لا أبدع مما كان ويكون في «كان»
في صباح اليوم التالي، وهو يوم الإثنين الموافق ١١ من يوليو سنة ١٩٧٧، رأيتُ أن أفيد من مكتب الرحلات القريب من فندقي، فندق «أفينيدا»، فتوجَّهتُ إليه وحجزتُ تذكرةً دفعتُ فيها ثلاثين فرنكًا؛ أي ما يعادل خمسة ونصفًا من الجنيهات المصرية. وذلك لزيارة مدينة السينما المشهورة «كان»، التي طالما سمعنا عنها كلما أقيم بها مهرجانٌ عالمي للسينما والأفلام العالمية.
كان من المفروض أن تبدأ الرحلة إلى كان في الساعة الثانية إلا ربعًا بعد الظهر، غير أن الأوتوبيس تأخَّر خمسًا وأربعين دقيقة. الحافلة مكيَّفة الهواء وجوها مناسبٌ مقبول مُهدئ للأعصاب، على عكس حافلات رومانيا التي كانت بلا تكييف، ومعظم نوافذها لا تنفتح حتى كِدتُ أختنق وأنا بها في العام الماضي، في يوم كان الحرُّ فيه شديدًا لا يُطاق.
إننا الآن نخترق أحد شوارع نيس الرئيسية، وهو الشارع الذي به فندقي واسمه «جين ميديسين»، إنه زاخرٌ بالمحلات التجارية الرائعة الفخمة. فن عرض البضائع هنا لا يُعلى عليه في أي بلدٍ أو مكانٍ آخر. قد تجد نظيره في سويسرا مثلًا، وليس في مصر التي لم يصل هذا الفن فيها إلى ما يجذب الأنظار، وهو فيها متخلفٌ كثيرًا عما في نيس.
الشوارع هنا فسيحةٌ، وما أكثر الفنادق التي تزخر بها المدينة! فلا يمكن حصرها. أما أسعارها فمرتفعةٌ جدًّا. إنني أدفع في حجرتي المتواضعة أربعة عشر دولارًا في الليلة الواحدة. ويُعتبر هذا السعر متواضعًا جدًّا في عالم الفنادق هنا.
أرى الآن فندق «ميريديان» المُشيَّد في مدينة نيس. إنه متواضع الارتفاع، لا يصل بحالٍ ما إلى ارتفاع ميريديان القاهرة. قد يصل ارتفاعه إلى عشرة طوابق فحسب. وأمامه حديقةٌ عامة كبيرة جميلة الشكل رائعة مملوءة بالزوار والرواد. استدار الأوتوبيس الآن وخرج بنا إلى شاطئ البحر، فنسير الآن بحذاء الكورنيش، ولكن شتَّان بين هذا الكورنيش الذي أراه، وكورنيش النيل عندنا والذي هو كورنيش ميِّت تمامًا. تُوجد على طول كورنيش نيس الأرائك والمقاعد الزرقاء اللون واللامعة، والناس يجلسون عليها ما طاب لهم أن يجلسوا وفي أي وقت يشاءون. الكورنيش طويل جدًّا، والمقاعد متقاربة، لا يبعُد الواحد منها عن الآخر أكثر من حَفْنة من السنتيمترات. والحقيقة أنه آيةٌ في النظافة، والناس بجواره يُخطئهم الحصر، ومع ذلك لا يمكنك أن تعثر على قُصاصة ورق مُلقاة على الأرض في أية بقعة من الكورنيش. حقًّا ما أكثر الناس الذين يسبحون في المياه الزرقاء الصافية المترامية الحدود بحذاء الكورنيش!
شارع الكورنيش هذا، وهو على الأصَح «الريفييرا الفرنسية»، لا يقل عَرضُه عن أربعين مترًا للسيارات، وأما الطوار الممتد بطول البحر فعَرضُه ١٥ مترًا أو يزيد، وكله مغطًّى بالبلاط الأحمر الجميل. وعلى الجانب الآخر من شارع الكورنيش تقف متراصةً آلافُ المنازل والفنادق الضخمة المشيَّدة كلها على أحدث طرازٍ وأجمل ذوق في تناسقٍ فريد يريح العين والقلب.
أسمع الآن صوت المرشدة الملازمة لنا في السيارة تخبِرنا بأننا سنتوجه الآن لزيارة مدينة «كان» العظيمة وبلدة «فالوريس» عاصمة صناعة الفخَّار والخزَف في فرنسا كلها؛ حيث تعرض أفخم ما تُنتِجه فرنسا في هذه الصناعة.
لا يمكنك أن تتخيل أو تتصور اهتمام الشعب الفرنسي بالأشجار والخضرة ونباتات الزينة. كل شيءٍ تقع عليه عينك جذَّاب فاتن جميل.
السيارة الآن منطلقةٌ بجوار مطار نيس، الذي يُعتبر ثالث مطار في فرنسا؛ فالمطار الأول هو مطار شارل ديجول، ومن بعده يأتي مطار أورلي الفسيح.
بعد أن تركنا المطار بمسافةٍ قصيرة، وجدنا أنفسنا نخترق قريةً يُشتهر أهلها بشغفهم بالصيد. وهي علاوةً على ذلك مصيفٌ جذَّاب يفد إليه المصطافون في كل عام ينعمون فيه بالهدوء والاستكانة والهواء النقي المنعش والمياه الباردة الصافية. كل شيء في هذه القرية جميلٌ نظيف ساحر. ها أنا ذا أرى المصطافين وهم جالسون على الشاطئ تحت المظلات، بينما البحر مليءٌ برءوس من نزلوا يستحمون أو يسبحون أو يركبون الأطواف ذات الألوان الزاهية.
مضى نصف ساعة حتى الآن وما فتِئَت السيارة تجري بحذاء الشاطئ. وكما يقول المثل: «الحلو لا يكتمل.» فعَيْب البلاجات هنا أنها خالية من الرمال الناعمة كالتي تجدها قُرب شواطئنا بالإسكندرية. البلاجات هنا مكسوَّةٌ بالزلط والحصباء، وما البلاج الذي أراه الآن سوى جزء صغير من شاطئ كورت دازور العظيم. إنه غاصٌّ بالمصطافين في ملابس البحر، ومواقف السيارات المحاذية للشاطئ بكامل طوله، تَعِجُّ كلها بالسيارات.
نحن نقترب الآن من مصبِّ نهر «لولو» كما قالت لنا المرشدة، غير أنني أُبصر أمامي مبنًى غريب الشكل جدًّا، مُعدًّا للسكنى، بناه مهندسه على صورة أهرام وأطلق عليه اسم «مارينا». والعجيب أنه جعل لكل شقةٍ فيه شُرفةً عريضة تؤدي إلى فِناءٍ خاص بها. والمبنى في حدِّ ذاته آية في الجمال والذوق والرفيع، ويوحي لأول وهلة بتقدم فن المعمار، وبأن مُهندسه واسع الخيال، على درايةٍ كبيرة بقواعد فنه يتلاعب بها كيفما شاء.
أرى الشاطئ الآن أمامي مكشوفًا يمتد متراميًا بمحاذاة الشارع تمامًا، أو أن الشارع هو الذي يمتد بحذاء الشاطئ دون أي حواجزَ تفصل بينهما، فتستطيع الحافلة التي نركبها أن تجري بعرض الطريق حتى تنزل إلى المياه مباشرةً وتغوص فيه، لا حواجز ولا مطبات أو عراقيل. وهذا الشاطئ مترامي الأطراف لا تبدو له نهاية، ويزدحم بالمصطافين في بعض أجزائه، بينما يخلو منهم تمامًا في أجزاءٍ أخرى. حقًّا، ما أسعَدَني وأنا أرى شاطئ الريفييرا المهول والرائع، يمتد منسابًا أمام عيني، وتلك الآلاف المؤلفة من السيارات البالغة الطول والرابضة في أمان بجوار الشاطئ البادي أمام ناظري، لا ينتهي ولن ينتهي!
ظهر الآن أمامي ميناءٌ فسيحٌ ضخم زاخر بالسفن من مختلف الأحجام وبأعداد تَعجِز العين عن حصرها أو إحصائها، ولا يتسنَّى للمرء أن يُلمَّ بكل ما أمامه أو يُدركه أو يتصوره، فهو شيءٌ يخلب الأفئدة ويُحيِّر الألباب.
بعد ذلك دخلنا بلدة «أنتيبا» ومعناها «البلدة المقابلة». وهي من أشهر بلاد التصدير في فرنسا. وجميلة جدًّا. بها قلعةٌ ضخمة تقف بجوار متحف يضم بقايا بعض الآثار الرومانية ومجموعة ضخمة من لوحات الرسام العالمي «بيكاسو».
ميدان ديجول ببلدة أنتيبا هذه، متوسط الاتساع متواضع الحجم، تتوسَّطه حديقةٌ عامة يجلس فوق أرائكها العشَّاق من الشباب، فضلًا عن العجائز من الرجال والنساء.
لا بد لك من أن تلاحظ لمسات الجمال في كل مكان بطول ذلك الطريق العظيم؛ فها أنا ذا أُشاهد الآن أجمل بلاج على شاطئ الريفييرا، دون أدنى شَك؛ فكله مكسوٌّ بالرمال الدقيقة الناعمة. الأجساد هنا متلاصقة بشكل يُثير الإعجاب، كما أن روعة الألوان تُضيف الكثير إلى رُواء هذا الشاطئ وبهائه. ما أسعد الناس في بلاج «لاساليس» الذي نمرق أمامه! أرى به فنارًا يُطلُّ على البحر. الشاطئ يكاد لا ينتهي أبدًا، بينما اليخوت والقوارب تحمل أصحابها وتتهادى بهم على صفحة الماء، تهادِيَ الغِيد الحسان في تراخٍ ودلال. يُهرع الفرنسيون إلى البحر أينما وجدوا إليه سبيلًا، مرتدين أجمل المايوهات وأبسط الشورتات، وكلهم حفاة الأقدام، تكاد تكون أجسامهم عارية أو شبه عارية، وبذا تبدو الفتيات هناك فاتناتٍ ساحرات كأنما قد عُبئ الجمال كله في مايوه يتبختر على البلاج فتنةً للناظرين.
شاهدت في الطريق فيلَّا وندسور، تلك السيدة التي أحبَّها ملك إنجلترا حبًّا شديدًا لدرجة أنه ترك العرش العظيم الخالد كي يتزوَّجها. كما شاهدتُ فيلَّا أوناسيس، أغنى أغنياء اليونان خاصة، والدنيا عامة. نمُرُّ الآن بفندق «دي كاب» المخصص للملوك والأمراء ومشاهير الممثلين والممثلات العالميين. إنه مدينةٌ قائمة بذاتها. تجد به كل شيء يدور بخلَدك ويمكنك أن تُفكر فيه أو يمُر بخيالك. فيه ملاعب للتنس والجولف، وبارات وكباريهات وسينمات … إلخ إلخ.
حقًّا، لقد عوَّضَني الله عن حزني واكتئابي في أول يوم لي في نيس عندما ضاعت حقائبي، عوَّضَني بعدها بأعظم أوقات المتعة والبهجة والمرح؛ فترى عيناي الآن بقعة من أجمل بقاع شاطئ الريفييرا العجيب حيث تتحرك المياه هادئةً رقراقة، بينما ينهل المحبون والعشاق كئوس الحب مترعةً بلا رقيب ولا حسيب؛ فحتى القانون لا يمكنه أن يصل إليهم. أما البلاج المُلحَق فمفتوح أمام المصطافين بلا عوائق؛ فها هم يسبحون أمامي في هدوء وارتياح. حقًّا، ما أجمل البقعة التي أراها الآن وتستمتع بها عيناي ويخفق لمرآها قلبي! إنه شيءٌ فوق الخيال وفي منتهى الحُسن والرواء؛ فهنا السفن واليخوت تحيط بها المياه الزرقاء والرمال الذهبية الصفراء والصخور المُوحِشة السوداء. ومن عجَب، أن المكان كله ينطق بالنظافة الفائقة التي يمكن التنَدر بها ويصحُّ الإعلان عنها والتنويه بها أبد الدهر!
الساعة الآن تُشرف على الثالثة والنصف بعد الظهر ومع ذلك ما زالت السيارة تجري بنا بمحاذاة شارع الكورنيش العجيب، ها هو البحر اللازوَرْدي اللامع والدائم الحركة والجميل الزرقة، لا يكفُّ عن التموُّج على يسارنا، وها هي المنازل والحدائق والفنادق تقوم شامخة الرأس عاليةً جبارة متعة للعين وشاهدةً على روعة الفن المعماري النادر، تقف ثابتةً راسخة على يميننا. يا له من شيءٍ هائل حقًّا، لا أول له ولا آخر! شيء ينمُّ عن النظام الدقيق الغريب، والعجيب الحبيب. هذا فضلًا عن النظافة التي تفوق الوصف، والألوان الزاهية التي لا تروق العينَ فحسب، بل وتُرضيها وتُبهجها وتتصيدها فلا تجد لها فكاكًا ولا مهربًا.
تركنا شارع البحر تمامًا كأنما قد اختفى بعصًا سحرية، لنجد أنفسنا داخل مدينةٍ غاصَّة بالمَتَاجر والناس. شوارعها ضيقةٌ إلى حدٍّ ما، لا يتسع الشارع منها لأكثر من سيارتَين في وقتٍ واحد؛ سيارة ذاهبة والأخرى عائدة.
وقفنا عند بلدة فالوريس الذائعة للصيت بصناعة الأواني الفخَّارية والخزَفية، لنرى المعرض الكبير الذي يُعرض فيه أعظم ما أنتَج العقل البشري من تلك الأواني التي تُشتهر بها بلدة فالوريس. ها أنا ذا أرى المَتاجر تزخر فعلًا بالكثير من تلك الأواني من مختلف الأحجام والأشكال المتباينة المتفاوتة، والألوان العديدة البديعة، والأنواع الكثيرة المختلفة.
أفهمَتْنا المرشدة أن متحف بيكاسو يقع في ذلك البلد النائي، كما يُوجد به مدرسةٌ كبيرة وكنيسةٌ هامة وتمثالٌ ضخم لهذا الرسام العالمي يتوسط ميدانًا صغيرًا من ميادين هذه البلدة ذات الشوارع الضيقة جدًّا.
نسير الآن في الشارع الذي به متاجر الخزف والموزايك الغاصة بتلك الأواني المختلفة الألوان والمزركشة بفنونٍ عديدة يصعُب حصرُها أو تصوُّرها. حقًّا، ما أشبه تلك الشوارع الضيقة التي تملأ هذه البلدة بالشوارع الضيقة الموجودة في الصاغة وخان الخليلي عندنا في مصر!
تركنا السيارة لنقوم بجولةٍ سريعة في سوق الأواني الخزفية. الصناعة لا بأس بها وتنمُّ عن الدقة المتناهية والبراعة الفائقة. المصنوعات مكدَّسة أكوامًا أكوامًا. تتدرَّج تلك الأواني من الصغير الدقيق جدًّا، إلى الكبير الضخم. بيد أنها تدل، جميعًا، على دقةٍ خارقة ومهارة فائقة في صنع تلك الأواني والتحف الخزَفية. لم تكن الأسعار مرتفعةً جدًّا، ولكنها في الوقت ذاته لم تكن معتدلة بحالٍ ما. كانت الأصناف العادية المعدومة الفن هي وحدها الرخيصة. وبالطبع، ما كان لأحدٍ منا أن يشتريها حتى ولو أعطِيَت لنا بالمجان. لم أشترِ أي شيءٍ خزفيٍّ سوى بجعةٍ جميلة مذهبة اللون، ألحِق بذيلها مقياس حرارة ليبيِّن درجة حرارة الطقس. إنها قطعةٌ جميلة بحق، وقد أسعدني اقتناؤها. دفعتُ فيها عشرين فرنكًا، وإني لأعتقد أن هذا سعرٌ مقبول، بالقياس إلى قطعةٍ خزفية قد تتحطم في طريق العودة لسببٍ ما أو لآخر.
استأنفَت الحافلة سَيْرها بعد أن قضى كلٌّ منَّا حاجته، واشترى ما أعجبه من سوق الخزف ذاك المليء بالعجَب العُجاب من ذلك الفن اللطيف الجذَّاب.
نمرُّ الآن في شوارع تنمُّ عن ضاحيةٍ بالغة الرقي لا ضجيج ولا ضوضاء؛ خضرة ناضرة وزهور يانعة ومنازل صغيرة أشبه بالفيلَّات، كلها متلاصقةٌ متناسقة، وها هي المرشدة تقول لنا إن سكان هذه المنطقة كلهم من الأمراء ومن أرقى الطبقات الفرنسية. وفجأةً ظهر البحر مرةً أخرى بلونه اللازوَرْدي، وبظهوره وصلنا إلى مدينة «كان» المنشودة، والتي تُعتبر في شهرتها وأهميتها ثاني مدينة على شاطئ الريفييرا، بعد «نيس».
غدت «كان» مدينة عالمية. وكان قد اكتشفها لورد بروم الإنجليزي في عام ١٩٧٤م؛ ولذا يؤمُّها في كل عامٍ عددٌ كبير جدًّا من الإنجليز. وتُعتبر الآن مشتًى عالميًّا لِمَا تتمتَّع به من جوٍّ دافئ جاف شتاءً، كما تُعتبر مصيفًا أيضًا، يضم كازينوهاتٍ ذوات شهرة عالمية، وتُقام بها في كل عام أعياد السينما ومهرجاناتها المشهورة. أبصرنا على شواطئ «كان» بواخر صيد وكثيرًا من اليخوت الجميلة الضخمة. وربما كان كازينو «بالم بيتش» هو أشهر الكازينوهات الأربعة القائمة على الشاطئ هناك. كما تُشتهر مدينة «كان» بفنادقها المعتبرة من أفخم وأعظم فنادق العالم قاطبة.
والأمر الذي يدهش له زائر مدينة «كان»، أن شوارعها ضيقةٌ ومزدحمة بالسيارات المتراصة على جانبَي كل طريق. عاد بنا الأوتوبيس الآن إلى شارع الكورنيش، وها أنا ذا أرى البحر من جديد والمصطافين مستلقين على الشاطئ في أعدادٍ كبيرة، هنا وهناك بغير ترتيبٍ ولا نظام، بل في فوضى محببة إلى النفس. هذا على الجانب الأيسر حيث الشاطئ. أما الجانب الأيمن فتقوم عليه فنادقُ في غاية الروعة والجمال والفخامة. يعود الكورنيش الآن إلى اتساعه السابق الذي سبق شرحه. الناس هنا في حشودٍ بالغة لا يُصَدقها العقل، من أين تأتي كل تلك الجموع؟ فكافة المقاعد، وما أكثرها! مزدحمةٌ بالجالسين ذكورًا وإناثًا، من جميع الأجناس والأعمار.
كازينوهات القمار متناثرةٌ وعديدة في مدينة «كان»، وبعضها يتمتع بشهرة عالمية.
تركونا الآن في جولة حرة بين ربوع «كان» فذهبت أنا شخصيًّا إلى الميناء البحري الجميل الحافل بآلاف السفن والمراكب واليخوت. شوارع المدينة غاصةٌ بالناس ولا سيما السائحون والزائرون من شتَّى أنحاء العالم. يتحلى الناس هنا، كما يبدو، برُوح حلوة. جميع المحلات تتنافس على خدمتك بالمعاملة الحسنة. كل شيء حولك هنا جميل، يُوحي بالثراء الفاحش والبذخ الخيالي. حقًّا، ما أجمل أن نرى الأثرياء يحوِّلون الحياة هنا إلى نعيمٍ مقيمٍ فوق الأرض! مظلات البحر الرائعة الألوان تملأ شرفات المنازل الفاخرة. آسف؛ إذ تقع عيني، لأول مرة، على منزل قديم تعرَّت حوائطه الخارجية من الرداء الملوَّن، ومع ذلك أرى أسفله لافتةً كبيرة كُتِب عليها «شركة سياحة ريس». ويُطِل هذا المنزل على ميدانٍ من أجمل الميادين. أما كيف أفلت هذا البيتُ القبيح المنظر من العقاب، فلست أدري، ولا المرشدة تدري.
لاحظتُ أنه يندُر أن ترى بمدينة «كان» بيتًا لا تكثر فيه الشرفات العريضة الواسعة. إنها شبيهةٌ بالمنازل في مصر. ومع ذلك رأيتُ القلَّة القليلة من أصحابها أو سكانها يجلسون في هذه الشرفات الواسعة. أغلب الظن أنهم لا يستخدمونها إلا ليلًا؛ إذ يذهب قُطان هذه المنازل نهارًا إلى الشاطئ المترامي الأطراف يسبحون ويلعبون ويمرحون ويأكلون في نهمٍ ظاهر. الشمس لم تذهب بعدُ إلى خِدْر أمها، وإنها لقويةٌ ساطعة تدخل من النافذة الزجاجية التي أجلس إلى جوارها في الأوتوبيس، فتكاد تحرق رأسي وعنقي. إنها شمسٌ شديدة الحرارة لا تقل عن شمس مصر الحارقة في شهرَي يوليو وأغسطس، ولكنها لا تصل بأية حالٍ من الأحوال إلى حرِّ شهر يونيو الماضي الذي كاد يحرقُنا ويُزهق أرواحنا، والذي غزانا دون رحمة ولا هوادة وكأنه نارُ الله الموقَدة قد سُلِّطَت علينا.
يُخيل إليَّ أننا الآن في طريق العودة إلى نيس، ولكننا نعود من طريقٍ أخرى؛ فإن شركات السياحة هنا تبذل قصارى جهدها لخدمة زبائنها، تريدهم أن يرَوْا أكثر من الكثير، حتى المرشدات والمرشدين الذين تُخصِّصهم هذه الشركات لمرافقة الزائرين الأجانب، يُجيدون أكثر من ثلاث لغاتٍ إجادةً تامة؛ فالمرشدة التي معنا، مثلًا، امرأةٌ كهلة، ربما كانت في الخمسين من عمرها، تتحدث بالفرنسية ثم تُترجِم ما تقوله إلى الإنجليزية ثم إلى الإيطالية؛ إذ كان معنا في السيارة عائلةٌ إيطالية لا تتكلم غير لغتها. وقد لفَت نظري أن هذه المرشدة تُتقِن اللغات الثلاث إتقانًا غريبًا.
أرى الآن قطعة من الأرض الفسيحة خُصِّصَت لتكون مدرسة لتدريب المولَعين بفن ركوب الخيل. حقًّا ما أروعَ منظر الحصان! وما أجملَه من حيوان! هو مطية الأمراء والفرسان منذ قديم الزمان.
تتكون الأسرة الإيطالية الجالسة خلفي من أربعة أفراد يُحدِثون جلبة بأصواتهم العالية دون مراعاة لمن في السيارة. لا أحد غيرهم من رُكَّاب الحافلة يفتح فاه بكلمةٍ واحدة؛ فالكل جالسٌ في صمتٍ يشاهد ويتأمل، ولكن الأسرة الإيطالية لا تكفُّ عن الكلام الذي ينمُّ عن الشجاعة أكثر منه عن الثرثرة العادية … هكذا هم الإيطاليون دائمًا، شعبٌ مزعج في كل شيء أينما كانوا وحيثما وُجدوا. إنني أنعى حظي إذ جاء مقعدي أمام مقاعدهم. إنها لمأساةٌ حقًّا أن تظل مدة خمس ساعات أو ست، تحيط بك الأصوات المزعجة التي هي أشبه ما تكون بالنُّباح أو العُواء؛ فأمامي، مثلًا، عائلة يابانية؛ رجل وزوجته وابنته وابنه، هي نموذج للأدب الجم. لا يستطيع الأطفال أن يتحركوا من أماكنهم أو حتى يتكلموا معًا أو مع والدَيهم.
معي في السيارة عددٌ لا بأس به من الأمريكيين، شاء حظِّي أن تحدثتُ إلى أربعةٍ منهم ونحن في انتظار وصول الأوتوبيس إلى نيس، فسألتُهم بقولي: «هل يُوجد في أمريكا قاموس أمريكي-إنجليزي؟» فدهِش أربعتُهم من هذا السؤال وقالت واحدةٌ منهم: «أتعتقد أن الاختلاف بين الإنجليزية والأمريكية يستوجب قاموسًا قائمًا بذاته؟» قُلت: هذا مجرد سؤال. إذ لو وُجِد مثل هذا القاموس لوددتُ أن أشتريَه ليُعاونَني في ترجمة المؤلفات الأمريكية التي كثيرًا ما تستخدم لغةً لا يُوجد لها نظيرٌ في المعاجم الإنجليزية.
على فكرة، مدينة «كان» ليست مدينةً صغيرة كما قد تتخيل أو يتبادر إلى ذهنك، وإنما هي مدينةٌ عظيمة الاتساع يكثُر امتدادها في جميع الجهات تضُم ألوفًا من البيوت الشبيهة بالفيلَّات. كما أن بها العمارات ذوات الارتفاع الشاهق والمتعددة الطوابق. ولا يخلو الأمر من وجود حقولٍ خضراءَ عظيمة الامتداد مليئة بالأشجار الباسقة والمتوسطة الأحجام. تسير الحافلة بنا الآن بمحاذاة نهر اسمه نهر «الفار» الصغير جدًّا، ويشبه فعلًا «ذيل الفأر»، ولكنه ولا شك، أعرض منه قليلًا. ليست مياه نهر الفار هذا نقيةً ولا صافية، بل عكرةٌ مليئة بشتى المواد الغريبة والعالقة.
تخترق بنا السيارة، الآن، المدينة من وسطها لا من طرفها الذي يجري مُحاذيًا الشاطئ البديع الذي سبق لي أن وصفتُه لك. يُشبه الشارع الذي تمضي فيه السيارة، شارع رمسيس بالقاهرة من حيث الاتساع، ولكنه طويلٌ طويلٌ يقسم المدينة كما يُخيَّل إليَّ إلى قسمين؛ بمعنى أن الشارع لا يقل طوله عن شارع كورنيش البحر، ولكنه يخترق المدينة من الداخل فيشطرها شطرَيْن.
قائدو السيارات هنا معتدلون جدًّا في القيادة. لم ألاحظ منهم أي تهورٍ أو سرعةٍ جنونية بعيدة الاتزان والرزانة، أو العبث الخطر، كالتي تراها مثلًا في شوارع باريس نفسها أو شوارع أثينا أو في كندا عندما يمتد الشارع امتدادًا لا نهاية له.
يهتم الفرنسيون اهتمامًا بالغًا باقتناء أصص الزرع والزهور في شُرفات منازلهم، ويُعنَون بها عنايةً فائقة تُضفي الجمال على واجهات البيوت، وتجعلها أبهى منظرًا ومتعةً للعين بصفةٍ عامة.
وأخيرًا عُدنا إلى نيس مرةً أخرى والأوتوبيس يقوم بتوصيل الركاب كل واحدٍ إلى حيث يُوجد فندقه. أسمع المرشدة تُودِّعنا راجيةً أن نكون قد استمتعنا برحلتنا هذه التي زرنا فيها مدينة «كان» العظيمة. لم تسألنا نفحةً أو بقشيشًا، لقد أدت واجبها على خير وجه، كما قاد السائق الماهر الحافلة بمنتهى الحكمة والرويَّة والبراعة، وعاد بنا جميعًا سالمين إلى أماكن إقامتنا، فاستوجب هذا الشكر منا جميعًا.
الشيء بالشيء يُذكر، لقد زار صديقي الأستاذ شنودة باريس، وأرى من الأوفق أن أعمل مقارنةً بين الرحلة التي قامت بها إحدى شركات السياحة في باريس والرحلة التي قامت بها شركة السياحة هذه في نيس. وإليك ما وصفه لي الأستاذ شنودة بالحرف الواحد تقريبًا؛ إذ قال لي:
أوتوبيس شركة سيتي راما جوانبه كلها وسقفه من الزجاج ليُسهِّل على ركابه رؤية معالم المدينة بوضوح. وهو من طابقَين، وليس به مرشدٌ أو مرشدة بل يعطيك الكُمساري مسماعًا مثل مسماع الطبيب تمامًا تضعه في أذنَيك وتوُصل طرفَه الذي على شكل «فيشة» ببريزة في ذراع مقعدك. وفي نهاية ذراع المقعد عشرة أزرار صغيرة تشبه أزرار البيانو ولكنها صغيرة جدًّا، كُتِب على كل منها اسم لغة؛ الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية والهولندية والروسية والسويدية واليابانية والبرتغالية. تضغط على زر اللغة التي تريد أن تسمع الشرح بها.
تقف السيارة أمام كل مَعْلمٍ شهير في باريس، فتسمع وصفًا دقيقًا له ولتاريخه ومؤسسه وكل ما يتصل به من معلوماتٍ يريد معرفتَها عشَّاق الرحلات.
تبدأ الرحلة من شارع ريفولي فتمرُّ بك على ميدان الكونكورد حيث تقف قليلًا ريثما تقارن ما تراه بما تسمعه من المسماع الملتصق بأُذنَيك، ثم ميدان توبير (وتقف) ثم اللوفر (وتقف) ثم كاروسيل، فالجسر الجديد (بون نيف)، فجزيرة المدينة، فكنيسة نوتردام، فتاون هول، فميدان الفوسج، فالباستيل، فجزيرة سانت لويس على الضفة اليسرى لنهر السين، فميدان سانت جوليان دي بوفر، فجامعة السوربون، فالحي اللاتيني، فالبانثيون، فقصر وحدائق لوكسمبورج، فميدان سانت جرمان دي بريه، فغرفة القناصل، فالإنفاليد، فبرج إيفل، فقصر شايوه، فقوس النصر، فالشانزلزيه، فجران باليه (القصر العظيم)، فقصر الإليزيه، فكنيسة القديسة مادلين، فالمونمارتر، فكنيسة القلب المقدس، فالأوبرا، فشارع دي لابيه، فقصر فندوم، فالعودة إلى شارع ريفولي.
تقف السيارة مدة حوالي دقيقة أمام كلٍّ من هذه المعالم. حقًّا إنها لرحلةٌ ممتعةٌ دُرنا فيها حول باريس في ثلاث ساعات. وبعد ساعتَين من بدء الرحلة توقفَت السيارة أمام سوقٍ كبيرة وأمهلَنا السائق مدة ربع ساعة.
دخلنا السوق المستديرة تمامًا، فسرنا في ممرٍّ ضيق على جانبيه حوانيتُ صغيرة جدًّا بها كل ما يغري السائحين، علاوةً على المرطبات والمثلجات والحلويات والفطائر (الجاتوه)، ويدور هذا المَمَر حول السوق لنخرج من نفس الباب الذي دخلنا منه.
اشترى كلٌّ منا ما طاب له، وكانت الأسعار أكثر من المرتفعة، ومع ذلك فلا بد من أن يشتري المرء تذكارًا من باريس. وأنا شخصيًّا اشتريتُ بعض زجاجات العطور لزوجتي وبناتي وبعض دبابيس يتدلَّى منها تمثالٌ صغير لبرج إيفل، واشتريت «إيشارب» لزوجتي غريب الشكل من الأوجانزا به رسوم من القطيفة بنفس اللون الهادئ جدًّا، وعلى ما أذكر دفعتُ خمسين فرنكًا؛ أي حوالي ثمانية جنيهات مصرية.
الغريب أن زوجتي ظلت مدة الساعات الثلاث نائمة تمامًا لم ترَ شيئًا ولم تسمع شيئًا.
ولما عادت بنا السيارة إلى شارع ريفولي لم تُوصلنا إلى أماكن إقامتنا، بل تركتنا نتوه في شوارع باريس.»
كذلك قام الأستاذ شنودة في اليوم التالي برحلةٍ نهريةٍ أرى أن أذكُر تفاصيلها على لسانه قَدْر المستطاع كما وصفها لي؛ فيقول:
«خرجنا في صباح اليوم التالي لرحلةٍ نسير على أقدامنا لنرى برج إيفل ونحن واقفون إلى جواره، وعندما وصلنا إليه ويقع جنوبي نهر السين، إذا برجل يوزع علينا إعلانات لشركةٍ سياحيةٍ نهرية، فرأى بعضنا أن نقوم بها. وفعلًا هبطنا سُلمًا طويلًا حتى وصلنا إلى نهر السين، فاشترينا تذاكر الرحلة نظير ٢٥ فرنكًا أيضًا؛ أي حوالي أربعة جنيهات مصرية لكل فرد، وانتظرنا حتى جاء الأوتوبيس النهري. إنه يشبه الأوتوبيس النهري الموجود بنهر النيل بالقاهرة إلا أنه أطول منه كثيرًا جدًّا وعلى مستوًى آخر.
جلسنا أمام موائد سطحها من البلور وتحته خريطة أمام كل مقعد عليها كل المعالم التي سنَمُر أمامها.
سائق الأوتوبيس النهري يرتدي حُلة ربَّان باخرة وقبَّعة ربان. أما المرشدة فترتدي جونلة كُحلية وجاكتة كُحلية لضابطٍ بحري وقبعة لضابطٍ بحري وقبَّعة بحرية أيضًا. وتقف في مقدم الأوتوبيس النهري ممسكةً بمكبِّر صوت. تشرح تاريخ كل مَعلم يمر به ذلك القارب البخاري باللغة الفرنسية ثم بالإنجليزية في صوتٍ أشبه بالغناء منه بالشرح؛ إذ من كثرة إعادتها لذلك الشرح طوال الشهور، بل والسنين، حفظَتْه عن ظهر قلب، وصار عندها كالأنشودة.
سار بنا الأوتوبيس النهري في نهر السين متجهًا شرقًا أولًا والمرشدة تشرح لنا تاريخ المعالم التي على كلتا ضفَّتَي نهر السين حتى وصل إلى سان برنار ودار حول جزيرة بوسط النهر، وعاد أدراجه غربًا وشمالي تلك الجزيرة؛ حيث تُوجد بعض المعالم الشهيرة، وأغلبها قصور وحصون ومتاحف لا أذكر أسماءها، ومَرَّ بموقفه واستمر في سيره غربًا إلى جسر ميرابو؛ حيث دار حول جزيرةٍ أخرى، وعاد متجهًا شرقًا إلى محطته التي ركبنا منها بجوار برج إيفل.
عندما همَمْنا بمغادرة الأوتوبيس النهري إلى البر، وضعَت المرشدة في طريقنا صينية وطلبَت منا أن نضع فيها شيئًا للسائق، فدفع كلٌّ منا حوالي فرنك. والغريب أن زوجتي ظلت مدة الساعتَين اللتَين استغرقَتْهما هذه الرحلة نائمة أيضًا.
بعد ذلك صَعِدنا السُّلم إلى الشارع وسِرنا إلى فندقنا ونحن نتفرَّج على ما في معارض المتاجر من بضائع.»
بعد انتهاء الرحلة إلى مدينة «كان» عُدت إلى الفندق في تمام الساعة السادسة والنصف مساءً فنمت قليلًا ثم أخذتُ حمامًا دافئًا، وخرجتُ أبحث عن مطعم أتناول فيه عَشَائي.
لم أجد صعوبةً في العثور على مطعمٍ راقني بنوع خاص لأنه يُقدم لك أربعة أصناف تختارها من أربعة قوائم؛ إما مقابل ١٢ فرنكًا أو مقابل ١٧ فرنكًا. كان هذا السعر مناسبًا لي. وما كِدتُ أستوي على مقعدي حتى أقبلَت سيدةٌ أمريكية فجلسَت قبالتي إلى نفس المائدة، وكانت ممتلئةً حيوية ونشاطًا فلم أصدِّق أنها في الستين؛ إذ حسبتُها في الأربعين لا غير. ولمَّا تحدَّثنا معًا، قالت: إنني أزور نيس هذه في كل عام فأقضي بها شهرَيْن. أطوف بأنحائها وأجول في أرجائها. أشاهد في كل يوم منطقة. ومن فضل الله ونعمه عليَّ أنه يمكنني أن أركب جميع القطارات الموجودة في أوروبا كلها دون أن أدفع سنتيمًا واحدًا؛ لأن معي «كارنيه» يُخوِّل لي هذا الحق المطلق، دفعتُ فيه ٣٦٠ دولارًا في أمريكا؛ لذلك تجدني مرغمةً على ركوب القطارات كي أفيد منه إلى أقصى حدٍّ وإلا أكُن قد أضعتُ سُدًى ذلك المبلغ الكبير الذي دفعتُه فيه. وسرعان ما فتحَت حقيبة يدها وأخرجَت الكارنيه وقدَّمَته إليَّ كي أراه. إنه بلونٍ بمبي ومكسُو بغِلافٍ من البلاستيك يقيه البِلى والاتساخ، ثم استطردت تقول: إنني أعتبر نفسي محظوظةً إذ أقوم برحلة هذا العام على نفقة الجهة التي أعمل بها؛ لأنني الموظفة الوحيدة التي بلغَت سن الستين في هذا الشهر بالذات. إن كل موظف أو موظفة يبلغ الستين في شهر يوليو، من حقِّه القيام بهذه الرحلة دون أن يدفع سنتيمًا واحدًا؛ فجهة العمل هي التي تشتري لك التذكرة وتقدِّمها لك هديةً نظير خدماتك لها.
يا لها من فكرة سليمة! ليتنا نحذو حَذْوها في مصر، ولتكن التذكرة لقضاء شهر بلبنان أو الجزائر بدلًا من أوروبا وأمريكا، تمشيًا مع ما نحن فيه من تقشفٍ قد لا يمنعنا تكريم آبائنا وأمهاتنا متى بلغوا سن التقاعد في شهورٍ معينةٍ ويصحُّ لنا أن نُسمِّيها شهور الحظ والسعادة، أو في ليلة القدر أو في شهر رمضان أو في ٦ من أكتوبر أو في أية مناسبةٍ أخرى، والمناسبات عندنا كثيرة والحمد لله. ويصحُّ أن تختار كل جهة عمل المناسبة التي تروقها، وبذا نستخدم كل المناسبات.
قالت جليستي «دولوريس» إنها مُدرِّسة فنونٍ جميلة ويؤلمها ويحُّز في نفسها أنها لم تتعلم العزف على أي آلةٍ موسيقية، ولو أنها تعتبر نفسها غاوية «سمع»؛ لأنها تعشق الموسيقى وتُجيد فن الاستماع إليها. قالت: كان من عادتي أن أجيء إلى هذا المكان مع زوجي، ولكنه مات منذ عشر سنين، فقلتُ لنفسي: فلأُجربنَّ السفر بمفردي، فإن وفِّقتُ قمتُ بالرحلة وحدي في كلِّ عام. وأعتقد أنني نجحتُ فعلًا، وبذا سأستمر في المجيء إلى هنا كل سنة حتى أموت.
حدث بعد أن تناولنا وجبة العشاء وكنتُ قد طلبتُ لنفسي عين الأطباق التي طلبَتْها دولوريس لنفسها مع اختلافٍ واحدٍ بسيط، وهو أنها طلبَت قطعة من لحم الضأن المشوي بينما طلبتُ أنا ربع دجاجة، فدفعَت دولوريس اثنَي عشر فرنكًا ليس غير أخذَتْها منها النادلة وهي راضيةٌ دون أي اعتراض، فمدَدتُ يدي للنادلة بمبلغ مماثل فصاحت تقول: ينقص من حسابك خمسة فرنكات. فما كان منِّي إلا أن دفعتُ لها الفرنكات الخمسة صاغرًا. لم أكن أعلم أن لحم الدجاج، في فرنسا، أغلى ثمنًا من لحم الضأن؛ أي على عكس الوضع في جميع أنحاء العالم.
تركتُ المطعم حانقًا من هذه التفرقة في المعاملة، ولكني أعتقد أن الأمر لا يعدو أن يكون خطأً من جانبي في سوء التقدير، والله أعلم.
سرتُ من المطعم إلى مقهًى شاهق لا يبعُد عن فندقي غير مسافةٍ معقولة، ورُحت أرشف الشاي وأنا أتأمل الجالسين حينًا والمارِّين حينًا آخر. أشكال وألوان تدعو إلى العجب. كل فتاةٍ تُمثِّل، في حدِّ ذاتها، دنيا كاملة. هناك الشقراء والحمراء والسوداء. وهناك العارية قليلًا، والمكسوة تمامًا. وهناك الغارقة إلى أُذنَيها في الماكياج، والمجردة منه تمامًا. بَيْد أنني لاحظتُ أن فتياتٍ كثيرات فاتنات كُن يسرن حافيات الأقدام بلا أحذية. غير أن السعادة ترتسم على وجوهن. ظاهرةٌ غريبة قد لا نراها كثيرًا ولكنها منتشرة في فرنسا. تُرى، هل السبب هو الإحجام عن لبس الحذاء الذي قد يصل ثمَنه أحيانًا إلى مئات الفرنكات، أم أنها عقيدة وعودة تدريجية إلى الأيام الخوالي، للبدائية والتحرر من تعقيدات التحضر والمدينة؟