طليطلة مذهلة مُسلِّية
أقبل الصباح يوم السبت، فصحوتُ من نومي وأنا في أشدِّ حالات التعب والإعياء. لم أنَمْ جيدًا في تلك الليلة، ولم أحظَ قَط بإغفاءةٍ طويلة، بل كان نومي متقطِّعًا ولفتراتٍ قصيرة بسبب الضوضاء الصاخبة في الشارع. دخلتُ الحمام لأغتسل وأحلق ذقني، فهالَتني تلك الجيوش الضخمة من الصراصير تجري هنا وهناك فوق حوائط الحمام. يا للهول! صراصير في مدينة من أشهر مدن أوروبا، بل وعاصمة دولة من أعظم الدول الأوروبية! هذا شيءٌ لم يسبق لي أن رأيتُ مثله في أي فندقٍ آخر بأي بلدٍ آخر من بلاد الدنيا.
فوجئتُ أيضًا بأن الحمام خلوٌ من الصابون، ولا بد لي من الحصول على صابون. لم يكن في مقدوري أن أخرج من حجرتي بالمنامة (البيجاما) وأمشي في طرقات الفندق. اضطُررتُ إلى ارتداء ملابسي الخارجية قبل أن أغسل وجهي أو حتى أُمشِّط شعري. شيء يُثير الأعصاب ويحطِّمها «على الريق». ذهبتُ إلى موظف الاستقبال وطلبتُ منه صابونة، فقال: نحن لا نقدِّم صابونًا لزبائن الفندق. كان يتحدث بالإسبانية، ولكني فهمتُ ما قاله بتلك اللغة، فقلتُ له: ومن أين آتي الآن بصابونة؟ فهزَّ كتفَيه وكأنه يقول لي: هذه مشكلتك وليست مشكلتي. فقلتُ له: هل تبيعني صابونة؟ أنا مستَعِد لأن أدفع ثمنها. فهزَّ رأسه بالنفي، فصحتُ فيه قائلًا: لا بد أن تأتيني بصابونة، وإلا غادرتُ الفندق على الفور. فتح دُرجًا أمامه وأخرج منه صابونة، وقال: ها أنا ذا أعطيك صابونتي. قُلت: وليكن. ولمَّا كانت الصابونة جديدةً غير مستعملة، قُلت: كم تريد ثمنًا لها؟ قال: لا أريد شيئًا. ولكن يبدو أن لسان حاله كان يقول: لا أريد ثمنَها، «فقط ابعد من أمامي عالصبح!» فشكرتُه وعُدتُ إلى حجرتي لأخلع ملابسي الخارجية وأقوم بإجراءات الصباح الروتينية. خرجتُ بعد ذلك أبحث عن حجرة الطعام. وجدتها تبعُد عن حجرتي بمسافةٍ غير قصيرةٍ … استقبلَني الموظف المسئول في حجرة الطعام وسألني قائلًا: هل معك عائلة؟ فأجبت بالنفي، فأشار إلى مائدةٍ صغيرة عليها قدَحٌ واحد وطلب مني أن أجلس إليها. كانت حجرة الطعام خاوية تقريبًا وخالية من الآكلين؛ إذ لم يكن بها سوى أسرة إيطالية واحدة تتكوَّن من خمسة أفراد، منهم ولدان صغيران. كان الاهتمام بإفطار الولدَين هو الشغل الشاغل للوالدَين والجَد، على ما أعتقد. كانت أصوات هذه الأسرة مزعجةً كعادة الإيطاليين الذين كلامهم صياحٌ وصُراخ و«شخط» وثورة أعصاب مستمرة. جاءني النادل بقطعة خبز لدنة وأخرى جافَّة، وصَبَّ لي القهوة، وقدَّم إليَّ «لحسة» ضئيلةً جدًّا من أردأ أنواع المُربَّى. كانت أشبه بقليل من الماء المسكَّر منها بالمربى الغليظة القوام التي نألفها جميعًا. لم يكن لها طعمٌ ولا نكهة، بل تعافُ النفس مجرد رؤيتها، فاكتفيتُ بكسرة الخبز اللدنة مع القهوة، وأنا أقول في نفسي: «جُوعوا تصِحُّوا.» وإذ فرغ قدَح القهوة بسرعة، وكنتُ أُحسُّ بالبرد، طلبتُ من النادل أن يأتيني بمزيد من القهوة، ولكني لاحظتُ أنه تأفَّف وتضايَق، فلم أُعِر حركاته أي اهتمام، بل تجاهلتُها تمامًا كأنني لم أرَها أو أفهمها. فهل جئتُ إلى إسبانيا لأتقشَّف، والخير في بلادنا موفورٌ والحمد لله؟ فأحضر الإبريق الكبير وأفرغ لي منه نصف فنجان، فأشرتُ إليه أن كفى، فجُلتُ بطرفي حولي لأرى كل شيء بالقاعة. لم يكن بها ما يستدعي الوصف. كانت قاعةً عادية جدًّا، ليس بها أي اتجاه إلى الترف أو البذخ، لا يُوجد بها بار ولا موسيقى تُشنِّف الآذان. انتهى إفطاري الهزيل، ولكني حمِدتُ الله عليه.
بعد أن غادرتُ الفندق بقليل، عُدتُ إليه ثانيةً لآخذ جواز سفري حتى أتمكن من تغيير بعض العملة الأمريكية إلى عملةٍ محلية إسبانية. آثَرتُ أن أفعل هذا، اليوم؛ فغدًا الأحد عُطلةٌ رسمية في هذه البلاد. ووجود عُملةٍ إسبانية معي خير من الإفلاس، وأنا بحاجةٍ إلى الإنفاق على الطعام والشراب وغيرهما.
دخلتُ أول مصرفٍ مجاور للفندق، فتمَّت عملية التحويل في لمح البصر وبدقةٍ فائقة؛ إذ ليس بها كل تلك التعقيدات الموجودة عندنا. ليت مصارفنا تتعلم السرعة في إنجاز مصالح الناس كغيرها من المصارف الأجنبية. كما أن المصارف هنا متناثرةٌ بشكلٍ عجيب، بين كل مصرف ومصرف مصرف أو سينما أو بضعة متاجر تبيع الملبوسات أو المصوغات أو الأحذية.
خرجت من المصرف ووفاضي عامرٌ بالبيزيتات الإسبانية. كان لا بد لي من شراء تحفةٍ أثرية من إسبانيا، فدخلتُ متجرًا للعاديَّات واشتريتُ درعًا ذات سيفَين ذهبيَّين مثبَّتَين على صدرها، دفعتُ فيها ٢٧٥ بيزيتا. وكان السعر مناسبًا لي؛ إذ كانت هناك تحفٌ يصل ثمن الواحدة منها إلى ألف بيزيتا أو ثلاث آلاف، وهذا فوق ما يتحمَّله جيبي في بلاد الغُربة.
أحسستُ فجأة بمغصٍ شديدٍ يكاد يُقطِّع أمعائي. كم أنتِ حسَّاسة، يا أمعائي الضعيفة! أثَّر فيكِ البرد الشديد الذي اجتاح مدريد بالأمس. ربَّاه! ماذا أفعل إذن؟ كنتُ أعلم أن قليلًا من الكُنياك قد يُدفئ المعدة ويوقف المغص.
دخلتُ أول بار لقيتُه في طريقي، فشربت كأسًا من الكُنياك، فزال المغص بعض الشيء، فأعقبتُه بفنجان من الشاي والليمون، فاسترحتُ كثيرًا بعد ذلك. نسيتُ أن أذكُر لك أن طقس اليوم شديد البرودة بصورةٍ ملموسة. إنني أرتعد في قميصي «الاسبور» الذي يكاد أن يكون بلا أكمام، وبنطلوني الصيفي الخفيف. لقد أخطأتُ خطأً كبيرًا بعدم إحضاري معي جاكتةً صوفية أو ملابسَ شتوية حتى ولو بولوفرًا واحدًا للطوارئ. الملابس الصوفية هنا غالية الثمن جدًّا، فلم أتمكَّن من شراء بولوفر أواجه به موجة البرد هذه. إن نقودي المحدودة لا تساعدني على هذه الخطوة الضرورية التي لم تكن في الحسبان.
هذا رابعُ يومٍ لي في مدريد. لم أُبصِر مشاجرةً واحدة في الطريق العام أو في مطعم أو مقهًى أو متجر. ولم تقع عيني على أمين شرطة أو رجل أمن، كأن البلد يخلو منهم. لم أرَ مخمورًا أو عربيدًا، لا بالليل ولا بالنهار، ولا حتى داخل حانة أو بار. لم تحدث مصادمةٌ واحدة بين سيارتَين أو بين سيارة وحافلة. لم أسمع عن حادث سرقة واحد. لم أُبصِر شابًّا واحدًا يُطارد فتاة في الطريق أو يرميها بلفظٍ نابٍ أو يُعاكسها. كما أنني لم أشاهد أية امرأة لعوبٍ من بائعات الهوى. لم أرَ مجموعات من الشباب الإسباني تُحدِث جلبة أو تقف على النواصي لمضايقة المارِّين والمارَّات. لم أُبصِر مُتسولًا واحدًا يستجدي المارة. لم أسمع كلمة بقشيش بأية لغة من لغات العالم. لم يُحاوِل أحد أن يقترب منِّي أو يسلبني حريتي أو يخدعني كي يحصل منِّي على شيء بدون وجه حَق.
الأمن هنا مُستتِبٌّ بصورة ملفتة للأنظار. الناس من كافة الألوان وجميع الأجناس، يمشون في هدوءٍ وطمأنينة. لم يحاول إسبانيٌّ واحد أن يقترب مني كي يجاذبني أطراف الحديث لكي يستدرجني إلى مكانٍ ما فيعتدي عليَّ ويسلبني ما أحمل من نقود كما قد يحدث لبعض السائحين في مصر، ولنكن صادقين واقعيين. لم أسمع ناقوس المطافئ بالصورة المزعجة التي سمعتُه يدقُّ بها في مدينة نيس بفرنسا؛ حيث كانت سيارات المطافئ والإسعاف لا تكُفُّ عن الجري في الطرقات لإخماد الحرائق المشتعلة في كل ساعةٍ تقريبًا.
ومن الأدلة على مدى الأمانة والأمان السائدَين في ربوع مدن إسبانيا، أن كل المطاعم والكافيتيريات تضع خارج واجهاتها عشراتٍ من المقاعد والموائد الصغيرة المغطَّاة بأفخر المفارش، وعليها المنافض الجميلة القيِّمة، دون رقيبٍ أو حارس، ولكن أحدًا لا يحاول قَط أن يسرق هذه المفارش أو المنافض رغم أن سرقتها سهلةٌ ميسورةٌ لأي شخصٍ تُسوِّل له نفسه أن يسرق دون أن يراه أحد من أصحابها. ولو أن هذه الموائد والمقاعد وُضعَت خارج المحلات في شوارعنا، لاختلفَت الصورة تمامًا، وربما اختفت المقاعد والمناضد أنفسها أيضًا.
شيءٌ آخر أثار انتباهي، نظافة دورات المياه بجميع المحلات والمطاعم، ونظامها المريح وذوقها الرفيع، كما أنها مزوَّدةٌ بالصابون وبورق التواليت، وبالماء الساخن والبارد، تجدها دائمًا مثاليةً في النظافة. النظافة في أوروبا دين وديْدن، يستحيل أن تجد دورة مياه واحدة قذرة أو مهملة. على النقيض، حتى دورة المياه التي بالطريق العام، نموذجية في نظافتها خالية من كل ما يؤذي العين والأنف معًا.
يرتدي رجل النظافة الإسباني قميصًا رمادي اللون وبنطلونًا من نفس اللون، كلاهما نظيفٌ كل النظافة، ويغطي رأسه بكاسكيت رمادية اللون أيضًا، يحمل في يده مكنسة ذات عصًا طويلة، يمسكها من طرفها وهو يسير طول الوقت على الطوار فإذا وجد ورقةً أو نحوها جرفَها بالمكنسة وأدخلَها في صندوقٍ حديدي ذي ماسك حديدي طويل يمسكه بيده الأخرى. يضغط ذلك الرجل على زرٍّ فينفتح الصندوق، فيجرف إلى داخله قطعة الورق أو غيرها من القاذورات التي يجدها بالطريق، وبعد ذلك يُقفل الصندوق من تلقاء نفسه. لا يمكن لعين أن ترى محتويات هذا الصندوق. وقد لا يلحظ أحدٌ أن ذلك الرجل الأنيق هو رجل النظافة. إنه يمشي وسط الناس كواحدٍ منهم، ولكن عينه الثاقبة تُراقب الطوار وكل ما قد يُلقى عليه من أوراق أو مهملات، وما أقلَّها! ولكنه يلتقطها في لمح البصر دون أن يلاحظ أحد شيئًا مما فعله. ليس عمل ذلك الرجل شاقًّا؛ لأن الشوارع والأرصفة نظيفة بطبيعتها؛ فالناس أنفسهم يُحافِظون على نظافة بلدهم فلا يُلقون شيئًا على الأرض أو على الطوار. وحتى الأطفال يهتمون باستخدام سلال المهملات المنتشرة في الشوارع مثبَّتة في أعمدة النور، فلا تجد عمود نور ليست به سلة للمهملات.
تهتم المرأة الإسبانية بملبسها وأناقتها وهي في الطريق، ترتدي في الصباح ما لا ترتديه في المساء. وأهم ما يلفِت نظرك إليها، الذوق الواضح في اختيار الألوان الهادئة. ويتجلَّى بوضوح ذوقُها السامي في اختيار الحذاء، يتجلَّى لكل من يحاول أن يدرُس هذه النقطة. كذلك الأناقة منتشرةٌ بين الرجال، ولا سيما من كانوا في سن الكهولة، والشيوخ الطاعنين في السن؛ فالحُلة الكاملة المكوية مع رباط العنق الجميل ضروريان جدًّا لتلك الفئة. وهم يحافظون على هذا الزي الكامل مهما تكن درجة الحرارة، يرتدونه صباحًا ومساءً.
لاحظتُ أن العائلة الإسبانية إذا ما خرجَت إلى الطريق، مشى الزوج في المقدمة ثم يسير خلفه الزوجة والأولاد. والأب هو الذي يحمل الصغير على صدره. أما الزوجة فلا تفعل هذا إطلاقًا.
الفتى الإسباني مؤلَّه، تجده إذا ما مشي ومعه حبيبته، راحت هي التي تُقبِّله من حين إلى حين، ثم تُوقِفه في الطريق فتُلقي برأسها فوق صدره، وتحتضنه وهو يربِّت على كتفَيها وكأنه يُهدِّئ من روعها، ثم ترفع رأسها إلى وجهه وتحدِّثه قليلًا لتعود بعد ذلك فتلقي برأسها فوق صدره مرةً أخرى. مرةً واحدة فقط اختلفَت الصورة؛ إذا أبصرتُ شابًّا إسبانيًّا يُقبِّل معشوقته قبلاتٍ طويلة حارة وهي مستسلمةٌ إليه في سعادة وارتياح. حقًّا، صدق من قال: لكل قاعدةٍ شواذ.
حتى الآن، لم أرَ التليفزيون الإسباني ولم أقرأ صحيفةً واحدة إنجليزية أو فرنسية أو حتى عربية؛ فالصحف العربية لا تصل إلى إسبانيا ولا يتعاملون معها. لا تضع الفنادق هنا أية تليفزيونات للتسلية. أما في اليونان وفي فرنسا فقلَّما تجد فندقًا من فنادق الدرجتَين الأولى والثانية ليس به تليفزيون. وعلى العموم أنا لا أشعُر بأنني مشتاقٌ كثيرًا إلى مشاهدة التليفزيون؛ فقد تفرَّغتُ طوال الشهر الماضي، وأنا في مصر، لمشاهدة التليفزيون المصري. أول شيء يُحدِثه فيك هذا الجهاز الخطير الذي لا يكاد يخلو منه بيتٌ واحد في مصر، هو الإحساس بالملل والسأم. حتى النادي الدولي، بدأ يقلد «كاميرا ٩»، ولولا شخصية سمير صبري الفذَّة المسلية والمقبولة عمومًا من جميع المشاهدين بغير استثناء، لاكتفى المرء بمشاهدة «كاميرا ٩» ذلك البرنامج الممتع، بمذيعته اللطيفة المُجيدة لعملها باستمرار. عيب التليفزيون المصري أنه يفرض على المشاهدين مذيعاتٍ اختارها هو تبعًا لذوقه وجعلَهن مرشداتٍ ملقِّنات، بل ومُعَلمات للشعب المصري كله، وهنَّ أبعدُ ما يكُنَّ عن أداء هذه الرسالة الكريمة، بُعد الجهل من العلم، والطيش من الحلم، وأفش الرأي من صحة الحكم. كيف يجوز أن تجلس فتاة هي «بنت امبارح» أمام عالمٍ مُخضرم تدير معه حديث المتمكِّنة الفاهمة الدارسة لكل ما يعقل العالِم الدارس؟ وليتها تترك الأستاذ العالِم المتمكن من مادته وعلمه يتكلم، بل الأدْهَى والأمَرُّ أنها تُقاطِعه وتُعلِّق، ثم تضيف من عندها «أي كلام». غير أن المذيع الوحيد الذي يُقنِعك بأنه يُقدِّر للعالِم الذي يجالسه قَدْره ومكانته ولا يتعالى عليه أو يتخطَّاه بحالٍ ما، ولا يحاول حتى أن يُعلق من عندياته مهما واتته الفرصة، بل يحرص على ألَّا يُدلي بكلمةٍ واحدة في غير اختصاصه، ويُشعِرك حقًّا بأنه ليس من حقِّه أن يفعل ذلك؛ ذلك المذيع المهذَّب الرقيق المعشر والذكي اللمَّاح، هو الأستاذ طارق حبيب.
إنني مقتنعٌ تمامًا بمذيعة برنامج «نادي السينما»؛ فإن درية شرف الدين مذيعة متمكنة ودارسة ومُلمَّة تُبهِرك بثقافتها السينمائية وبنطقها السليم لأسماء المخرجين، سواء أكانوا من الإنجليز أو من الأمريكيين أو الفرنسيين. أما فكرة المُعلق على الفيلم فهي فكرةٌ لطيفةٌ جعلَتني أحاول شيئًا فشيئًا أن أشاهد الفيلم باهتمام ودقة بالغَين، وأكوِّن لنفسي انطباعاتي وآرائي وتعليقاتي، ثم أقارنها بما سوف يقوله المعلق المتخصص الدارس. ومع ذلك، كم يضايقني أن أرى مذيعة هذا البرنامج تخرج علينا لتقرأ لنا نشرة الأخبار. هذا خطأ. إن ذهني يظل مرتبطًا بدرية شرف الدين طوال الأسبوع، على أمل أن أراها في برنامجها المحبَّب إلى نفسي، فإذا وجدتُها فجأةً تقرأ نشرة الأخبار، فإني أرثي لها؛ لأن المشرفين على جهاز التليفزيون قد أساءوا استخدامها، وحطُّوا من قيمتها الغالية لدى الجمهور. ليست السيدة درية شرف الدين مذيعةً عادية حتى تقرأ الأخبار؛ فللأخبار مذيعوها الذين اعتدنا أن نراهم دائمًا، والذين يُزعِجني أيضًا أن أراهم يُقدِّمون برامج هم ليسوا أهلًا لها.
كنت أحسُّ بأن السيدة تماضر توفيق سوف تُحدِث ثورة في التليفزيون، ولكنها حرمَت المشاهدين من فيلم عصر يوم الخميس. هذا وإن كانت قد هذَّبَت كثيرًا في طريقة إذاعة الإعلانات، فجرَّدَتها من طريقتها المجهدة للنفس. وعلى العموم، يجب السماح للسيدة تماضر توفيق بالوقت الكافي لتقوم بالإصلاحات المرجوَّة، وهي مهمةٌ شاقةٌ جدًّا سوف تحتاج منها إلى مجهودٍ جبَّار فوق طاقة الإنسان العادي.
هناك برامجُ عديمة الفائدة، لا يُفيد منها الجمهور في قليلٍ أو كثير. مثال ذلك برنامج «عزيزي المشاهد». ما جدواه إن كان ما يُقال وقيل فيه لم يُنفَّذ ولم يُؤخَذ به؟ وما جدوى برنامج «دائرة الضوء»؟ كل زائرٍ من زوَّار هذا البرنامج يُكلمني عن نفس المشاكل التي يعاني منها الشعب المصري؛ مشاكل النظافة والمواصلات والتليفزيون والشباب … إلخ. يعرف كل مصري هذه المشاكل ويُعاني منها، ويلمسها بنفسه، فما الحاجة إلى من يأتي ليجلس أمامي ساعة كاملة ليُذكرني بها، كأنني لا أعرفها ولا ألمسها أو نسيتها تمامًا؟
ومع ذلك، فهناك برنامجٌ قيِّم جدًّا. إنه برنامج «مع الرأي الحُر». هذا بحق برنامجٌ مفيدٌ جدًّا ومذيعتُه ناجحة موفَّقةٌ غاية التوفيق. وتجد به دائمًا الشخص المسئول عن القضية التي ستُعالَج في البرنامج. وفي كل حلقة، تخرج لنا هذه المذيعة الجميلة الخجول، بالنتائج التي وصلَت إليها بعد عرض المشكلة ومناقشتها من كافة الوجوه مع المسئول الواحد أو المسئولين جميعًا، إن احتاج الأمر إلى ذلك.
هناك الكثير مما يمكن قوله بخصوص التليفزيون المصري، ولكني لا أعتبر أن كتابي هذا قد جُعل خصوصًا للتليفزيون المصري، بيد أنني لا أعتقد أن كتابي هذا مخصَّصٌ لتناول هذا الموضوع الهام؛ ولذلك أكتفي بما قيل كتعليقٍ سريع عن بعض مشاعري تجاه البرامج الهامة التي تَزخَر بها شاشتنا الصغيرة. لا علاقة إطلاقًا لهذا التعليق بالرحلة التي أروي تفاصيلها هنا، ولكن «الشيء بالشيء يُذكر».
تجدني حريصًا جدًّا على مراقبة الوقت؛ فلا أريد أن أتخلَّف عن موعد الأوتوبيس المسافر إلى مدينة «طليطلة». لا أريد أن يحدُث لي اليوم ما حدَث لي بالأمس. سألتُ ثلاثةَ أشخاصٍ عن الوقت وأنا في طريقي إلى الشركة، فوجدتُ أن ساعتي مضبوطة.
نظرتُ خلفي فوجدتُ أسرةً أمريكية تتألف من زوج وزوجة وثلاثة أطفال، ولدَين وابنة. سألت الرجل عن الوقت فأخبرني، فاطمأنَّ قلبي واستراح بالي؛ فإن ساعتي لا تُقدِّم ولا تُؤخر. وفجأةً قالت الفتاة الصغيرة: هل صحيح ما يقوله أبي من أنني أُشبه المصريين؟ قُلت: لو كان كما يقول لكان شكلك يشبهني؛ لأنني مصريٌّ. فوجمَت الفتاة كأنها لم تتوقع المفاجأة، وسألتُها عن اسمها فقالت: أنا لوري. ثم طلبَت منِّي أن أكتب لها اسمها بالعربية بداخل غلاف كتاب كانت تحمله. وما كِدتُ أكتبه حتى طلب منِّي أخوها «جلن» أن أكتب له أيضًا اسمه بالعربية، ففعَلْت. عندئذ صاح الولد الثالث يقول: أنا آندي. هل تسمح فتكتب اسمي أنا أيضًا؟ فكتبتُه له راضيًا. سُرَّ الثلاثة بما كتبتُه لهم. صاحت لوري تقول: من فضلك اكتب لنا اسمك فكتبتُه لهم بالإنجليزية وبالعربية، فطلب منِّي آندي أن أكتب لهم أسماء الحيوانات الموجودة في بلدنا. فكتبتُ له «الجمل» وسألتُه: هل عندكم جملٌ في أمريكا، قال: لا، ولكن في حديقة الحيوان جمل. وقالت لوري: ألا يُوجد عندكم كلاب وقطط؟ قُلت: بلى، عندنا. كما يُوجد بحديقة الحيوان عندنا أسُودٌ ونمور. فقال آندي: النمور لا تُوجد إلَّا في الهند. هكذا قال أبي. لم نرَها عندما كنَّا في كينيا. قُلت: في كينيا أسُود ونمور يا آندي. فسألني جلن: هل عندكم قصص للأطفال مثل قصص السوبر مان؟ قُلت: بل عندنا مجلة للأطفال تحمل هذا الاسم.
سألتُ الوالد عن اسمه فقال: أنا «ديك» من سكان ولاية أريزونا بأمريكا. «هاك اسمي وعنواني لو طاب لك أن تُراسلني.» قُلت: إن ذلك يُسعدني كثيرًا. فسألني جلن عمَّا إذا كان معي عُملةٌ مصرية فضيَّة، فاعتذرت. قال إن هوايته جمع النقود الفضية وأخرج من جيبه فرنكًا سويسريًّا قال إنه سيبدأ به جمع هوايته. فوعدتُه بأن أُرسل له بعضًا منها إذا استطعتُ ذلك. فسألت لوري عما إذا كانت نقودنا مثقوبةٌ من الوسط فأجبتُها بأن نقودنا الآن ليست مثقوبة من الوسط، وإنما كان لدينا نقودٌ مثقوبة منذ حوالي ٢٥ سنة.
ودَّعَني ديك وأسرته متمنِّين لي التوفيق والسعادة، فتوجَّهتُ إلى مكتب السياحة «خوليا». كان مزدحمًا جدًّا. امتلأ الأوتوبيس المتَّجه إلى طليطلة حتى آخره، ولكن بقِيَت هناك قلةٌ لم تجد مكانًا للجلوس، وكنتُ أنا منهم، فأنزلونا وقالوا لنا إن الشركة ستأتينا بسيارةٍ أخرى. وفعلًا جاءنا أوتوبيس حمل بقيتنا رغم أن عددنا لم يملأ السيارة بأكملها.
تأخَّر ميعاد انطلاق السيارة خمسًا وعشرين دقيقة عن ميعاده. وفي خلال هذه المدة التقيتُ بسيدةٍ واقفة مع زوجها وولدها. نظرَت إليَّ وقالت: لا بد أنك تكتب بالعربية أو بالفارسية. قُلت: إنني أكتب بالعربية. قالت: هل أنت مصري؟ قُلت: نعم. كان هذا الحديث بالإنجليزية، وفجأةً حدثتني بالعربية، فقُلت: أهلًا، هل أنتِ من لبنان؟ قال زوجها وديع: نعم، ولكننا هاجرنا إلى أمريكا منذ ١٨ سنة، فانقطعَت علاقتنا بالوطن تمامًا. ثم أبدى كل واحدٍ منَّا أسفه لِمَا جرى وما زال يجري فوق أرض لبنان. تمكَّن وديع وحرمُه من اللحاق بالحافلة الأولى، أما أنا فكان من نصيبي الحافلة الثانية، وهكذا افترقنا.
بدأَت المرشدة حديثها قائلة: رقم الأوتوبيس هو ٧٨٧ وهو تابع لشركة خوليا للسياحة. ثم أخذت تُحدثنا عن طليطلة وتقول إنها مدينةٌ أثرية وغير مسموح ببناء أية مبانٍ حديثة فيها.
كانت طليطلة، في قديم الزمان، عاصمة إسبانيا، غزاها الرومان ثم المسيحيون ثم العرب في الفترة الواقعة بين القرنَين الحادي عشر والخامس عشر؛ حيث كانت الأديان الثلاثة؛ اليهودية والمسيحية والإسلامية، تعيش في محبةٍ ووئام وسلام. هكذا قالت المرشدة: سنُشاهِد في طليطلة معابدَ يهودية وكنائسَ مسيحية وجوامعَ إسلامية.
طليطلة مدينةٌ صغيرة لا يزيد عدد سكانها على خمسين ألف نسمة وتُشتهر بتاريخها العريق وبماضيها التاريخ المجيد. وإذا ما أراد المرء أن يُشاهدها بدقة، احتاج إلى أكثر من أسبوع للتجول والدراسة.
خرجَت بنا السيارة من مدريد، تجري بسرعةٍ الآن خلال طريقٍ طويل يشبه طريق الإسماعيلية والسويس في بلدنا. تمتدُّ على جانبَي هذا الطريق فلواتٌ من الأرضي غير المفلوحة تكسوها الحشائش الصفراء الميتة. وبين آونة وأخرى تقع العين على مصنع ضخمٍ بمبانيه الممتدة إلى مسافاتٍ بعيدة وأفنيته الواسعة، وكان أحدها يُنتِج جرَّارات الحرث الإسبانية. بدأَت الآن بعض المنازل تظهر على الجانب الأيسر من طريقنا. لا بد أن هذه بلدةٌ صغيرة تقوم على الطريق. لا يزيد ارتفاع أي مبنًى على ستة طوابق. ومعظمها مُشيَّدٌ على طرازٍ واحد متشابه، كما هي الحال في المساكن الشعبية عندنا.
ظهر الآن بعضُ الأراضي المفلوحة والمُعدَّة للزراعة بعضها مزروعٌ والبعض الآخر لم يُزرع بعدُ؛ فها هي حقول القمح على جانبَي الطريق. وتلك بيوت الفلاحين ومخازن غلالهم. وكلها مبنيةٌ بالطوب القوي كالذي تُبنى به البيوت في المدينة. وعلى يميني الآن مصنعٌ ضخم للسيارات.
يبدو أن الرحلة طويلةٌ وشاقَّة. الشمس تملأ جوانب الأوتوبيس وتخترق الزجاج فتلفَح جسوم الركاب بدون رحمة. ذكر لي السيد ديك الأمريكي أنه ذهب إلى طليطلة في رحلةٍ قطعَها القطار الإسباني في ساعتَين ونصف الساعة.
دخل بنا الأوتوبيس منطقةً عامرةً بالمنازل آهلة بالسكان، جوانب الطريق حافلةٌ بالقاذورات والمهملات والحشائش البريَّة. وبعد فترة أخذ الشارع يعود إلى نظافته المعهودة، ولاحت بعض المقاهي بروَّادها القليلين؛ ففي إسبانيا ينام الناس بعد الظهر لأنهم يسهرون حتى الصباح في الملاهي والكباريهات والحانات، وما أشبه؛ فحتى دُور السينما السواريه لا تنتهي قبل الواحدة والنصف بعد منتصف الليل.
عن يساري الآن مجموعة من المنازل الجميلة المنظر المتجانسة الشكل والحجم واللون والطراز، فإن كانت هذه منازل شعبية، فلا شك في أنها أكثر حظًّا من منازلنا الشعبية في مصر، التي تحوَّلَت إلى شيءٍ مُزرٍ لا يُشرِّف البلد أو الحكومة أو الساكنين فيها.
أصبح الطريق الآن يشبه إلى حدٍّ كبير، الطريق الزراعي بين القاهرة والإسكندرية؛ حقول وحقول مترامية الأطراف على الجانبَين. لم تقع عيني على فلاح إسباني واحد. يبدو أن هذا وقت الحصاد. ضمَّ الفلاحون القمح وحزموه حِزمًا كدَّسوها في أكوام. معظم الأرض بُور ولم يُفلح سوى قطعٍ صغيرة من الأرض، تنمو فيها المزروعات خضراءَ ناضرة. بعض الحقول لا تزال بها أعواد القمح قائمةً لم تُحصد بعدُ.
الآن فقط أرى، بعد طول انتظار، فلاحًا إسبانيًّا يُمسك فأسًا في يده. إنه يرتدي قميصًا وبنطلونًا، ويُغطِّي رأسه بقبَّعة من القَش، ويساعده ابنه الذي بدت لي ملابسه نظيفةً ناصعة تحت أشعة الشمس الساطعة.
شاهدتُ مصنعًا لعربات «سيات» الإسبانية التي شرعَت تغزو بلادنا لتُنافِس «الفيات» الإيطالية.
الطريق مستقيمٌ لا يلتوي ولم يلتوِ إلا مرةً واحدة أو مرتَين فحسب. وهو ضيق نسبيًّا، ولكنه يسمح بمرور أوتوبيسَين في آنٍ واحد.
لسنا وحدنا في الطريق، بل أمامنا رتلٌ من السيارات «الملاكي»، كلها متجهةٌ إلى طليطلة، كما أن عدد السيارات العائدة إلى مدريد ليس بسيطًا.
لاحظتُ أمرًا جديرًا بالذكر هنا ويُشكر عليه سائقو السيارات؛ فهم جميعًا لا يميلون إلى السرعة أو التهوُّر أو أن يُسابق بعضهم البعض الآخر، بل قيادة السيارات هنا متزنةٌ تنمُّ عن عراقة أخلاقهم وتقديرهم للمسئولية وخضوعهم لقوانين المرور ومحافظتهم على أرواح الركاب.
أرى، لأول مرة، ما يمكن أن يُطلق عليه غابةٌ صغيرة؛ إذ تقوم من الأرض صفوف وصفوف من جذوع الأشجار المتراصَّة المتوازية. السيقان كلها رفيعةٌ عارية من الفروع والأوراق إلى ارتفاع غير قليل، ثم تخرج منها الفروع الكثيرة الكثيفة الأوراق تمتدُّ عرضًا إلى مسافةٍ كبيرةٍ نسبيًّا، في الفضاء.
ظلت السيارة مدة ساعةٍ كاملة تنهَب بنا الأرض نهبًا، وما بَرِحنا في الطريق العادي على جانبَيه حقول الحشائش الخضراء حينًا والصفراء حينًا آخر والعمار حينًا ثالثًا.
أحسَّ السائق بالملل يدبُّ في نفوس الركَّاب فعمل على إزالة ذلك السأم بأن يُسمعنا بعض الموسيقى تنبعث جميلةً من مكبِّر الصوت في السيارة. هذا، وإن معظم الموسيقى الإسبانية حلوٌ رغم حدَّته وارتفاعه ودويِّه الذي قد يؤثِّر في الأُذن المتعبة.
شرعَت المرشدة تحدِّثنا من جديد عن طليطلة فقالت إننا نقترب منها، وكأنها هي أيضًا قد شعَرَت بطول انتظار الركاب وما سبَّبه لهم ذلك الانتظار من سأمٍ وملل، فأخذَت تُعلل نفوسنا بالآمال من أن طليطلة المنشودة وشيكة الظهور.
لأول مرة أرى حقلًا ناضر الخُضرة تنمو فيه النباتات عاليةً متراصة في جمالٍ طبيعيٍّ جذَّاب وهبَه الله الحقول ليجعل الناسَ يؤمنون بقوة الخالق وإبداعه، وبأنه مهما افتنَّ البشر في إضفاء الجمال على الحقول بطرقهم الصناعية فلن يَصِلُوا بها إلى ذلك الجمال الأصيل الموهوب. ولأول مرة أجد الغابات الفسيحة الزاخرة بالأشجار الباسقة تمتد إلى مسافاتٍ بعيدة المدى.
وصلنا أخيرًا إلى مدينة طليطلة. أدخلونا متجرًا حافلًا بالشيء الكثير من العاديَّات والمُنتَجات المحليَّة المصنوعة من الموزايك والسيراميك والجلد الفاخر. لا شك في أن الصناعة الإسبانية فخمةٌ ودقيقة تدُل على براعةٍ بالغةٍ ومهارةٍ فائقةٍ في فن النحت على الخشب والنقش على الجلد والخزَف.
يميل الفن الإسباني إلى الأحجام الضخمة الكبيرة سواء كان متمثلًا في حقيبة يدٍ أو حافظة للجيب، أو تمثال.
نزلنا من السيارة وأخذنا نجول في شوارع طليطلة. الشوارع ضيقةٌ ومع ذلك فهي تسمح بمرور السيارات، وعلى جوانب تلك الشوارع كثيرٌ من المتاجر الأنيقة.
يبدو أن الأسعار هنا أرخصُ قليلًا منها في مدريد. وقعَت عيني على مطعمٍ بسيطٍ ولكنه يعرض المأكولات بطريقةٍ تفتح الشهية. كانت الأطباق كثيرةً مختلفة الأحجام متنوعة الألوان، كلها مملوءة بالأطعمة التي يسيل لها اللعاب، والتي إذا شمَّ جائعٌ رائحتها ونكهتها من مسافةٍ طويلة جاء يعدو. كان منظرها يدُل على جودة الطهي.
دخلنا الكاتدرائية الموجودة بالمدينة فإذا بها مبنًى عتيق عريق ينمُّ عن الشدة والجبروت؛ قباء وراء قباء، بالغة الارتفاع، تلتصق بالسماء مكوِّنة رُواقًا فسيحًا خارج الكاتدرائية.
الكاتدرائية شامخةٌ بالغة الاتساع والضخامة، بها قسم لا يمكن الدخول إليه إلا بتذكرةٍ خاصة نظير رسمٍ معيَّن. كل ما بداخل هذا القسم يكاد يكون من الذهب الإبريز الخالص، قُدِّم هدايا إلى الكاتدرائية من شعب طليطلة ومن الملوك والأمراء الأجانب. وجدنا نسخة من الإنجيل مُطعَّمة بالذهب، هدية من ملك فرنسا إلى هذه الكاتدرائية في القرن الثالث عشر. وهناك سيفٌ من الذهب الخالص هدية من الجنرال فرانكو. أما تمثال السيد المسيح المصنوع من العاج فهو هديةٌ من أهل الفلبين إلى مدينة طليطلة.
شاهدت نموذجًا له العجب، يُمثِّل قطاعًا من الكاتدرائية قام بصنعه فنانٌ ألماني استغرق صُنعُه سبع سنوات من العمل المتواصل من عام ١٨١٧م حتى عام ١٨٢٤م، والجزء الداخلي من هذا النموذج من الذهب النقي، ووزن النموذج مائتا كيلوجرام، ورغم هذا يمكن فكه إلى ٥٦٠٠ قطعة.
جميع نوافذ هذه الكاتدرائية من البِلَّوْر الملوَّن وللكاتدرائية خمسة أسماء. وقد بُدئ في بنائها عام ١٢٢٦م.
دخلنا قسمًا آخر من الكاتدرائية، وإنِّي لأعترف بعجزي عن وصف ما تراه عيني. أرى آياتٍ من الفن لا مثيل لها في عصرنا. الحوائط كلها مكسوَّة بالتماثيل الخشبية المحفورة. حتى مقاعد هذه الكاتدرائية مُزيَّنة كلها بالنقوش؛ بعضُها تُمثل الأشخاص، وبعضٌ آخر يُمثل حيوانات. قام بهذه الأعمال الفنية العظيمة الرائعة مشاهيرُ فناني إسبانيا وفرنسا.
بالكنيسة، أيضًا، تمثال من الرخام النادر الغالي الثمن للسيدة العذراء تحمل السيد المسيح، قدَّمه هديةً أحد ملوك فرنسا.
بالكاتدرائية محرابٌ لا أعتقد أن عيني رأت مثله ولن ترى ضريبًا له طول حياتي، كما أنه لا يُوجد شبيهٌ له في الدنيا بأَسْرها، اضطلَع بصنعه ونقشه وزخرفته عشراتٌ من مشاهير الفنانين، فاستغرق منهم عشر سنواتٍ كاملة من الجُهد المتواصل. كل تمثال من هذه التماثيل يمثل حلقةً من حياة السيد المسيح، ويحكي قصةً من حياته. جميع حوائط المحراب السامقة الارتفاع من الذهب الخالص. وقد يصل ارتفاع هذا المحراب إلى سبعين مترًا. ولا يقلُّ عرضه عن ثمانين مترًا.
دخلنا قسمًا آخر عبارة عن قاعةٍ فسيحةٍ جدًّا لا يقل طولها عن مائة متر، وعرضُها عشرون مترًا أو يزيد، كل حوائطها مُغطَّاة بلوحاتٍ فنية بريشة الفنان جريكو وآخرين أمثال جويا ومولاريز. وتُمثل هذه اللوحات جميعًا شخصياتٍ دينية بحتة. أما سقف هذه القاعة فأشبه بقبة السماء تطير فيها الملائكة وسط الغيوم والسُّحب. لوحة كبيرة جدًّا بعرض القاعة وطولها، مقبية الشكل وليست مُسطحةً، مما يجعل عملية الرسم عليها أشق وأصعب. ورغم الجمال البيِّن في هذه اللوحة الكبيرة فإنها لا تضاهي اللوحات المرسومة على حوائط وسقوف كنيسة الفاتيكان بإيطاليا. لاحظت أن الرسام جريكو لم يترك شخصيةً دينية واحدة إلا ورسمها في دقةٍ بالغة، فرسم صورًا لتلاميذ السيد المسيح؛ مثل القديس بولس ومتى ويوحنا ولوقا.
أمام مبنى الكاتدرائية مبنًى آخر قيل لنا إنه مسكن كاردينال إسبانيا، وإلى جواره مبنى بلدية مدينة طليطلة الذي شُيِّد في عام ١٩٤٨م.
ذهبنا بعد ذلك لنُشاهِد قسمًا يتبع كنيسة القديس توماس. بذلك المبنى لوحةٌ ضخمة تملأ سطح الحائط كله تقريبًا، تُمثل ما حدث للقديس القائد الكونت أورجات جرنثا لوروين دي توليدو يوم دفنه؛ تُبيِّن هذه اللوحة كيف انشقت السماء فنزل منها قدِّيسان قاما بدفن ذلك الكونت، وكيف حُملَت روح ذلك الكونت إلى أعالي السماء بينما يأمر السيد المسيح من عليائه بفتح أبواب الجنة، وكيف تدخلها روح هذا الكونت الطاهرة.
حقًّا، ما أروعَ هذه اللوحة الجميلة التي رسمَها الفنان جريكو برجاء من راعي كنيسة القديس توماس. وقد نُقلَت هذه اللوحة العظيمة إلى مكانها الحالي، حديثًا، كي تكون في مواجهة الداخل مباشرةً، وحتى تقوم فوق القبر الذي به جثة الكونت، والموجود داخل هذا القسم من الكنيسة.
تحكي لنا المرشدة هذه القصة، وتقول لعلها أسطورة حِيكت حول هذا الكونت. غير أن الجزء الحقيقي من القصة، ينحصر في أن هذا الكونت كان موجودًا فعلًا واشتُهِر بين الناس جميعًا بطيب الخُلق ونقاء القلب وحلاوة اللسان وحُسن المعشر.
دخلنا محرابًا آخر في مبنًى يبعُد كثيرًا عن المبنى السابق، وهو مبنًى بسيط جدًّا، حوائطه عاريةٌ باستثناء بعض النقوش المتناثرة هنا وهناك. تُقسِّم صفوفُ الأعمدة المحرابَ إلى ثلاثة أقسامٍ متساوية، والمحراب في الواقع مسجدٌ خالٍ من المقاعد، وقد كُسيَت أرضُه ببلاط يحمل بعضَ النقوش الملوَّنة اللطيفة صنعتها أيدٍ عربية.
عُدنا جميعًا إلى الأتوبيس في طريقنا عائدين إلى مدريد. جلس إلى جواري شابٌّ دمث الأخلاق إلى أقصى ما يمكن أن تكون عليه دماثة الأخلاق، ومعه فتاةٌ رائعة الجمال الجذاب الساحر. سألني نفس السؤال الذي سألَنيه الأخ وديع من قبل: «هل تكتب بالعربية أم بالفارسية؟» فلما عرف أنني مصريٌّ من القاهرة، قال: أنا من قبرص واسمي سقراط، وحبيبتي من النمسا واسمها كريستينا. قد أفكر قريبًا في زيارة القاهرة لأن قبرص لا تبعُد عن مصر. قُلت: مرحبًا بك في أي وقت. ثم سألَني عما إذا كانت إسبانيا قد أعجبَتْني، فأجبته بأنني كنتُ أظنها أكثر إمتاعًا، فقال: هذا هو شعوري أنا وكريستينا. ثم سألني: هل تعرف زينب البري؟ إنها مصريةٌ ومعروفة جدًّا بمصر. قلت: الاسم مصري ولا شك، ولكني لم أسمع عنها أبدًا. فدُهش وتعجَّب، فسألتُه: هل تسمح لي بسؤالٍ شخصي جدًّا، ومن حقك أن تُجيب عليه أو ترفض الإجابة: كيف وأين التقيت بكريستينا الفاتنة؟ التفَت سقراط إلى كريستينا، وسألها: هل أُجيب على سؤال السيد أم أرفض؟ فلما سمحَت له قال: التقينا في قاعة الدرس. كنا ندرس معًا في أمريكا. أنا أكتب رسالة الدكتوراه وهي تُعِد رسالة الماجستير. والآن، كلانا يعمل هناك. فسألتُه مرةً أخرى: هل تنوي الزواج بكريستينا؟ فنظر إليها وقال: ربما. قُلت: ألا تُحبها؟ قال: بلى، وهي أيضًا تُحبني. فسألتُه: هل أنت من أنصار الحب قبل الزواج أو بعده؟ قال: بل قبله. وكلانا من أنصاره. فسألتُه: منذ متى تعرَّفتَ على كريستينا؟ قال: منذ عامٍ كامل. قُلت: ألا تكفي هذه المدة الطويلة بحق للتعرف على أخلاق حبيبتك؟ فضحك بصوتٍ عالٍ وحاول أن يزوغ من الإجابة على سؤالي.
في هذه اللحظة توقفَت السيارة. كان أمامها مزلقان سكة حديدية. كانت الحواجز الخشبية تهبط بآلة يُديرها عاملٌ مرابط إلى جوارها، وما إن مرق القطار حتى أدار الآلة فارتفعَت الحواجز بسرعة. يجدُر بي أن أعرض هذا المنظر البسيط بعد أن تعدَّدَت حوادثُ تصادُم قطار حلوان بالسيارات الملاكي وغيرها، بسبب عدم احترام سائقي السيارات للإشارة الحمراء وللناقوس الذي يدقُّ دقًّا متواصلًا بصوتٍ عالٍ مسموع، فتكون النتيجة ضحايا أبرياء لا ذنب لهم تُزهَق أرواحهم من جرَّاء طيش السائقين ونزقهم، أولئك الذين يدمنون المخدرات والخمر ويستهترون بأرواح الناس.
عُدتُ الآن إلى الفندق والساعة تدُق التاسعة مساء، والشمسُ ما زالت تُشرِق كأنها في التاسعة صباحًا. لن تُصدِّقني إذا قلتُ لك إن النهار هنا لا ينحسر قبل العاشرة أو العاشرة والنصف مساء.
وجدتُ في مكتب الاستعلامات بالفندق شابًّا نحيل الجسم ذا شاربٍ رفيع أسود. ومن حُسن حظِّي وجدتُه يتكلم الإنجليزية بطلاقة. وفي الحال أخذتُ أشرح له متاعبي، وكيف أنني لا أستطيع أن أنام الليل بسبب ذلك الضجيج الصاخب المرتفع من الشارع الرئيسي الذي تُطِل عليه حجرتي. هذا بالإضافة إلى الحشرات التي تمشي في الحمَّام وعلى حوائط الحجرة طوال الليل. تأفَّف الشاب وأبدى امتعاضه، وكأنه لا يصدقني، فقلتُ له: هل يمكنني أن أنتقل إلى حجرة أخرى بعيدة عن الشارع كي أستطيع النوم بالليل؟ قال: سأحاول، ولكنني لستُ واثقًا مما إذا كان بمقدوري إعطاؤك الحجرة في هذه الليلة. قُلت: ليتك تستطيعه الليلة؛ فهذا أفضل لي. وجرَّنا الحديث معًا إلى أن أسأله عن مشكلة اللغة في إسبانيا، فقال: حقًّا إنها مشكلة بالفعل. أما أنا فأتعلم الإنجليزية في الجامعة، وأنا طالبٌ في كلية الاقتصاد، كما أنني أتردَّد على المعهد البريطاني لأتلقى دروسًا في الإنجليزية. قد يُسعِدك أن تعرف أنني أَنظِم الشعر، بيد أنني غير واثقٍ من أوزانه. قلتُ له مشجعًا: لا عليك. اكتُب كل ما يعِنُّ لك واترك مسألة الأوزان إلى ما بعدُ. فأعجَبَته فكرتي وقال: إنهم هنا يثبِّطون من عزيمتي، ولكنني سأعمل بنصيحتك، وسأكتب أحاسيسي وكل ما يجول بخاطري.
بلغَت الساعة الآن التاسعة والنصف، فقلت لهذا الموظف الشاب، واسمه لويس: سأذهب الآن إلى حجرتي لأستحم ثم أعود إليك لأرى الحجرة الجديدة التي ترى أنها أفضل من حجرتي وأقل ضجيجًا. قال: وهو كذلك.
دخلتُ الحجرة، ولما هممتُ بإضاءة الثريَّا المعلقة في سَقفِها لم ينبعث منها أي نور، وذُهلتُ عندما اكتشفتُ أنهم نزعوا مصابيح الثريَّا كلها، فأمست الحجرة معتمةً ليس بها إلا أنوار الفراش غير الكافية لإضاءة تلك الحجرة الواسعة. ضايقني هذا الحدَث غير اللائق بل والإجرام اللئيم، فأمسكت بالتليفون وتحدَّثتُ إلى لويس وشرحتُ له ما زاد الطين بِلَّة، فقال: لقد وجدتُ لك حجرةً أخرى بعيدةً عن ضوضاء الشارع. خُذْ حمامك وأسِرع بالمجيء عندي.
سرعان ما كنتُ عند لويس، فصَعِد معي إلى الدور الخامس وأراني حجرةً رائعة، هادئة تمامًا، حوائطها زرقاء وستائرها زرقاء وكل شيء في حمَّامها بلونٍ أزرق، حتى الأحواض والبانيو والبيديه كلها من القيشاني الأزرق اللون. أعجبتني هذه الحجرة وقرَّرتُ في الحال أن أنتقل إليها. وفعلًا حزمتُ حقائبي وصَعِدتُ بها إلى الدور الخامس، وهكذا تخلَّصتُ من ضجيج الشارع الذي أقضَّ مضجعي وأتعبَني طوال الليلة الماضية.
خرجتُ لأتناول العشاء، وكانت الساعة قد قاربَت العاشرة والنصف. الشوارع غاصَّةٌ بالناس. ولأول مرة أشاهد معركةً بين قائدَي سيارتَين؛ فقد نزل قائد السيارة الأمامية وتوجَّه إلى السيارة التي خلفه وراح يصرخ في وجه سائقها الذي كان معه أولاده وزوجته. تجمَّع الناس على الطوار يشاهدون المُشادَّة الكلامية من بعيدٍ فحسب. لم يحاول أحدهم أن يقترب أو يتدخل. لم أعرف سبب الخلاف أو ما أزعَج السائق الأمامي وأثار حفيظته على السائق الخلفي، ولكنهما كانا يلوِّحان بأيديهما، وكأن كلٌّ منهما يهدِّد الآخر متوعدً. كانت هذه أول مرة أرى فيها أمرًا شبيهًا لما قد يقع عندنا بين سائق تاكسي وسائق سيارة ملاكي أو بين قائدَي سيارتَين ملاكيتَين وقد نزل كلٌّ منهما وراحا يتراشقان بالشتائم والسباب، وفي معظم الأحوال بنابي الألفاظ، ثم يتطوَّر الأمر إلى تبادل اللكمات والركلات، وربما إلى الضرب بما في السيارتَين من قِطَع حديدية.
دخلتُ مطعمًا لا أعرفه … كان أقرب مطعمٍ صادفَني في أحد الشوارع الجانبية المتفرعة من شارع جوزي أنطونيو الرئيسي. قابلَني النادل بابتسامة، وقدَّم لي قائمة الأطعمة الإسبانية. لم أفهم شيئًا مما فيها، طبعًا، نهضتُ من مقعدي أريد أن أُشير للنادل بإصبعي إلى الأطعمة التي أريدها، ولكن شابًّا إسبانيًّا من زبائن المطعم تقدَّم مني وسألني عما إذا كنتُ أتكلم الإنجليزية فقلت له: نعم، هل تسمح، إذن، فتقول للنادل أن يأتيني بطبقٍ واحد به طرف من كل الأصناف المعروضة؟ بمعنى قل له أريد «واحد أورديفر». ولكن الفتى عجز عن إفهام النادل طلبي لأنه لم يفهَمه هو نفسه؛ لم يفهَم كلمة «أورديفر» فأُصبتُ بخيبة أمل، ولكنه سرعان ما جاءني بكوب به قليل من النبيذ الأحمر وقدَّمه لي، فتناولتُه منه شاكرًا، ثم قدَّمني إلى الفتاة التي معه فحيَّيتُها في أدب، غير أنني سمعتُها تقول له بلغةٍ إسبانية أمكنَني أن أفهمها: «قل له إنني سيدة متزوجة.» فدُهشتُ لأمر هذه السيدة الحمقاء ومن عقليتها الساذجة المتأخرة.
وإذ كان لا بد لي من أن آكل شيئًا، فقد رأيتُ النادل يحمل طبقًا مملوءًا بقطَع حسبتُها من اللحم المستدير، كان منظرها فاتحًا للشهية، فقلتُ له: مثل هذا. فأتاني بمثله. وكم خيَّب أملي وأحزنَني أن هذه الكرات شيءٌ لا أعرفه من الخارج محشوَّة بالثوم المجروش والبصل والبقدونس. وهذا طعام لا يمكنني أن أتناوله ظهرًا، فما بالُك أن آكله ليلًا وقبيل النوم؟ كما أن أمعائي لا يمكنها أن تتحمل كل هذه الكمية من الثوم بغتةً وبلا رحمة. هربت من ضجيج الشارع فيأتيني الثوم يُطير النوم من عيني ويسبِّب لي المغص والألم، كالمستجير من الرمضاء بالنار! نحَّيتُ الطبق جانبًا.
جاءني الرجل بعد ذلك بطبق من السلاطة عبارة عن شرائح من الطماطم، فطلبتُ منه أن يأتيني بالملح والفلفل فجاءني بالملَّاحة وبعلبة قال لي «هذا هو الفلفل». حاولت أن أرُشَّ بعض ما في تلك العلبة ولكن ذلك البعض أبَى أن يخرج أبدًا، فحِرتُ في أمري، فهززتُ العُلبة بشدة، فانسكَب كل ما فيها تقريبًا، ويا ليته كان فلفلًا. لو كان فلفلًا لهان الأمر، ولكنه كان شطةً حمراء من الشطة السوداني اللعينة فقلتُ في نفسي: إنَّا لله وإنا إليه راجعون. سامحكِ الله يا مدريد، كل مصيبة تأتيني فيكِ أعظم من الأخرى. وهكذا لم أتمكن من الانتفاع بطبق السلاطة. وكان عليَّ أن أدفع ثمَن هذَين الطبقَين دون أن تلمسهما يداي أو على الأصح لساني.
والأدهى والأمرُّ أنني فوجئتُ بالنادل يقدِّم لي فاتورةً تطالبني بدفع ٣٧٥ بيزيتا؛ أي ما يقرب من أربعة جنيهات مصرية، فكِدتُ أتأوَّه من فداحة المبلغ الذي أوصلتُه إلى ٤٠٠ بيزيتا، بأن نفحتُ النادل ٢٥ بيزيتا بقشيشًا، وانصرفتُ أسير على الطَّوى وأغلي من الغيظ.