المقدمة
قد يبدو «حياتي في رحلاتي» لأول وهلة، للقارئ العزيز، عنوانًا غامضًا، ولكنني لا أقصد به أكثر من أن أحكيَ له فيه ردَحًا من حياتي قضيتُه في أسفاري ورحلاتي.
إذن، فأنا أرْوِي لك في هذا الكتاب ما حدَث لي في كل لحظةٍ من لحظات حياتي وأنا أعيشها دقيقةً بدقيقةٍ أثناء رحلة قُمتُ بها في دولتَين كبيرتَين هما فرنسا وإسبانيا.
أقوم في كل عام برحلةٍ أعتبرها تجربةً عملية واقعية أخوضها بنفسي وتحت مسئوليتي وعلى نفقتي الخاصة لأتعلم الشيء الكثير، بل وأقصى ما أستطيع أن أتعلمه، وكي يتعلم معي غيري ممن يؤمنون مثلي بأن التجربة الشخصية درسٌ عملي مفيد، لا يقل في أهميته عن التجربة التي تُجرى داخل المعمل، مهما تكن طبيعة هذا المعمل أو رسالته في الحياة. وحتى التجربة الفاشلة مفيدة؛ إذ تدُلك على مواطن الخطأ وأسباب الفشل، وتُعلمك أن تبدأ التجربة من جديدٍ وبأسلوب يختلف عن الأسلوب السابق، إلى أن يكتب الله للتجربة النجاح الكامل.
لهذا، لا يُدهِشنَّك أيها القارئ الكريم أن تجدني، في قصة رحلاتي، لا أترك كبيرةً ولا صغيرة إلا ذكرتُها كما وقعَت وحدثَت تمامًا وبالتفصيل دون تزويقٍ ولا تنميق ولا إضافة؛ فإن خير التجارب وأنجحها وأكثرها قيمةً وفائدةً هي التي تتوخَّى الصدق في كل خطوةٍ من خطواتها. ويقول الفلاسفة: «الحقيقة أكثر تأثيرًا في النفس من الخيال.» فالكلمة الصادقة تنفُذ إلى القلب مباشرةً فتُريحه، وتُخاطب العقل على الفور فتُقنعه وتأسِره.
والرحلة تَرْحال، أو قُل خروجٌ من حياة ومكان معروفَين لديك إلى حياة ومكان مجهولَين عليك. ومنذ قديم الزمان، عرف الإنسان قيمة الرحلات، وتَغنَّى بفوائدها الشعراء، فقال أحدهم:
هذا، والرحلة القصيرة كالرحلة الطويلة تمامًا؛ كلاهما خروج من شيء لأجل الدخول في شيءٍ آخر. والرحلة التي أنت بصدَد قراءة أحداثها ووقائعها، رحلةٌ بعيدة كل البعد؛ بعيدة عن البيت والأهل والأصدقاء، وعن الوطن الأم.
وأنا، في هذه الرحلة أُخاطب القارئ كأنه نفسي وروحي؛ فأنا أريده أن يراني كأنما هو يُرافقني في كل خطوةٍ خطوتُها في كل بلدٍ ذهبتُ إليه، وآواني وأكرمني وتلقَّاني بين أحضانه الدافئة أو غير الدافئة.
لم أحاول قَط أن أُعالج مشاهداتي أو أُضفي عليها شيئًا من الفلسفة وإلا فقدَت قيمتها، ولكنني اجتهدتُ في أن أصوِّر لك هذه المشاهدات تصويرًا دقيقًا بعيدًا كل البعد عن الإضافات أو التنميقات؛ فقد جعلتُ عيني «كاميرا» دقيقة، تلتقط وتُصوِّر، لتوضِّح وتبيِّن، فتَخْلق من هذا الكتاب ذكرياتٍ مصوَّرة بالكلمات الصادقة، التي لو نطقَت لما قالت شيئًا أقل مما قد تقوله الصورة المرسومة.
ومع ذلك، فقد توخَّيتُ أن أقارِن كلما عنَّ لي ذلك. قارنتُ بين ما رأيتُه رؤية العين، وبين ما أعرفُه في باطني من حقائقَ مُشابهة أو مُخالفة، سواء أكانت في بلدي أو في غيره من بلاد الدنيا.
أنا في هذا الكتاب «جوَّال» أكثر منِّي «سوَّاحًا»، أو «مؤرخ رحلات»؛ فلا أعطيك إحصائياتٍ أو معلوماتٍ جغرافية أو تاريخية قد يجدها القارئ — لو أراد — مدونةً في كتب الجغرافيا والتاريخ العادية، وما أكثر هذه في المكتبات! كنتُ وأنا أجول أرى وأسمع وألمس وأتكلم. كنتُ أخاطب أقوامًا من جميع الجنسيات، أريد أن أعرف شيئًا عن تفكيرهم وما يدور بخلَدهم وخيالهم وعقولهم.
كانت تستهويني الفتاة الغربية بصفةٍ خاصة؛ مِشيتها، ملبسها، حركاتها، حُريتها، زينتها، تبرُّجها، وتزمُّتها، فصوَّرتُ كل هذه الأمور الحيوية؛ لأنك لا تراها، بغير شك، في أي كتاب من كتب المكتبة العربية.
ولم ينجُ الحب، في كتابي، من المناقشات والتعليقات، فرسمتُ لك منه أكثر من صورة في أكثر من موضع وفي أكثر من وضع، ومع أكثر من فتاة من كل عُمر وقَدٍّ؛ فالحياة هي الحب، والحب هو الحياة. ومن لم يُحب لم يؤدِّ للحياة ما وجب.
كما لم يخلُ كتابي من الوصف بمختلف فنونه وألوانه؛ فالكتاب في كثير من أجزائه وصفيُّ الاتجاه. لم يترك شيئًا يستحق الوصف إلا ووصَفه. ولعلني أكون قد وُفِّقتُ في وصف الشوارع والمباني والحقول والمتاجر والمطاعم والمقاهي والطبيعة، فضلًا عن المتاحف والقصور والمعالم التاريخية والملاهي الليلية، بكل ما فيها من مفاتن وفنون ومهارات وليدة العلم والتكنولوجيا الحديثَين، وتُعتبر بحقٍّ مفخرةً لبلدها وبهجةً للقلوب والعيون.
تنقلُك رحلتي التي يقُصُّها لك كتابي هذا، تنقلُك إلى قُطرَين عظيمَين؛ إلى فرنسا ثم إلى إسبانيا. ولعلك تُلاحِظ أن القُطر الأول أوروبي الصبغة، يمثِّل مَعقِلًا خطيرًا من معاقل الحضارة الأوروبية في العصر الحديث، في حين أن إسبانيا، وهي قطعة من أرض أوروبا، إلَّا أن أوروبيَّتها ليست خالصةً تمامًا؛ ففيها من الشرق الشيء الكثير، وذلك راجعٌ إلى تاريخها القديم؛ إذ فتحَها العرب في عهد موسى بن نصير على يد طارق بن زياد، وتوغَّلوا في أراضيها حتى حدود فرنسا، وأطلقوا عليها اسم «الأندلس»، ولا تزال بها آثار الدَّور العظيم الذي لعبه الفكر العربي والثقافة العربية في ربوع هذه البلاد ردَحًا طويلًا من الزمان يُقاس بالقرون والأجيال؛ فالعرب لم يعيشوا في فرنسا وإنما عاشوا وأقاموا في الأندلس (إسبانيا) وغزَوْها فكرًا وعقلًا وثقافةً وحضارة.
وكما يختلف الناس أشكالًا وأديانًا وعقائد، تختلف الحياة نفسها من بلدٍ إلى بلد، تبعًا للعادات والتقاليد الموروثة والمُستحدَثة؛ لذلك حاولتُ جهدي أن أصوِّر لك حياة الناس العادية اليومية، في كل مكانٍ حظيتُ برؤيته، سواء في فرنسا أو في إسبانيا.
لا أحسبُني، في هذا الكتاب، قد توخَّيتُ أكثر من أن أصحبَ القارئ معي في جولةٍ سريعة، لعلَّه يجد فيها متعةً ذهنية وفائدةً ثقافية وتسليةً روحية، تدفعُه إلى قضاء لحظات من عمره السعيد، باحثًا عن مزيد من هذا اللون من الأدب الخفيف، أدب الرحلات التسجيلية، أو قُل أدب الرؤية الصادقة الأمينة والواعية والوفيَّة نحو كاتبها ونحو قارئها، على حدٍّ سواء.
لمَّا كان كتابي هذا هو الكتاب الثاني بعد كتابي الأول «شباب إلى الأبد» الذي وصفتُ فيه تجربةً خُضتُ غِمارها في رومانيا؛ لذا أرجو أن يحظى هذا الكتاب من إقبال القُراء الأعزَّاء بما يُشجعني على وضع كتابٍ ثالث عن «اليونان»، أرض الآلهة والإنسان.
وفَّقني الله دائمًا إلى ما فيه إثراء المكتبة العربية بأمثال هذه الكتب التي أعتقد أننا في مسيس الحاجة إليها؛ نظرًا للإقبال الشديد الذي يحتاج في الوقت الحاضر إلى قلوب وعقول الشباب المصري المُحب للأسفار والتَّرحال بُغية الكفاح والعمل والمشاهدة والتعليم، والذي أثبتَت التجربة العملية أنه لا يقل كفاءةً وبراعة ونجاحًا عن ضَريبِه من الشباب الغربي الدائب السفر والحركة والتنقل مهما تَقِل نقوده أو تَشِح موارده. إنه مجازفٌ جريء يعتمد قليلًا على ذكائه وعلمه، وكثيرًا على قوة سواعده، بل قُل إنه يعتمد عليها كثيرًا جدًّا.
كتبت هذه المقدمة بمطعم توبيكانتو لصاحبيه ياني وديمتري بحي كالاماكي في أثينا — باليونان — بتاريخ ١ / ٨ / ١٩٧٧م.