الفلامنكو الإسباني يستحق التقدير والتهاني
أشرفَت الساعة على العاشرة، فاعتذرتُ لهذه المجموعة اللطيفة، وهُرعتُ إلى مكتب شركة السياحة حيث وجدتُ السيارة وبعض المشتركين في الرحلة.
تحرَّك أوتوبيس الرحلة في الساعة العاشرة والربع تمامًا. أعلن المرشد أننا سنقوم أولًا بجولة خلال شوارع مدريد كي نرى أضواء المدينة ليلًا، ثم نقضي ساعة ونصف الساعة مع الرقص الفلامنكو، في أحدث وأرقى صالة من صالات عرضه، وبعد ذلك نتَّجه إلى كباريه «فلوريدا» المشهور لنقضي به ساعة وربع الساعة.
ما أكثر المطاعم والكافيتيريات التي أراها الآن مُضاءة في كل شارع تجري فيه السيارة الحافلة! كلها أنيقةٌ ونظيفة، ولكلٍّ منها طابعه الخاص وذوقه الخاص المختلف. وكلها تقدِّم ما يشتهيه الناس عامة، حتى الكافيتيريات الجانبية التي لا تُطِل على الشوارع الرئيسية، لا تقل جمالًا ونظافة عن الأخرى التي بالشوارع الكبرى الرئيسية. وربما كانت الأسعار متشابهة وإن كانت أغلى قليلًا في الشوارع الرئيسية.
تتلألأ في ميدان كولومبوس أكثر من نافورة مضيئة تُكسب الميدان طابعًا خاصًّا يميِّزه عن الميادين الأخرى التي سبق أن اخترقَتْها سيارتنا. وأستطيع أن أجزم بأن كل ميدان به نافورةٌ تُضاء ليلًا، ومن النادر جدًّا أن يخلو ميدان من مثل هذه النافورة. كما أن كل نافورة تُطلِق المياه بطريقةٍ خاصة بها تختلف عن طرق إطلاق المياه من النوافير الأخرى. قد تكون النافورة صغيرة، ولكن لا بد من وجودها.
يقول المرشد إن عرض الرقص لن يبدأ قبل الساعة الحادية عشرة مساءً ولا ينتهي قبل الثالثة صباحًا. وعلى حدِّ قوله، إنه عرضٌ مستمر، ولكننا لن نحظى بمشاهدته إلا لفترةٍ محدودة، كي نستطيع بعد ذلك الذهاب إلى الملهى الليلي، لمشاهدة المزيد من حياة الليل في مدريد.
دخلنا قاعة الرقص فإذا بها فسيحةٌ مترامية الأطراف بوسطها مسرحٌ متوسط الحجم سُلِّطَت عليه الأضواء القوية. القاعة مُعدَّة لاستقبال السائحين يجلسون في مجموعات كل مجموعةٍ منها في مكانٍ مخصَّص لها. جلستُ أنا وبعض زملائي في مكانٍ ملاصق لخشبة المسرح. حاول النادل أن ينقلنا من ذلك الموضع فرفضنا في إصرار.
ها هو العرض يبدأ، وها هي الموسيقى القوية الضربات تملأ جو القاعة فتَشرئب الأعناق وتتجه الأبصار نحو المنصة.
بدأ الرقص بظهور مجموعة من الفتيات الإسبانيات الممشوقات القوام جدًّا، ترتدي كل واحدةٍ منهنَّ ثوبًا من لون يختلف عن ألوان أثواب زميلاتها. الفساتين ذوات ذيولٍ واسعة عريضة متعددة الكرانيش تلفُّ مع لفَّات أجسادهن المدكوكة جدًّا. الصاجات في أيدي الراقصات يستخدمنَها مع نغمات الموسيقى المصاحبة ومع غناء الشاب الذي لا يكُف، وهو يُغني، عن التصفيق بيديه. يتجلى الذوق الرفيع في الملبس والأحذية ذات الكعوب العالية. تقوم الراقصات الآن بالدوران واللف في حركاتٍ رشيقة سريعة ليقفن في صفٍّ واحد، ثم يُطلِقن صرخةً عالية تتقنها كل راقصة من راقصات الفلامنكو.
بعد ذلك تغيَّر المنظر، فجلس عازفان وجلسِت على يمينهما ثلاثُ راقصاتٍ وعلى يسارهما ثلاثُ راقصاتٍ أخريات. راحت إحدى الراقصات تصفِّق تصفيقًا شديدًا، ثم طلبَت منا، نحن النظارة، أن نُصفق معها.
شَرعَت الفتيات يصفِّقن ويغنين ويلوِّحن بأيديهن ويصرخن صرختهن المعروفة، فردَّدَها المتفرجون بنفس الحماس والشدة.
دخل مُنشد أخذ يغنِّي بينما تُصفِّق الفتيات تصفيقًا متواصلًا بطريقةٍ حلوة مقبولة.
قامت إحدى الفتيات وأمسكَت بذيل فستانها وراحت تلف وتحرِّك يدَيها وأنامل أصابعها بمهارة تستحق الإعجاب … كان رأسها مرفوعًا سامقًا، وقوامها ممشوقًا متناسقًا، بينما سلطَت عينَيها على الأرض دون أن ترفعهما إلا لمامًا. أما شعرها فأنيق تعقده من الخلف بوردة حمراء. كانت شبيهة بالديك الرومي المُتطاوِس.
ها أنا ذا أراها الآن تدُق الأرض بحذائها بينما يُصفِّق باقي الفتيات ويصحن مشجِّعات كأنما يطلبن منها الاستمرار والإجادة. أخذَت ترقص كأنها مصارع ثيران يلفُّ حول ثورٍ هائج تُثيره بقطعة من القماش الأحمر. توقفَت هذه الراقصة قليلًا ولكنها لم تلبث أن واصلَت الرقص بحماسٍ أشد وبصورة تجبرك على الإعجاب والاحترام.
ما إن انتهت الراقصة الأولى من رقصتها البديعة هذه حتى جلسَت فوق مقعدها، وشرعَت الفتيات الأخريات يُطلِقن من جديد صيحاتهن المجنونة العالية، ثم قامت راقصةٌ أخرى تقدِّم رقصًا مختلفًا على وقع أنغام الموسيقى. اعتمدَت هذه الراقصة على قوامها الممشوق جدًّا وحركات أردافها البديعة المتزنة.
يعتمد الرقص الفلامنكو، أساسًا، على حركات القدمَين واليدَين معًا؛ فهما مترابطان متكاتفان، فتنقل الراقصة وتُترجِم نغمات الموسيقى وتُعبِّر عنها بحركات القدمَين وضرباتها الشديدة على ساعدَيها اللذَين قد يرتفعان عاليًا في الهواء وقد يهبطان إلى الخصرَين. والراقصة الإسبانية طويلة النفس لا تكلُّ ولا تتعب من الرقص، وقد تستمر ساعاتٍ طويلة تؤدي هذه الحركات العنيفة في تنسيقٍ بديع مُلفت للأنظار ومثير للإعجاب.
انتهت الراقصة الثانية وسط عاصفةٍ من التصفيق الحاد من المشاهدين. استمر التصفيق متواصلًا مدةً طويلة.
وكفاصل، تظل الفتيات يُصفِّقن بينما يعزف الشابَّان عزفًا متقطعًا ويغني المُنشد غناءً غير جادٍّ.
قامت راقصةٌ ثالثة، أجمل ما فيها وجهها البمبي اللون. هكذا بدا لي تحت الأضواء المُسلَّطة على وجهها وعلى ثوبها البمبي وقرطها الغجري الطويل والبمبي اللون أيضًا، متدليًا من أذنَيها يُداعب الهواء مع كل حركة تقوم بها. يا له من طابع جديد جميل من الرقص الفلامنكو يتَّسم بالسرعة الفائقة مع الحدَّة الشديدة في الدوران وفي ضربات القدمين!
أما ملابس الراقصات عمومًا ففي غاية الاحتشام؛ فالأكمام طويلةٌ تُغطي الذراعَين، والفساتين طويلة الذيول تصل إلى كعوب الأحذية.
تقوم الراقصة الإسبانية أثناء تأديتها الحركات بسرعة، تقوم بحركاتٍ كثيرة متناقضة؛ فتارة تحرك رأسها وساعدها وقدمها معًا في وقتٍ واحد، ثم لا تلبث أن تُصفِّق بيديها وتُطرقِع بأناملها، وفي لمح البصر تُمسِك بذيل فستانها وترفعه لتقوم بمجموعة من الحركات السريعة البديعة، التي تنمُّ عن مهارةٍ فائقة ومرانٍ طويل.
قامت الراقصة الرابعة تتلوَّى كما يتلوى الثعبان بجسمه. إنها راقصةٌ مرحة إلى أقصى ما يكون المرح، باسمة جميلة الثغر، ترقص وتغني في وقتٍ واحد بينما يردُّ عليها باقي الفتيات مع التصفيق الهادئ المنخفض. صوت الراقصة جهوريٌّ قوي، مُبدِعة في أدائها، متَّزنة في رقصها، متمكِّنة منه. هي أستاذة في الغناء، ولكنها سرعان ما تنقلب إلى راقصةٍ متينة وفنانةٍ مكينة، وكأن في قدمَيها مكوكًا سريعًا لا يكُفُّ عن الحركة الدقيقة المتواصلة الضربات والنقرات. تقف على خشبة المسرح كملكةٍ غير متوَّجة، تاجُها في صوتها ووقع قدمَيها الذهبيتَين.
دوَّت القاعة بالتصفيق الشديد لهذه المغنية الراقصة، أو قُل الراقصة المغنية؛ فهي ولا شك ضليعة في اللونَين معًا.
الفريق المائل أمامنا على منصة المسرح فريقٌ متكاتف يتعامل كأنه شخصٌ واحد. الكل يساعد بعضه البعض الآخر، ليس بينهن سيد ومسود.
قامت الراقصة الخامسة كالطاووس النافر، ترقص في خيلاء وكبرياء وشموخ، همُّها في حركات يدَيها اللتَين لا تستقرَّان أبدًا على حال، وفي ساقَيها اللتين تُناطِحان الأرض بلا رحمة ولا هوادة. طاووسٌ جميلٌ بديع التكوين طويل العنق، كما لو كان لها عنق نفرتيتي الجميل والذائع الصيت. أصابعها ترقص. كل إصبع تذهب في اتجاهها المعيَّن الذي رسمَته لها في براعة وإتقان. الراقصة في حالة تركيزٍ ذهنيٍّ شديد؛ فكل حركة محسوبةٌ عليها وضربات الأقدام يجب أن تتمشَّى مع أنغام الكمان العازف، ولكن الراقصة تسيطر على كل حركة. إنها أستاذةٌ تعرف ما تفعل. بدت هذه الراقصة تحت الأضواء كشعلة نارٍ ملتهبة؛ حذاؤها أحمر جميل، ورداؤها أحمر تجري فيه خطوط زرقاء صارخة. أما ذيل فستانها فأحمرُ صارخ، وربما كانت هذه الراقصة أكثر الراقصات إتقانًا وحُسنَ أداء.
إلى هنا انتهى العرض بالنسبة لنا بناءً على الزمن الذي حدَّدوه لنا في إطار الرحلة، كما رسمَتها لنا شركة السياحة خوليا.
كان المفروض أن نتناول شرابًا بالمجَّان داخل هذا المسرح، ولكن عقابًا لي ولثلاثةٍ آخرين رأينا أن نجلس إلى جوار حلبة الرقص، حُرمنا تناول هذا الشراب المجاني.
لم يفُتني، بالطبع، أن أُناقش الأمر مع المرشد الإسباني المرافق لنا، ولكنه كان يعلم بالعقوبة ويؤيدها، فكان هذا منه موقفًا لم نستلطفه؛ فالمفروض أنه معنا يرعى مصالحنا، ويدافع عنَّا، ويلتمس لنا الأعذار مهما أخطأنا؛ لأننا أجانب لا نعرف قواعد المسارح هناك، وطبعًا لا تكون أخطاؤنا مقصودة.
انطلقَت بنا السيارة بعد ذلك إلى الملهى الليلي تعود بنا مارقةً من نفس الشوارع التي مرَرْنا منها إلى مرقص الفلامنكو. تكاد تكون شوارع مدريد خالية من الناس، ومع ذلك فلا تزال المطاعم مفتوحة.
وقفَت بنا السيارة فجأة، فإذا بعددٍ كبير من الرجال والنساء يصعدون ليملئوا السيارة عن آخرها، ولم يكن بها من قبلُ أكثر من عشرة ركَّاب. لم أدرِ من أين جاء هذا العدد الضخم من الناس. وأغلب الظن أنهم من نزلاء فندقٍ معيَّن اتفق معهم على ذلك الزمان والمكان لتأتي إليهم السيارة فتُقِلهم إلى المسرح المنشود.
وصلنا بعد قليل إلى كباريه «فلوريدا بارك» فوجدناه من الداخل مبنًى ضخمًا فسيح الأرجاء.
بدأ العرض بعازفٍ يصيح صياحًا عاليًا شديدًا، يصاحبه عازفٌ آخر يضرب ضرباتٍ قوية.
جاءت الآن أربع راقصاتٍ يرقصن رقص الفلامنكو الهادئ، وهن مرتدياتٌ أثوابًا حمراء بلونٍ واحد ترتاح إليه العين. وبعد جولات ودورات ولفَّاتٍ رشيقات على أنغام المنشد ولاعب الكمان، يظهر فجأةً رجلٌ رشيق القوام جدًّا حتى لتكاد يدٌ واحدة أن تلتف حول خصره فتعصره عصرًا في سهولة ويسر. يرتدي هذا الرجل حُلَّةً رمادية اللون، ويلفُّ حول عنقه منديلًا، ويضع فوق شعره الكستنائي الممشوط جيدًا، والمتدلي إلى الخلف حتى يُغطي كل العنق من الخلف؛ يضع فوقه قُبعةً رمادية اللون مسطَّحة القمة. وأستطيع بكل ثقةٍ أن أُطلق على هذه الرقصة التي أدَّاها هذا الراقص الرشيق «رقصة القبَّعة»؛ إذ كان جُلُّ همه أن يحرِّك القبعة حركاتٍ رشيقة بديعة على أنغام الموسيقى، مما يدُل على احترامه الشديد لهذه القبعة. كان يرفعها عن رأسه ويلوِّح بها في حركاتٍ تجعلكَ تُحس بأن القبَّعة تُراقص الموسيقى وتفهمها وتلتحم معها ولا تتعامل إلا مع شاعريتها الرقيقة. مضى هذا الراقص الماهر يؤدِّي حركاته هذه لمدةٍ طويلة دون أن يُكرِّر أو يُعيد حركةً واحدة مرتَين. وفجأةً قذف بالقبَّعة في الهواء لتسقط فوق أرض الحلبة. وهكذا ضاعت هيبة القبعة وبدأَت هيبتُه هو كراقصٍ رشيق ممتع في حركاته. تَعجِز العين عن متابعة حركات ساقَيه وقدمَيه كأن جِنًّا قد تسلط عليها جميعًا.
استحوذ هذا الراقص على إعجاب المتفرجين، وكانوا بالألوف لا بالمئات، فراحوا يُصفقون له بلا توقف وكأنهم سُلبوا العقل والفكر والاتزان جميعًا، بينما الرجل ينحني في خفة العصفور فيزيد إعجاب الناس به، لاتصافه بخفة الروح وخفة الحركة وخفة الإحساس وخفة الوزن أيضًا.
ما إن ترك هذا الرجل خشبة المسرح حتى خرجَت لنا فتاةٌ تكاد تكون عارية تمامًا، باستثناء ورقة توت تضعها أعلى فخذَيها وورقتَين أخريَين ثبَّتَتْهما فوق نهدَيها. شرعَت هذه المرأة الجميلة الجسم تأتي بحركاتٍ أكروباتية تُثير الإعجاب كأن جسمها من نوع جسم الرجل المطاطي إن كان لك به علم. لم تترك هذه الراقصة الفاتنة اللولبية منصة المسرح إلا بعد أن قدَّمَت لنا كل ما عندها من فنونٍ أكروباتية شَابَ لها شعر رءوسنا. وهكذا استطاعت هذه المرأة الخيزرانية أن تُثبت لنا جميعًا أن للإنسان من القدرات ما يُثير الإعجاب بحق. كانت هذه الفتاة الحسناء، بحركاتها المثيرة، أشبه بسيمفونيةٍ كاملة تُعزف بالساقَين وباليدَين وبالخصر وبالعنق وبالظهر وبالبطن. كل شيءٍ عندها جائزٌ وحاضر وقريب؛ فمثلًا يمكن لساقَيها أن تلتفَّا حول رقبتها بسرعة وبسهولة من الأمام ومن الخلف، كما تستطيع رِجْلاها وفخذاها أن تنفرج بزاوية مستقيمة ١٨٠ درجة فتلاصق أرض المنصة. وكان بوسع رأسها الجميل أن يصل إلى قدمَيها من أي اتجاه يتصوَّره خيالك أو يصعُب على خيالك أن يتصوَّره، من الأمام ومن الخلف ومن الجانبَين وفي اتجاه بين الجانبَين والأمام أو الخلف. نسيتُ أن أقول لك إن أوراق التوت التي وضعَتْها كما سبق أن ذكرتُ لك، فضيَّة اللون تتألق تحت الأضواء فتبدو مرصَّعة بفصوص من الماس البرلنتي الثمين. وأغلب الظن أنها لم تكن أوراقًا بل قطعًا من القماش البديع صُنع خصيصًا لهذه الراقصة الثعبانية الجسم.
ظهر لنا بعد ذلك راقصةٌ فارعة الطول مستقيمة الظهر منتصبة القامة مرفوعة الرأس. تبدو شامخة في أنَفَة، معتزَّة بنفسها وبجبروتها في فن الرقص الفلامنكو. صاحَبها المغني والعازف فأمتعَتْنا بحركاتٍ بدت لي في كثيرٍ منها كأنما هي تُصارِع ثورًا إسبانيًّا في حلبة مصارعة الثيران، وأنها، ولا شك، قد صرعَتْه قبل أن يصرعَها. كل حركاتها تنمُّ عن النصر والظفر والفوز والتفوُّق والتعالي، ولكنها رغم هذا؛ لم تلقَ منا سوى الإعجاب الشديد المتمثل في التصفيق الحاد المتواصل الذي أثلج صدرها وملا أذنَيها زهوًا وخُيلاء، وزادها ثقة بالنفس، وكأن ذلك التصفيق لم يكن إلا أوسمةً نُلصِقها بأيدينا فوق كل جزء من جسمها اللدن المتمرس في فن الرقص الراقي البعيد عن الفُحش والتفاهة والمشاعر الحيوانية.
تَلَت ذلك نمرةٌ أخرى طلع بها علينا شابٌّ إسباني في حوالي الثلاثين من عمره. كانت حركاته إعلانًا صارخًا على ما يتمتع به هذا اللاعب الماهر من قدرةٍ عجيبة قلَّما تُوجد لدى غيره، في فن التحكم والتركيز؛ فمثلًا يستطيع هذا الشاب أن يحمل أكثر من صينية، وفوق كل صينيةٍ مجموعةٌ كبيرة من الكئوس الزجاجية المملوءة بالنبيذ الأحمر. كان يرفع كل هذا الحِمل الغريب فوق سن خنجر يمسك به من مقبضه بين فكَّيه. كان يرفع تلك الصواني بما عليها من كئوس فوق ساقٍ حديدية مستديرة، يرفعها إلى ارتفاع يزيد على خمسة أمتار بينما يرتكز أسفل الساق على نصل الخنجر المسنون واللاعب يُسيطر على الصواني سيطرةً تامة فلا تنقلب أو تهتز، بل تبقى معلَّقة في الهواء.
والأدهى من ذلك أن هذا اللاعب صَعِد بكل ذلك الحِمل المثبَّت على لا شيء فوق درجات سُلمٍ أحضره أمامنا وثبَّتَه على قضيبٍ رفيع، وراح يصعد الدرجات بخفة العصفور. ويا ليتَه اكتفى بذلك فيكون قد استحق إعجابنا وتقديرنا، ولكنه ارتمى بظهره فوق السلم نائمًا جاعلًا رأسه إلى أسفل وقدَمَيه إلى أعلى بينما تتحرك يداه في الفضاء كأجنحة الطير. كل هذا والحِمل المُعلَّق فوق لا شيء والمرفوع عاليًا يقف في الفضاء ثابتًا راسخًا دون أي اهتزازٍ فوق حدِّ الخنجر الموضوع داخل فمه؛ شيءٌ بديع حقًّا وخارقٌ للعادة والمألوف وبراعةٌ نادرة تمثِّل قدرة الإنسان الغريبة على منتهى التحكم والإعجاز. والتصفيق المدوِّي من ألوف النظارة يخترق أذني إعجابًا بهذا العمل الخارق الذي قام به هذا اللاعب المثير ذو الأعصاب الفولاذية والكفاءة النادرة في قوة التحكم.
خرج هذا اللاعب وسط عاصفة التصفيق، وجاءت مجموعةٌ من راقصات الفلامنكو، كلهن يرتدين أثوابًا متشابهة في اللون والشكل عدا راقصة واحدة ترتدي فستانًا من لونٍ مختلف. كانت هذه الأخيرة هي التي استمتعنا بحركاتها الجريئة.
حقًّا، إن الرقص الفلامنكو يخلق من الفتاة إنسانةً تتصف بالشجاعة التامة، شجاعة الرجل وجرأة الرجل وجسارته. وانقلب المُغنِّي في هذه الرقصة بالذات إلى مجرد حنجرةٍ جبارةٍ تستحق التأمل والإعجاب. كان بحنجرته أقوى من الراقصة بحركات قدمَيها وساقَيها وذراعَيها وعنقها. كان هو المسيطر المتحكم، يسرق عدسة الكاميرا من الراقصة. اتجهَت أُذناي إلى إنشاده الجَهْوَري القوي وإلى صوته الصافي العميق الجميل الصادق، أثار هذا المُغنِّي إعجابي بصورة جعلَتْني أصفِّق له كالمجنون.
في نهاية العرض ظهر على المنصة جميع الراقصات والراقصين واللاعبين وكل من أسهَم في تقديم هذا العرض الشيق السريع «الشيك». ظهروا جميعًا لكي يحظَوا بالتحية الصادقة من المعجَبين والمشدُوهين من المتفرِّجين القادمين من شتى بلاد الدنيا.
انتهى العرض إلى هذا القَدْر فعلًا. لم يستغرق أكثر من ساعةٍ واحدة.
وبمناسبة هذا العرض الشيق، يُسعدني أن أصفَ لك عَرضًا مماثلًا شاهدتُه في بودابست عاصمة المجر. ولما كان ذلك العرض يستحقُّ الذكر فها أنا ذا أنقلُ إليك يا قارئي العزيز تفاصيلَ ما رأيتُ، بقَدْر من الدقة والأمانة.
«ذهبتُ في رحلة إلى أوروبا أزور فيها المجر والنمسا وفرنسا وإنجلترا. بدأت الرحلة مع اثنَين وثلاثين شخصًا إلى المجر أولًا. وفي أول ليلةٍ لنا في بودابست رأت المشرفة أن نشاهد عرضًا يقدِّمه ملهًى ليلي. ولمَّا كان ثمَن تذكرة الدخول ٢٠٠ فورنت؛ أي حوالي ٦٤٠ قرشًا مصريًّا، فلم يذهب منا لمشاهدته سوى القليل، وكنتُ أنا واحدًا منهم.
ذهبنا إلى ذلك الملهى في حوالي الساعة التاسعة والنصف مساءً وهي ما تُقابل الساعة الثامنة والنصف عندنا في مصر. كان الملهى في الطابق الثالث تحت الأرض من مبنًى ضخم يضُم عددًا من المتاجر والمكاتب. وارتفاع هذا المبنى فوق الأرض عشرة طوابق. أما تحت الأرض فلا أدري غيرَ أننا نزلنا إلى الطابق الثالث وربما كان تحته طوابقُ أخرى. في الساعة العاشرة تمامًا بدأَت الموسيقى الهادئة تعزف. الملهى مكانٌ غير فسيح به حلبةٌ نصفُ دائرية يبلغ طولها حوالي ثلاثين مترًا ونحن نجلس حولها من الخارج. عدد المتفرِّجين لا يزيد على مائتَي شخص. بمجرد أن شَرعَت الموسيقى في العزف جاء النُّدُل يوزِّعون علينا الآيس كريم. كانت كل قطعة من الآيس كريم بشكل تورتةٍ مزخرفة من أعلاها وجوانبها كالتورتة تمامًا، وتكفي أربعة أشخاص لا شخصًا واحدًا. كان بعض هذه التورتات بلونٍ أبيض والبعض الآخر بلون الشيكولاتة، فوزَّع النادل الآيس كريم الأبيض على السيدات والشيكولاتة على الرجال، ولكني أعطيتُ جارتي نصف تورتتي وأخذتُ نصفَ ما في طبقها لتذوُّق الصنفَين كلَيهما. بعد حوالي خمس دقائقَ دخلَت ست راقصات نصفهن بفساتين من لون لبني زاهٍ جميل والنصف الآخر بفساتين من لونٍ ليمونيٍّ زاهٍ جدًّا. أخذَت الراقصات يقدِّمن رقصًا بديع الحركات أشبه ما يكون بالحركات العسكرية، ويزيد عليه في تمايُل أجسام الراقصات وانثناءاتها، ودورانهن أثناء السير على حلبة المسرح بصورةٍ بديعةٍ مثيرة وسرعةٍ غريبة، ثم دخلَت راقصةٌ ترتدي فستاتًا أحمر بلونِ زهر الرُّمَّان، وقدَّمَت رقصاتٍ مثيرة الحركات والراقصاتُ الست يَسِرن حولها. كانت رقصاتُها أشبه ما تكون برقصات الباليه.
بعد ذلك خرجَت الراقصات ودخل لاعبٌ ومعه مُهرج (بلياتشو). أمسَكَ اللاعب بطَوقٍ كبيرٍ وضع فوق حافته من الداخل كوبًا كبيرًا مملوءًا بسائلٍ أحمر ربما كان شراب الورد، وأخذ يلفُّ الطَّوق ويُديره في الهواء بسرعةٍ مذهلة، دون أن تنسكب من الكوب قطرةٌ واحدة أو يقع الكوب نفسه، مما أثار إعجابنا، فأخذنا نُصفِّق له بشدة. ولما انتهى من إدارة الطوق صاح المهرِّج باللغة المجرية التي لا تُشبه الإنجليزية ولا الفرنسية ولكنها تُشبه الألمانية بعض الشيء، فلم نفهم ما قاله، بالطبع، ولكن الظاهر أنه قال: وماذا فعلتَ؟ هل فعلتَ شيئًا خارقًا؟ أنا أَلُفُّ الطَّوق بالكوب أسرع منك. فناولَه اللاعب الطوق والكوب، فما كان من المهرِّج إلا أن شرب ما في الكوب ووضَعه هو والطَّوق على نضدٍ بعيدٍ فوق الحلبة. أراد اللاعب القيام بلعبةٍ أخرى، فجاء بشمعدان به شمعةٌ قصيرة وأخرج عُلبة ثقاب وأشعل منها عودًا أوقد به الشمعة. وبينما اللاعب يستعد لإخراج أداةٍ أخرى، أكل المهرِّج الشمعة، فما كان من اللاعب إلا أن غضب، وأخذ يشتم المهرِّج ويضربه ويضغط على بطنه، وأخيرًا وضع يده اليسرى على بطن المهرِّج، وضغط على ظهره بيده اليمنى، وثنى الظهر إلى أسفل بحيث ترتفع أَلْيَة المهرِّج إلى أعلى وقبالة المتفرجين، فإذا بنورٍ صغيرٍ يضيء وسط منتصف أَلْيَة المهرج، كأنه قد تبرَّز الشمعة موقدة، مما أثار عاصفة من الضحك. بعد ذلك جلس اللاعب حزينًا على مقعد، فأراد المهرِّج أن يُطيِّب خاطره بأن يعزف له على الكمان، ففتح عُلبة الكمان ومسح أوتارَها بالقلفونية، وأمسك القوس ومسحَها أيضًا بالقلفونية، ووضعها إلى جانب الكمان، ثم أخرج زجاجة من عُلبة الكمان، كانت زجاجة ويسكي صغيرة ملأ منها كأسًا وشربها، ثم أخذ فوطةَ سُفرة واتجه إلى اللاعب فمسح له فمه بها، كأنه هو الذي شرب الويسكي، ثم أقفل عُلبة الكمان دون أن يعزف شيئًا. فقام اللاعب وانهال على المهرِّج ضربًا وهذا يصرُخ ويستغيث. ولما لم يجد من يهبُّ لنجدته صار يضغط بإحدى قدمَيه على الأرض فيرتفع إلى أعلى ثم يضغط بالقدم الأخرى فيرتفع أكثر، وهكذا حتى صار بارتفاع حوالي ثلاثة أمتار بمنأًى عن مُتناوَل يد اللاعب. والغريب أنه كلما ارتفع طال بنطلونه حتى صار البنطلون طويلًا جدًّا بكامل ارتفاع أرجل المهرِّج ويصل إلى قدمَيْه، فأخذ اللاعب يشتمه ويتوعَّده، فما كان من المهرِّج إلَّا أن خلع جاكتته وقذف بها اللاعب، ثم خلع صديريته وقذف بها اللاعب أيضًا، فظهَرَت تحتها صديريةٌ أخرى، فخلعها وقذف بها اللاعب. وهكذا توالت الصديريات إلى أكثر من عشرين صديرية، فجذب اللاعب طرفَ حبل في الأرض، فهبط المهرِّج شيئًا فشيئًا حتى صار في طوله العادي، فحاول اللاعب أن يركله بالشلُّوت فجرى إلى خارج الحلبة في حركاتٍ مضحكة واللاعب يُطارِده. والمتفرجون يضحكون ملء أفواههم بصوتٍ مرتفع.
دخلَت بعد ذلك ست فتياتٍ بارعات الفتنة والجمال لم ترَ عيني طول حياتي أجمل منهن. وكن عارياتٍ تمامًا فيما عدا قطعةً صغيرة من القماش الذهبي تُستُر العورة من الأمام وقطعتَين أخريَين تستران حلمة الثديَين والدائرة التي حول كل حلمة. وكانت هذه القِطَع بشكل القلب.
أخذَت الفتيات يرقصن في حركاتٍ مثيرة، فيرفعن إحدى الأرجل حتى تصير القدم إلى جانب الرأس، ثم يفترشن الأرض بسرعةٍ باسطاتٍ سيقانهن إلى الأمام في خطوطٍ متوازية بينما يقمن بحركات بالأذرُع، ثم ينهضن واقفاتٍ في خفَّةٍ غريبة ويدُرن بسرعة في دائرة وأذرع إحداهن تَرتفِع إلى أعلى بينما تنخفض ذراعا التي تليها إلى أسفل، ثم ترتفع هذه وتنخفض الأولى في تبادلٍ جميل. بعد ذلك ارتمت الفتيات على الأرض بسرعةٍ أيضًا فإذا بهن في دائرة وأقدامهن جميعًا في مركز الدائرة وسيقانهن أنصاف أقطار الدائرة. تصوَّر هذا المنظر والفتيات عاريات! وبسرعة البرق تنزلق الفتيات وترتفع أقدامهن إلى أعلى ملتقياتٍ معًا في نقطةٍ واحدة، بينما هن مرتكزاتٌ على أيديهن في شكل دائرة أيضًا، فيُخيَّل إلى الرائي أنه يرى ثمرة كمثرى آدمية. وهكذا توالت هذه الحركات وأمثالهن من الفتيات العاريات والجمهور يُصفِّق بشدة لرشاقة الحركات وخفَّتها وسرعتها وجمالها، ثم خرجَت هؤلاء الفتيات.
وعلى الفور دخل لاعب أثار إعجابنا تمامًا. كان بارعًا وخارقًا في ألعابه التي لا يُصدِّقها العقل.
عندئذٍ جاء النادل فرفع أطباق الآيس كريم الفارغة من أمامنا، ووضَع أمام كل واحدٍ منا كأسًا كبيرة من الشمبانيا وكيسًا كبيرًا من البلاستيك مملوءًا باللوز المقشور.
أخذ اللاعب نضدًا مستديرًا ذا ثلاث أرجلٍ فوقه صينيةٍ عليها إبريق للشاي وإبريق للبنِّ وسكَّرية وفنجانا شاي بطبقَيْهما. وضع أرجل النضد فوق مقابض ثلاثة خناجر، ووضع أسنَّة الخناجر الثلاثة في قطعةٍ معدنية صغيرة تُشبه «الكستبان» ثم وضَع هذه القطعة المعدنية فوق جبينه، وأخذ يرقص على أنغام الموسيقى والنضَد بما عليه من طاقم الشاي فوق الخناجر، والخناجر مرتكزة على القطعة المعدنية الصغيرة فوق جبينه؛ فلو اختلَّ توازُن النضَد لدخلَت أسنَّة الخناجر في جبينه وعينَيه، ولكنه ظل يرقص بما على جبينه مدةً طويلة. وفجأةً وقع النضَد على جانبه، فإذا باللاعب يُمسِك الخناجر الثلاثة بسرعة البرق من نصالها بإحدى يدَيه وإحدى أرجل النضَد باليد الأخرى. ذُعر المتفرجون القريبون منه وقفَزوا من أماكنهم لئلا تقع عليهم أباريق الشاي والصينية والنضَد، ولكن الأباريق والسكَّرية والفناجين وأطباقها كانت مربوطةً إلى الصينية بخيوط والصينية مربوطة إلى النضَد بخيط، وكانت هذه حركةً من هذا اللاعب ضحك لها المتفرِّجون كثيرًا حتى مَن قفزوا من أماكنهم فزعين؛ ضحكوا لمَّا وجدوه مُمسكًا بإحدى أرجل النضَد الذي تتدلى منه الصينية والأباريق والفناجين والأطباق.
بعد ذلك جاء هذا اللاعب بكُرة تِنِس وحلقةٍ معدنية تمُرُّ منها الكرة بالضبط ولا تتسع لورقةٍ صغيرة تمُرُّ مع الكرة، فثبَّت الحلقة في حزامه من الخلف عند ظهره، وأمسك مرآة في يده، وضرب كرة التنس بقدمه إلى أعلى فارتفعَت في الهواء وسقطَت لتمرَّ من الحلقة المثبتة في حزامه من وراء ظهره. لعبة بارعة؛ ففي لعبة الباسكت بول (كرة السلة) يُمسِك اللاعب كرةً كبيرة ويقذفها أمامه بيدَيه لتسقط وتمُرَّ من حلقةٍ كبيرة، ويُخطئ الهدف مرارًا بينما هذا يقذف الكرة بقدمه، وهي كرةٌ صغيرة، فتسقط وراء ظهره، وتمُرُّ من الحلقة الصغيرة فلا يُخطئ الهدف.
بعد ذلك جاء هذا اللاعبُ بكرة قدم، وقذفها إلى المتفرجين كي يقذفوها له، فيلقفها فوق قطعةٍ صغيرة من الخشب تُشبه المسطرة، يُمسِكها بين أسنانه فلا تتحرك الكرة من فوق طرف قطعة الخشب، فيأخذها ويرميها للمتفرجين مرةً أخرى، فيلقَفُها على طرف المسطرة، وهكذا عدة مرات. وكان بعض المتفرجين يقذف الكرة عالية، فتسقط فوق طرف قطعة الخشب تمامًا وتظل ملتصقةً به. وكان بعضهم يقذفها له منخفضةً جدًّا تكاد تكون بمستوى أرض الحلبة، وعندئذٍ ينبطح اللاعب أرضًا بسرعةٍ مدهشةٍ ويلتقط الكرة فوق طرف الخشبة دون أن تُلامس أرض الحلبة، وبذا نال إعجاب المتفرجين وتصفيقهم. والغريب أن هذا اللاعب الخفيف الحركة بهذه السرعة كان بدينًا.
دخلَت الحلبة فتاةٌ وسيمة الوجه قال لنا النادل إنها زوجةُ ذلك اللاعب، فتوقفَت أمام حاجزٍ خشبيٍّ ومدَّت ذراعَيها والتصقَت بالحاجز، فأخذ اللاعب عددًا من الخناجر، فراح يُمسِك الخنجر من سِنِّه بأسنانه ويقذفه في فمه فيلتصق بالحاجز الخشبي بجانب جسم الفتاة تمامًا. وهكذا صار يقذف الخناجر بفمه حتى أحاط جسمَ زوجته وذراعَيها ورأسَها بالخناجر الحادة الأسنَّة بدليل أنها تنفُذ في الحاجز الخشبي وتلتصق به؛ فلو أخطأ هذا اللاعب الهدف مرةً واحدة لقتل زوجته، فصفَّق الجمهور له تصفيقًا حادًّا، فانحنى لنا، وخرج من الحلبة هو وزوجته.
توقَّف العرض بعد ذلك حوالي عشر دقائق، وزَّع النُّدل علينا أثناءها قِطعًا من التورتة؛ لكل واحدٍ قطعةُ تورتة كبيرة تكفي شخصَين. وكانت التورتات لا تحتوي على شيءٍ من العجين إطلاقًا، بل كلها فواكهُ وكريمة وشيكولاتة.
دخل لاعبٌ آخر أثار إعجابنا أكثر مِن كل مَن سبقوه؛ إذ صَعِد فوق نضَدٍ صغير بارتفاع حوالي متر ونصف ووضع فوقه زجاجة بيرة، ووضع إصبعه السبابة فوق فوَّهة الزجاجة، وانقلب في الهواء ساقاه إلى أعلى ورأسُه إلى أسفل وهو مرتكز على الزجاجة بسبَّابته فقط. وجاءت فتاةٌ فناولَتْه طَوقَين، فوضع كل طَوقٍ في ساق، وصار يحرِّك كل طوقٍ برجله والأطواق تلفُّ بسرعة، ثم أعطته الفتاة عصًا صغيرة وطوقًا، فأمسَك العصا بأسنانه، ووضع الطوق حول العصا، وأخذ يُحرِّك الطَّوق بالعصا بفمه والطوق يدور حول العصا بسرعة، بينما يدور الطَّوقان الآخران حول ساقَيه أيضًا، ثم أعطته طوقًا آخر راح يديره حول إصبع يده الخالصة. كل هذا وهو مرتكز فوق فوَّهة الزجاجة على إصبع واحدة والأطواقُ الأربعة تدور بسرعة حول ساقَيه وحول إصبعه وحول العصا التي في فمه. وبقي على هذه الحال مدةً تقرُب من الخمس دقائق، ثم رمى الطَّوق الذي في إصبعه، فالطوق الذي في فمه، فالطَّوقين اللذَين حول ساقَيه، ثم قفز هو في الهواء ولفَّ حول نفسه في الهواء ليسقط على الأرض واقفًا على قدمَيْه فوق الحلبة وسط التصفيق الشديد الذي دوَّى بقوة لمدةٍ طويلة.
وهكذا توالت رقصاتٌ وألعابٌ أخرى لا يتسع المقام هنا لذكرها، ثم خرجنا من الملهى ونحن لا نصدِّق ما رأيناه كأننا كنا في حُلم؛ إذ كلها أعمالٌ خارقة لا يمكن أن نتصور أنها صادرةٌ من بشر …»
نعود إلى مدريد. حملَنا الأوتوبيس في رحلة العودة، وتفضَّل السائق مشكورًا بأن أوصل كل راكبٍ إلى فندقه، فوصلتُ أنا إلى فندقي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.