يوم جديد حافل بالمزيد المفيد
حرَصْتُ في صباح يوم الثلاثاء على التوجه إلى مكتب السياحة لأقوم برحلةٍ جديدة، فنصحني الموظف المسئول هناك بأن أذهب لزيارة محراب دي روزير وكنيسة القديس بولس والقرى المختلفة التي تقوم بها هذه الأماكن الأثرية الجميلة.
لا يمكنني أن أحكي لك كيف قضيتُ فترة الصباح إلى حين يأتي موعد قيام الأوتوبيس الذي سيقوم بهذه الرحلة الجديدة في الساعة الثانية إلا ربعًا بعد الظهر. غير أنني أخذتُ أطوف هنا وهناك أُمتِّع عيوني برؤية مختلف البضائع المعروضة بكمياتٍ هائلة، وقد خُفضَت أسعارها خصيصًا للسائحين؛ إذ هذا موسمهم.
من عادة الفرنسيين أن يُخرجوا بضائعهم أحيانًا إلى حيث الطوار، ويكتفوا بالإعلان عن سعرها، وعلى المشتري أن ينتقي لنفسه ما يشتهي ثم يدخل المتجر ويدفع ثمَن ما انتقاه. حتى بائع الصحف، يضع الجرائد اليومية والمجلات فوق نَضَدٍ منخفض، ويضع إلى جوارها صندوقًا صغيرًا يشبه «الحُق». وكل شخص يريد جريدة أو مجلة ما عليه إلا أن يأخذها ويُلقي بثمنها داخل الصندوق، فيظل الصندوق يضم الفرنكات إلى أن يحضُر صاحبه فيحمله بما فيه. الأمانة متوفرةٌ جدًّا، بل فرض ودين في تلك البلاد. وربما كان سِر تقدُّمها وإتقان مصنوعاتها أن أحدًا ما لا يفكِّر في الغِش أو السرقة، بل يُعطي كل ذي حقٍّ وكل شيء حقه. لم أشاهد واحدًا قَط أخذ صحيفة ولم يدفع ثمنَها، كما أنني لم أشاهد أحدًا يقترب من صندوق النقود، في حين أن أي لصٍّ يستطيع أن يحمل الصندوق كله بمحتوياته من النقود، دون أن يراه أحد.
تجدُر المقارنة هنا بما لاحظتُه من فَرْط الأمانة في المجر؛ فالأوتوبيس هناك بدون كمساري، وكل فرد يشتري كارنيهًا به عشر تذاكر من أية محطة. وعندما يصعد إلى الأوتوبيس ينزع تذكرةً من الكارنيه، ويثقبها داخل شق في عمود عند باب الأوتوبيس.
هذه الأمانة المفرطة في فرنسا قد تُيسِّر على بائع الصحف ذاك أن يعمل في مكانٍ آخر ينال منه رزقًا، ثم يعود في آخر النهار ليجد نصيبه من تجارة الصحف والمجلات. وبذا يتسنَّى للرجل أن يزيد من دخله عما لو قصَره على بيع الصحف؛ وبالتالي يرفع من مستوى معيشته.
بدأَت رحلة بعد الظهر. لم تتأخر السيارة في هذه المرة، بل جاءت في ميعادها تمامًا. ركبنا السيارة وتحرَّكْنا، ولكنها طافت ببعض أحياء المدينة تجمع السائحين من أماكنَ متفرقة.
أرى الآن المزيد من شوارع نيس، وهي ضيقةٌ فعلًا، ورغم هذا، مسموح للسيارات بأن تقف على جانبَي الطريق بناءً على علامات وحدودٍ رسمها قلم المرور. لم تقع عيني في كل شوارع نيس على أي شيءٍ يتنافى مع الآداب العامة؛ الناس إما في أعمالهم منهمكون، وإما في سيرهم جادُّون. وإن شائعة الإباحية المُفرِطة التي نسمع عن وجودها في أوروبا، وفي فرنسا بالذات، تكاد تكون معدومة، بل هي شائعةٌ كاذبة مُغرضة باهتة، لا سند لها بالمرة.
منظر الأوتوبيس في نيس محترم جدًّا؛ فهو سليمٌ تمامًا من الداخل والخارج، ليس به أي خدشٍ أو كسر ولا ألواح زجاجية محطمة أو ستائر مهلهلة، ولا نوافذ مهشمة أو نُزع شريطها المطاطي المحيط بها، ولا مقاعد ممزَّقة الجِلْد. ولا عمود تستند إليه فيتأرجح بك داخلها لضياع المسامير التي تُثبِّته بأرضية الحافلة، بل كل ما فيها سليم كأنما قد خَرجَت لتوِّها من المصنع. وأما الركَّاب فجميعهم جالسون، وهناك بعض المقاعد الخالية.
أرى أمامي الآن نافورةً جميلة المنظر تنطلق منها المياه متدفقةً إلى أعلى في أشكالٍ بديعة. وتحيط بالنافورة مجموعةٌ بديعة من التماثيل الفنية الرائعة؛ فهذا رجلٌ ممسكٌ بثورٍ هائل، وذاك آخرُ يركب جوادًا أصيلًا متناسق الأعضاء، وتلك سيدةٌ تركب دلفينًا ضخمًا. وإني لأرى الصبيةَ وأمهاتِهم يجلسون على حافة النافورة يضحكون ويمرحون دون أن يعبَث أحد بالمياه، ودون أن تمتد يد طفل إلى أي التماثيل رغم كونها قريبةً في متناول اليد.
البنك الأهلي الباريسي مبنًى متواضعٌ جدًّا يتألف من ثلاثة طوابق. نوافذه القديمة الطراز مطليةٌ كلها باللون الأخضر بينما المبنى نفسه مطلي باللون الأحمر.
نظام حفر الشوارع في فرنسا يضمن الأمان للناس ولا سيما المشاة منهم؛ فأية حُفرة حتى ولو كان طولها مترًا واحدًا وعرضُها نصف متر، مثلًا، تُحاط في الحال من جميع الجوانب بسياج من الحديد يُعلق عليه فانوسٌ أحمر ليلًا لغرض التنبيه.
أصص الزرع الأخضر متناثرةٌ هنا وهناك يقيمونها أحيانًا فوق حافة الطوار. وقد يكون الأصيص صندوقًا طوله مترٌ واحد وعرضه حوالي ثُلث المتر. وتُوضع هذه الأصص واحدًا بجوار الآخر في صفوفٍ طويلة مع ترك مسافاتٍ معقولة تسمح بعبور المشاة واختراقهم لها.
وصلَت السيارة الآن إلى كورنيش البحر، ولاحظتُ أنها تسير في نفس الطريق الذي قطعناه بالأمس في رحلتنا إلى مدينة «كان» العظيمة.
المشرفة تتكلم في الميكروفون متمنيةً لنا رحلةً طيبة ممتعة إلى بلدة القديس بولس وإلى محراب دي روزير.
تخترق السيارة الآن شوارعَ ضيقة تمامًا، ورغم أن سيارتنا من حجم الأوتوبيس، إلا أنها تخترق هذه الشوارع الضيقة دون أدنى مشقَّة. وقد لاحظتُ النظافة المتناهية في هذه الشوارع الجانبية الضيقة لدرجة أنها يصحُّ أن تكون مثالًا يُحتذى به. وأدركت أننا نصعد جبلًا؛ إذ رأيتُ فجأةً أن المدينة كلها بمستوى أدنى من مستوى بصري وكلها مترامية الأطراف.
هاك وصفًا لأول مكان قمنا بزيارته وهو ذلك المحراب الذي قام بتزيينه ورسم زخارفه ونقوشه الرسام «ماتيس». وجديرٌ بالملاحظة أنه محظورٌ على الزائرين استعمال آلات التصوير داخل هذا المحراب. دخلتُ بهوًا متوسط الاتساع على حوائطه رسوم باللون الأسود — كروكي — على بلاط من القيشاني اللامع الصقيل. وبالداخل مكانٌ خاص بالكاهن يقوم فيه بالطقوس الدينية. مقاعد الكنيسة محدودة جدًّا تقلُّ عن العشرين مقعدًا. وملحق بالقاعة ممَرٌّ عليه لوحاتٌ محاطة بإطارات من الخشب، ومرسومة بالفحم. هذا المحراب الكنَسي في غاية البساطة والجمال معًا. لم يستغرق الوقوف على محتوياته أكثر من عشر دقائق. ولقد لفت نظري وجود صليبٍ كبير فوق سطح المحراب من الخارج. وهذا الصليب المصنوع من الحديد الثقيل الغليظ غريب الشكل والتصميم، يتدلَّى من نهايته السفلى ناقوسٌ متوسط الحجم. وهذا الصليب مُحلًّى بالأهِلة، به ثمانية أهلَّة تكوِّن أشكالًا هندسية بديعة. هذه هي أول مرة أرى فيها قطعةً فنية جميلة كهذه، سواء من الداخل أو من الخارج. حقًّا لقد أبدع الفنان عندما جمع بين الصليب والهلال في شكلٍ هندسي رائع.
كان سير الأوتوبيس بعد ذلك وئيدًا. وبعد فترة، طلبَت منا المرشدة أن ننزل لكي نشرب من صنبور يُقال إن الذي يشرب منه يسترد شبابه وصحته، فشربنا منه كلنا. والغريب أنني لم أجد صنبور الماء مُحاطًا بأسوار أو حوله زحامًا وأناسًا يتكالبون أو يتصارعون، بل كان الماء يتدفق من صنبورَين رقراقًا صافيًا ونظيفًا باردًا كأنما قد أُحيطَت أنابيبه بقِطَع من الثلج. لم أجد ما يمنعني من أن أشرب كسائر الركاب؛ إذ كان الظمأ قد استبدَّ بي وأخذ منِّي كل مأخذ، علاوة على الصداع الذي كان يشجُّ رأسي؛ لذا ابتلعتُ مع الماء قرصًا من الأسبرو. كان بجوار صنبورَي الماء هذَين بعض المحال التجارية تبيع مصنوعات الخزف كتلك التي رأينا المئات منها في رحلة الأمس. غير أن أسعارها كانت أرخصَ كثيرًا من أسعار تلك.
دخلنا بعد ذلك معرضًا للفن السيريالزم كله تماثيل تُعطي أشكالًا لا يمكن تحديد مغزاها أو فهم معناها الذي ربما كان في بطن صانعها.
بهذا المتحف آلاف اللوحات المصوَّرة بالألوان الزيتية والمائية والباستل وألوان أقلام الحبر. وقد عُلِّقَت على الحوائط لوحاتٌ ضخمة قد يصل اتساع الواحدة منها أربعة أمتار طولًا مع العَرْض المناسب. وقد تضمُّ اللوحة الواحدة حيواناتٍ وأسماكًا ورجالًا ونساءً وأطفالًا وبهلواناتٍ أيضًا.
تحيط بالمتحف حديقةٌ تتناثر فيها التماثيل الضخمة المصنوعة من الجبس، أشكالها غامضة، ولكنها تحتوي على فنٍّ ما، أصيل ولا شك.
دفعتُ ثمانية فرنكات أجرًا لدخول هذا المتحف؛ أي ما يقرب من دولارَين. ولا أظن أنني رأيتُ ما يستأهل أن أدفع فيه كل ذلك المبلغ. ورغم هذا، أعتقد أن الفن لا يمكن أن يُقدَّر بمال؛ فإن الفنان يرى الدنيا في صورة تختلف تمام الاختلاف عن الصورة التي نراها نحن فيها. أما كيف يراها، فيتمثل فيما يُقدِّمه لنا من لوحات وتماثيل، نَعجِز جميعًا عن الإتيان بمثلها ولا شك.
هناك ساحةٌ فسيحة الأرجاء تمتدُّ إلى مسافاتٍ بعيدة في العَراء، وُضعَت فيها تماثيلُ غريبة الأشكال، تُمثِّل الإنسان، ولا أحد غير الإنسان. التماثيل كلها نحيلةٌ رفيعة في عود البوص، فترى جسم الشخص وساعدَيه وساقَيه. مرة في وضع يقف «زنهار» منتصب القامة مستقيمها وقد ألصق ساعدَيه إلى جانبَيه، وضم ساقَيه وقدمَيه بشدةٍ بالغة، فيبدو أشبه ما يكون بالمومياء. وتراه مرةً أخرى وهو يخطو بقدمه إلى الأمام منحنيًا قليلًا إلى الأمام أيضًا.
وأكثر ما بهَرني هناك هو طريقة عرض اللوحات والتماثيل. كل شيءٍ في نظامٍ دقيق وذوقٍ رقيق وفنٍّ رفيع. قاعات العرض فسيحة جدًّا؛ لا تراكُم ولا تزاحُم، ولا تلاصُق ولا تشتُّت للجمال.
شاهدتُ في إحدى القاعات تمثالًا جميلًا بحق، منحوتًا من خشب غريب النوع. وكان هذا التمثال للسيد المسيح مصلوبًا. بدت لي تلك القاعة كأنها محرابٌ صغير، عُلِّقَت على جدرانه بعض اللوحات تُمثل كل لوحةٍ منها مرحلةً من مراحل العذاب الذي مرَّ به السيد المسيح وهو يمضي إلى الموضع المسمى جلجوثا الذي صُلب فيه. تُصوِّر هذه اللوحات الاثنتَي عشرة مرةً التي تعثَّر فيها السيد المسيح وهو يحمل الصليب الخشبي الثقيل. كان بالداخل أيضًا بعض المقاعد المصنوع هيكلها من الخشب، بينما صُنع موضع الجلوس فيها من القشِّ الرخيص، فغدَت شبيهة بالمقاعد التي نراها كثيرًا في بعض المقاهي البلدية الموجودة ببعض الأحياء البلدية بالقاهرة.
سألَتْني سيدة متوسطة العمر عن اللوحات المُعَلقة وطلبَت منِّي أن أُفسِّر لها المراحل التي مرَّ بها السيد المسيح في طريقه إلى الصلب، فعَجزتُ عن شرح ذلك لها بالفرنسية. ولما سألتُها عما إذا كانت تتكلم الإنجليزية قالت إن ولدها يتكلم الإنجليزية، وفعلًا رُحنا نتكلم أنا وهو، ولكني عجزتُ عن إمدادها بالمعلومات التي طلبَتْها لأن اللوحات كانت غامضة جدًّا. وإذ أدهشني إلمام ابنها باللغة الإنجليزية وهو لم يبلغ العاشرة من عمره بعدُ، قلتُ لها: هل تَعَلَّم هذا الصبي الإنجليزية في المدرسة؟ قالت: تعَلمَها في أستراليا التي سافر إليها مرارًا. ولما استفسرتُ منها عما إذا كانت فرنسية الأصل، قالت: نعم، أنا فرنسية المنبت، ولكني أُقيم في بلجيكا بلد زوجي.
خرجنا من المتحف وركبنا السيارة. وبعد قليل تركناها لنزور قريةً صغيرة تُدعى «سان بول سرفانس». دخلنا الأزقة غير المستوية السطح؛ إذ يرتفع سطحها إلى أعلى تدريجيًّا كالمرتقى. وأرض هذه الأزقة مُغطاة بالبلاط وبكراتٍ كبيرة الحجم من الزلط. كانت هذه القرية، بحاراتها وأزقتها وما يُحيط بها من الجانبَين من محالَّ تبيع العاديات والمصوغات والحلي، تشبه إلى حدٍّ كبير حي الصاغة وخان الخليلي عندنا، بالقرب من الأزهر وسيدنا الحسين، والأسعار بها مرتفعةٌ جدًّا؛ لذا لم يكن الإقبال على الشراء كبيرًا … وحتى الأمريكيون أنفسهم لم يُقْبِلوا كثيرًا على الشراء. أكبر الظن أن حمل الأواني الخزفية بالطائرات قد يُعرِّضها للكسر والتلَف فضلًا عن ثقل وزنها؛ ولهذا السبب لا يُقْبِل السائحون كثيرًا على اقتناء هذه التحف رغم ما تنمُّ عنه من فنٍّ رفيع وصناعةٍ دقيقة تقرب من حدِّ الإعجاز من حيث الجودة والذوق والتنوع.
مضى الوقت المحدَّد لنا لزيارة تلك القرية، فعدنا أدراجنا إلى الأوتوبيس. سارت معي المرشدة الفرنسية، وهي فتاةٌ في عمر الزهر قد لا تبلغ الخامسة والعشرين من عمرها … سألتني عن جنسيتي، فلما أخبرتها بأنني مصري، قالت على الفور: الطقس عندكم حارٌّ الآن، أليس كذلك؟ قُلت: صدقتِ. فسألَتني عمَّا إذا كانت هذه القرية قد أعجبَتْني، فقلتُ لها: بعض الشيء ولكني لم أشترِ شيئًا بالمرة. قالت: ولماذا؟ ألم تعجبك المعروضات؟ قُلت: بلى، ولكني رأيتُ مثيلاتها بالأمس في قرية الخزف، وأنا لا أجازف بشراء شيءٍ ثقيل الوزن أولًا، وقابل للكسر ثانيًا. قالت: عندك حَق.
مرَرْنا، ونحن في طريق عودتنا، بقريةٍ جميلة جدًّا، اسمها «لاكول» خرج منها كاتبٌ يُدعى «يوجين سو» وضع كتابًا شهيرًا عنوانه «لغز باريس». كرَّمه أهل قريته بأن أقاموا له تمثالًا نصفيًّا من البُرنز، اعتزازًا وافتخارًا بأنه من أبنائها. رأيتُ تمثال ذلك الكاتب والنُّصُب المقام عليه، وتألمتُ في نفسي لأن شاعرنا العظيم أحمد شوقي المُلقَّب بأمير الشعراء، والذي لم يسلبه أحد إمارة الشعر حتى الآن، لم يجد التكريم والتبجيل إلا في عهد الرئيس السادات، نصير الفنون والآداب بشتَّى أنواعها. متى، يا تُرى، أرى تمثالًا ضخمًا لشوقي، في حرم جامعة القاهرة بالقرب من كلية الآداب، وآخر مُقامًا في أحد الميادين الهامة بالقاهرة، وليكن ميدان الجيزة مثلًا، وهو أقرب الميادين إلى بيته «كرمة ابن هانئ». يجب أن يرى أبناؤنا هذا التمثال ويسألوا آباءهم عن اسم صاحبه وأهميته والدور الذي لعبه فأقامت له مصر نُصبًا وتمثالًا. ينقصنا أيضًا تمثال للمرحوم عبد الحليم عبد الله، الكاتب الروائي الذي أتذكَّر أنه مات عقب مشاجرةٍ قامت بينه وبين سائق تاكسي حاول أن يُغالطه الحساب، فانفعل ذلك الكاتب وارتفع ضغط دمه وما لبث أن مات من شدة الانفعال الذي لم يتحمله قلبه الضعيف. وأين تمثال طه حسين والعقاد والمازني ممن أثْرَوا الأدب العربي والفكر العربي، وعلَّمُوا أجيالًا وأجيالًا، وستظل أعمالهم مشاعلَ وهَّاجة لعشرات من الأجيال المقبلة؟
كانت الرحلة موفقةً والحمد لله، رأيتُ فيها قِطاعًا جديدًا من الشعب الفرنسي، ألا وهو القطاع الريفي البسيط أو الساذج.
ذهبتُ في الثامنة مساءً إلى نفس المطعم الذي تناولتُ فيه طعام العشاء بالأمس، فأجلسني النادل إلى مائدةٍ قريبة من باربارا وجين، الفتاتَين الأمريكيتَين القادمتَين إلى نيس للسياحة، فتجاذبنا أطراف الحديث، فاتفق رأْيُنا على أن هذه البلاد جديرةٌ بالاحترام والتقدير؛ إذ يهنأ فيها السائح بالكثير وينعم بخيرات فرنسا الوفيرة. ذكرَت لي هاتان الفتاتان أنهما تعملان بالتمريض، وأنهما استأجرتا دراجةً بخارية لكي تجوسا بها إلى أقصى ما يمكنهما؛ إذ تريدان أن تشاهدا أكثر وأكثر. فقلتُ لهما: أما أنا فلا أستطيع أن أقود سيارة أو دراجةً بخارية في بلد لا أعرفه ولا أعرف شوارعه وقوانين المرور فيه، فابتسمتا. وفجأةً لبست جين على رأسها خوذةً حديدية للوقاية واستأذنتا في الانصراف، وجين تقول: نحن نتبادل القيادة، وقد جاء دوري الآن.
تركت المطعم وقُمت بجولةٍ سيرًا على الأقدام. لم أجد متعةً كبيرة في السير مسافاتٍ طويلة. السير مُتعبٌ والراحة منشودة ومرغوب فيها، فدخلتُ مقهًى، وما أكثر المقاهي في فرنسا، وما أكثر بذخها وحُسن المعاملة فيها! لم أجد لي مكانًا شاغرًا إلا بجوار فتاتَين بارعتَي الجمال، عرفتُ فيما بعد أن إحداهما تُدعى «إلزا» والأخرى «بريجيت». كانتا تتكلمان باللغة الألمانية، فحسبتُهما ألمانيتَين، ولكنهما قالتا إنهما نمساويتان؛ إحداهما طالبة طب والأخرى طالبة بكلية الآداب. غير أنهما يتكلمان الإنجليزية بطلاقةٍ ويُسر. أخذَت بريجيت تشكو من بيت الشباب الذي تُقيم فيه. كان في رأيها غير مريح على الإطلاق، وكادت تبكي من العذاب الذي تعانيه. أما زميلتها إلزا، فأبدَت ارتياحها من المكان الذي تُقيم فيه. سُرَّت الفتاتان أيما سرور عندما عرفتا أنني زُرتُ بلادهما في إحدى إجازاتي الصيفية؛ قالت بريجيت: «أتذكر أنني قرأتُ شيئًا عن تاريخ بلادكم في الكتب المدرسية. وأرجو أن أتمكن من زيارتها بعد عام أو اثنَين على الأكثر. بيد أننا نسمع عن عدم الأمان في شوارع القاهرة.» قُلت: الخطر موجودٌ في كل أنحاء الدنيا. أية فتاة تسير وحدها بعد منتصف الليل تُعرِّض نفسها للخطر، حتى في بلادكم، أليس كذلك؟ فهزَّت الفتاتان رأسَيْهما بالموافقة على ما قُلتُه.
انصرفَت الفتاتان مسرعتَين خشية ألا يُسمح لهما بدخول بيت الشباب؛ إذ آخر موعد لعودة الفتيات هو الحادية عشرة مساءً بالضبط.
مكثتُ وحدي بعد ذلك، وجلس إلى جواري مجموعة من الفتية والفتيات، كلهم في سن الشباب، لا يتجاوز أكبرهم العشرين من عمره؛ أي إنهم جميعًا في سن المراهقة. رأيتُ النادل يأتيهم بأقداح ضخمة جدًّا مملوءة بالبيرة، فيعبُّونها عبًّا، فيأتيهم بغيرها من نفس ذلك الحجم الغريب، فيفعلون نفس الشيء. كانت الفتيات تشربن بشراهةٍ مذهلة. لم يُوحِ مظهر أولئك الجماعة بالثراء حتى ينفقوا هكذا بسخاء في فرنسا بالذات، وهي أغلى بلاد أوروبا قاطبةً بعد سويسرا تقريبًا. لقد عبَّ كل واحدٍ منهم ما لا يقل عن أربعة أقداح أو على الأصح أربعة كيزان؛ فالقدح منها في حجم الكوز الكبير. وعلاوةً على حجمها الكبير كانت ثقيلة الوزن. ولولا أنني رأيتُها بعينَي رأسي لما كنت أتصوَّر أو أصدِّق أن قِداحًا بذلك الحجم والوزن يمكن أن تُوجد إطلاقًا في أية بقعة من بقاع الدنيا. كانت هذه الأقداح جميلة الشكل تبدو مصنوعة من البلور الكريستال أو من الزجاج السميك النقي، لا بد أنْ كان حملها مرهقًا أيضًا لليد والأنامل البشرية، ولا سيما أنامل الفتيات الرقيقة الواهنة. كان الله في عون النادل المتمرِّن على «وزن الريشة».
جلسَت فتاةٌ أمريكية المظهر على مسافةٍ قريبةٍ من أولئك الشبان. بقيَت وحدها مدةً ما. وفجأةً انتصبَت واقفةً وسحبَت مقعدًا وانضمَّت إلى مجموعة السكارى هؤلاء، الذين سارعوا بأن طلبوا لها قَدحًا من البيرة، ما كاد النادل يضعه أمامها حتى شرعَت تعبُّ كما يعبُّ مضيفوها وبطريقتهم النهمة. لقد قبلوها وسطهم دون غضاضة. كفى أنها أمريكيةٌ وكفى أنها لا تمانع في أن تُجاريهم في لهوهم ومرحهم وعبثهم.
ظهر لنا فجأة شابٌّ أمريكي يكسبُ عيشه من العزف على قيثارةٍ كبيرة كان يُعلقها على كتفَيه. كان يعزف ويغني. لم يكن صوته جميلًا وكذلك عزفه. راح ذلك المسكين يعزف ويعزف، أولًا للفرنسيين الجالسين في المقهى دون أن يُلقي أحد إليه بالًا، فاقترب من مجموعة الشباب الأمريكي والمستهتر والسادر في غيِّه، الغارق في شرابه، إلا أنهم تركوه يعزف لنفسه دون أن يلتفتوا إليه. كانوا مشغولين عنه بالشراب المستمر والضحك والثرثرة. كنت أُراقب العازف الشاب وهو يُحملق في الأقداح العملاقة وهي تأتي مملوءةً لتعود بعد قليل خاويةً ويتكرر مجيئها ورجوعها. راقبتُه وهو ينظر إليها مليًّا في حسرة وتَعَطش، ولكنه كان رابط الجأش. لم يَكل ذلك الشاب ولم يتوقف بل استمر يعزف ويعزف، ويُغني ويُغني، وكأنه يعتقد أنه مُبدع العزف والطرب في الدنيا بأَسْرها. رثيتُ لحال ذلك الشاب المكافح النظيف، الفنان، والموسيقار بل والموسيقي الذي شغل نفسه، وهو في سن الشباب، بما هو أرقى وأسمى وأنفع من العبث واللهو والسكر والعربدة، فنفحتُه شيئًا ضئيلًا من نقودي المحدودة. لقد شعَرتُ بمأساة هذا الشاب المراهق، بل بمشكلة أهل الفن عمومًا، ولكني ما إن أعطيتُه قطعة النقود تلك، حتى رأيتُ غيري من الناس ينفحونه أيضًا، وكأنهم أحسُّوا مثلي بمأساة هذا الشاب المكافح أمام غلاء الحياة الفاحش. ماذا تكون حال هذا الشاب عندما يعود إلى حيث ينام دون أن يكسب قوت يومه وأجر فراشه؟ تُرى ماذا تكون حاله وماذا ينتهي إليه مصيره؟ استراح قلبي عندما أيقنتُ أن هذا الشاب سوف يُمكِنه أن يشتري لنفسه شطيرة، في هذه الليلة، قبل أن يهجع أو ينام.
هممت بأن أترك المقهى، وعند ذلك كسرتُ كوب ماء بحركةٍ لا إرادية، فانحنى النادل يجمع بعناية قطع الزجاج التي تناثرت فوق الأرض. قلتُ له في لهجة تنمُّ عن الأسف: هل يمكنني أن أدفع ثمن هذا الكوب المكسور؟ فنظر إليَّ وقال: لا، يا سيدي. الكوب رحل. وسآتيك بغيره حالًا. فشكرتُه وانصرفتُ إلى حال سبيلي. وإذ كنتُ متعبًا مرهقًا، آثرتُ أن آوي إلى فِراشي بسرعة. وفعلًا، ما كاد السرير يضمُّني حتى استسلمَت أجفاني للنوم اللذيذ.