائة فقط.
أعلم أن الكثير من مجموعات الدعم غاضبة من هذه المزاعم، ونعتقد أن من المهم أن نواجهها ونوضح الحقيقة. كنت أتساءل عما إذا كنت أنت أو أي شخص آخر من مجموعتك على استعدادٍ للعمل معنا لإنتاج مقالات … تواجه الرأي الذي أُثير في دورية «بي إم جيه». وسوف ينطوي ذلك على التحدُّث مع صحفيين محددين عن الاضطراب الجنسي الأنثوي وأسبابه وطرق علاجه.
كان البرنامج التدريسي المتوافر في الموقع مُعتمَدًا من الجمعية الطبية الأمريكية، كما يحدث في الغالب، وأنا لست قلقًا مما يقوله الموقع، وإنما مما لا يقوله؛ لأنه لا يقول أي شيءٍ في الوقت الحالي؛ فقد فشلت شركة بروكتر آند جامبل في الحصول على ترخيصٍ لتسويق لصقات التستوستيرون لزيادة الرغبة الجنسية لدى النساء؛ لذلك اختفى هذا البرنامج التدريسي المُعتمَد الذي كان يبدو في الظاهر قيِّمًا من الإنترنت كله. فإذا كنا نعتقد أن الاضطراب الجنسي الأنثوي بالفعل مشكلة صحية خطيرة، تؤثر على عددٍ كبير من النساء، إذًا فهذه المواد التعليمية المجانية والتي صُرف الكثير لإنتاجها من المفترض أن تكون مصدرًا قيِّمًا. وإذا كنا نعتقد أن شركات الأدوية تُنتج هذه المصادر لتدريب الأطباء على نحوٍ أفضل، دون الرغبة في التأثير على ممارستهم، كما تدَّعي، فمن المؤكد إذًا أن نتوقع أن تظل هذه المصادر متاحةً على الإنترنت (نظرًا لأن تكاليف الإبقاء على موقع ويب، أُنشئ بتكاليف ضخمة، لا تكاد تُذكر). بدلًا من ذلك، يبدو أنه فور التأكد من أن هذا الموقع لن يجلب أي أرباح، اختفت تلك المصادر التعليمية تمامًا ولم يَعُد لها أثر. كل ذلك يقودنا إلى فكرةٍ أساسية ستتكرَّر فيما يتبقَّى من هذا الفصل، وهي أن المعلومات التي تساعد في بيع الأدوية يُركَّز عليها، بينما المعلومات التي لا تفعل ذلك لا تُعطى أي أهمية.
مع هذا، يمكننا القول إن المتاجرة بالمرض لها مزايا وعيوب؛ فربما نجد أدويةً جديدة آمنة وفعَّالة لحالاتٍ لم يظن معظمنا يومًا أنها مشاكل مَرضيَّة، وربما تُحسِّن جودة حياة الناس، بشتى الطرق. وربما كان هناك أيضًا جدل مهم حول المكان الذي تحتله تلك الأدوية على التسلسل الخاص بالعلاجات الطبية والعقاقير الترفيهية. ولكن هذه الفوائد المحتملة لها ثمن. فمن الواضح أنه من الممكن أن ينصرف انتباهنا عن أشياء مهمة بالتركيز على الأشياء التي يدفعنا المال إلى التركيز عليها. على سبيل المثال، الأسباب الشخصية والنفسية والاجتماعية المعقدة للمشاكل الجنسية عند التركيز على آليات النشاط الجنسي والأدوية، و«ضعف تدفق الدم للبظر» وتحاليل هرمونات الدم خلال أربعٍ وعشرين ساعة. يمكن أيضًا أن ندفع ثمنًا ثقافيًّا عندما نتاجر بالمرض في الحياة اليومية ونعزز نماذج اختزالية جزيئية آلية من البشر. بالمثل، وكما هي الحال مع النماذج ذات المقاس صفر، عندما نبتكر معايير مغرية جديدة للسلوك الجنسي، فإننا نخاطر بأن نجعل الأشخاص الطبيعيين تمامًا يشعرون بأنهم غير أكْفاء.
ولكن المخاطرة الأعظم هي أن نعجِز عن ملاحظة أن نماذجنا عن الإنسانية، ومعاييرنا عما هو طبيعي، تُنسَّق في هدوءٍ من قِبل صناعةٍ أرباحها ٧٠٠ مليار دولار.
(٥) مجموعات دعم المرضى
نصل الآن إلى آخر محطةٍ في عرضنا للتسويق المباشر للمرضى، وهي محطة مُحبطة وضبابية. تؤدي مجموعات دعم المرضى دورًا حيويًّا ومثيرًا للإعجاب؛ فهي تجمع المرضى معًا وتُقدِّم لهم المعلومات والدعم، وتستطيع الضغط على الجهات ذات الصلة بالنيابة عن المرضى المصابين بالحالة التي يدعمونها.
في بعض الجوانب ليس من المفاجئ أن نجد أن الكثير من مجموعات دعم المرضى مُموَّل من قِبل صناعة الأدوية — سنرى بعد قليل مدى انتشار وشفافية ذلك — لأنه في بعض القضايا، تكون رغبات هذين القطاعين متوافقةً إلى حدٍّ بعيد؛ فمجموعات دعم المرضى تريد المال والموارد، للضغط على الجهات المعنية ولدعم أفرادها بفاعلية، ويمكن أن تستفيد من المعرفة المتخصصة والخبرة التجارية. وتُقدِّم شركة الأدوية هذا، ولكنها لها احتياجاتها هي الأخرى؛ فهي تريد نشر رسائل وُدِّية عن علامتها التجارية، في ظل بيئةٍ تنظيمية ورقابية تمنع الإعلان المباشر للمرضى. كما أنها تريد أن تظهر في مظهر الكيان الكريم المسئول اجتماعيًّا، مثل أي شركةٍ أخرى، وعلينا أن ندرك أن المرض تجرِبة عاطفية إلى جانب أنه تجرِبة جسدية، والمساعدة الودية عندما تكون في أسوأ حالاتك المعنوية يمكن أن تُكسبك قدرًا كبيرًا من الولاء.
لكن بعض مصالح شركات الأدوية لا تتفق بالكامل مع مصالح المرضى، كما نعرف بالفعل؛ فشركة الأدوية قد ترغب في زيادة مبيعات منتجٍ من خلال التسويق الخفي المعتاد الذي رأيناه، ولكنها أيضًا قد تلجأ لتوسيع الحدود التشخيصية للمرض، لكي تتسع سوقها. ولديها مصلحة خاصة في «بيع» عقاقير جديدة، رغم أن هذه المنتجات، كما رأينا، هي تلك التي لا نعرف إلا أقل القليل عن مخاطرها وفوائدها للمرضى، وهي تلك الأعلى سعرًا نظرًا لنقص المعلومات بشأنها.
وهذا اكتشاف مُقلق في حد ذاته، ولكنه أيضًا يُقوِّض الغرض الأساسي من إشراك جهاتٍ خيرية مستقلة هدفها دعم المرضى في منتديات صُنع السياسات «المتعددة الأطراف»، التي تضم بالفعل أصواتًا من صناعة الأدوية تُمثِّل الصناعة بنحوٍ رسمي، ومجموعات دعم المرضى التي من المفترض أن تُمثِّل المرضى.
لكن هذا الارتباط بين أنماط التصويت والتمويل من قِبل الصناعة قد لا يكون دليلًا في حد ذاته على وجود مخالفةٍ ما؛ ففي حين أنه سيكون هناك دائمًا حالات للسلوك السيئ — أشخاص يُغيِّرون رأيهم ببساطةٍ للحصول على تمويلٍ من الصناعة — فأنا أعتقد أن هناك شيئًا آخر أكثر إثارةً للاهتمام يحدث هنا؛ فكما رأينا، يمكن أن تتداخل مصالح مجموعات دعم المرضى مع مصالح الصناعة على نحوٍ شرعي؛ لذلك ليس هناك حاجة لأن يُغيِّر الناس آراءهم بنحوٍ صريح لكي يتشوَّه صوت مجموعات دعم المرضى إجمالًا؛ إذ يمكن أن تُعطِيَ الصناعة تمويلًا ومن ثَمَّ فرصة أكبر للتعبير عن الرأي للأشخاص الذين يُعبِّرون بتلقائيةٍ عن الآراء التي تراها في صالحها. وبهذه الطريقة، يمكن أن يشعر الجميع بالرضا عن أنفسهم، في حين يظلون مشاركين في نظامٍ أشمل ينتج صورةً مُشوَّهة ومتحيِّزة لآراء المرضى. وقد يفيدنا ذلك في فهم أسباب غضب وارتباك مجموعات دعم المرضى الخيرية التي تتلقَّى تمويلًا من الصناعة إذا قلت إن آراءهم متحيزة؛ رغم أنه من الواضح أن آراءهم في المجمل متحيزة.
(٥-١) ماذا تستطيع أن تفعل؟
-
(١)
إعلانات الأدوية لا تقوم بمهمة زيادة وعي الناس حول الصحة، ويجب أن تُحظر. كما يجب أن يقاوَم امتدادها إلى أوروبا.
-
(٢)
إذا كانت شركات الأدوية تريد بالفعل المساعدة في زيادة وعي المرضى حول الصحة، يمكنها أن تدفع تبرعاتها إلى صندوقٍ مركزي مستقل يستطيع أن يعطيَ منحًا للأشخاص الذين يتمتعون بسِجل جيد من إعطاء الناس معلوماتٍ مستندةً إلى أدلة.
-
(٣)
ينبغي للمرضى والصحفيين والعامة أن يحذروا من الجهات التي تبيع لنا أمراضًا جديدة إذا كانت في الوقت نفسه تبيع علاجها.
-
(٤)
أي شركةٍ تطلق حملة توعية بمرضٍ معين يجب أن تُصرِّح في إعلاناتها بأنها تفعل ذلك لأنها تُطوِّر منتجًا يعالج هذا المرض أو تُسوق له.
-
(٥)
يجب أن تتضمَّن كل المواد التعليمية التصريح السابق نفسه.
(٦) الإعلانات الموجَّهة للأطباء
كما قد تتخيل، من المفترض أن تُراقب إعلانات العقاقير فيما يتعلق بأشياء مثل الصدق والدقة، ولكن ثَمَّةَ أسباب وجيهة لأنْ نقلق من أن هذا لا يحدث على النحو المرجو؛ ففي المملكة المتحدة، تشرف الهيئة المعنية بقواعد الممارسة الخاصة بالأدوية الموصوفة على قواعد الرقابة الذاتية الخاصة باتحاد الصناعات الدوائية البريطانية. ولمعرفة المزيد عن الأسلوب العام للإعلانات، في عام ٢٠٠٥، طلبت لجنة مختارة للصحة، وهي التي كانت تفحص الأثر الذي تُحدِثه صناعة الأدوية، من معهد التسويق الاجتماعي فحصَ عينةٍ من الإعلانات، ووجد المعهد أن الأهداف كانت متغيرة؛ ففي حين أن إعلانات الأدوية من المفترض أن تحتويَ على معلوماتٍ «موضوعية» و«واضحة»، فقد ربطت في الواقع الأدوية بصفاتٍ ترتبط أكثر بأي منتجٍ آخر مثل: «حيوي» و«مثير» و«ساحر» و«جذاب» و«رومانسي» و«حميمي» و«مريح». وأوضحت الهيئة أن «الرسائل العاطفية» لا بأس بها، إذا كانت المادة «تُقدِّم حقائق ومتوازنة».
فحص كل طالب على حدةٍ منهجَي تجربتَين، والإعلان المرتبط بكلٍّ منهما، باستخدام معايير موضوعية، مثل نظام تقييم قياسي لتقييم جودة التجارِب. طلاب الطب يتقاضَون أجرًا زهيدًا، ولكن قد لا يمكن الوثوق بهم كمُقَيِّمين؛ لذا، قيَّم كلَّ تجرِبة ما بين طالبَين وستة طلاب، وفي حالة وجود تفاوت في النتائج، تُراجَع التجرِبة بواسطة لجنةٍ مكونة من أربعة أكاديميين. وكانت النتائج محبطة للغاية؛ فنصف المزاعم المذكورة في الإعلانات فقط كانت مؤيَّدة بالتجارِب التي أشارت الإعلانات نفسها إلى أنها أدلة، ونصف التجارِب فقط كانت «عالية الجودة»، وأقل من نصف الإعلانات — في الدوريات الطبية الرائدة في العالم — كانت مرجعية مزاعمها تجارب عالية الجودة.
(٧) مندوبو شركات الأدوية
الزيارات الفردية ليست الطريقة الوحيدة التي يستخدمها مندوبو شركات الأدوية في إقناع الأطباء؛ فمن الطرق الأكثر شيوعًا — والأصعب تجنُّبًا — اللقاءات التي تتم في الاجتماعات. على سبيل المثال، تعقد معظم المستشفيات «لقاءات علمية»، يطرح فيها أحد الفرق الطبية حالة معقدة أو مهمة للمناقشة أمام باقي المستشفى. وهذا إجراء مهم جدًّا — ولا سيما بالنسبة إلى الأطباء الجدد الذين يقدمون التاريخ الطبي للمريض محل المناقشة — يحضره الجميع، بدايةً من طلاب كلية الطب حتى الأساتذة، باعتباره حدثًا تعليميًّا. بوجهٍ عام، تحدث الاجتماعات الشاملة في وقت الغداء، ويكون الطعام بجوار باب القاعة، وتكون تحت رعاية شركة أدوية، وهي التي تقدم عرضًا تقديميًّا لدقيقةٍ أو دقيقتين في البداية، أو تتخذ مكانًا خاصًّا لها داخل قاعة اللقاء يمكن لمندوبيها فيه الدخول في نقاشٍ مع الأطباء حول منتجاتها.
بعد سنواتٍ قليلة من ذلك الحدث، وبعد تحدُّثي مع مندوبي شركات أدويةٍ آخرين، اكتشفت أن هذه الدردشة لم تكن مجرد دردشةٍ ودية، بل كانت مندوبة شركة الأدوية تريد أن تعرف الأماكن التي سنعمل فيها لاحقًا حتى تمرر المعلومات التي لديها عنا للمندوبين الذين يُغطون المناطق الجديدة التي يعمل فيها كلٌّ منا. لعلك تظن أننا كنا سُذَّجًا، ولكن خلال السنوات العديدة التي حاضرت فيها الطلاب والأطباء عن كيفية التعامل مع تسويق صناعة الأدوية، في كل مرةٍ كان الأطباء الموجودون في القاعة يندهشون من هذا الاكتشاف المروِّع المتمثل في أن مندوبي شركات الأدوية الذين ظننتَ أنهم مهتمون بوظيفتك الجديدة يُدوِّنون في الحقيقة ملاحظاتٍ عما تُفكر فيه وتقوله.
بالنسبة إليَّ، توقفت عن مقابلة مندوبي شركات الأدوية بعد عامين تقريبًا من تخرُّجي. ولكن هذا لا يعني أني لا أتعثر بهم من آنٍ لآخر؛ فأنا لا أستطيع أن أَسُد أذني عندما يُقدِّمون عرضًا تقديميًّا في بداية اجتماعٍ في المكان الذي أعمل فيه، وغالبًا، ستجد من ينتظرك منهم في ممرٍّ لقسم العيادات الخارجية الذي لا يُفترض أن تجد فيه إلا طاقم العمل. بوجهٍ عام، يسمح لهم الإداريون، ولا سيما المؤقتون منهم، بالدخول. وفي بعض الأحيان قد تجد على مكتب الشخص الذي سمح لهم بالدخول باقة أنيقة من الورود عندما تنزل لسؤاله — بأهدأ صوتٍ لديك، وأنت تخطو بخطواتٍ بطيئة — عن السبب في السماح لمتطفلٍ ليس له أي علاقةٍ برعاية المرضى بالدخول للوقوف في ممرٍّ محاط بالملاحظات السِّرية عن حالات المرضى.
بالنسبة إلى الإداريين في هيئة الخدمات الصحية الوطنية، فإن أي شخصٍ يوحي مظهره بالكفاءة ويأتي في بذلةٍ أنيقة يُعطيهم انطباعًا بأنه من المفترض أن يُسمح له بالدخول إلى مكاتب الأطباء. بل إن مندوبي شركات الأدوية، أكثر من الكثير من العاملين في هذه الهيئة، يَظهرون بمظهرٍ يجعلك على يقين من أنهم آتون من مكانِ عملٍ حقيقي؛ فهم ساحرون ومتأنقون وجذابون وشديدو الاهتمام بالتفاصيل؛ فهم يتذكرون تفاصيل حول أطفالك (من خلال ملاحظاتهم عنك)، ولديهم أنواع غالية من البسكويت ووحدات ذاكرة وميضية مجانية. ومندوبو المبيعات الناجحون هم متحدثون لبقون، وقد شاهدتهم يخلبون ألباب الكثيرين.
ولكنهم أيضًا قد يَتسبَّبون في خلق النزاع والشقاق بمكرٍ ودهاء؛ فمندوبو شركات الأدوية سيَدْعون طاقم العمل كله بمكانٍ ما على الطعام والشراب، ولكن هدفهم الحقيقي الذي يريدون التأثير عليه هم الأطباء المهمون. فإذا لم يقبل هؤلاء الدعوة، فإن المندوبين لن يفعلوا ذلك ثانيةً. لقد شاهدت استشاريًّا جديدًا أثار حالةً من الاستياء والكراهية في أسبوعه الأول في عيادة خارجية بمنطقةٍ جديدة برفضه الطعام المجاني الذي يُقدِّمه مندوب شركة أدوية في الاجتماع الأسبوعي لأعضاء فريق العمل في وقت الغداء. وكما قد تتخيل في الغالب، تكون فترة التحوُّل التي أعقبت مغادرة الاستشاري القديم الذي ظل لمدةٍ طويلة في العيادة مفعمةً بالتوتر، وهي الفترة الانتقالية بين أسلوبين مختلفين للغاية. ويُعَد الاستياء بسبب عدم الحصول على الطعام المجاني الذي يُقدِّمه أشخاص يُروِّجون لمنتجاتهم نوعًا جديدًا من الضغط.
إذًا، ماذا يفعل مندوبو شركات الأدوية؟ أولًا، تكون عروضهم التقديمية متحيزة بدرجةٍ كبيرة، كما قد تتوقع. وهذا ليس مجالًا يُموَّل فيه البحث الكمي على نحوٍ جيد — ستلاحظ أن هذا أمر متكرر في هذا الجزء من الكتاب — ولكنهم بوجهٍ عام يُوزِّعون نسخًا مطبوعة من الأبحاث الأكاديمية التي توضح تجارب تدعم العقاقير التي يُروِّجون لها رغم أنهم لن يوزعوا نسخًا مطبوعة من تلك التي تعكس عدم فاعلية هذه العقاقير، لأسبابٍ واضحة بطبيعة الحالة. وهذا يغرس صورة خاطئة ومُشوَّهة لأدبيات البحث في ذاكرة الأطباء، وإذا كنت مثلي، ففي الغالب أنت لن تستطيع تذكُّر مِن أين عرفت معلومة معينة، أو كيف عرفتها؛ أنت فقط تعرفها.
كذلك، فإن لديهم طرقًا جاهزة للرد على اعتراضات الأطباء. أخبرني مندوب شركة أدوية أنه لم يرَ مطلقًا أي طبيبٍ يُقدِّم بحثًا يعارض مزاعمه، إلا إذا كان هذا البحث مُقدَّمًا من قِبل مندوب شركة أدوية منافسة. وبمجرد أن يعرف المندوبون الاعتراضات والأبحاث التي تُروَّج من قِبل المنافسين، يمكن أن يناقشوها مع قسم التسويق، ويُطوِّروا حججًا لدحضها، تُضمَّن في الأشياء التي تُوزَّع على الأطباء. وإذا أُثير اعتراض أكثر من مرة، يمكن أن يُمرَّر عبر سلسلة المندوبين ويُدرَّب كل المندوبين الذين يُروِّجون لهذا العقَّار على كيفية دحض هذه الاعتراضات الجديدة المتكررة من الأطباء على وصف العقَّار، والتي أثارتها في الأساس شركات الأدوية المنافسة.
نظرًا لأن معظم مندوبي شركات الأدوية يُغطُّون عددًا محددًا من الأطباء، ويستهدفون زيارة كلٍّ منهم كل ثلاثة أشهُر أو نحو ذلك، فإن هذا المستوى من المتابعة وتفنيد الحجج من السهل جدًّا الوصول إليه. كما أنهم يملكون وحدات ذاكرة وميضية أو عروضًا تقديمية على أجهزة آي باد تتضمَّن العلامة التجارية للشركة وكلماتٍ مختصرة عن العقَّار الذي يروجونه، ورسوم بيانية مُضللة. في بعض الأحيان تلعب هذه الرسوم الدور نفسه الذي تلعبه الجرائد والمنشورات السياسية؛ فعلى سبيل المثال، محور رأسي لا يبدأ بالصفر ويبالغ في تضخيم فارقٍ بسيط. ولكنهم في بعض الأحيان يتعاملون بذكاءٍ أكبر؛ حيث يُقدِّمون، على سبيل المثال، رسمًا بيانيًّا يوضح فارقًا ضخمًا في تخطيطٍ شريطي بين الأشخاص الذين يتناولون العقَّار الذي يُروِّج له المندوب والأشخاص الذين يتناولون علاجًا آخر، ولكن هذا «العلاج الآخر»، بعد الفحص الدقيق، يكون علاجًا سيئًا للغاية.
بالإضافة إلى ما سبق، فهم يُقدِّمون هدايا، رغم أن القوانين المتعلقة بهذا الأمر تتغير باستمرار، وتختلف من بلدٍ لآخر؛ فمنذ مايو من عام ٢٠١١، في المملكة المتحدة، وبموجب تغيير في قانون اتحاد الصناعات الدوائية البريطانية، حُظر تقديم الأقلام والأكواب والحُلي الترويجية طواعيةً. وحيث إن هذه القوانين لا تجد مقاومةً قوية، فإن حدْسي يقول إن هذه الهدايا البسيطة لا تُحقق الكثير لشركات الأدوية، كما أن لها عيبًا واضحًا، وهو أنها قد تسيء لسُمعة الطبيب؛ إذ قد ينتهي الأمر به في مكتبٍ مُغطًّى بشعارات شركة الأدوية؛ على أقلام الحبر الجاف والتقاويم ووحدات الذاكرة الوميضية — وهذا ليس مظهرًا ملائمًا بأي حالٍ من الأحوال.
على أي حال، من خبرتي الشخصية، فإن أي قوانين موجودة تُطبَّق بمرونة. منذ عامين، عندما كان من المفترض أن تكون قيمة أي هديةٍ أقل من ٦ جنيهات إسترلينية، وأن يكون لها استخدام طبي، كانت المبررات في الغالب ضعيفة (قد يحتاج الطبيب لبعض الشاي من دورق أنيق في زيارة منزلية). وما زلت لا أفهم كيف انطبق قانون الستة جنيهات الإسترلينية على أجهزة الكمبيوتر المحمولة التي وُزعت من قِبل شركة أدوية على أطباء أعرفهم، وأعرف أنهم سيقرءون هذا الكتاب (وقررت عدم ذكر أسمائهم) «للعمل على مشروعٍ واحد معًا».
الحالات التي تصل إلى النطاق العام ما هي إلا غَيض مِن فَيض؛ نظرًا لوجود القليل من الأبحاث الاستقصائية، إن وجدت؛ لذلك يعتمد الكشف عنها على اكتشاف المنافسين لها والإبلاغ عن وجود تجاوزاتٍ بها، أو على الأطباء الذين يتورَّطون شخصيًّا في سلوكيات لا أخلاقية ويُبلغون السلطات عن أنفسهم، وهذا لا يحدث كثيرًا. تُستغل الرحلات كالرحلة الموصوفة في الفقرة السابقة للتأثير على سلوكيات وصف الأدوية للأطباء الذين يفحصون مرضى مثلك، ويحصلون على رواتبهم من هيئة الخدمات الصحية الوطنية، وتُبيِّن الأدلة أنها فعَّالة في تغيير هذه السلوكيات.
وأخيرًا، إلى جانب الهدايا والسفريات ووسائل الترفيه، يُعَد مندوبو شركات الأدوية السبيلَ الذي تتدفَّق من خلاله المزايا الأخرى؛ فهم عيون الشركة وآذانها على الأرض؛ إذ يَجمعون المعلومات عن «روَّاد الرأي المؤثرين»؛ أي الأطباء الكبار أو ذوي الشخصيات الجذابة الذين يستطيعون التأثير على زملائهم؛ فيُحدَّد هؤلاء الأشخاص حتى يُمنحوا معاملةً خاصة، ولكن إذا كان منتجك يعجبهم بالفعل، فإنهم يَلقَون عنايةً خاصة، ويُخصَّص لهم المزيد من المندوبين للتواصُل معهم، ويُستغلون على النحو الأفضل، بطرقٍ سوف أناقشها بعد قليل.
تُحذف أسماء المرضى (رغم أنك إذا كنت الشخص الوحيد في مدينتك المصاب بتصلبٍ متعدد، فإنك ستجد أن الجميع يعرفون ما تتناوله من أدوية)، ولكن الأهم بالنسبة إلى مندوبي شركات الأدوية أن أسماء الأطباء لا تُحذف. وباستخدام هذه المعلومات، تستطيع الشركة بدقةٍ معرفة الأدوية التي يصفها الأطباء، وزيادة مبيعاتها، والحصول على أدلةٍ تفيد ما إذا كان الأطباء يوفون بوعودهم لمندوبي المبيعات أم لا.
هذه الوعود مهمة للغاية في عالم مندوبي شركات الأدوية؛ فهم يجلسون ويشرحون فوائد الدواء الذين يُروِّجون له، ويحاولون إقناع الطبيب بالالتزام بخطةٍ مادية. على سبيل المثال، البدء في وصف الدواء الجديد لأول خمسة مرضى يعانون من المرض ذي الصلة. ومع القليل من ضغط الأقران والنقاش المُقنِع، يمكن الحصول على وعدٍ من الطبيب بذلك، وبعد ذلك يمكن مراقبة تنفيذ هذا الوعد بالاستعانة ببيانات شركة آي إم إس؛ نتيجةً لذلك، يمكن تعديل المزايا الممنوحة للطبيب وتخطيط الضغط الذي يمكن ممارسته عليه قبل الزيارة التالية. أما بالنسبة إلى الأطباء الذين يسهل إقناعهم، فقد يسأل مندوب شركة الأدوية: «لماذا تصف هذا الدواء الأرخص، في حين أن دواءنا له آثار جانبية أقل؟ انظر إلى هذا الرسم البياني، الذي يقارن بين الدواءين، والذي يثبت ذلك.» وبالنسبة إلى الأطباء الذين يصفون مجموعةً متنوعة من الأدوية، فقد يسأل المندوب: «لماذا تصف مثل هذا المزيج العشوائي من الأدوية المضادة للاكتئاب من الفئة نفسها؟»
نظرًا لأن بيانات الوصف تشتمل أيضًا على أرقام التسجيل الطبي للأطباء، فإن من الممكن دمجها مع معلوماتٍ ديموجرافية ومهنية عنهم من قواعد بياناتٍ أخرى. وهكذا تستطيع شركات الأدوية تصفُّح إحصائيات منطقةٍ ما والبحث عن الأطباء الصغيري السن أو الأطباء الكبار المؤثرين. وهناك شركة تسمى «مديكال ماركتينج سرفيس» سوف «تُعزز» بيانات الوصف من خلال «مختارات سلوكية وجغرافية نفسية تساعدك على تحديد عملائك المحتملين المستهدفين بدقةٍ أكبر».
ماذا عن المملكة المتحدة؟ ربما يأتي اليوم الذي تُباع فيه سجلات الوصف لمن يشتري، ولكن حتى هذه اللحظة، أخبرني مندوبو شركات الأدوية أنهم يعتمدون على أنظمةٍ بشرية أكثر؛ ففي بعض الأحيان يسألون الطبيب إن كان بإمكانهم رؤية سجلات الوصف الخاصة به — يوافق كثيرون على ذلك — وإلا يذهبوا إلى المصدر: «كانت الوسيلة الأساسية هي الذهاب إلى الصيدليات القريبة وسؤالها. وسوف يتحدث إليك الصيادلة ويسمحون لك برؤية نسخةٍ من عمليات وصف الطبيب، حتى تتمكن من معرفة عدد الوصفات التي يكتبها بالتحديد.» وهذا شيء لطيف. «وأسماء المرضى بالتأكيد.»
(٧-١) ماذا تستطيع أن تفعل؟
-
(١)
لا تقابل مندوبي شركات الأدوية! إذا كنت طبيبًا، أو ممرضًا له حق وصف الدواء، أو طالبًا في كلية الطب، فلا تقابل مندوبي شركات الأدوية. تُبيِّن الأدلة أنهم سوف يؤثِّرون على ممارستك، وأنك مخطئ إذا ظننت العكس.
-
(٢)
امنع مندوبي شركات الأدوية من الدخول لعيادتك أو مستشفاك! يرفع مندوبو شركات الأدوية النفقات ويعملون ضد الطب المستند إلى أدلة. وبإمكان جميع العاملين، سواءٌ الطبيون أو غيرهم، قانونًا المطالبة بذلك في أماكن عملهم، كما يستطيع ممثلو المرضى أيضًا المطالبة بذلك. ويمكن أن تطلب من مديري المستشفيات إصدار قرارٍ بحظر دخولهم إلى مستشفياتهم (رغم أن الكثير منهم يربحون الكثير من ورائهم). وقد يكون للاستشاريين تأثير أكبر. وفي العيادات الأصغر حجمًا، يمكن أن تُواجِه اعتراضات زملائك، وتشرح لهم أسباب قلقك من هؤلاء المندوبين. وإذا كان هؤلاء المندوبون لا يمكن منعهم إلا من بعض الاجتماعات، لأسبابٍ سياسية محلية، فعليك أن تستفيد من هذه الاجتماعات؛ فبإمكانك أن تضع لافتةً توضح لمَ يكون من الأفضل عدم وجود مندوبي شركات الأدوية، وكيف تُشوِّه الضغوطُ التجارية الطبَّ المستند إلى أدلة. ويمكنك أن تشتريَ من على الإنترنت لوحات كالتي يستخدمها مندوبو شركات الأدوية للإعلان عن منتجاتهم ولتوفير معلوماتٍ عن شركاتهم، ويبلغ طولها ستة أقدام ويمكن طيها لأعلى، ثم تُلحِق بها أي ملصقٍ من تصميمك يتضمَّن الدليل على الضرر الذي يُحدِثه مندوبو شركات الأدوية في الممارسة الطبية، ولن يكلفك كل ذلك أكثر من ٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا. وإذا صنعت لافتةً جيدة تقول «لا لمندوبي شركات الأدوية»، فأرسلها إليَّ، لأتمكن من مشاركتها.
-
(٣)
شجع الناس على التصريح بكل الهدايا والعطايا التي يتلقَّونها أمام مرضاهم! إذا لم يتوقف الأطباء والممرضون والمديرون عن قَبول هذه المزايا واللقاءات، فاطلب منهم أن يُصرِّحوا علانيةً بما حصلوا عليه، سواء عبر الإنترنت أو في غرف الانتظار، في مكانٍ يسهل للمرضى وللعامة رؤيته. وبما أنهم يعتقدون أن هذه الهدايا واللقاءات ليس لها أي أثرٍ على وصفهم للأدوية، فالأحرى بهم أن يسعدوا بمشاركة هذه المعلومات مع مرضى هيئة الخدمات الصحية الوطنية الذين يدفعون لهم رواتبهم.
-
(٤)
امنع دخول مندوبي شركات الأدوية إلى كلِّيتك! إذا كنت طالبًا في كلية الطب، وكنت تعتقد، كما أظن أني أوضحت، أن مندوبي شركات الأدوية مُضرُّون، يمكنك أن تتحرك لمنعهم من الانخراط في أي أنشطةٍ تعليمية. وإذا صعب عليك ذلك، يمكنك مراقبة الأنشطة الترويجية التي تمارسها صناعة الأدوية، وتفضحها علانيةً، لتُحرِج مؤسستك التعليمية. وهذا مهم لأن الإرشادات كثيرًا ما تكون مختلفةً تمامًا عن الواقع. في إحدى كليات الطب التي دَرَّست فيها، مُنع مندوبو شركات الأدوية من دخول المستشفى على يد كبير الصيادلة الإكلينيكيين، ولكن الطلاب يقولون إن بعض الاستشاريين يتجاهلون ذلك تمامًا. وبالتعاون بين الجامعات، يمكنك أيضًا المساعدة في إنتاج بياناتٍ تُبيِّن أسوأ كليات الطب من حيث تأثير صناعة الأدوية عليها. تَذكَّر أن الصناعة تُنفِق نحو ربع دخْلها على محاولة التأثير على الأطباء، ونصف تلك المبالغ على مندوبي مبيعاتها. وهذه مبالغ ضخمة تصل إلى مليارات الجنيهات الإسترلينية التي يمكنك أن تساعد في توجيهها لأغراضٍ أخرى أكثر فائدة.
-
(٥)
أبلغ عن أي مخالفةٍ لقانون سلوكيات مندوبي شركات الأدوية للهيئة المعنية بقواعد الممارسة الخاصة بالأدوية الموصوفة؛ فعن طريق الإبلاغ عما تراه وتسمعه، يمكن أن تساعد في تحسين عملية المراقبة الذاتية.
-
(٦)
عَرِّف طلاب كلية الطب والأطباء بالتأثير الخطير الذي قد يكون لمندوبي شركات الأدوية على الممارسة الطبية. من وجهة نظري إن هذا ليس إجراءً سياسيًّا، وإنما مجرد جزء مشروع من التدريب في الطب المستند إلى أدلة. سوف يتعرَّض الأطباء للأنشطة التسويقية طوال حياتهم المهنية، والتي قد تصل إلى أربعة عقود من ممارسة الطب بعد التخرُّج في كلياتهم. ويقول معظمهم إنهم لم يحصلوا على التدريب الملائم للتعامل مع تلك الأنشطة التسويقية.74 سوف تساعدك في هذا الشأن المراجع المذكورة في هذا الكتاب، وسأكون سعيدًا إذا استخدمت هذا الكتاب كنقطة انطلاق. إذا أنتجت موادَّ تدريسيةً جيدة، فرجاءً شاركها معي ومع الآخرين.
-
(٧)
يجب تغيير التشريعات بحيث تمنع الصيادلة من مشاركة المعلومات السِّرية الخاصة بالأطباء والمرضى مع مندوبي شركات الأدوية. وهذا واضح، ويجب ضبطه. ويمكنك أن تسأل الصيدلي المحلي وتسأل طبيبك إن كان يشارك معلومات وصف الأدوية الخاصة بك مع مندوبي شركات الأدوية المحليين، فإذا كانا يفعلان ذلك، فاطلب منهما ألا يفعلا.
-
(٨)
تخلص من جميع المواد الترويجية الخاصة بشركات الأدوية التي لديك! إذا كنت تعمل في مجال الطب، وكان مكتبك مليئًا بالمواد الترويجية التي تحمل علاماتٍ تجاريةً خاصة بشركات الأدوية، فاجمع هذه الهدايا من أقلام وأكواب وتقاويم ووحدات ذاكرة وميضية وما شابه، وضعها في صندوق القُمامة، أو في متحفٍ إذا أردت.
(٨) الكُتاب الخفيون
إذا أخبرتك أن كاتي برايس لم تكتب — بالضرورة — كل كلمةٍ في سيرتها الذاتية الأكثر بيعًا، فإنك في الغالب لن تعتبر هذا كشفًا عظيمًا، ولن تعتبره أيضًا مشكلة؛ فأنت تريد قراءة كتابٍ ممتع، والجميع يعرفون أن المشاهير لا يكتبون كتبهم بأنفسهم. هذا هو تقليد ذلك النوع من الكتابات وثقافته، وهو سِر معروف للجميع.
ولكننا نتوقع أكثر بكثيرٍ من الأطباء والأكاديميين؛ فقارئ الدوريات الأكاديمية يفترض منطقيًّا أن ما يقرؤه دراسة أو مقال مراجعة أو رأي كتبه أكاديمي مستقل. ولكن هذا الأمر عارٍ من الحقيقة تمامًا؛ ففي الواقع، غالبًا ما يكتب المقالَ الأكاديمي كاتبٌ طبي وظفته شركة أدوية — على نحوٍ سري، إلى حدٍّ ما — ويوضع اسم الأكاديمي عليه لكي يُسمح بنشر المقال ولإضفاء طابع الاستقلالية والدقة العلمية عليه. وغالبًا لا يشارك هؤلاء الأكاديميون في جمع البيانات أو كتابة مسَوَّدة المقال، أو تكون مشاركتهم محدودة.
بالإضافة إلى ذلك، في حين أنك قد تفترض أن الأبحاث الأكاديمية عبارة عن مشروعاتٍ عفوية من أكاديميين مستقلين، فإنها قد تكون جزءًا من خطةٍ زمنية موضوعة بعناية للترويج لمنتجٍ خاص بشركةٍ ما؛ ومن ثَمَّ سوف تظهر أوراق بحثية قبل إطلاق عقَّارٍ جديد لتشرح بيانات دراسة مسحية متعددة الأقسام تكشف عن أن انتشارَ حالةٍ مَرضيَّة معينة أكبرُ مما كان مُتصوَّرًا من قبل، ثم تظهر أوراق بحثية أخرى لمراجعة المجال والإقرار بأن الأدوية الحالية تُعَد على نطاقٍ واسع خطيرةً وغير فعَّالة، وهكذا. وبهذه الآلية، يمكن أن يتحكم طرف خفي في المقالات الأكاديمية التي يستعين بها الأطباء لاتخاذ قراراتٍ مستنيرة — وهي الأداة الوحيدة التي يملكونها في هذا الشأن — من وراء الكواليس، لصالح أجندةٍ غير معلنة.
يحرص العاملون في صناعة الأدوية على الإشارة إلى أن المساعدة في الكتابة في بعض الأحيان يُعلَن عنها دون صخب، من خلال ملحوظةٍ صغيرة في قسم الشكر والتقدير في أسفل الورقة البحثية (وغالبًا ما يكون ذلك بخطٍّ صغير، وغالبًا ما يكون بذكر اسم شركةٍ فحسب وليس أفرادًا بعينهم). ولا يستطيع العثور على هذا إلا مَن يعرفون كيفية البحث عنه — فهل كنت تعرف أنت؟ — وفي أحيانٍ كثيرة جدًّا لا يتم هذا الإعلان من الأساس. علاوةً على ذلك، حتى إذا انتبه بعض القراء إلى وجود مساعدةٍ في الكتابة من خلال هذه الملاحظات، فإن آثارها السلبية الكثيرة الأخرى على الأدبيات والمهن لا تزال قائمة، كما سنرى.
إذًا، ما مدى شيوع كتابة الأوراق البحثية الأكاديمية من قِبل شخصٍ غير الشخص المذكور ﮐ «مؤلف» لها؟ كما هي الحال مع معظم الأنشطة المشبوهة، من الصعب أن تجمع بياناتٍ واضحة؛ فالفكرة الأساسية وراء وجود كاتبٍ خفيٍّ هي أن يكون خفيًّا عن الجمهور، والأكاديميون وصناعة الأدوية بوجهٍ عام شديدو الخجل من مناقشة هذا الأمر بصراحة. ولكن من خلال مزيجٍ من الوثائق المُسرَّبة والاستبيانات المتحفظة التي تَعِد بعدم ذكر أسماء المشاركين فيها، جُمعت عدة تقديرات.
نظرًا لمعرفة الباحثين أن معدل الرد عليهم من المرجَّح أن يكون منخفضًا، فقد وعدوا في رسالة البريد الإلكتروني التي أرسلوها في البداية بأنهم سيتعاملون مع كل الردود بسِريةٍ تامة. واللافت للنظر أنهم حصلوا بالفعل على ردودٍ من أكثر من ثُلثَي الأشخاص الذين تواصلوا معهم، وقد ضُمنت ٦٣٠ مقالة في الدراسة. وبينت الردود أن ٨ بالمائة من مجموع المقالات ذكرتْ بصراحةٍ ووضوحٍ أنها من إعداد كاتبٍ خفي. (وعلاوةً على هذه الثماني بالمائة، صرَّحت ٦ بالمائة من المقالات أيضًا بالحصول على مساعدة في الكتابة من قِبل كُتاب آخرين لم تُذكر أسماؤهم، في قسم الشكر والتقدير بالورقة البحثية، بنحوٍ مخفي في النهاية، بحيث لا يَعثر على هذا التصريح إلا مَن يبحث عنه ويعرف قبلًا المكان الذي يوجد فيه.)
إنَّ كَون نسبة الثماني بالمائة للكتابة الخفية تبدو لك منخفضةً أو مرتفعةً أمرٌ يرجع لرأيك الشخصي، إلا أن لدينا ما يكفي من الأسباب لنعتقد أن هذا الرقم أقل بكثيرٍ من الواقع؛ فمن ناحية، هذه الدراسة تتناول بعض أبرز الدوريات في العالم؛ ومن ثَمَّ قد تكون المعايير المتَّبَعة أعلى. ومن ناحيةٍ أخرى، تعتمد الدراسة على بيانات الإبلاغ الذاتي. فإذا تواصل معك شخص غريب لا تعرف عنه شيئًا، وطلب منك أن تعترف بسلوكٍ ضد الأخلاق والمجتمع قد ينسف مستقبلك المهني برُمَّته، في رسالةٍ على البريد الإلكتروني الخاص بعملك، فإنك قد تتردَّد قليلًا في الاعتراف؛ حيث إنك لن تثق في وعود شخصٍ لم تسمع عنه من قبلُ ولم تقابله إطلاقًا بعدم ذكر اسمك، والأولى لك أن تضع في اعتبارك العواقب الوخيمة الحقيقية والمنتظرة جرَّاء الاعتراف بكل شيء؛ لذلك فإن الأشخاص الذين ردوا على الرسالة ربما يكونون قد أنكروا كذبًا التورُّط في الاستعانة بكاتبٍ خفي. وهناك أسباب وجيهة تجعلنا نعتقد أن الثلاثين بالمائة من مؤلفي الأبحاث الذين رفضوا المشاركة في الدراسة كانوا في الغالب متورطين في الاستعانة بكُتَّابٍ خارجيين. وإذا كنت مهتمًّا بمتابعة الاتجاهات عبر الزمن، فستجد أن مقارنة هذه الدراسة بأخرى مشابهةٍ أُجريت في عام ١٩٩٦ كشفت عن انخفاض نسبة الاستعانة بكاتبٍ خفي بمعدل الثلث؛ وقد يكون ذلك انخفاضًا حقيقيًّا، ولكنه قد يعكس فقط تغيرًا في شعور الناس بالخجل من الاعتراف بالاستعانة بكاتبٍ خفي؛ والحقيقة أن نسبة الثماني بالمائة من مجموع المقالات ما زالت مشكلة كبيرة جدًّا.
يجدر بنا أن نتمهل قليلًا لنفكر في الأسباب التي تجعلنا نلجأ إلى كاتب خفي؛ فأنت إذا رأيت ورقةً بحثية أكاديمية تصف دراسة علمية جديدة صمَّمها وأجراها وكتبها موظفون في شركة أدوية، فسوف تُقلل على الأرجح من أهمية النتائج التي توصلت إليها. على الأقل ستدق في ذهنك أجراس الإنذار، وسوف تقلق أكثر من المعتاد عما إذا كانت ثَمَّةَ بيانات مفقودة، أو إذا كان ثَمَّةَ تأكيد متحيِّز على نتائجَ بعينها. وإذا كنت تقرأ مقالة رأي تشرح أسباب تفضيل دواءٍ جديد على دواءٍ قديم، ورأيت أن كاتب هذه المقالة شخص يعمل في الشركة التي تُنتج هذا الدواء الجديد، فلا بد أنك ستسخر من المقالة ومحتواها، وتغمغم في نفسك بأنها مجرد مقالةٍ ترويجية، وتتساءل عن السبب في وضعها داخل دوريةٍ أكاديمية.
في هذا السياق، ليس من الصعب فهم اللغة والاستراتيجيات والنوايا الخاصة بالأشخاص المنتجين لهذه الأوراق البحثية. بوجهٍ عام، سوف تشارك «شركة تعليم وتواصل طبي» منذ وقتٍ مبكر في عملية البحث، للمساعدة في وضع برنامجٍ كامل للمقالات الأكاديمية المزعومة المتعلقة بتسويق دواءٍ ما. يعني هذا أنها تضع الأساس، كما شاهدنا بالفعل، لإنتاج أوراقٍ بحثية لإثبات أن الحالة المَرضية التي يتم علاجها أكثر شيوعًا مما كنا نتصوَّر، وهكذا. كما أنها سوف تبحث البيانات الكمية المتوافرة من كل الدراسات، لترى كيف يمكنها تقسيمها. إن مُخطِّط النشر الجيد سوف يساعد في تحديد طرق تجعل من الممكن إنتاج أكثر من ورقةٍ بحثية من كل جزءٍ من البحث؛ مما يخلق مجموعةً أوسع من الفرص الترويجية.
هذا لا يعني أن الكاتب المحترف سوف يرى كل البيانات. في واقع الأمر، إن من الميزات الإضافية لهذا النوع من العمل — من وجهة نظر شركة الأدوية — أن الكاتب في الغالب لن يرى سوى الجداول والنتائج التي أعدَّها بالفعل أحد إحصائيي الشركة، وهي مُصمَّمة بحيث تُوصِّل معلومةً معينة. وبطبيعة الحال هذا جانب من جوانب اختلاف إنتاج الورقة البحثية بواسطة موظفي شركة الأدوية عن المسار الطبيعي للعمل الأكاديمي.
في هذه المرحلة من العمل، قد تحدث المناقشة بين شركة الأدوية ووكالة الكتابة الطبية التجارية فقط. وبعد وضع خطة، وتحديد النقاط الرئيسية للمقالات، يشرع الكيانان في تحديد الأكاديميين الذين يمكن أن يضعوا أسماءهم على الأوراق البحثية. وبالنسبة إلى التجارِب أو الأبحاث، قد يكون هناك أكاديميون مشاركون فيها بالفعل. أما بالنسبة إلى المقالات الافتتاحية أو مقالات المراجعة أو مقالات الرأي، فقد تُحدَّد نقاطها الأساسية وربما أيضًا تُكتب مسَوَّدتها دون تدخُّل الأكاديمي. بعد ذلك تُسلم للأكاديمي ليضع بعض تعليقاته عليها، والأهم من ذلك ليضع عليها اسمه ووظيفته الأساسية كمؤلف وضامن للعمل.
إن كتابة الأوراق البحثية الأكاديمية عمل شاق وطويل بالنسبة إلى المحاضرين والأساتذة الذين يقومون به فعلًا بأنفسهم. أولًا، عليك أن تراجع أدبيات مجالٍ معين بالكامل، وتتجنَّب عمليات الحذف المربكة، وتكتب مقدمة مترابطة لبحثك تصف الجهد الذي بُذل من قبلُ في هذا المجال. وهذه بالطبع فرصة ذهبية لتأطير المجال. بعد ذلك، إذا كنت تعرض بحثًا، فعليك أن تقوم بالتجرِبة المطلوبة — وهو ما يمكن أن يستغرق منك وقتًا طويلًا — وتتخطى كل العقبات البيروقراطية، ولجان الأخلاقيات الطبية، وتنسق عملية جمع البيانات، وغير ذلك. وأخيرًا، عليك أن تجعل البيانات في حالةٍ تسمح بتحليلها وتبحث عن الأخطاء والأمور المكرَّرة وتحذفها، وتُجريَ التحليل، ثم تنشئ الجداول (وهي عملية تحتاج لوقتٍ وجهدٍ كبيرين). قبل هذا، عليك أن تُقرِّر الجداول التي يجب إنشاؤها، والنتائج التي يجب التركيز عليها، وما إلى ذلك. بعد كل هذا، عليك أن تضع قسمًا للمناقشة تُناقش فيه النتائج ونقاط قوة وضعف طرق البحث، وهكذا. وحتى بالنسبة إلى مقالات الرأي البسيطة ومقالات المراجعة العادية، يجب أن تجد الفكرة، والوقت، في المقام الأول.
بعد كتابة الورقة البحثية، يبدأ الرعب. الزملاء العديدون الذين ستُوضع أسماؤهم على الورقة سوف تكون لهم تعليقات واقتراحات وتعديلات بسيطة. كل هذه الأشياء سوف تأتي في أوقاتٍ عشوائية مختلفة على البريد الإلكتروني، ويجب الحصول على موافقة الجميع على اقتراحات الجميع. ثم تمرُّ كل الأوراق البحثية بعدة مسَوَّدات، متشابهة إلى حدٍّ مدهش، ولن تتأكد أبدًا من أن شخصًا قد وضع جملةً غير منطقيةٍ قد لا تنتبه لها بالقراءة السريعة؛ لذلك ستُضطر آسفًا إلى أن تراجع كل الورقة — وتعيد مراجعتها — بمنتهى الدقة وبنحوٍ متكرر.
وأخيرًا، تأتي مرحلة التسليم، وهي مرحلة معقَّدة للغاية. كل دوريةٍ أكاديمية لها متطلبات مختلفة؛ فكل واحدةٍ تريد المراجع بتنسيقٍ مختلف؛ يريدون الجداول في مستندٍ منفصل أو في أسفل الورقة البحثية، أو يضعون قيدًا على عدد الكلمات، أو يطالبونك بالالتزام بعدم استخدام كلمة «هذا» للإشارة إلى الجملة السابقة مباشرة، رغم أنها طريقة طبيعية جدًّا لاستخدام اللغة، وهكذا.
بسبب كل هذا لا يُنتج الأكاديميون عددًا كبيرًا من الأوراق البحثية كل سنة، رغم أن أداءهم يُقاس بِناءً على عدد الأوراق التي يُنتجونها، ومدى جودتها؛ ولهذا السبب بالتحديد، يجب أن ترتاب ولو قليلًا في أي أكاديميٍّ يعمل في مجال الطب وينشر الكثير من الأوراق البحثية، وفي الوقت نفسه يعمل بمستشفًى ويكشف على المرضى.
لذلك تُعَد المساعدة المهنية، في هذه العملية الشاقة، ميزةً كبرى؛ ولهذا السبب يُعَد انتقاء الأكاديمي أو الطبيب الذي يقبل وضع اسمه على الأوراق البحثية دون أن يكون له إسهام كبير في وضعها أو ما يسمى ﺑ «المؤلف الضيف»، ويستفيد من عمل الكاتب المحترف؛ عمليةً معقدة ومهمة؛ فهو لا يُنتقى عشوائيًّا؛ فكما سنرى، تحتفظ شركات الأدوية بقائمةٍ تُدرِج فيها «رواد الرأي المؤثِّرين»، والأكاديميين والأطباء المؤثرين في مجالاتهم، أو في منطقتهم المحلية، والمُتَقَبِّلين لها أو لأدويتها.
تُعَد العلاقة بين رواد الرأي المؤثِّرين وشركة الأدوية علاقةَ تبادُل منفعة، من نواحٍ عديدة من الصعب ملاحظتها في بادئ الأمر؛ فشركة الأدوية تستطيع بالطبع إعطاء انطباعٍ زائف باستقلالية ورقةٍ بحثية صممتها وكتبتها بكفاءةٍ إذا ما وُضع عليها اسم أكاديمي مستقل، وبالطبع يحصل الأكاديمي على مقابلٍ مادي. (ألم أذكر ذلك من قبل؟ بعض الأكاديميين يتلقَّوْن «مكافأةً شرفية» من شركة الأدوية مقابل وضع أسمائهم على الأوراق البحثية.) ولكن هناك مزايا أخرى خفية.
يضيف الأكاديمي دراسة أخرى إلى سيرته الذاتية، دون بذل جهدٍ كبير؛ ومن ثَمَّ يتحسن وضعه الأكاديمي. كذلك فإن فرصة اعتباره من رواد الرأي المؤثرين في مجاله في المستقبل تزيد بنحوٍ ملحوظ — وهذا شيء عظيم بالنسبة إلى الشركة أيضًا؛ نظرًا لأنه سيصبُّ في مصلحتها في النهاية بما أنه يناصرها — كما أن فرصة تَرقِّيه في جامعته تزيد أيضًا؛ فالمحاضر المبتدئ الذي يتمتع بسِجلٍّ حافل من الدراسات المنشورة في دورياتٍ أكاديمية من المرجَّح جدًّا أن يترقَّى ويصبح محاضرًا كبيرًا، ثم أستاذًا مساعدًا، ثم أستاذًا. وبهذه الطريقة يحصل الأكاديميون الطموحون على ميزةٍ مختلفة، تكافئ في أهميتها المال، ويَدينون بها لشركة الأدوية. الأهم من ذلك كله أن رواد الرأي المؤثرين، والذين يملكون آراءً تفيد الشركة وتدعمها، يصعد نجمهم أكثر ويصبحون أكثر أهميةً وتأثيرًا.
لهذا السبب، حتى عند التصريح بالمساعدة في الكتابة، بخطٍّ صغير، في قسم الشكر والتقدير في نهاية الورقة البحثية الأكاديمية (وهو شيء ما زال لا يحدث بنحوٍ دائم، كما سبق أن رأينا)، فهذا لا يكفي. أولًا، لأن هذا لا يزال يُضلل القراء، الذين يتوقعون أن يكون مؤلف الورقة البحثية الأكاديمية هو الشخص الذي كتبها، وربما لا يعرفون كيفية البحث عن هذا التنبيه الصغير. وثانيًا، هذا التصريح الصغير لا يُعالج إطلاقًا التشويه الذي يحدث في المسار المهني الأكاديمي.
وضعت شركة ليلي نُصب عينيها هدف جعْل عقَّار زيبركسا «العقَّار الأكثر بيعًا في التاريخ لعلاج الأمراض العصبية والنفسية»، وناقشت رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بها استخدام كُتاب خفيين لتقديمه على نحوٍ إيجابي. قال أحد أعضاء فريق التسويق للعقَّار: «اكتملت الورقة البحثية التي من المفترض أن تُنشر بملحق دورية «بروجرس إن نيورولوجي آند سيكايتري» وأُرسلت إلى الدورية لإخضاعها لمراجعة الأقران»، ثم أضاف: «لقد كتبنا هذه المقالة سِرًّا ثم اتفقنا مع الدكتور حداد ليصوغ نسختها النهائية.»
ثم تحدثت عن كيفية التحايل على حقيقة أن العقَّار لم يُرخَّص بعد:
ثم ألحقت مخططًا عامًّا يمكن استخدامه كدليلٍ لكتابة المقالات (لأنه، ربما يكون هناك الكثير من المقالات المشابهة في هذا الجانب من خطة النشر، التي تُكتب بواسطة أشخاصٍ مختلفين في بلادٍ مختلفة):
بعد ذلك ناقشت اختيار «مؤلف» مناسب:
لذا، فالشخص الذي يُجري دراسة، ويحلل البيانات، ويكتب الورقة البحثية، ويرسلها إلى دوريةٍ لنشرها، وربما أيضًا يكتب الكتب الدراسية الطبية التي تدرسها؛ قد لا يكون هو الشخص الذي تتخيله.
نتيجة لكل ذلك، كما رأينا، يتمتع روَّاد الرأي المؤثرون الذين يؤيدون أدوية الصناعة بسِيَر ذاتية متألقة ومكانة أكاديمية كبيرة؛ مما يجعلهم يُضْفون على الأدوية التي يفضلونها المزيد من الوجاهة. والأدبيات الأكاديمية مفعمة بأوراق المناقشة المكررة وغير المنهجية التي تُعَد مطبوعاتٍ ترويجيةً مقنعة وليست إسهاماتٍ أكاديميةً حقيقية. وهي أيضًا مُشوَّهة بالمنشورات التي تُعيد على نحوٍ متكررٍ تأطيرَ العلاجات بطرقٍ تُعجب الصناعة. هذا يعني أن الأكاديميين العاملين في المجالات التجارية الخاصة بالأدوية، والتي تتضمَّن أدويةً جديدة، حتى إن لم يكونوا يُروِّجون لأدويةٍ بعينها، يتمتعون بأهميةٍ أكبر مقارنةً بهؤلاء الذين ليس لديهم كُتاب محترفون يؤدُّون عنهم الأعمال المرهقة؛ ومن ثَمَّ فإن الأكاديميين الذين يدرسون العوامل الاجتماعية أو تغييرات أسلوب الحياة أو الآثار الجانبية أو الأدوية التي انتهت فترة براءة اختراعها تقل مكانتهم.
مما لا شك فيه أننا عندما ننظر إلى العلاجات الطبية التي يمكن أن تضر ضررًا بالغًا، بقدر ما تكون مفيدة، فمن المهم جدًّا أن تتمتع كل معلوماتنا بالموثوقية والشفافية. ولكنَّ ثَمَّةَ بُعدًا أخلاقيًّا آخر، غالبًا ما يتم تجاهله.
في هذه الأيام، في معظم الجامعات، نحن نرسل مستندًا طويلًا تهديديًّا إلى كل الطلاب الجامعيين، شارحين لهم فيه كيف أن كل فقرةٍ في كل مقالٍ أو بحثٍ سيُقدِّمونه ستخضع للفحص من قِبل برنامجٍ اسمه «تيرن إت إن»، وهو برنامج طُوِّر بمبالغ طائلة للكشف عن السرقات العلمية. هذا البرنامج واسع الانتشار، وتزداد حجم قاعدته المعرفية كل سنة لأنه يُضيف كل مشروعات الطلاب، وكل صفحات الويكيبيديا، وكل المقالات الأكاديمية، وأي شيءٍ آخر يمكن أن يجده على الإنترنت، لكي يكتشف الغشاشين. وفي كل عام، في كل جامعة، يُضبط الطلاب الذين يتلقَّوْن مساعدة خارجية غير مُعلَنة؛ وفي كل عام يُعاقَب الطلاب بخصم درجاتٍ منهم وإعطائهم تقدير «راسب» في دوراتٍ دراسية مُعينة. وفي بعض الأحيان يُفصلون كليةً من الدراسة؛ مما يترك علامةً سوداء على أمانتهم العلمية في سِيرهم الذاتية للأبد.
مع ذلك، لا يرقى إلى علمي عقاب أي أكاديمي في أي مكانٍ في العالم لوضع اسمه على ورقةٍ أكاديمية كتبها بدلًا منه كاتبٍ خفي. وهذا رغم كل ما نعرفه عن استشراء هذا النشاط اللاأخلاقي، ورغم وجود فضائح محددة لا تُعَد ولا تُحصى في جميع أنحاء العالم عليها أدلة واضحة تَورَّط فيها أساتذة ومحاضرون بعينهم، ورغم أن هذه الجريمة تصل في الكثير من الحالات إلى نفس درجة خطورة جريمة السرقة العلمية البسيطة التي يرتكبها الطلاب.
لم يُعاقَب أي واحدٍ منهم، بل على العكس، كانوا يحصلون على مناصبَ تدريسيةٍ أعلى.
في الواقع، غالبًا لا تُكتب أسماء المؤلفين الذين ينتمون إلى الصناعة على الإطلاق، ويُكتفى بتقديم الشكر لشركةٍ ما في نهاية الورقة البحثية على تقديمها المساعدة التحريرية. وحتى هذا، لا يحدث في الكثير من الأوقات بطبيعة الحال. ولكن أيَّ أكاديمي مستجد يقوم بالإسهام نفسه الذي يقوم به الكثير من الكُتاب الطبيين التجاريين — يحدد النقاط الأساسية ويراجع الأدبيات ويكتب المسَوَّدة الأولى ويقرر أفضل طريقةٍ لتقديم البيانات ويَصوغ الكلمات — سوف يظهر اسمه على الورقة البحثية، في بعض الأحيان، كالمؤلف الرئيسي. ما نراه هنا هو ازدواجية واضحة في المعايير؛ فالشخص الذي يقرأ الورقة الأكاديمية يتوقَّع أن يكون مؤلفوها هم الأشخاص الذين قاموا بالبحث وكتبوا الورقة البحثية؛ هذا هو الوضع الطبيعي، وهذا هو السبب الذي سيجعل الكُتاب الطبيين وشركات الأدوية يفعلون كل ما بوسعهم لكيلا تظهر أسماء موظفيهم على الأوراق البحثية. إنه ليس تصرفًا عرَضيًّا، وليس استثناءً بأي حالٍ من الأحوال. إنهم لا يريدون أسماء الكُتاب الطبيين التجاريين على الأبحاث لأنهم يعرفون أن هذا يثير الشكوك.
هل يوجد حل لهذه المشكلة؟ نعم، يوجد: هناك نظام يُطلق عليه «قائمة المساهمين»؛ حيث يُذكر ببساطةٍ الإسهامُ الذي قام به كل شخصٍ في نهاية الورقة البحثية: «صمم فلان الدراسة، وكتب فلان المسَوَّدة الأولى، وقام فلان بالتحليل الإحصائي»، وهكذا. بعيدًا عن أي شيءٍ آخر، يمكن أن يساعد مثل هذا النظام في تحسين الصراعات الداخلية المحبطة داخل فرق العمل حول ترتيب ظهور الأسماء على الأعمال التي يقومون بها. وهذا النظام غير شائع، وينبغي أن نُعمِّمه.
إذا كنتُ أبدو لك نافد الصبر حول أيٍّ من جوانب هذا الأمر، فهذا لأنني بالفعل كذلك؛ فأنا أحب أن أتحدث مع الأشخاص الذين يخالفونني الرأي، كي أحاول تغييرَ سلوكهم، وأفهم دوافعهم على نحوٍ أفضل؛ لذا فأنا أتحدث إلى جموعٍ من الصحفيين العلميين عن المشاكل في الصحافة العلمية، وإلى جموعٍ من اختصاصيي المعالجة المثلية عن عدم جدوى هذه المعالجة، وإلى جموعٍ من شركات الأدوية الكبيرة عن الأشياء السيئة التي يفعلونها. لقد تحدثت إلى أعضاء الجمعية الدولية للعاملين في مجال المطبوعات الطبية ثلاث مرات حتى الآن. وفي كل مرة، وأثناء عرض مخاوفي، كانوا يسشيطون غضبًا (اعتدت على ذلك؛ ولهذا السبب أحرص على التحدُّث بأدبٍ شديد، إلا إذا كان العكس سيثير جوًّا من المرح).
إنهم يُصرُّون على أن كل شيءٍ قد تغيَّر، وعلى أن الكتابة الخفية الصريحة — دون وضع أي تلميحاتٍ مخفية للقارئ — أصبحت شيئًا من الماضي. ويؤكدون على أن قواعدهم المهنية قد تغيرت في العامين الأخيرين. ولكن ما يقلقني، بعد مشاهدة كمٍّ كبير من القواعد التي تُكسر وتُتجاهل علنًا، هو أنه من الصعب الالتزام الجدي بأي مجموعةٍ من القواعد المثالية طواعيةً. وما يهم حقًّا هو الواقع الذي يحدث، وما يُقوِّض ادِّعاءهم بتغيُّر كل شيءٍ الآن هو عدم مشاركة أي شخصٍ من هذه الجمعية في كشف أي مخالفات (رغم أن الكثيرين منهم أخبروني بنحوٍ شخصي أنهم على درايةٍ بممارسات خاطئة ما زالت تتم حتى اليوم). وكما رأينا، فإن هذه القواعد الجديدة ليست مفيدةً بدرجةٍ كبيرة؛ فالكاتب الطبي ما زال بإمكانه وضع مخطط الورقة البحثية والمسَوَّدة الأولى والمسَوَّدات الوسيطة والمسَوَّدة الأخيرة، دون أي مشكلةٍ على الإطلاق، كما أن اللغة المستخدَمة لوصف العملية كلها مستفزة بنحوٍ غريب؛ إذ تفترض — دون تفكير — أن البيانات ملك الشركة، وأنها «ستشاركها» مع الأكاديمي.
فهم يتجاهلون حقيقة أنه حتى إذا كانت هذه القواعد حقيقية، فإنها لن تحل مسألة التأثير الذي يتركه عملهم على الأدبيات، وإعطاء وزن وقيمة أكبر للرسائل التي تدفع الشركاتُ مقابلَ نشرها. ويتجاهلون تأثير المساعدة في الكتابة على المسار المهني الأكاديمي؛ حيث إن الأشخاص الأكثر قَبولًا لمساعدة صناعة الأدوية هم للمفارقة الأكثر ترقِّيًا في السُّلم الأكاديمي؛ مما يمنحهم مظهر الاستقلال.
ولكن الأكثر من هذا أنه حتى إذا كنا نعتقد أن كل شيءٍ قد تغيَّر فجأةً الآن، كما يدَّعون، وكما يزعم دائمًا كل من تَعرَّض للنقد في هذا الكتاب — وسوف يستغرق الأمر نصف عَقدٍ على الأقل حتى نستطيع التأكد من صحة كلامهم — فلا أحد من الأعضاء القدامى في مجتمع الكتابة الطبية التجارية ذكر بوضوحٍ ولو مرةً سببَ قيامه بالأشياء المذكورة أعلاه بضميرٍ مرتاح. هناك أشخاص في محيطنا دفعوا لأكاديميين كي يضعوا أسماءهم على أوراقٍ بحثية ليس لهم أي علاقةٍ بها، كتبها كُتاب خفيون سِرًّا، وهم على علم تام بما يفعلونه، وبأسباب القيام به وبتأثيره المتوقع على من يقرأه من الأطباء. هذه هي الأنشطة العادية والمعتادة في صناعة الأدوية؛ ولذلك، فإن وجود مجموعةٍ جديدة من القواعد تتسم بالضعف وعدم الإلزام قدَّمها أشخاص لم يشتركوا ولو مرةً واحدة في فضْح أي مخالفة — كما لم يُقدِّموا اعتذارًا صريحًا قط عن مخالفةٍ قاموا بها — لا يُمثِّل بالنسبة إليَّ أي دليلٍ على أن الأمور قد تغيرت.
(٨-١) ماذا تستطيع أن تفعل؟
-
(١)
حاوِل جعْل جامعتك تضع قواعد حاسمة وواضحة تحظر على الأكاديميين المشاركة في أيٍّ من أنشطة الكتابة الخفية. وإذا كنت طالبًا، فاربط بين تلك القواعد وفحوص السرقة الأدبية التي يخضع لها عملك.
-
(٢)
اضغط لإدخال التغييرات التالية في كل الدوريات الأكاديمية التي تعمل معها:
-
ذِكر جميع المساهمين في إنتاج كل ورقةٍ بحثية في نهايتها، بما في ذلك تفاصيل الشخص الذي بدأ فكرتها.
-
التصريح الكامل بالمبالغ التي دُفعت لأي شركة كتابة طبية تجارية، عن كل ورقةٍ بحثية، داخل الورقة، والتصريح بالجهة التي دفعت.
-
جعْل كل شخصٍ قدَّم إسهامًا بارزًا في الورقة البحثية يظهر كمؤلفٍ للورقة، وليس من فريق «المساعدة التحريرية».
-
-
(٣)
عليك زيادة الوعي بقضية الكتابة الخفية، والحرص على أن يدرك جميع من تعرفهم أن الأشخاص الذين تظهر أسماؤهم على الأوراق البحثية الأكاديمية قد لا يكون لهم إسهام حقيقي في كتابتها.
-
(٤)
إذا كنت تُدرِّس لطلاب كلية الطب، فاحرص على أن يدركوا هذا السلوك غير الأمين المنتشر بين الشخصيات المعروفة في الأدبيات الطبية الأكاديمية.
-
(٥)
إذا كنت تعرف زملاء قَبِلوا أن تُوضع أسماؤهم على أبحاثٍ لم يشاركوا في وضعها، فناقش مدى أخلاقية هذا العمل معهم.
-
(٦)
إذا كنت طبيبًا أو أكاديميًّا، فاضغط على الكلية الملكية أو الرابطة الأكاديمية التي تنتمي إليها لكي تضع قواعدَ حاسمةً تمنع المشاركة في الكتابة الخفية.
(٩) الدوريات الأكاديمية
نحن نضع ثقةً كبيرة في الدوريات الأكاديمية؛ لأنها تُمثِّل القنوات التي نعرف من خلالها الأبحاث العلمية الجديدة. ونفترض أنها تقبل المقالات العلمية التي تستحق النشر. ونفترض أنها تقوم بفحوصٍ أساسية فيما يتعلق بدقة المقالات (رغم أننا رأينا أنها لا تمنع التحليلات المضللة لبيانات التجارِب المنشورة). ونفترض أن أكبر الدوريات وأكثرها شهرة — التي يقرؤها الكثيرون بانتظام — تأخذ المقالات الأفضل.
ولكن هذا تفكير ساذج؛ ففي الواقع تُعَد النظم التي تستخدمها الدوريات في اختيار المقالات هشةً ومن السهل استغلالها.
أولًا، بطبيعة الحال، توجد نقاط ضعفٍ متأصلة في تلك النظم؛ فهناك قدر كبير من اللبس لدى العامة — ولدى الكثير من الأطباء أيضًا — فيما يتعلق بالمعنى الحقيقي للمقالات الخاضعة ﻟ«مراجعة الأقران». لتبسيط الأمر لأقصى درجة، عندما تُسلم ورقةً بحثية لدورية، يرسلها المحرر لعددٍ من الأكاديميين الذين يعرف أنهم مهتمون بحقلٍ معين. هؤلاء المراجعون لا يتقاضَوْن أجرًا على المراجعة، ويؤدون هذا العمل لصالح المجتمع الأكاديمي. وهم يقرءون الورقة البحثية، ويصلون إلى حُكمٍ بشأن ما إذا كانت تُعَد بحثًا يستحق النشر ودراسةً أُجريت بكفاءةٍ وعُرضت على نحوٍ جيد، وما إذا كانت الاستنتاجات التي تصل إليها تتفق بوجهٍ عام مع نتائجها.
ومثل هذه الأحكام تكون ذاتيةً ومنقوصة؛ إذ تختلف المعايير اختلافًا رهيبًا من دوريةٍ لأخرى، كما أن هناك فرصةً مواتية لإلحاق الضرر بالمنافسين والأعداء؛ لأن معظم تعليقات المراجعين تكون دون اسم. مع ذلك، علينا أن نعرف أن المراجعين في الغالب لا يكونون مجهولين بالدرجة الكافية؛ إذ إن تعليقًا مثل «هذه الورقة غير مقبولة لأنها لا تستشهد بعمل تشانسر وآخرين في المقدمة» يدل دلالةً واضحة على أن البروفيسور تشانسر بنفسه قد راجع هذه الورقة. على أي حال، كثيرًا ما تأخذ الدوريات الجيدة أوراقًا بحثية ليست ممتازة، بحجة أنها تحتوي في نتائجها على شيءٍ له بعض الأهمية العلمية. إذًا فالأدبيات الأكاديمية من البيئات التي ينتشر فيها مبدأ «الشراء على مسئولية الشاري»، حيث يجب أن يحكم القراء ذوو الخبرة على الأوراق البحثية، ولا يمكنك ببساطةٍ أن تقول: «قرأت هذه المعلومة في ورقةٍ بحثية تمت مراجعتها باستخدام أسلوب مراجعة الأقران؛ ومن ثَمَّ فهي معلومة حقيقية.»
ثم هناك تضارُب المصالح الواضح. هذه المشكلة تُناقَش حاليًّا علانيةً بالنسبة إلى الأكاديميين — المنح التي تُقدِّمها لهم صناعة الأدوية والدخْل الذي يحصلون عليه منها — ويُلزِم محررو الدوريات كلَّ عالِم بالتصريح بما له من مصالح مالية عندما ينشر ورقةً بحثية. ولكن المحررين أنفسهم الذين يفرضون هذه القاعدة على من ينشر في دورياتٍ يُعفُون أنفسهم، في الغالب، من العملية نفسها. هذا غريب؛ إذ تبلغ أرباح صناعة الأدوية عالميًّا ٧٠٠ مليار دولار، وهي تشتري مساحاتٍ إعلانيةً كبيرة في الدوريات الأكاديمية، وهذا يُمثِّل في الغالب أكبر مصادر دخْل هذه الدوريات، وذلك كما يعرف المحررون جيدًا. من بعض النواحي، إذا ما أمعنَّا النظر في هذا الأمر، فسنجد أن من الغريب ألا تأخذ الدوريات إعلاناتٍ إلا من شركات الأدوية (ومراكز الأشعة من حينٍ لآخر)؛ فأسعار الإعلانات في دورية «جيه إيه إم إيه» أقل من تلك الخاصة بمجلة «فوج» مع وضع التوزيع في الاعتبار (٣٠٠ ألف نسخة في مقابل مليون نسخة)، والأطباء يشترون سياراتٍ وهواتفَ ذكيةً مثل أي شخصٍ آخر. ولكن الدوريات تُحب أن تبدوَ بالمظهر الجاد الجدير بالعلماء، وهي تحاول منذ فترة إقناع الحكومة بأن إعلانات شركات الأدوية محتوًى تعليمي؛ ومن ثَمَّ يجب أن تُعفى من الضرائب. ولعلك تتذكر مدى صحة كون هذه الإعلانات تعليميةً من مناقشتنا السابقة التي وردت في هذا الفصل لمدى شيوع تقديم هذه الإعلانات لادِّعاءاتٍ لا يدعمها أي دليل.
لتقليل احتمال أن يؤثر هذا المصدر الهام للدخل على قرارات نشر المقالات، عادةً ما تزعم الدوريات أنها تُنتج أنظمةً تفصل بين مسئولي التحرير ومسئولي الإعلانات. ولكن للأسف الشديد هذه الأنظمة تُخترق بمنتهى السهولة.
تلقيت الآن ردًّا من مُراجعٍ ثالث لمقالتكم المتعلقة بالإريثروبويتين، الذي أوصى أيضًا بنشر المقالة … ولكن للأسف الشديد رفض قسم التسويق لدينا نشر المقالة.
كان حدْسك صحيحًا عندما تكهَّنت بأن نشر مقالتك لن يكون في واقع الأمر مقبولًا من بعض الدوائر … والظاهر أنها تتجاوز ما يستطيع قسم التسويق لدينا قَبوله. فأرجو أن تعرف أنني بذلت قُصارى جهدي؛ لأنني مؤمن تمامًا بأن الآراء المعارِضة يجب أن تُمنح مساحةً للتعبير عن نفسها، ولا سيما في البيئة الطبية، وخصوصًا بعد أن تتخطى عملية مراجعة الأقران. أنا آسف حقًّا.
الإعلانات ليست الوسيلة الوحيدة لتمويل الدوريات الأكاديمية من خلال شركات الأدوية؛ فهناك العديد من الوسائل الأخرى، التي بعضها لا يكون ظاهرًا على الفور؛ فكثيرًا ما تنتج الدوريات «ملاحق»، وهي عبارة عن طبعاتٍ إضافية خارج العمل الطبيعي للدورية. وفي الغالب تكون هذه الملاحق تحت رعاية شركة أدوية، وتعتمد على العروض التقديمية التي تُقدَّم في أحد المؤتمرات أو الأحداث التي ترعاها، ويكون لها معايير علمية أدنى بكثيرٍ من تلك المتبَعة في الدورية نفسها.
هل توجد أي أدلةٍ تُبيِّن أن الدوريات من المرجَّح أن تنشر الدراسات التي تُموِّلها صناعة الأدوية، في حالة المقارنة العادلة؟
يقيس الأكاديميون مكانة أي دورية، سواءٌ كان ذلك صحيحًا أو خاطئًا، عن طريق «معامل التأثير» الخاصة بها: وهو مؤشر مدى إمكانية «الاستشهاد» بالأوراق البحثية التي تُنشر في هذه الدورية، في المتوسط، أو «الإشارة» إليها من قِبل الأوراق البحثية الأخرى المنشورة في دورياتٍ أخرى. كان متوسط معامل تأثير الدوريات للدراسات الاثنتين والتسعين المُموَّلة من قِبل الحكومة ٣٫٧٤، وارتفع على نحوٍ كبير ليصل بالنسبة إلى الدراسات الاثنتين والخمسين التي موَّلتها الصناعة كليًّا أو جزئيًّا إلى ٨٫٧٨؛ وهذا يعني أن الدراسات التي تُموِّلها صناعة الأدوية كان من المرجَّح أكثر أن تُنشر في الدوريات الأكبر والأعلى مكانة.
هذا اكتشاف مهم، نظرًا لعدم وجود تفسيرٍ آخر له؛ فلم يكن هناك اختلاف في الدقة المنهجية أو في الجودة بين الأبحاث التي تُموِّلها الحكومة والأبحاث التي تُموِّلها الصناعة. ولم يكن هناك اختلاف في حجم العينات المستخدَمة في الدراسات. وليس هناك اختلاف في الأماكن التي يرسل الباحثون المقالات إليها لنشرها؛ فالكل يريد أن ينشر في الدوريات الكبيرة المشهورة ويتجه إليها أولًا. وإذا رفضت، فإنهم يُجرِّبون الدوريات الأقل شهرة، إلى أن توافق دورية على نشر المقال. ومن الممكن أن الباحثين المُموَّلين من قِبل صناعة الأدوية كانوا أكثر إصرارًا أو أكثر جرأة؛ وربما أنهم عندما رُفضوا من قِبل دوريةٍ كبيرة، قدَّموا مقالاتهم لدورياتٍ أخرى مساوية لها في المكانة. وربما استطاعوا أن يفعلوا ذلك بسرعةٍ أكبر من هؤلاء الذين لم يحصلوا على تمويلٍ من الصناعة، لأنهم كانوا يتمتعون بمساعدةٍ إدارية من كُتابٍ محترفين للتعامل مع البيروقراطية المرهقة لنظام التقديم الخاص بكل دورية، وتحمَّلوا التأخير الطويل في النشر الناجم عن هذه الاستراتيجية. أو ربما أن الدراسات المُموَّلة من الصناعة مفضلة ببساطةٍ من قِبل المحررين.
أيًّا كان الوضع، فالنشر في دوريةٍ ذات معامل تأثير عالٍ يُعَد ميزةً كبيرة، لعدة أسباب؛ أولًا: يمنحك مكانةً أعلى ويدل ضمنًا على أن بحثك ذو جودةٍ أعلى. ثانيًا: الأوراق البحثية التي تُنشر في دورياتٍ كبيرة يزداد احتمال قراءتها. وكما سبق أن رأينا، تُعَد نظم نشر المعرفة التي نستخدمها مخصصةً لأغراضٍ معينة وعتيقة، وتستند إلى منصاتٍ عمرها قرون، حيث يُقدَّم فيها العلم في صورة مقال، ويُطبع على الورق، دون آليةٍ واضحة لتوصيل المعلومة المناسبة إلى الطبيب المناسب في الوقت المناسب. وفي عالمٍ يتسم فيه البناء المعلوماتي الطبي بالتصدُّع الشديد، يُعَد مجرد الوصول إلى القارئ ميزةً كبيرة جدًّا.
يقودنا ذلك إلى نتيجةٍ نهائية محزنة؛ ففي الطب، المظاهر مهمة؛ فمظهر دراسة مستقلة، ومظهر الكثير من الأوراق البحثية الفردية التي تقول جميعًا الشيء نفسه، يمكن أن يمثل دليلًا وجيهًا على صحة ما ورد بها في عقول الأطباء المشغولين الذين يصفون الأدوية. وقد رأينا كيف يمكن أن تُكتب الأوراق البحثية الأكاديمية الفردية بواسطة كاتبٍ خفي. ولكن في عام ٢٠٠٩ كشفت دعوى قضائية في أستراليا تورطتْ فيها شركة ميرك عن لعبةٍ أكثر غرابة.
كانت إلزفير، وهي دار نشر أكاديمية دولية محترمة، تُنتج، بالنيابة عن شركة ميرك، نطاقًا كاملًا من الدوريات، كمشروعاتٍ إعلانية لهذه الشركة وحدها. هذه المطبوعات كانت تبدو مثل الدوريات الأكاديمية، وتُقدَّم كدوريات أكاديمية، وتُنشر بواسطة دار نشر الدوريات الأكاديمية إلزفير، وتضم مقالاتٍ أكاديمية. ولكنها كانت تضم مقالاتٍ معادةً طباعتُها فقط أو ملخصاتٍ لمقالات أخرى، كلها تقريبًا تتناول أدوية شركة ميرك. على سبيل المثال، في العدد الثاني من دورية «أوستراليجن جورنال أوف بون آند جوينت مديسين» كانت تسع مقالات من التسع والعشرين مقالة عن عقَّار الفيوكس الذي تُنتجه شركة ميرك، واثنتا عشرة مقالة من المقالات الباقية عن الفوساماكس، وهو عقَّار آخر تُنتجه شركة ميرك. وقدمت كل هذه المقالات استنتاجاتٍ إيجابية، وكان بعضها غريبًا، بما في ذلك مقالة مراجعة تضمَّنت مرجعين فقط.
إلى جانب «الدوريات» المتخصصة، أنتجت إلزفير دوريةً تستهدف أطباء الأسرة، والتي كانت تُرسَل إلى كافة الأطباء الممارسين في أستراليا. مرةً أخرى، بدت هذه الدوريات مثل الدوريات الأكاديمية، ولكنها في الحقيقة لم تكن سوى مادةٍ ترويجية لمنتجات شركةٍ واحدة.
كما رأينا، ووفقًا للتقديرات، تستغرق قراءة آلاف المقالات الأكاديمية ذات الصلة بمجال الممارسة العامة فقط ستمائة ساعة شهريًّا؛ لذلك يكتفي الأطباء بتصفُّح المقالات سريعًا، أو يأخذون طرقًا مختصرة، ويعتمدون على الملخصات، أو يقومون بما هو أسوأ. العواقب الواضحة والمتوقَّعة لهذه الدوريات التي كانت تنشرها ميرك — ولكل وسائل التشويه الأخرى التي شاهدناها، بدايةً من الإعلانات، ومندوبي شركات الأدوية، وحتى الكتابة الخفية، وغيرها من وسائل التشويه — هي زرع صورة مضللة للأبحاث التي أُجريت على هذه الأدوية في ذاكرة الأطباء.
يُنفَق ما يصل إلى ربع عوائد صناعة الأدوية على التسويق، وهو مبلغ يكاد يقترب من المبلغ الذي يُنفَق على البحث والتطوير، وكل هذا يأتي من الأموال التي ندفعها مقابل الأدوية. نحن ندفع فرقَ سعرٍ كبيرًا للغاية، بحيث يمكن إنفاق عشرات المليارات من الجنيهات الإسترلينية كل سنةٍ لإنتاج مواد تسويقية تُربك الأطباء فعليًّا، وتُقوِّض دعائم الطب المستند إلى أدلة. ولا يسعنا إلا أن نقول إن هذا وضعٌ غاية في الغرابة.
(٩-١) ما الذي يمكن عمله؟
-
(١)
ينبغي أن تُعلِن الدوريات عن كل عوائد الإعلانات التي تحصل عليها سنويًّا من كل شركة أدويةٍ على حِدَة، وفي كل إصدارٍ منها.
-
(٢)
ينبغي أن تُعلِن الدوريات عن عدد جميع طلبات إعادة الطباعة بأثرٍ رجعي لكل الأوراق البحثية في نهاية كل عام، مُبيِّنة الدخْل الناتج من كلٍّ منها. وبالنسبة إلى كل ورقةٍ جديدة خاصة بشركة أدوية، يجب أن تُصرِّح بالمبلغ الذي حصلتْ عليه قبل ذلك مقابل طلبات إعادة الطباعة الخاصة بهذه الشركة (ويجب التصريح بأي طلبات إعادة طباعة قبل النشر في المقالات، على الرغم من أن تنفيذ مثل هذه الرقابة، حسب تصوُّري، قد يُقلل عدد طلبات إعادة الطباعة قبل النشر).
-
(٣)
ينبغي أن يُفصِح المحررون دون ذكر أسمائهم عن كل الحالات التي مُورس فيها الضغط عليهم لأسبابٍ تجارية.
-
(٤)
ينبغي أن يُعلِن المحررون وكبار مسئولي الدوريات عن أي تضارُب مصالح، وعن مصادر تمويلهم إذا كانوا أكاديميين، وما إلى ذلك.
-
(٥)
ينبغي إجراء المزيد من الأبحاث لفحص ما إذا كان الدخل الناتج عن الإعلانات وعن إعادة الطباعة له تأثير على قَبول الدوريات للأوراق البحثية.
(١٠) الأنشطة التعليمية التي تُقدِّمها صناعة الأدوية
في بداية هذا الفصل، طرحتُ لك خاطرة لعلها قد أثارت الرعب لديك، وهي أن معظم الأطباء الكبار الذين يعملون اليوم تخرَّجوا في ستينيات القرن الماضي. أما طلاب الطب اليوم فسوف يتخرجون وهم في عمر الرابعة والعشرين، ويعملون لمدة خمسة عقود. وعندما تكون في كلية الطب، يخبرونك بالعلاجات الأفضل في المحاضرات والكتب الدراسية، ثم يختبرونك فيها. وبعد سنواتٍ قليلة أنت لا تزال تخضع لاختباراتٍ متخصصة، وتتدرب في عالَمٍ آمِن ومحدود، مع أشخاصٍ أذكياء يُدرِّسون لك بطريقةٍ تفاعلية. ثم فجأة، تصبح وحدك، تُشخِّص الأمراض للمرضى وتؤدي دورك بمفردك. وتجد أن عالم الدواء يتغير من حولك دون أن تشعر، على مدار عقود؛ فتُبتكر فئات جديدة كاملة من العقاقير، وتظهر طرق جديدة بالكامل لتشخيص الأمراض، وأيضًا أمراض جديدة تمامًا. ولكن لا أحد يضع لك اختبارًا، ولا أحد يعطيك قائمةً بما ينبغي أن تقرأ، ولا يخبرك أستاذك بما يجب عمله وكيفية عمله. ستجد نفسك وحيدًا.
الأطباء في حاجةٍ دائمة إلى معرفة الأدوية الجديدة، ولكننا نتركهم يتعرَّفون عليها بأنفسهم. والتعليم المهني الخاص باهظ التكاليف — حيث يتكلف مئات أو آلاف الجنيهات الإسترلينية مقابل كل دورةٍ دراسية — لذلك يميل الأفراد إلى عدم دفع تكاليفه بأنفسهم. وأيضًا الدولة لا ترغب في تحمُّل تكاليفه؛ لذلك تتولى صناعة الأدوية دفع تكاليفه.
تنفق وزارة الصحة بضعة ملايين من الجنيهات الإسترلينية سنويًّا لتوفير معلوماتٍ مستقلة عن الأدوية للأطباء. وتُنفِق صناعة الأدوية عشرات المليارات لتوفير معلوماتٍ متحيزة عنها. ويؤدي ذلك إلى موقفٍ غريب: تعليم الأطباء المستمر يُموَّل، بنحوٍ شبه حصري، من قِبل صناعة الأدوية التي يشترون منتجاتها بالمال العام، والتي ثبت مرارًا وتكرارًا تضليلها لهم.
في الواقع، في المملكة المتحدة، يُجبَر الأطباء حاليًّا على جمع نقاط التعليم الطبي المستمر، التي تُحسب كل عام. ولكن قُيِّد هذا منذ التغييرات التي حدثت في المجلس الطبي العام بسبب ممارس عام اسمه هارولد شيبمان، اكتُشف أنه سفاح، يقتل السيدات العجائز بإعطائهن جرعاتٍ زائدةً من المورفين. وفيما يُشبه لعبة غريبة من التداعيات، أدَّى وضع مجموعةٍ من الضوابط الجديدة، صُممت لمنع الأطباء من قتل الناس، في الحقيقة إلى إيقاع الأطباء فريسةً للنشاط الترويجي الباهظ التكلفة الذي ترعاه صناعة الأدوية؛ حيث يُضلَّلون بشأن فوائد الأدوية الغالية الثمن؛ مما يؤدي في النهاية إلى الإضرار بالمرضى.
والتصميم الأساسي للأنشطة التعليمية التي تُقدِّمها صناعة الأدوية للأطباء بسيط؛ يُحدَّد الأطباء المناصرون بالفعل لأدوية شركةٍ معينة من قِبل مندوبي هذه الشركة المحليين، ثم يُمنحون منصةً للتعبير عن رأيهم هذا. وتفصيلًا، يمكن أن تأخذ هذه العملية أشكالًا مختلفة؛ ففي بعض الأحيان تدفع الشركة من أجل قيام طبيبها المفضَّل بالحديث أمام غيره من الأطباء المحليين. وإذا ثبتت كفاءته في هذا الشأن، فإنها تدفع له مقابل الحديث أمام أطباء آخرين أكثر بُعدًا. وإذا كان الطبيب كبيرًا بدرجةٍ معقولة، أو مؤثرًا، أو يتمتع بسِجلٍّ أكاديمي مُشرِّف، فإنها تدفع له مقابل الذهاب إلى المؤتمرات، أو إعطاء محاضرات حول العالم. وفي بعض الأحيان تكون هذه المحاضرات جزءًا من جلسات المؤتمرات، ولكن في أحيانٍ أخرى تكون عبارة عن نشاطٍ منفصل تمامًا من أنشطة الصناعة، له طابع مخيف وغامض.
في الواقع، يجدر بنا أن نذكر أن «المؤتمر الطبي» قد يظنه معظم الناس في الصناعات الأخرى «مَعرضًا تجاريًّا»، ولعل من الغريب ألا نُطلق عليه ذلك الآن في الطب من بعض الجوانب؛ فتعج الرَّدهة المؤدية إلى قاعة المحاضرة بالأكشاك الترويجية التي توزع فيها منتجات لطيفة، وباللافتات الضخمة المبهجة الألوان التي تعلن عن منتجاتٍ مختلفة، وبمندوبي شركات الأدوية الجذابين الذين يظهرون في طريقك من حيث لا تدري ليدخلوا معك في نقاشٍ حول منتجاتهم. وهذا بالضبط ما تبدو عليه المعارض التجارية، رغم أنه من السهل في بعض الأحيان ألا ننتبه إلى العلامات الدالة على ذلك.
مؤخرًا وجدت نفسي آكل بعض السلمون في مؤتمرٍ مُمِل للأطباء في كارديف، بالخارج قُرب اللافتات الأكاديمية. كان السلمون رائعًا، ولكنني لاحظت تدريجيًّا أنني أقف وآكل في منطقةٍ منفصلة مؤقتًا نوعًا ما، يدل عليها تغيير في لون السجادة، وبعض اللافتات الترويجية ذات الألوان المبهجة. اقتربتْ مني سيدة جذابة مبتسمة ترتدي بذلة، وسألتني عن مكان عملي، وما إذا كنت أتعامل مع مرضى قد يستخدمون عقَّار الشركة التي تعمل فيها؛ وعندئذٍ فقط اكتشفت صاحب الطعام الذي كان في فمي. كان الطعام مخصصًا لأشخاصٍ يحضرون بعض المحاضرات الخاصة، التي تُموِّلها شركة أدوية، في جلسةٍ موازية، ويتحدث فيها متحدثو الشركة المختارون. لم يكن ثَمَّةَ أي دراما، ولا وقاحة؛ حيث كانت مندوبة الشركة سعيدةً بالدردشة معي، وكان الطعام حقًّا رائعًا. كل ما هنالك أنها أرادت معلومات الاتصال الخاصة بي.
المتحدثون المختارون للحديث في هذه الأحداث هم «رواد الرأي المؤثرون» الذين تحدَّثنا عنهم من قبل، وهذا مشهد غريب، ليس فقط للجمهور، ولكن أيضًا لرواد الرأي المؤثرين أنفسهم؛ فلا أحد مضطر لأن يُغير وجهة نظره مقابل المال، في صورةٍ صريحة للفساد، رغم أن هذا ممكن الحدوث. في الأغلب الأعم هؤلاء الأشخاص يقولون ببساطةٍ رأيَهم الفعلي في الدواء. ولكن الآراء المتحيزة للصناعة تُمنَح منصة، وميكروفونًا، وعارض شرائح جيدًا؛ في حين أن الآراء الأقل تحيُّزًا للصناعة لا تُقدَّم لها المساعدة للتعبير عن نفسها. بهذه الطريقة، وكذلك بإخفاء النتائج السلبية كما ذكرنا، تُرسم صورة متحيِّزة للآراء والأدلة الإجمالية، ولكن دون أن يفعل أي طبيب أو أكاديمي أيَّ شيءٍ يمكن اعتباره مخالفًا للأخلاقيات المهنية.
لديَّ أصدقاء مُقرَّبون، في نفس عمري تقريبًا، ينتهون لتوِّهم من أعمال البحث ويَشرعون في أولى وظائفهم الاستشارية في مجال الطب، ويُلقُون خطاباتٍ مدفوعة الأجر كروَّاد رأيٍ مؤثرين. بالنسبة إليهم، إنهم لا يقومون بذلك من أجل المال؛ لأن المقابل الذي يحصلون عليه في الغالب ليس أفضل من العمل يومًا إضافيًّا بأجر طبيب نائب. كما لا يقومون به من أجل المزايا الأخرى، مثل التدريب المتميِّز في أماكن أنيقة على كيفية كتابة وتقديم عرض تقديمي ناجح. سوف أقتبس كلام صديقةٍ سابقة لي هنا، وآسف إذا كان هذا يبدو غريبًا، ولكنني طبيب؛ لذا يحدث هذا النوع من النشاط من جانب روَّاد الرأي المؤثرين أمامي طوال الوقت. وفيما يلي ما قالته لي هذه الصديقة: «لا تهمني كل تلك المزايا. أنا أفعل ذلك لأنني أقضي بعض الوقت مع عمالقة مجالي، سواءٌ في غرفة المتحدثين بمؤتمرٍ ما، أو في فندقٍ أتعلم فيه كيفية عمل عرضٍ تقديمي جيد. أنا في السادسة والثلاثين من عمري، وأتناول الشراب مع الناس الذين يكتبون الإرشادات الإكلينيكية! وليست هناك أي وسيلةٍ أخرى أفعل بها ذلك، إلا إذا كنت من روَّاد الرأي المؤثرين.»
هذا ليس أمرًا غير معتاد؛ ففي أغلب الأحيان، تكون في المؤتمرات حفلة مسائية فخمة تُنظمها شركة ما، ولا يُدْعى لتلك الحفلة إلا الأشخاص الذين تعرفهم الشركة وتحبهم. وإذا ذهبت إلى هذه الحفلة، فستتمكن من مقابلة أشخاصٍ مهمين ومؤثرين؛ وإذا لم تذهب، فلن تقابل أحدًا، وهذا يمكن أن يكون له تأثير ضارٌّ على المؤتمرات بنحوٍ عام؛ لأنه يؤدي إلى فصل الشخصيات الأهم بعيدًا عن الباقين. لديَّ صديق يشكو من أنه منذ ابتكار الأمصال للمرض الذي يعمل عليه (والذي يوجد غالبًا في العالم النامي) أصبحت المؤتمرات تُعقد فجأةً في فنادق أغلى بكثير، ومعظم الشخصيات المهمة تختفي في الأمسيات لتذهب إلى مطاعمَ باهظةٍ على حساب شركات الأدوية. أما في السابق — هل أنا متفائل أكثر من اللازم هنا؟ — فكانوا يقضون أمسياتهم مع صغار الباحثين.
هل هاتان الدراستان كاملتان؟ لا، ولكن فقط لأن بهما عيبًا واحدًا؛ فقد أُجريتا منذ خمسةٍ وعشرين عامًا، ولم يُجرِ أحد دراسةً مشابهة منذ ذلك الحين.
هذا أمر غريب بالنسبة إليَّ. لقد ثبت أن الأطباء الكبار في المهنة كانوا يتلقَّون أموالًا لإلقاء خطابات، يمكننا وصفها بأنها عمليًّا خطابات ترويجية، تحت قناع النشاط التعليمي، وثبت أيضًا أن هذا المحتوى المشوَّه غيَّر سلوك وصف الأدوية، وبعد ذلك، لم نُحرك ساكنًا ولم نفعل أي شيءٍ حيال هذا الموضوع ولم نتابع دراسته. تقول الصناعة، دون أي دليل، إن كل شيءٍ قد تغير. ولا أرى أي سببٍ على الإطلاق يجعلني أُصدق هذا الادعاء. هل ستدفع شركة أدوية حقًّا لأحد رواد الرأي المؤثرين لكي يتجول في أنحاء البلد، بتكلفةٍ عالية جدًّا، ليخبر الأطباء أن دواءً رخيصًا ما انتهت فترة براءة اختراعه هو العلاج الأفضل والأكثر فاعليةً مثلًا لضغط الدم المرتفع؟ إن الصناعة تَعتبر هذا النشاط ترويجيًّا؛ ولهذا السبب تدعمه وتُموِّله. في أي دائرةٍ طبية تقريبًا، ستجد حكاياتٍ عن استشاريين محليين متحيزين يُلقُون خطاباتٍ كهذه ويُفضلون على الدوام أدوية شركةٍ معينة. وترْك هؤلاء دون رقابة، ودون حتى إجراء بحثٍ يتبنَّى أسلوب «التسوُّق الخفي» لمراقبة المحتوى الذي يخبرون به الأطباء؛ فضيحة جماعية.
كانت اللجنة واضحةً على نحوٍ مزْرٍ فيما يتعلق بسبب تمويل الصناعة لهذا النشاط؛ حيث قالت: «يبدو من غير المحتمل أن تُنفِق تلك الشركات المحنَّكة مثل هذه المبالغ الضخمة على مشروعٍ ما دون أن تنتظر أن تستعيده من خلال زيادة المبيعات. تؤكد التقارير الصحفية والمستندات المسرَّبة في القضايا والإجراءات التنفيذية الجبرية هذه الشكوك في بعض الحالات.»
عندما راجع مجلس اعتماد التعليم الطبي المستمر الشركات الموفرة للتعليم الطبي المستمر التي اعتمدها المجلس، وجد أن واحدةً من كل أربع شركات كانت تخرق إرشاداته علانيةً — ليس بطرقٍ ماكرة ومخفية، وإنما بوقاحةٍ دون حتى أن تحاول إخفاء الأمر. هذه الشركات كانت مُعتمَدة بالكامل لتدرس للأطباء، وسمحت للرعاة بالتأثير على القرارات المتعلقة بالمحتوى، وسمحت للرعاة باختيار المتحدثين، وعجزت عن الكشف عن تضاربات المصالح، واستخدمت على نحوٍ متكرر الاسم التجاري لعقَّار الشركة الراعية بدلًا من أن تذكر المادة الفعَّالة مستبعدةً كل العقاقير الأخرى المحتوية على المادة الفعالة نفسها، وغير ذلك. ولكن هذا ليس مفاجئًا، بل إنه من السخيف أن نتخيل عدم وقوع مثل هذه الانتهاكات؛ ففي سوقٍ كبيرة وتنافُسية وغالية، ما الشركات التي ستحصل على فُرصٍ أكبر للعمل من بين الشركات المقدمة للتعليم الطبي المستمر: هل هي تلك التي تحترم القواعد؟ أم تلك التي تُعطي لشركة الأدوية مرادها؟
الخلاصة هي أن الأطباء حول العالم — فيما عدا النرويج — يتعلمون أيُّ الأدوية أفضل بواسطة شركات الأدوية نفسها؛ فمحتوى الأنشطة التعليمية التي يخضعون لها متحيِّز؛ ولهذا السبب فقط تدفع الشركات تكلفتها. ولعقودٍ طويلة كان هناك من يقف ضد هذه الأنشطة ويُبيِّن تحيُّز محتواها ويكتب تقارير ضدها ويوضح أن الإرشادات غير الحاسمة تعجز عن ضبطها؛ ومع ذلك فهذه الأنشطة لا تزال قائمةً ومستمرة.
(١٠-١) ماذا تستطيع أن تفعل؟
-
(١)
اسأل طبيبك إن كان يقبل الأنشطة التعليمية المُموَّلة من صناعة الأدوية.
-
(٢)
إذا كنت طبيبًا، يمكنك أن ترفض قَبول أي أنشطةٍ تعليمية مُموَّلة من صناعة الأدوية، وترفض أيضًا التدريس فيها.
-
(٣)
لا تخجل من أن تسأل زملاءك عما إذا كانوا يعتقدون أنه لا بأس من حضور الأنشطة التعليمية التي تُموِّلها صناعة الأدوية أو التدريس فيها، وأخبرهم عن الأبحاث والدعاوى القضائية التي تُثبت تحيُّز محتواها.
-
(٤)
تُعَد المشاركة في دورات تعليمية مجانية ميزة عينية، يحصل بموجبها الطبيب على خدمة مهنية غالية؛ لذا، يجب إجبار الأطباء على التصريح علانيةً أمام زملائهم ومرضاهم بما إذا كانوا يقبلون تلك الدورات المُموَّلة من صناعة الأدوية أم لا. ويجب أن يضع الأطباء الذين يفحصون مرضى إعلانًا بارزًا في غرفة الانتظار بعياداتهم وعلى مكاتبهم، ينص تحديدًا على الشركات التي يقبلون منها أموالًا أو خدمات، والأدوية التي تنتجها هذه الشركة بالضبط.
-
(٥)
من المحزن أن الأطباء لا يتطوَّعون بدفع آلاف الجنيهات الإسترلينية من أموالهم سنويًّا من أجل أنشطة التعليم الطبي المستمر الذي جعلتْه الحكومات إلزاميًّا خلال سنوات حياتهم العملية، ولكنها الحقيقة. ويجب أن تفكر الحكومات في وسائل لإجبار الأطباء على الدفع أو أن تدفع هي نفسها مقابلها من أموال الدولة. وليست هناك ضرورة توجب أن تتم هذه الدورات التعليمية في مراكز مؤتمرات عالية التكاليف.
(١١) ماذا يعني قَبول المال من الصناعة؟
ها نحن نصل إلى الصفحات الختامية، وما زال هناك بعض النقاط التي لم نعرضها بعد. يتمحور الكثير من المخاوف التي تطرقنا إليها في الصفحات السابقة حول فكرةٍ واحدة، وهي أن الأشخاص الذين يتلقَّون أموالًا من شركات الأدوية قد تكون لهم وجهات نظرٍ مختلفة عن هؤلاء الذين لا يفعلون ذلك. ربما تبدو لك هذه الفكرة حقيقةً واضحة، ولكن يوجد الكثير من الأشخاص الذين يُنكرونها بغضبٍ شديد، وهم يكتبون شيكًا جديدًا لمصاريف تدريب بعض الأطباء. وقبل أن نُنهيَ حديثنا، سوف أحاول فحص هذه المشكلة الأخيرة.
أولًا: يجب أن نكون واضحين بشأن معنى تضارُب المصالح. ينص التعريف الأشمل للمصطلح على أن لديك تضاربًا في المصالح عندما يوجد لديك نوع من المصلحة المالية أو الشخصية أو الفكرية قد يؤثر على آرائك، من وجهة النظر المنطقية لشخصٍ آخر؛ لذا فتضارب المصالح ليس سلوكًا، وإنما مجرد موقف، وأنت عندما تقول إنك كان لديك تضارب مصالح، فهذا لا يعني أنك وظفته لمصلحتك، ولكنه يعني ببساطةٍ أنك مررت بموقف فيه تضارُب مصالح، والجميع يَمرُّون بمثل هذه المواقف، بطريقة أو بأخرى، بِناءً على طريقة رسمك لحدود الأمر.
على سبيل المثال، أنا لا أقبل التدريب الطبي الذي ترعاه صناعة الأدوية، ولا أُجري أبحاثًا أو أقوم بأعمالٍ ترويجية لصالح صناعة الأدوية، ولا أُقابل مندوبي شركات الأدوية، ولم أكن يومًا من رواد الرأي المؤثرين، ولم أذهب في رحلة طيران مريحة على حساب شركة أدوية. بالنسبة إلى الأشياء البسيطة، الخاصة بالطب والعالم الأكاديمي، هذه قصة بسيطة. ولكننا إذا ما وسَّعنا النطاق إلى عالَم تضارُب المصالح غير المنضبط تمامًا الخاص بالكُتاب العلميين، فعندئذٍ تستطيع صناعةُ الأدوية أن تزعم أن لديَّ موقفًا أيديولوجيًّا — بأنهم مخادعون — وأنني أحقق ربحًا من وراء هذا الموقف. بالطبع، أنا أعتقد أنني أُقدِّم حججًا سليمة وعادلة، وأطرح آراءً واضحة غير متحيزة بناءً على الأدلة المستقاة من المراجعات المنهجية، كما أنني لا أعتقد أني سأبيع كتبًا أكثر عندما أبالغ في التأكيد على موقفي. ومع ذلك فهذا مثال على تضارُب المصالح، يُبيِّن أنه عبارة عن موقفٍ وليس سلوكًا.
يمكنك أيضًا أن تطرح وجهة النظر المقابلة. على سبيل المثال، لقد تلقيت شيكين لهما علاقة جزئية بصناعة الأدوية. منذ عَقدٍ من الزمن، وأنا في العشرينيات من عمري، رشَّحتْني صحيفة «ذا جارديان» لجائزة جمعية الكُتاب العلميين البريطانيين لعام ٢٠٠٣. وصلتُ ليلة حفل الجائزة وربحتُها، لكنني رأيت وأنا متجه إلى المسرح مترنحًا أن الجائزة كانت تحت الرعاية الجزئية لشركة جلاكسو سميث كلاين للأدوية، إلى جانب بعض الجهات العلمية المهيبة. أخذت الشيك حينها وأنا متذمِّر بعض الشيء. ثم في عام ٢٠١١، ألقيت خطابين مجانيين لجمعيات الكُتاب الخفيين، أوضحت فيهما كيف يضر عملهم المرضى. وأنا أُلقي الكثير من هذه الخطابات أمام الجماعات التي أنقد عملها — مثل الدجالين أصحاب العلاجات الزائفة والصحفيين والأكاديميين والعاملين في المهن الطبية الغاضبين وغيرهم — موضحًا الضرر الذي يقع نتيجة عملهم، وكثيرًا ما أعرض بعض القصص الجيدة من المنتمين إلى هذه المهن والذين يشعرون بالقلق مما يحدث فيها. وعندما طلب الكُتاب الخفيون إلقاء الكلمة نفسها للمرة الثالثة، في مكانٍ يبعد عن لندن بمسيرة يوم، اعتذرت وقلت إنني مشغول. فعرضوا عليَّ مالًا، فقبلته، وألقيت الخطاب نفسه مرة أخرى؛ فهل أنا عميل لدى الكُتاب الخفيين أو متواطئ معهم؟ أنا لا أعتقد ذلك، ولكنك قد تخالفني الرأي.
لذا فمن المهم، من وجهة نظري، أن نكون واضحين بشأن أهمية تضارب المصالح، ولكن في الوقت نفسه، نكون واقعيين وغير حادِّين. ولِنفهمَ مدى أهمية تضارب المصالح، فإننا نحتاج إلى دليلٍ واحد أساسي، وبسيط؛ بوجهٍ عام، هل لدى الأكاديميين والأطباء الذين لهم مصلحة كبيرة نوعًا ما آراءٌ مناصرة لصناعة الأدوية أكثر من الذين ليس لديهم هذه المصلحة؟ لقد سبق أن رأينا بالفعل، من الصفحات الأولى من هذا الكتاب، أن «التجارِب» التي تُموِّلها الصناعة تحمل على الأرجح نتائج إيجابية. ونحن نتحدث الآن عن المستوى التالي، ألا وهو مناقشة نتائج تجارب الآخرين، أو تقييم نقاط ضعفها ونقاط قوتها، أو كتابة مقالات الرأي والمقالات الافتتاحية، وهكذا. في مثل هذا النوع من المقالات، هل ترتبط استنتاجات كاتبيها بحجم التمويل الذي يتلقَّونه من الصناعة؟ الإجابة، كما قد تتوقع، هي نعم.
حوالي نصف مؤلفي هذه المقالات كان لديهم تضارب مصالح مالي، وأتى تحليل النتائج بنتيجة مزعجة ولكنها متوقَّعة: الأشخاص الذين اعتقدوا أن العقَّار آمن (أو، لنكون واضحين جدًّا، الذين كانوا قد رأَوْا عدم وجود ارتباط بين تناوله وبين الإصابة بأزمةٍ قلبية) زاد احتمال وجود تضارب مصالح مالي لديهم مع مُصنِّعي عقاقير مرض السكر بنحوٍ عام ومع شركة جلاكسو سميث كلاين بنحوٍ خاص بمقدار ٣٫٣٨ مرات، مقارنةً بالأشخاص الذين كانت لهم نظرة سلبية بشأن أمان الدواء. والمؤلفون الذين أَوصَوا باستخدام العقَّار كان من المرجح بالمثل أن يزيد احتمال تمتعهم بمصالح مالية بمقدار ٣٫٥ مرات. وعندما انحصر التحليل في مقالات الرأي، كان الارتباط أقوى: الأشخاص الذين يوصون بالعقَّار يزيد احتمال تمتُّعهم بمصالح مالية بمقدار ست مراتٍ عن غيرهم.
من المهم أن نكون واضحين بشأن قصور مثل هذه الورقة البحثية المستندة إلى «الملاحظة»، وأن نفكر في تفسيراتٍ بديلة للارتباط الملاحَظ، تمامًا كما كنا سنفعل مع أي ورقةٍ بحثية تُبيِّن، مثلًا، أن الأشخاص الذين يأكلون الكثير من الفاكهة والخَضراوات يتمتعون بحياةٍ أطول؛ فالأشخاص الذين يأكلون الكثير من الفاكهة والخَضراوات من المرجَّح أن يكونوا أكثر ثراءً من غيرهم؛ ومن ثَمَّ فإنهم يعيشون حياةً أكثر صحيةً من شتى الجهات، وقد لا يكون لطول أعمارهم علاقة بتناول الفاكهة والخَضراوات. هذه هي الحال عند استحسان عقَّار الروزيجليتازون وامتلاكك لمصلحةٍ مالية، فربما تكون قد اشتريت أسهمًا في الشركة المنتجة له أو عملت فيها أو حصلت على منحةٍ منها، «بعد» أن كوَّنت رأيك الإيجابي عن العقَّار الذي تنتجه. ربما كان هذا صحيحًا بالنسبة إلى البعض، ولكن في مجمل ما نعرفه عن تأثير المصالح المالية على السلوك، من الصعب أن نُصدِّق أن هذه النتائج بريئة تمامًا؛ وهذا يؤكد مرة أخرى على حقيقة أننا ينبغي أن نكون على دراية، تفصيلية، بتعاملات الناس المالية مع هذه الشركات.
كيف نتعامل مع هذه المشكلة؟ من الوجهة الأكثر تطرفًا، يجب أن يُمنع أي شخصٍ لديه تضارب مصالح في مجالٍ معين من التعبير عن رأيه في هذا المجال؛ فمن المفترض أن مُقدِّمي البرامج الموسيقية الإذاعية ممنوعون من قَبول أي «إكراميات» من شركات إنتاج الأعمال الغنائية، ومع ذلك لم يؤدِّ ذلك لانهيار عالمهم (رغم أني متأكد من تمتُّعهم بأنواعٍ أخرى من المزايا).
ومع ذلك، فالمنع الصريح يثير مشاكل مهمة؛ أولًا، في بعض مجالات الطب قد تبذل جهدًا خارقًا لإيجاد أي خبيرٍ لم يؤدِّ أي عملٍ على الإطلاق لصالح صناعة الأدوية. وعلينا هنا أن نتمهل قليلًا لنُذكِّر أنفسنا بما نعتقده حقًّا حيال صناعة الأدوية وحيال الأشخاص الذين يعملون فيها. وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يتناول المشاكل، فهدفي هو أن يتمتع عمل شركات الأدوية بالتنظيم الجيد والشفافية، للدرجة التي يشعر فيها الأكاديميون شعورًا إيجابيًّا متحمسًا حيال التعاون معها. لا يوجد طب دون أدوية، والشركات تستطيع أن تُنتج منتجاتٍ رائعة، والتعامل مع أشخاصٍ يركزون اهتمامهم على القيام بأي مشروعٍ من أجل الربح يمكن أن يكون أمرًا مثيرًا للغاية، رغم الاستهجان الذي قد تشعر به حيال بعض جوانب هذا العالم.
كذلك، من الغريب أن نُوجِّه كل حنقنا للأطباء والأكاديميين، رغم أنهم يفعلون ببساطةٍ ما تأمرهم به الحكومات عبر العقود الثلاثة الأخيرة؛ فهي تطالبهم بالخروج والعمل مع شركات الأدوية. فبدايةً من قانون باي-دول الذي صدر عام ١٩٨٠ في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي ساعد الأكاديميين في تسجيل براءات اختراعٍ لأفكارهم، إلى تشجيع تاتشر ﻟ«الجامعات الريادية»، ظل الأكاديميون يستمعون إلى مطالباتٍ دائمة بالتعاون مع الصناعة، وإيجاد تطبيقاتٍ تجارية لأفكارهم. ويُعَد استبعاد كل هؤلاء الأكاديميين، بعد أن دفعناهم دفعًا للتعاون مع الصناعة، ونجحنا في إقناع بعض أرقى العقول وأفضلها بذلك، أمرًا غريبًا.
ثَمَّةَ مشكلات أخرى في المنع الصريح. حتى لو أنك وجدت خبراء ليس لديهم أي تضارب مصالح؛ ففي بعض الأحيان يكون الأشخاص الذين ترغب بشدةٍ في أخذ رأيهم هم هؤلاء الذين يتعاملون مع الصناعة، ربما يكون لديهم مثلًا معرفة داخلية خاصة بالعمليات التي كوَّنت الأدوية الجديدة. وبمجرد أن تخطوَ خطوةً في سبيل الاستماع إلى رؤيتهم التجارية، فستواجه مشكلة جديدة. في بعض الأحيان، رغم أن هذه منطقة شديدة الوعورة، قد يكون من المفيد أن نتيح لرجال الصناعة ذوي التضاربات الضخمة في المصالح أن يتحدثوا سرًّا، دون أن ننسب أقوالهم إليهم، في شيءٍ مثل لجنةٍ تنظيمية للأدوية.
يعرف الصحفيون أن أخْذَ خلفيةٍ معلوماتية عميقة من مصدرٍ داخل القصة التي يحاولون فهمها على نحوٍ غير رسميٍّ يمكن أن يكون غايةً في الإفادة. في بعض الأحيان يتحدَّث رجال الصناعة بصراحةٍ أكبر، ولكن دون أن ينسب إليهم الحديث، إلى لجنة التصديق على الأدوية التي لا تنشر محاضر اجتماعاتها. ذات مرة حُكيت لي قصة أستاذٍ فخريٍّ في الطب، يعمل الآن بدوامٍ كامل في تطوير الأدوية، وقف في لجنةٍ للتصديق على الأدوية ليقول: «أتريدون الصدق؟ الجميع يعرفون أن هذا الدواء سيئ للغاية، وأنه لن يصمد لعامين، وستُوفِّرون عليَّ الكثير من الجهد إذا ما تخلصتم منه الآن.» إنني لا أخبركم بهذا لإقناعكم بأننا ينبغي أن نسمح بالتكتُّم في القوانين؛ فأنا لا أؤيد هذا. إنني أخبركم به كي تتأكدوا من أننا درسنا الموضوع بكامل جوانبه على نحوٍ منصف.
بوجهٍ عام، الأسلوب الأكثر شيوعًا للتعامل مع تضارب المصالح هو أن نُعلِن عنه، بدلًا من أن نُجرِّمه، ويوجد سببان لاتباع هذه السياسة؛ السبب الأول هو أننا نتمنَّى أن تتيح للقارئ تقريرَ ما إذا كان الشخص متحيزًا أم لا؛ والثاني هو أننا نتمنَّى أن تُغيِّر السلوك. وعندما أقترح أن يُجبَر الأطباء على إخبار مرضاهم، من خلال وضع تنبيهاتٍ بارزة في غرف انتظار المرضى بعياداتهم وعلى مكاتبهم، بشركات الأدوية التي قبلوا منها أموالًا أو خدمات، وبالأدوية التي تصنعها هذه الشركات بالضبط، فهذا يُعزى جزئيًّا إلى أنني أعتقد أن هذا قد يثير قدرًا ولو ضئيلًا من الخجل؛ فالشفافية شيء مهم جدًّا، وقد ثبت أنه كذلك في الكثير من المجالات المختلفة؛ ففي لوس أنجلوس، أدَّى إلصاق لوحةٍ تحتوي على درجة نظافة أماكن تحضير الطعام في كل مطعمٍ على نافذة المطعم إلى تحسين معايير النظافة في المطاعم، وأدَّى عرض إحصائيات أمان كل سيارة إلى شراء العملاء للسيارات الأكثر أمانًا.
أما بالنسبة إلى مجال الطب، فالتصريح أكثر تعقيدًا من مجرد إلصاق درجة النظافة التي حصل عليها المطعم أو درجة أمان السيارة؛ لأنه في بعض الأحيان يكون الشيء الذي ينبغي التصريح به ليس واضحًا؛ فتضارب المصالح، في النهاية، قد يتجاوز مجرد حصول أطباء معينين على أموالٍ من صناعة الأدوية؛ ففي الولايات المتحدة — وهذا سيبدو غريبًا بالنسبة إلى القراء في المملكة المتحدة — يحصل اختصاصيو الأورام على أموالٍ أكثر إذا عالجوا مرضاهم بعقاقير تُحقن داخل الوريد بدلًا من الأقراص العادية: أكثر من نصف دخْل هؤلاء الاختصاصيين يأتي من إعطاء العلاج الكيميائي؛ لذا فإن هناك فرصةً لوجود تضارب مصالح. وقد تثار مشاكل مشابهة في المملكة المتحدة؛ عندما يتحكم الأطباء الممارسون في ميزانية مجالهم، ويحصلون على دخْلٍ من بعض الخدمات التي يُوفِّرونها. ويمكن أن تثار مشاكل مشابهة عند كتابة الناس عن علاجٍ يُوفِّرونه، ولو لم يكن هناك تدخُّل من أي شركة أدوية، ببساطةٍ عبر إحساسٍ غامض بالولاء المهني.
ويذهب دعاة نظرية المؤامرة — الذين ينجذبون بطبيعتهم إلى المشاكل التي تحدث في الطب — إلى أبعد من ذلك، بنسج حكاياتٍ متشابكة كبيرة قائمة على تضارب المصالح؛ فبالنسبة إليهم، شخص ما متحيِّز طوال الوقت، وفي كل المواضيع، لأن له أختًا تعمل لدى الحكومة؛ أو لأن شخصًا يعمل معها في الجامعة، حتى وإن لم تكن قد رأته من قبل، له وجهة نظرٍ في موضوعٍ ما قد تجدها الصناعة في مصلحتها. ثم يُعلِن دعاة نظرية المؤامرة أن هذه أسرار تم حجبها «عمدًا»، في حين أنه في الواقع ليس من الممكن أن يتوقع أحد مثل هذه الخيالات الدقيقة.
إذًا، في أغلب الأحيان، يميل الأكاديميون والأطباء إلى التركيز على الإعلان عن المصالح المالية الكبرى الخاصة بهم، غالبًا خلال آخر ثلاث سنوات فقط، وتجاهل الحديث عن تفاصيلها، حتى إذا كان السبب في ذلك هو أن هذا المنهج أكثر عملية. وبعضهم يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك؛ ففريق العمل في دورية «بي إم جيه» غالبًا ما يُصرِّحون بعضويتهم في أحزابٍ سياسية وغيرها من الجهات، وهذا شيء عظيم، ولكنك عندما تبتعد عن المصالح المالية، قد تنجرف إلى ما قد يُعَد تدخُّلًا في الحياة الشخصية للشخص؛ والأكثر من هذا، عندما تزداد الأمور تشعُّبًا، تصبح القرارات بشأن ما ينبغي الإفصاح عنه أكثر اعتباطية؛ ومن ثَمَّ ربما تكون أكثر تضليلًا. وكلما قلَّ اهتمام الشباب بإعدادات أمان صفحاتهم على الفيسبوك، جلب لنا المستقبل شفافيةً تامة للجميع.
يخبرنا قلقها بقصةٍ أكبر: يقلق الكثير من الأطباء من رد فعل الناس تجاه هذا النوع من المعلومات، ولا سيما في سوق رعايةٍ صحية يُشبه ذلك الخاص بالولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث يمكن أن يمتلك المرضى خياراتٍ كثيرة. عندما تتناول دواءً، فأنت تريد أن تعرف أنه أكثر العلاجات أمنًا وفاعلية، وأنه اختِير لك على أساس أفضل الأدلة المتاحة. وربما يتجنَّب المستهلكون المستنيرون الأطباءَ الذين يَقبلون دوراتٍ تعليميةً ودعوات استضافة من الصناعة؛ لأن مثل هذه الأشياء، كما سبق أن رأينا، اتضح أنها تُغيِّر القرارات التي يأخذها الأطباء بالنسبة إلى مرضاهم. في الولايات المتحدة الأمريكية، ثَمَّةَ قانون جديد على وشك الدخول في حيِّز التطبيق يُدعى قانون «الشمس المشرقة»، وهذا القانون سوف يتيح المزيد من المعلومات؛ بحيث يستطيع المرضى اكتشاف علاقة أطبائهم بالصناعة.
لكن حتى إذا الْتَمسْنا العذر لتأخير بداية هذا العهد الجديد دون مبرراتٍ واضحة من عام ٢٠١٢ إلى عام ٢٠١٣، يواجه التعديل الجديد مشكلةً أكبر بكثير؛ نظرًا لأنه ما زال مجردَ حلٍّ آخر زائف، وعلى الرغم من أنه سيكون آخرَ أمرٍ سنعرض له في هذا الكتاب، فإنه يتبع النمط نفسه الذي سار عليه كل ما شاهدناه بالفعل، من تعهُّد اللجنة الدولية لمحرري الدوريات الطبية بنشر التجارِب المُسجَّلة نتائجها فحسب (والذي لم تلتزم به، رغم أن الجميع تصرفوا وكأن المشكلة قد حُلَّت، ارجع إلى الفصل الأول)، إلى قواعد هيئة الغذاء والدواء الجديدة التي تطالب بالنشر خلال سنة (وهو ما لم يُفعَّل، ومع ذلك تصرف الجميع وكأن المشكلة قد حُلَّت، ارجع أيضًا إلى الفصل الأول)، إلى سجل التجارِب الإكلينيكية الغريب الخاص بالاتحاد الأوروبي (وهو أداة للشفافية لم يُتح محتواها لمدة عقدٍ من الزمن تقريبًا، ارجع أيضًا إلى الفصل الأول)، وغير ذلك الكثير.
لكي تفهم السبب وراء عدم جدوى هذا التعديل، يجب أن تتوغَّل بعمقٍ أكبر فيما وراء التغطية الإعلامية له؛ لأن اتحاد الصناعات الدوائية البريطانية قد عرف «التصريح بجميع ما تدفعه الشركات للأطباء» بأسلوبٍ سفسطائي معقد ومراوغ يصعب معه شرح مغزاه باختصار، وبأسلوبٍ واضح، والواقع بعيد كلَّ البعد عما يتوقَّعه أي شخصٍ عاقل. يتطلب التعديل ببساطةٍ أن تُصرِّح الشركات بإجمالي المبالغ التي دفعتْها لجميع الأطباء. هل هذا واضح بما يكفي؟ لا، يبدو الأمر وكأن شركات الأدوية ستقول المبالغ التي دفعتْها لكل طبيب على حدة؛ لأن هذا هو الشيء المتوقَّع الذي يجب عمله. ولكني أقول «لجميع الأطباء»، فماذا يعني هذا؟
سأوضح لك الأمر بطريقةٍ أخرى: يجب أن تُصرِّح كل شركةٍ ببساطةٍ برقمين في ورقةٍ واحدة، وهذا كل ما في الأمر. الرقم الأول هو إجمالي المبلغ الذي دفعتْه لكل الأطباء في المملكة المتحدة على مدار تلك السنة، بعد تقريبه إلى أكبر عددٍ صحيح، وقد يصل إلى أي عددٍ من عشرات الملايين من الجنيهات الإسترلينية. والرقم الثاني هو عدد الأطباء الذين دفعت لهم هذا المبلغ. هل هذا واضح الآن؟ ربما يكون الأمر أسهل إذا ما ضربتُ لك مثالًا؛ تخيل أن شركة أدوية دفعت ١٠ آلاف جنيه إسترليني لطبيبٍ يدعى الدكتور شيل، و٢٠ ألفًا للدكتور ستوج، و٩٩٨ مبلغًا آخر ﻟ ٩٩٨ طبيبًا مختلفًا؛ فكل ما ستخبرك به هذه الشركة في نهاية العام هو ما يلي: «دفعنا ١٢ مليون جنيه إسترليني، مقسمة بين ألف طبيب.»
هذه معلومة لا تُنبئنا بأي شيءٍ على الإطلاق وليس لها معنًى البتة.
هل نستطيع أن ننشئ قاعدة بياناتٍ بأنفسنا، من الصفر؟ في الحقيقة لا؛ لأننا نفتقر إلى ثقافة الشفافية والتقاضي فيما يتعلق بشركات الأدوية؛ لذا ليس هناك إطار عمل قانوني للحصول على نوعية المعلومات التي جمعها موقع بروببليكا. من الممكن أن نحاول معرفة الأطباء الأكاديميين الذين قَبِلوا أموالًا، بنحوٍ تقريبي، من الإعلانات التي يُسطرها الأطباء والأكاديميون في نهاية كل دراسةٍ أكاديمية، ولكن هذه الإعلانات لا توجد إلا إذا كانت ذات صلةٍ بمجال البحث المحدَّد لهذه الدراسة بعينها؛ نتيجةً لذلك، سيؤدي استقاء المعلومات من هذا المصدر إلى إنتاج مجموعةٍ غير كاملةٍ من الإعلانات؛ والأهم من ذلك أنه نادرًا ما تُعطي هذه الإعلانات أي أرقام. وبما أن كل شركةٍ لديها بعض الأشخاص الذين يعملون لصالحها، الأمر الذي يُعطي انطباعًا بالالتزام العام دون محاباة، فإن هذا قد يكون مضللًا جدًّا (ولكن له ميزة إضافية، وهي جعْلك تبدو خبيرًا ذا شعبيةٍ واسعة).
كما أن استقاء المعلومات من الإعلانات الموجودة في الأوراق البحثية الأكاديمية لن يخبرك شيئًا عن الأطباء الكثيرين الذين لا يُنتجون أبحاثًا أكاديمية، ولكنهم يفحصون المرضى ويُعَدون من رواد الرأي المؤثرين في مناطقهم المحلية أو المهنية، وتُدفع لهم مبالغ ضخمة من قِبل شركات الأدوية للتدريس للأطباء الآخرين؛ ولا عن الأطباء الإكلينيكيين الذين يقبلون الهدايا ودعوات الاستضافة؛ ولا عما إذا كان الممارس العام الذي تذهب إليه يقابل مندوبي شركات الأدوية، أو يقبل أجرًا لحضور المؤتمرات؛ ففي الأصل، نحن لا نعرف شيئًا عن ماهية الأطباء الذين يقبلون ولا عما يقبلونه.
ما نحتاجه، على نحوٍ مثالي، هو سجل مركزي بالمصالح الشخصية أو المالية في صناعة الأدوية، ويمكن أن يكون اختياريًّا أو إجباريًّا. وقد أوصى الناس لسنواتٍ بإنشاء مثل هذا السِّجل، ولكن ذلك لم يحدث قط. لعلك لاحظت أن الشخصيات الأكثر أهميةً في السياسة الطبية — الأشخاص الذين حصلوا على ميداليات، في لجان الكليات الملكية — هم من ينبغي أن يدفعوا هذا المشروع للأمام، وهم في الغالب الأشخاص أنفسهم الذين يحصلون على أعلى دخْلٍ من صناعة الأدوية.
لكن، بطبيعة الحال، ليس الأطباء والأكاديميون فقط هم من يمكن أن يكون لديهم تضارب مصالح؛ وهذا هو الجزء الخير من قصتنا الطويلة المؤسفة.
مثل هذه المناصب المُموَّلة منتشرة على نطاقٍ واسع. وهي كذلك لأنها تُعَد مصدر الدخل الأساسي للمجتمع الطبي الأكاديمي؛ لأن الأغلبية العظمى من أبحاث التجارِب تُموِّلها صناعة الأدوية، والكثير منها تقوم به الجامعات؛ فهل كل هذه المناصب تأتي بتهديدات؟ بالطبع لا. في الحالات القصوى، هناك فضائح مُروِّعة — قضايا شهيرة لأشخاصٍ مثل ديفيد هيلي ونانسي أوليفري وغيرهما — طُرد فيها أطباء من وظيفتهم الجامعية بسبب توجيههم النقد لشركات أدوية. بصفتي طبيبًا صغير السن، في مرحلةٍ مبكرة من مسيرتي المهنية الأكاديمية الإكلينيكية، ربما ينبغي لي أن أكون أكثر رهبةً مما أنا عليه. لكن مصير الأفراد الذين يُصرِّحون بآرائهم دون خوفٍ ليس سوى جزءٍ من المشكلة. والمشكلة الحقيقية تقبع في الخلفية بعيدًا عن الأنظار؛ فالأطباء والأكاديميون الذين يقرءون حكايات الإرهاب والتنمُّر الصريح يُقررون عدم الضغط على رئيس قسمهم أبدًا، أو عدم تخييب ظن أي مُموِّل، أو عدم الاكتراث بمدى ملاءمة تعاوُن معين مع الصناعة، في وحداتهم الأكاديمية. في كل موقف، يمكن أن تتأكد أن عقل كلٍّ منهم قد جمَّل قراره بطريقةٍ ما باعتباره مجرد تنازُل بسيط ضروري من أجل استمرار التقدُّم في مشروعٍ أكبر، وهو ما سيكون في مصلحة القسم والمرضى والجميع.
هذه المشكلة متشعِّبة ومعقَّدة، ولن تتبخر من تلقاء نفسها؛ ولذا علينا أن نفكر جيدًا في كيفية التعامل معها.
(١١-١) ما الذي يمكن عمله؟
-
(١)
يجب أن يُصرِّح جميع الأطباء بجميع ما يحصلون عليه من أموالٍ وهدايا ودعوات استضافة ودورات تعليمية مجانية، وما إلى ذلك، لمرضاهم وزملائهم، ويسجلوه في سِجلٍّ مركزي. وتكون مدة التصريح التقليدية عن هذه الأشياء هي السنوات الثلاث الأخيرة، ولكننا نستطيع التفكير في إطالتها. ويجب أن نعرض تفاصيل ذلك في عياداتنا لمرضانا، ونترك لهم حرية اتخاذ القرار فيما إذا كانت مثل هذه الأنشطة مقبولةً أم لا.
-
(٢)
يجب أن تُصرِّح شركات الأدوية بكل ما تدفعه للأطباء في قاعدة بياناتٍ مركزية، محدِّدةً اسم كل طبيبٍ والمبلغ المدفوع له والسبب الذي دُفع من أجله. وهذا سوف يتيح التحقُّق من المعلومات، ويجعل التصريحات أكثر سهولة.
-
(٣)
يجب أن تنشئ الحكومات قاعدة بيانات وطنية تكون متاحةً للعامة، تتضمَّن المبالغ التي تدفعها الشركات للأطباء، وتُلزم الأطباء والشركات بالتصريح بكل شيءٍ في هذه القاعدة. وإلى أن يحدث ذلك، يمكن أن تنشئ أي جهةٍ أخرى قاعدة بيانات طوعية.
-
(٤)
قانون الشمس المشرقة الأمريكي يُعَد نموذجًا جيدًا للتشريع في هذا الإطار؛ إذ تُلزَم الشركات بالتصريح بمن أعطته المال، وبالمبلغ الذي دفعته له، وبتاريخ الدفع، وكذلك بالدواء الذي يتعلق به المبلغ. وسيكون عرض هذه المعلومات في غرف انتظار عيادات الأطباء كافيًا جدًّا.
-
(٥)
تتباين سياسات تضارب المصالح بشدةٍ بين المؤسسات، وهي لم تُراجَع على الإطلاق في المملكة المتحدة. في الولايات المتحدة، قامت بهذه المهمة الجمعية الأمريكية لطلاب الطب. ويُعَد موقع هذه الجمعية www.amsascorecard.org نموذجًا لنا جميعًا؛ فهي ترتب أكثر من مائة مؤسسةٍ بِناءً على سياسات تضارب المصالح الخاصة بها بخصوص الهدايا والاستشارات والأحاديث والتصريحات والعيِّنات ومندوبي شركات الأدوية ودعم الصناعة للتعليم وما إلى ذلك، مع استخدام منهجٍ شفاف وإعطاء تقدير نهائي لكل مؤسسة، من ممتاز إلى ضعيف. حقيقةً، أنا أشعر بالإحباط الشديد عندما أطَّلع على هذا الموقع.