تجربة قاسية في مطار نيس
عُدت لآخذ حقائبي الثلاث، فكانت الطامَّة الكبرى والمصيبة العظمى عندما لم أجد حقيبةً واحدة منها حيث تركتُها بجوار ذلك الحائط الزجاجي الذي أرشدَني إليه الحمَّال الفرنسي. هنا طار صوابي وجُنَّ جنوني وتصبَّب العرق غزيرًا من وجهي، وأخذتُ أجري هنا وهناك كالمأفون. ماذا أعمل الآن؟ ولكنني ما إن أبصرتُ ذلك الحمَّال الذي أشار عليَّ بتلك المشورة السيئة، بل والنجسة، حتى أسرعتُ نحوه أسأله عن حقائبي، وكان قد رآها ورآني وأنا أضعها بجوار الحاجز الزجاجي. وكم كانت دهشتي عندما زمجر وكشَّر عن أنيابه وأنكر في إصرار أنه رآني. فرُحتُ أعوي صارخًا في وجهه متهمًا إيَّاه بأنه الوحيد الذي يعرف كل شيء عن حقائبي، وأنه يعرف أين ذهبَت واختفت، فراح ذلك الحمَّال يرطُن بالفرنسية مُدافعًا عن نفسه بما يُفهَم منه أنه لا يعلم شيئًا عني ولا يفهم شيئًا مما أقول. لا بد أنه مرَّ بعشرات من هذه المواقف ويعرف جيدًا كيف يتخلَّص منها كما تُسلُّ الشعرة من العجين. كان من الصعب عليَّ أن أحتمل هذا الموقف. أنا الآن مجردٌ من كل شيء، وبلا شيء في الدنيا، لا أملك حتى مُوسَى الحلاقة. لقد ضاع كل شيء؛ ملابسي الداخلية، والخارجية، وغيرها.
هدَّدتُ بإبلاغ الشرطة، فردَّ الرجل بما معناه: «طظ في الشرطة.» فاتجهتُ إلى مكتب الشركة حيث راح أحد الموظفين يدوِّن بيانات عن الموضوع. سألَني هل رأيت الحقائب وحملتها من فوق السير، قلتُ نعم. وعندئذٍ فهمتُ من كلامهم أن المسئولية قد انتفت عن الشركة، ولم تعُد مسئولةً عن ضياع الحقائب طالما قد وصلَت بسلام وتسلَّمتُها من فوق السير. بيد أنني أصررتُ على أنني كنتُ ضحية إرشاد الحمَّال، وأنه هو الذي ضللني عامدًا مُتعمدًا كي يُخفي الحقائب بطريقته الخاصة. كانت الفجيعة أكبر من أن تُحتمل. لقد فقدتُ كل شيء في الساعات الأولى من رحلتي. معنى هذا أنه لا بد لي من العودة فورًا إلى مصر. وكأنني خرجتُ من بيتي الآمن في فجر يوم السبت، الموافق ٩ من يوليو سنة ١٩٧٧م، كي أعود إليه في مساء نفس ذلك اليوم، وقد جُرِّدتُ من ملابسَ كثيرة جديدة وغالية وهدايا عديدة وأشياءَ أخرى لا أول لها ولا آخر، اشتريتُها خصيصًا للرحلة كي أنعم بها على مدى ستة أسابيع متنقلًا بين فرنسا وإسبانيا وبلاد اليونان.
حقًّا ما أتعسَني في ذلك الوقت وأنا جالسٌ مبلبل الفكر، مُشتَّت الخاطر، محزون الفؤاد، فوق أريكة بمطار نيس بفرنسا، أنظر إلى الحركة الدائبة التي لا تكُف داخل المطار، وأحسُد كل إنسانٍ وجد حقائبه وخرج بها من المطار ليذهب إلى حيث وجهته خالي البال والذهن! كنتُ أجلس حيث جلستُ نهبًا للهواجس الكثيرة تفترسُني. ماذا لو أن حقائبي لن تعود وهذا هو الأرجح، ومن سوف يعوِّضني عن كل ما بداخلها؟ وكيف أستطيع تعويض المفقود والمفقود لا يعود، وإن عاد فكيف يعود في جودته وارتفاع ثمنه؟ وكيف لي أن أتذكَّر عناوين جميع أصدقائي في شتَّى أنحاء العالم، وعناوينُهم كلها مُدوَّنة في مفكرتَين كبيرتَين موجودتَين داخل إحدى الحقائب؟ ماذا سيكون شعور أولئك الأصدقاء عندما تنقطع رسائلي عنهم فجأةً وإلى الأبد؟ فلو ظنوا أنني متُّ فلا ضير ولا عتاب عليهم والموت أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد. ولكن كيف أكون في عِداد الأحياء ولا أُراسلهم؟ والمراسلة إحدى هواياتي، أحبها وأجد فيها لذةً ما بعدها لذة، وأمارسها على نطاقٍ واسع منذ سنواتٍ عديدة. يا لها من خسارة فادحة! فقدان الأصدقاء الأعزاء الذين كوَّنتُهم وتآلفتُ معهم وخرجتُ بهم من جميع رحلاتي وزياراتي للعالم الخارجي. إنهم مجموعةٌ من الناس لا يُعوَّضون بحالٍ ولا يُشتَرون بمال. قومٌ قلوبهم من ذهب نضار، جُبلوا على فعل الخير ومد يد العون لو أحسُّوا بحاجتي إلى دواء أو غيره؛ فكم من مرة ساعدوني بطريقةٍ ما أو بأخرى لوجه الله تعالى لا يريدون منِّي جزاءً ولا شكورًا، بل من باب المحبة والوفاء والصداقة. إنهم أصدقاءُ بكل ما لهذه الكلمة من معانٍ، يهمُّهم أمري وتعنيهم حياتي وشئوني وسعادتي وصحتي، ويهتمون بها اهتمامًا بالغًا، كما لو أنني كنتُ أخًا لهم، أو ابنًا من أبنائهم. وداعًا، أيها الأصدقاء الأحبَّاء، والخلَّان الأوفياء. لقد مات صديقكم المصري لأنكم لن تسمعوا عنه أو منه، بعد اليوم وإلى الأبد.
أدخلوني مكتب الشركة، أو الأصح أنا الذي اقتحمتُه مُعلِنًا فجيعتي بضياع حقائبي الثلاث، بكل ما فيها، فحاول رجلٌ يرتدي الملابس المدنية أن يُهدِّئ من رَوْعي، وبدأ يسألني عن الموضوع، وراح يُقلِّب في جواز سفري وتذكرتي. ولما تأكد من سلامة كل شيء، شرع يُدوِّن على ورقةٍ رسمية إجابتي على أسئلته. سألني عن بعض محتويات الحقائب، وهل بداخلها أي شيءٍ مميز، ثم عن حجم الحقائب وألوانها وأشكالها، ثم أعطاني كعب المحضر الرسمي الذي كتَبه وفي ذلك الكعب اسمه ورقم تليفونه، ثم طلب مني أن أتوجَّه إلى فندقي ومن هناك أستطيع السؤال عن الحقائب بالتليفون. ولمَّا سألته عما إذا كان هناك أملٌ في العثور على الحقائب المفقودة قال: أغلب الظن أنها حُملَت خطأً ضمن حقائب مجموعات السُّياح، لا سيما وأنه كان على نفس الطائرة التي أقلَّتني مجموعتان من السائحين المصريين حضروا لتمضية أسبوع في مدينة نيس. ثم طلب منِّي مرةً أخرى أن أذهب إلى الفندق وأستريح هناك، كما طلب مني ألا أشغل بالي أو أقلق، فخرجتُ من عند هذا الرجل وأنا أقول لنفسي، كيف لا أقلق، بل وكيف يطالبني بأن أهدأ بالًا. ماذا عساي أفعل إذا لم يعثروا على الحقائب؟ فكلما ومضَت هذه الفكرة في بالي ومرَّت بخاطري شعرت بأنني أكاد أفقد عقلي تمامًا. لقد «باظت» رحلتي بعد ساعاتٍ قلائل من قيامي بها. وكان المفروض أن أنعم بها على مدى شهرَيْن تقريبًا، ليس في فرنسا فحسب، بل وفي كلٍّ من إسبانيا واليونان؛ حيث كان من عادتي، في كل عام، أن أقضي شهرًا كاملًا متنقلًا في ربوع اليونان الجميل.
خرجتُ من عند ذلك الرجل على أن أتوجَّه إلى الفندق الذي سأبيت فيه ليلتي، وهناك أنتظر منه مكالمةً تليفونية عن حقائبي، ولكن قلبي لم يطاوعني أن أترك المطار وتحقق فيَّ قول الشاعر المرحوم محمود غنيم:
جلستُ فوق أقرب أريكة داخل صالة التخليص، فحاول بعض المُخلِّصين بصالة الجمرك إقناعي بأن الأمانة متوفرة في هذه المنطقة، وأن حقائبي لا بد نُقلَت خطأ مع حقائب فريق من الزائرين السائحين وضعوا حقائبهم بقرب حقائبي، فنقلها الحمَّالون إلى الأوتوبيس الذي سيُقِلهم إلى فندقهم ظنًّا منهم أنها ضمن حقائب الفريق، وماذا يهمهم وهم يتقاضون الأجر بالحقيبة، فكلما كان عدد الحقائب أكبر كان أجرهم أكبر، كما أخبرني هؤلاء الرجال بأن المكتب سيعثر عليها حتمًا، الليلة أو غدًا على الأكثر، فشكرتُهم وحاولتُ أن أستمر في عنادي بالبقاء في المطار داخل صالة الجمارك. تملكَتْني فكرة أن وجودي إلى جوارهم وعلى مرمى أبصارهم سوف يُضاعف من اهتمامهم، ولن يهيئ لمشكلتي فرصة أن تغيب عن بالهم، ولكن الإعياء الشديد كان قد بدأ يدبُّ في أوصالي ورأسي وينال مني كل منال، فنظرتُ إلى الساعة وحسبتُ الزمن، فوجدتُ أنه مضى عليَّ الآن اثنتا عشرة ساعة بالتمام لم أذُق فيها طعم النوم ولم أسترح من وعثاء السفر ومشاقه، بل وما زاد الطين بِلةً هو الإجهاد الذهني وبلبلة الفكر بسبب ضياع حقائبي الذي هزَّ كياني بعنف وحطَّم أعصابي. كنتُ قد صحوتُ كما ذكرتُ من قبلُ، في الساعة الرابعة صباحًا، وها هي الساعة الآن تُشير إلى أن الوقت هو الرابعة أيضًا.
شعَرتُ بأنني سأفقد توازني من شدة الإرهاق والإعياء، وأخذ رأسي يثقل شيئًا فشيئًا حتى كاد يسقط ويرتمي فوق صدري. عندئذٍ فقط، رأيتُ من الأنسب لي أن أنصرف من هذا المكان اللعين إلى الفندق لأُلقي برأسي وجسدي فوق الفِراش.
وفعلًا وبدون أدنى ترددٍ أو تفكير وجدتُ نفسي خارج المطار أنادي تاكسيًا، فأخذني سائقٌ شاب إلى الفندق الذي اتفقَت معه موظفة المطار. ولم تمضِ دقائقُ معدودات حتى وقف التاكسي أمام الفندق، فطلب مني السائق أربعين فرنكًا؛ أي ما يعادل ستة جنيهات مصرية ونصف الجنيه، في مسافة لا يطلب فيها التاكسي المصري أكثر من عشرين قرشًا، فدفعتُ له المبلغ دون نقاش مع التعبير له عن شكري الكثير.
استقبلَتني فتاة الفندق قائلة: «أنت السيد سلامة الذي طلب من المطار أن تُحجز له حجرة؟» قُلت: نعم. وقدَّمتُ لها الإيصال الذي أخذتُه من موظفة المطار، والذي تقاضت مني عنه خمسة فرنكات نظير الاتصال التليفوني من المطار إلى الفندق الموجود بنفس المدينة. وقد أفهمَتني هذه الموظفة بأنها حجزَت لي حجرة أجرها عشرة دولارات في الليلة. غير أن فتاة الفندق أفهمَتني أن الحجرة مقابل ثلاثة عشر دولارًا ونصف الدولار. وهذا الفرق كبير لا يُستهان به. ولمَّا كنتُ أريد فراشًا أرتمي فوقه بأي ثمَن، قبلتُ السعر الجديد مُكرهًا مرغمًا.
سألَتْني موظفة الفندق عن حقائبي فقلتُ لها في حسرة لا نظير لها: ليس معي حقائب لأنها ضاعت كلها في المطار، ضاعت في الفترة التي كنتُ فيها بعيدًا مشغولًا بالاتصال التليفوني بالفندق لحجز هذه الحجرة اللعينة. فتألمَت الفتاة وشغلَتها محنتي وطلبَت مني أن أشرح لها ما حدث بالتفصيل، فحكيتُ لها ما حدث بالضبط. فابتسمَت الفتاة بعد أن استمعَت بإمعان إلى قصتي، وقالت: لا تخف يا سيدي لا يستطيع شخصٌ واحد، مهما تبلغ مهارته، أن يسرق ثلاث حقائب مرةً واحدة من صالة الجمرك. ولو كان السارق لصًّا لسرق حقيبةً واحدة وأفلت بها من رجال الجمارك. أما أن يسرق ثلاث حقائبَ كبيرة كالتي تصف حجمها لي، فهذا أمرٌ غير معقول هنا في فرنسا. أغلب الظن أنها حُملَت خطأً مع حقائبَ أخرى لأُناسٍ آخرين. وعلى العموم، هل تريدني أن أتَّصل تليفونيًّا بالرقم المُعطى لك وبالرجل المذكور اسمه على قصاصة الورق التي معك، والذي أخذ أقوالك، والمفروض أن عليه البحث عن الحقائب المفقودة؟ قُلت: أكون شاكرًا. فاتصلَت به فعلًا وجاءها الرد يقول: لم يعرف شيءٌ بعدُ عن مصير هذه الحقائب، ويجب على صاحبها أن يتذرع بالصبر. فصَعِدتُ إلى حجرتي رقم ٣٥ بالدور الثالث من الفندق المُشيَّد حديثًا. فتحَت لي فتاةُ الفندق باب الغرفة، فوجدتُها فسيحةً نظيفة ومريحة. كل شيء فيها ينمُّ عن الذوق الرفيع مع البساطة المحببة إلى النفس. خلعتُ ملابسي الخارجية، وارتميتُ على الفراش بعد أن ابتلعتُ قرصًا من «الأوبتاليدون» المعالج للصداع دون إزعاج للجهاز الهضمي، ولكن النوم أبى أن يُداعب أجفاني. وبالعكس ما إن استراح بدني فوق الفِراش الوثير حتى انتابَتْني شتى صنوف الهواجس وشَرعتُ أُفكر في غيظٍ شديدٍ في الوضع السخيف المؤسف الذي غرقتُ فيه إلى أُذني، وفي الظروف القاسية التي سأمُر بها خلال الساعات القليلة المقبلة. وكان الواقع الذي ألمسه وأعرف أنني واقعٌ فيه الآن وسيُلزمني بالعودة إلى القاهرة بعد ساعاتٍ من مغادرتي إيَّاها، يكاد يعصر قلبي ويحطم كياني. بدأ عقلي المسكين يجرد محتويات حقائبي الثلاث، حقيبةً حقيبة، فأكاد أُجَن. ملابسي الجديدة التي لم أضعها على جسمي، راحت كلها وكأنني نقلتُها على نفقتي الخاصة بالطائرة كي يتمتع بها فرنسيٌّ غريب أو على الأصح لصٌّ وضيع مجرم من أرباب السوابق ونزلاء السجون.
بعد ساعةٍ واحدة ليس غير كنتُ أرتدي ملابسي مرةً أخرى؛ قميصي وبنطلوني وهما كل ما أملك من حطام هذه الدنيا النائية عن وطني وبيت. لم أُطِق البقاء بالحجرة أكثر من ذلك. توجَّهتُ من جديد إلى موظفة الفندق وطلبتُ منها في إلحاح أن تتصل بالمطار تليفونيًّا مرةً ثانية. غير أنها، في هذه المرة، تركَتْني أخاطب المسيو فلوريتو بنفسي، فقال، وهو الرجل الذي أخذ أقوالي وكتب محضرًا بالحادث: «لقد تمكنتُ من الاتصال بالمُشرف على أحد الفريقَين الزائرَين، فأخبرني بعدم وجود حقائب غير حقائب أفراد الفريق. بقي الاتصال بالفريق الآخر، وإنني لأجد صعوبةً في الاتصال بهذا الفريق؛ لأن الموظف المسئول غير موجود في مكتبه، كما أنني أجهل اسم الفندق الذي ذهب إليه بالفريق. الأفضل ألا تتصل بي، ودعني أنا أتصل بك بمجرد وقوفي على خبر يهمك.» فكان لا بد لي، وأنا لا حول لي ولا قوة، وكالغريق أتلهَّف إلى عُودٍ من القش، كان لا بد لي من أن أشكر ذلك الرجل.
تركتُ الفندق، لأسير أول مرة في شوارع نيس، وقد أخذ الجوع يقضم أحشائي، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعلني أرغب في الاستمتاع بما آكل وأتلذذ به. كنتُ أريد فقط تناول أي شيءٍ يسُد جوعي ويُمسِك عليَّ الرمق، دون شهية؛ فالشهية انعدمَت من جرَّاء ذلك الحادث … مررتُ بكافيتيريا كبيرة مُلاصقة لباب فندقي «أفينيدا»، وهذا الاسم إسباني معناه «شارع»، فجلستُ على أحد المقاعد، وكان إلى جواري رجلٌ أمريكي تجاذبتُ معه أطراف الحديث ورويتُ له مأساتي، فقال: «من الصعب أن أُدلي إليك برأيٍ صائبٍ في هذه المشكلة الغريبة، ولكن لا شك في أن أمرك مُحيِّرٌ ومؤسفٌ معًا. والأفضل أن تتفاءل فلعل حقائبك قد نُقلَت خطأ مع حقائبَ أخرى.» ثم اعتذر قائلًا: «لا بد لي من أن أنصرف؛ فأنا من سكان مونت كارلو ويجب أن ألحق بالقطار.» فشكرتُ هذا الرجل الذي استطاع بكلماته البريئة هذه أن يُوحي إليَّ بزيارة مونت كارلو هذه ولو لبضع ساعاتٍ قبل سفري عائدًا إلى القاهرة.
تناولتُ قائمة المشروبات فوجدت أن كوب النبيذ أرخص بكثير من قدَح الشاي أو القهوة، فطلبتُ كأسًا من النبيذ. إلا أن النادلة تركَتْني مدةً طويلة دون أن تُلبِّي طلبي، فاستدعيتُها مرةً أخرى وأعدتُ عليها طلبي، فخجلَت من نفسها واحمرَّ وجهها أسفًا، ولكن انتظاري طال من جديد. ولما استدعيتُها للمرة الثالثة كان خجلها أشد وأَمَر، فانطلقَت من فَورها وجاءتني بالطلب بعد ثوانٍ.
انصرفتُ من هذه الكافيتيريا أبحث عن مطعمٍ معقول، وطال سيري دون أن أعثر على أي مطعم. كانت هناك كازينوهات تُقدِّم مشروباتٍ خفيفة أو روحية والفطائر، ولكنها لا تقدم وجبات من اللحم والأرز مثلًا، فعُدتُ مرةً أخرى إلى الفندق أطلب المشورة، فوجدتُ شابًّا يجلس في مكان الفتاة الصباحية، فسألتُه عما إذا كان الفندق قد تلقَّى إشارةً تليفونية من المطار، فقال: «أنت الرجل الذي فقد حقائبه؟» قلت: نعم، أنا هو. قال: «آسف، يا سيدي، لم يتصل بي أحد من المطار.» ثم استطرد يقول: «أنا شخصيًّا، لا أعتقد أن هناك أملًا في العثور على هذه الحقائب. أعتقد واثقًا أنها ضاعت ولن تعود. لا شك في أنها مشكلةٌ كبيرة بالنسبة لك.» فحطمَت كلمات هذا الشاب البقية الباقية من معنوياتي، فسألته قائلًا: «إنني أحاول العثور على مطعم قريب، غير أنني لا أجد واحدًا بالمرة، فهل يمكنك أن تدُلني على مطعم يمكنني أن أتناول فيه قطعة من اللحم المشوي؟» قال: «اترك أول شارع على يسارك، وادخل الشارع الثاني تجد كثيرًا من المطاعم الصغيرة الجيدة.» وفعلًا وجدتُ الكثير منها لدرجة أنني حِرتُ في اختيار أحسنها. الأسعار مرتفعة جدًّا جدًّا؛ فقد تعجب إن قلتُ لك إن شطيرة الخس في فرنسا قد تُكلفك ما لا يقل عن ثلاثة أو أربعة دولارات. وكذلك الحال مع شطيرة الطماطم، وهذه من أرخص الأطعمة التي تُقدمها المطاعم والكازينوهات، أحيانًا.
جلستُ إلى مائدةٍ صغيرة بأحد المطاعم، فجاءتني سيدةٌ في حوالي الخمسين من عمرها وسألَتني عما أريد أن آكل فقلتُ لها: أريد قطعة من اللحم المشوي ولا أكثر منها. فجاءتني بقطعة من اللحم في نصف حجم الكف ورقيقة جدًّا كالورقة. ولمَّا حاولتُ أن آكلها اكتشفتُ أن اللحم لا يؤكل لأنه يمتُّ بصلة القرابة إلى جلد الأحذية، وقرابة من الدرجة الأولى. لم آكل شيئًا، هذا هو الواقع. ولمَّا شكوت لها من رداءة اللحم، قالت بجرأة ووقاحة: «كيف تقول هذا، ولحمنا من أجود اللحوم؟» كلفَتني قطعة اللحم هذه اثنَين وعشرين فرنكًا؛ أي ما يعادل ثلاثة جنيهات مصرية ونصف الجنيه. أسعار رهيبة رغم أن اللحم كان بلا ملحقات ولا خُضر ولا حتى شرائح البطاطس المعروفة. كل ما كان معه لا يعدو قطعة من الخبز اللدن.
شاء الحظ أن يجلس إلى جواري ملاصقًا لي كهلٌ هندي سمح الوجه مع زوجته التي علمتُ فيما بعدُ أنها سويسرية الأصل، وكان معهما طفلهما اللطيف وهو في الخامسة من عمره. أخذنا نتحدث سويًّا، فحكيتُ له قصتي وأخبرتُه بمشكلتي، فقال: «زوجتي مضيفةٌ جوية وتعرف كل شيء عن هذه الأمور.» فراحت الزوجة تُحلِّل وتُعلل وتُبدي دهشتها من ذلك الأمر الشاذ، ورجَّحَت أن تكون الحقائب قد نُقلَت خطأ مع حقائبَ أخرى، ولا يمكن أن يَعدُوَ الأمر حدودًا أبعد من ذلك. وفجأةً تكلم ابنها الذي كان يُنصِت إلى الحديث الذي دار بيننا، بالإنجليزية طبعًا، وقال: «سأُصَلِّي الآن إلى الله، وأطلب منه أن يأتيك بالحقائب.» وفعلًا ضمَّ يديه ووضعها فوق صدره وراح يُصلِّي، فأحسستُ أن صلاته كانت صادقةً بريئة في ثقةٍ وإيمان، فتقبلتُها منه شاكرًا وانصرفتُ كما انصرفوا هم بعد أن تمنُّوا لي كل الخير.
قطعتُ الطريق عائدًا إلى الفندق، وفجأةً عثرتُ على مكتب سياحة مجاور لفندقي يُنظِّم الرحلات السياحية الداخلية بما في ذلك رؤية معالم المدينة وأشهر آثارها، فحزنتُ في نفسي إذ أحسستُ أنه كان من الممكن أن يسير كل شيء في سهولةٍ ويسر لو أن كل شيء كان على ما يرام؛ فمكتب الرحلات هذا قريبٌ جدًّا من فندقي، وبذا يمكنني القيام كل يوم برحلةٍ مختلفة أُشاهد فيها أشهر معالم البلد وما يُحيط به من ضواحٍ ومدنٍ شهيرة، ومن ذا الذي لا يعلم ولم يسمع عن بلدة موناكو ومونت كارلو ومدينة السينما «كان»؟ سألتُ الرجل عن مواعيد الرحلات، ثم أبديتُ له أسفي عن عدم إمكاني الاشتراك في أيٍّ من هذه الرحلات لأنني قد أُضطَر إلى مغادرة نيس غدًا على الأكثر نظرًا لضياع حقائبي، فارتسمَت الدهشة على وجه الرجل وسألني: كيف ضاعت؟ فشرحتُ له الموضوع كله فقال على الفور: «وهل عندك أملٌ في استرجاع حقائبك؟ إنها سُرقت يا سيدي ويجب أن تعود إلى بلدك على الفور.» ملأني هذا الرجل يأسًا قاتلًا، وبدَّد من قلبي كل أملٍ كنتُ أتعلق به، فرُحت أقول لنفسي: لا بد أن هذا الرجل يصدُقني القول. إنه أدرى ببلده وبما يمكن أن يحدُث للغريب القادم إليها. فتركتُه وعُدت إلى الفندق مُحطمًا تمامًا. فوجئتُ بوجود شابٍّ آخر يقوم بالعمل في الفندق بدلًا من السابق، فسألتُه عمَّا إذا كان قد تلقَّى مكالمة تليفونية من المطار، قال: «أأنت السيد الذي فقد حقائبه بالمطار؟» قلت: نعم، أنا هو. قال: لم يتصل بي أحدٌ بخصوصك. قُلت: إذن، فهل تتفضل بالاتصال بالمطار للسؤال؟ قال: لن تجد أحدًا بالمطار الآن. الأفضل أن تنتظر إلى الصباح. فسألتُه: هل تعتقد أن هناك أملًا في العثور على الحقائب؟ قال: لا أظن يا سيدي. إنني أرثي لحالك العاثر، ومع ذلك فليس أمامك إلا أن تنتظر إلى الغد. في هذه اللحظة دخل الفندق عائلتان مصريتان. تبيَّنتُ ذلك من لون البشرة والعيون السود، وتأكَّد لي ذلك عندما سمعتُهم يتكلمون بالعربية. طلبتُ من الرجل المصري الشاب الفارع الطول والوسيم الطلعة أن يهبَني أُذنيه كي يسمع قصتي مع المطار، ويُبيِّن لي الخطأ الذي وقعتُ فيه، وهل من سبيل إلى علاجه. التفَّت العائلتان حولي، فحكَيتُ روايتي للمرة العشرين في ذلك اليوم الأسود بحق. وأخيرًا أدلى الأستاذ ماهر، الذي كنتُ أوجِّه الكلام إليه، برأيه قائلًا: «لا أرى خطأً في تصرفاتك، وعلى العموم فقد حدث لي مرة أن فقدت حقائبي وحقائب زوجتي، ومكثنا خمسة أيام ننتظر لعلهم يعثرون عليها. والفرق الوحيد بين قصتك وقصتنا هو أن حقائبنا لم تكن قد وصلَت معنا على نفس الطائرة، ولكنك تقول إنك رأيتَ حقائبك وأمسكتَها ووضعتَها بيدَيك فوق أرض صالة الجمرك؛ لهذا أنصحك بالصبر فقد تجدها غدًا أو بعد غدٍ على الأكثر.» ثم سألني عن مصر والأحوال في مصر، ولم يكن قد سمع بحادث خطف الدكتور محمد حسين الذهبي ومقتله المروِّع، فطلب منِّي أن أصعد معهم إلى حجرتهم كي أروي لهم تفاصيل ذلك الحادث، وكم كان سرور الجميع عظيمًا لما علموا بقرارات الرئيس السادات ضد تلك العصابة المجرمة الأثيمة! كما كان سرورهم أكثر عندما علموا أن رئيس العصابة الإرهابية قد قبضَت عليه المباحثُ المصرية مختبئًا في إحدى الشقق المفروشة. أخذ بعد ذلك الأستاذ ماهر يُعرِّفني بأفراد أسرته: هذه زوجتي، وهذا ولدي ممدوح وهو طالبٌ بمدرسة الفرير بمصر الجديدة. وهذه ابنتي إيناس بالصف الأول الإعدادي. وهذا هو الأستاذ فؤاد شقيق حَرمي، وتلك زوجته. وهذه الرضيع ابنتُهما التي لم تبلُغ بعدُ الشهر التاسع من عمرها، أنا وفؤاد نعمل سويًّا في تجارة الأدوات الصحية ومحلاتنا بالفجالة. وقد جئنا إلى هنا للنزهة، ولكننا سنُسافر بعد يومَين إلى نابولي بإيطاليا كي نعقد صفقاتٍ تجارية تمشيًا مع سياسة الانفتاح التي تنتهجها مصر الآن.
تركت الأسرتَين وأنا معجبٌ بما تتحليان به من صراحةٍ وصدق ونقاء طوية. أعجبوني جميعًا؛ فقد شعَرتُ لأول مرة بقلبي ينفتح لهذه المجموعة من الناس.
عندما قاربَت الساعة الثانية عشرة ليلًا، رغبتُ في الانصراف فاستأذنتُ لأصعد إلى حجرتي. وقبل أن أنصرف قال لي الأستاذ ماهر: لا يهمك طالما معك الكعوب الثلاثة التي تحمل أرقام حقائبك. تجدها مثبتةً على صدر تذكرتك؛ فبواسطة هذه الكعوب تستطيع أن تُقاضي شركة إير فرانس في مصر، وتُطالبها بالتعويض الشامل عن كل شيء بداخل الحقائب. فهدَّأَت هذه الفكرة الأخيرة من رَوْعي. غير أنني لم أكن واثقًا من بقاء هذه الكعوب بالتذكرة؛ إذ تذكَّرتُ أن الرجل الذي أخذ أقوالي صباح اليوم سألني عن التذكرة وأخذها منِّي، وسلَّمها لفتاةٍ تعمل معه في المكتب، ثم أعادها إليَّ بعد الانتهاء من أخذ أقوالي، فخشيتُ أن يكون ذلك الرجل قد خدعني بهذه الحركة، ونزع الكعوب الثلاثة التي هي مستندي القوي أمام القضاء؛ لذلك، بمجرد صعودي إلى حجرتي، أخرجتُ التذكرة من داخل حقيبة اليد الصغيرة التي كنتُ أمسِك بها. وكم كان عذابي أليمًا عندما ألفيتُ أن الكعوب نُزعَت ولا وجود لها بالمرة! وكان موضع نزعها واضحًا على صدر التذكرة بالثقوب التي كادت تُشوِّه منظر التذكرة وتمزِّقها. عندئذٍ تولَّدَت عندي هواجسُ جديدة؛ فحتى هذا الرجل الذي يعمل لدى إير فرانس، والذي كنتُ أحسبه مُهتمًّا بمأساتي، حتى هذا الرجل سلبني حقِّي في التقاضي لأخذ التعويض اللازم، لو أنني، معاذ الله، لم أستردَّ حقائبي.
على أية حال، حاولت أن أنام الليل فلم أستطع إطلاقًا؛ إذ استعصى عليَّ النوم وأبى الاقتراب من أجفاني. كنتُ بحاجةٍ ماسةٍ إلى النوم كي أستطيع في الصباح أن أُجابه المعركتَين اللتَين تنتظرانني؛ معركة استرداد الحقائب، وهي معركةُ غير مضمونة العواقب أو النتائج. ومعركة استرداد الكعوب التي انتزعَتْها الموظفة من على صدر تذكرتي … وحتى هذه لم أكن على يقين من نجاحي فيها أيضًا.
ليس بمقدوري أن أصف لك العناء البالغ الذي عانيتُه طوال الليل وأنا أتقلب على «هراسٍ به يُعلى فراشي ويُقشبُ» تُراودني الأفكار السوداء والإحساس بأن ذلك الرجل قد غدَر بي كل هذا الغَدر، واستغلَّ بلبلة أفكاري فأوحى إلى موظفته بأن تنزع الكعوب، تُرى ماذا فعلتُ لأهل فرنسا حتى تمتد إليَّ أيديهم بهذا الأذى المُبرِّح؟!
حمدتُ الله أن انبلج الصباح ولاحت تباشير النور، فقمتُ من على فراشي مُكدود الجسد مُحطم الأعصاب مُعذب الفكر موجوع الرأس من آلام الصداع الرهيب، وليد الجوع وعدم النوم طوال يومٍ ونصف يومٍ بغير انقطاع.
في الساعة التاسعة حدث شيءٌ لم أكن لأتوقعه بالمرة. دقَّ جرس التليفون في حجرتي، فحسبتُها موظفة الفندق تسألني عمَّا إذا كنتُ أريد طعام الإفطار في ذلك الوقت. ولكنني فوجئتُ بفتاة تقول: «هنا إير فرانس، بالمطار. وجدنا حقائبك الثلاث وهي موجودةٌ بفندق بلازا. هل تريدنا أن نرسلها لك على نفقتنا، وفي هذه الحالة لن تصلك الحقائب قبل الساعة الحادية عشرة، أم تريدنا أن نرسلها لك فورًا وتدفع أنت أجر التاكسي؟» سمعتُ هذا الكلام وأنا لا أصدق أُذني. ولمَّا أيقنتُ أنني مستيقظٌ متيقِّظ ولستُ نائمًا، بكيتُ من شدة الفرح وقلتُ لها: «بل أرسليها في الحال على نفقتي الخاصة.»
حُملَت حقائبي خطأً مع حقائب فريقٍ مصري جاء لقضاء أسبوعَين في أوروبا. وبعد عشر دقائقَ أخطَرَتني موظفة الفندق بأن الحقائب موجودةٌ في البهو، فنزلتُ مسرعًا ونفحتُ السائق أجرته وبقشيشًا لا بأس به.
حملتُ حقائبي إلى حجرتي وأنا لا أكاد أصدِّق حدوث هذه المعجزة بهذا الشكل السريع. ولن أخفي عليك أنني ركعتُ أصلِّي لله شاكرًا ممتنًّا على هذا الفضل العظيم.