الطعام والدين في العصور القديمة
إذا سألنا عن علاقةِ الدين بالطعام في العصر القديم، نجد أن الإجابة لها ثلاثة جوانب؛ فأولًا: كانت الأعياد الدينية تشكِّل الهيكل العام لدى الجماعة، وكانت الأعياد أيضًا تميِّز مراحلَ دورةِ حياة الفرد، وذلك بالولائم التي تُقام بمناسبة الميلاد والاندماج في المجتمع والزواج والوفاة. وظلت المناسبات المهمة الوافدة من البُلْدان المتأثرة بالحضارتين الإغريقية والرومانية باقيةً (باركر ١٩٩٦، بيركرت ١٩٨٥، ميكالسون ١٩٧٥، نورث وبرايس وبيرد ١٩٩٨: ٦٠–٧٧). وكان الكثير من الأعياد وكذلك الشعائر ذات النطاق الأصغر يتطلَّب (من بين أمور أخرى) تقديمَ الحيوانات أو غيرها من الأطعمة كقرابين إلى الآلهة، وكان عدد من تلك الآلهة مسئولًا عن ازدهار قطعان الماشية ومواسم الحصاد أو فشلها. وفي تلك الأعياد، كان الناس كثيرًا ما يأكلون مع الآلهة، ويتمتعون بمأدبة مميزة. ثانيًا: كانت الأعياد الدينية ترتبط بالسُّلْطة والهياكل الاجتماعية للمجتمع، وكانت تعزِّز من النظام الاجتماعي. ثالثًا: كان تناوُل الطعام في إطار ديني غالبًا ما يُنظَر إليه على أنه من العادات «المتوارثة التقليدية». وأحيانًا كانت مثل تلك الطقوس القديمة تتطلَّب تفسيرًا؛ ممَّا أدَّى إلى نشوء فرعٍ من الأدب كان يتميَّز بتقديم إجابات على أسئلةٍ قد يطرحها قارئٌ ما، وسنرى أمثلةً على ذلك في أعمال أوفيد وبلوتارخ. ولم تؤدِّ الجذورُ الدينية في الماضي إلى استبعادِ الآلهة الجديدة والشعائر الجديدة لمواكبة التغيُّر الذي يطرأ على مرِّ الزمن.
وأستهلُّ هذا الفصل الذي يدور عن البُلْدان المطِلَّة على البحر المتوسط في العصر الحديث بمشهدٍ يوضِّح كيف ينظِّم المجتمعُ نفسَه بناءً على الإشارات الدينية، التي كان من المرجح أن تكتسب أهميةً أكبر في بلدان العالم القديم.
في يوم أحدٍ حار من أيام شهر أغسطس لعام ٢٠٠٣، التقى نحو ثلاثين أو أربعين مواطنًا من مواطِنِي كريت لتناوُل الغداء في تجمُّعاتٍ أُسَرية، وكانوا قد اختاروا موقعًا للنزهات الخلوية في مكانٍ ظليل وتكسوه الأشجار في ممرِّ القديس أنطونيوس الباتسوسي، في وادي أماري، وأحضروا فحمًا للشواء وكميةً كبيرة من اللحم، ووضعوا زجاجات النبيذ البارد في جدول الماء للحفاظ على برودتها، وأعَدُّوا أطباقَ السلاطة وغيرها من الأطباق الأخرى. وكانت مناسبةً تسودها أجواء الودِّ بصحبة أفراد الأسرة والأصدقاء في عطلة نهاية الأسبوع بعد عيد انتقال السيدة العذراء، وهو من الأعياد الأرثوذكسية التي تركز على الأسرة والحياة المنزلية. وكثرت الزيارات إلى المزار الصغير المخصَّص للقديس أنطونيوس، وهو مزار منحوت في كهفٍ في جدار الممر. وكانت هناك عند مدخل المزار عكاكيز وجهازٌ للمساعدة على المشي وغيرها من قرابين الشُّكْر معلَّقة على جدار المزار لتُعلِن عن حالات الشفاء التي لعب القديس دورًا كبيرًا فيها. وعند التقدُّم نحو الداخل قليلًا، كان هناك إفريز صخري يحمل شموعًا ونذورًا — كانت من زيت الزيتون فيما يبدو — موضوعةً في زجاجات فانتا وكوكاكولا، وخلف الإفريز كان هناك المزار نفسه الذي يحتوي على هيكل وبخور وأيقونات دينية.
وكانت هذه البُقعة المقدَّسة تضمُّ في العصور السابقة على المسيحية مقرَّ أتباعِ الإله هيرميس كرانايوس — ربما هيرميس راعي النبع — الذي ما زال مصدر المياه الموجودة هناك يحمل اسمه. وعُثِر على نذورٍ مقدَّمة لهيرميس وكتابةٍ منقوشةٍ تذكر اسمَ الإله، ويعود تاريخُ النذور إلى عام ٢٠٠٠ قبل الميلاد، أما الكتاباتُ المنقوشة فيعود تاريخُها إلى القرن الأول الميلادي.
كان ثمة مطعمٌ صغير على الطراز اليوناني بجوار الطريق المؤدِّي إلى الممر يقدِّم الغداءَ بهامشِ ربحٍ قليل، وكان يتوجَّه إليه غيرُ المشاركين في النزهة الخلوية. وكان يُستخدَم للطهي موقدان صغيران يعملان بالغاز المضغوط المعبَّأ في أنبوب غاز، وكانت الموائد مصفوفةً خارج المطعم في ظل أشجار الجوز، وكان الطلب مرتفعًا حتى إن النادلات (اللاتي كنَّ أيضًا طاهياتٍ مساعداتٍ) كنَّ يعجزْنَ عن تلبيةِ كلِّ الطلبات التي تُطلَب منهن؛ ومن ثَمَّ، كان معظمُ الموائد تخدمه نادلةٌ بعينها، وكان ثمة رجلٌ يجلس على مائدة أخرى — ربما يكون صاحب المطعم — وكان يدخل إلى المطبخ ويقلي قطعًا من ضلوع لحم الخنزير على مواقد الغاز الصغيرة.
من الممكن استخلاص عدة نقاط من مشهد الغداء هذا؛ النقطة الأولى هي استمرار تلك العبادة عند هذا النبع النفيس؛ ففي جزيرةٍ ذات طقس حار — إذ ترتفع درجات الحرارة في أغسطس إلى ما يزيد عن أربعين درجة مئوية — يصبح الماء عُملةً نادرة يزداد الطلبُ عليها. ويرتوي البشر والنباتات على حدٍّ سواء من النبع، الذي يوفر ماءَ الشرب وتقوم عليه الزراعة وربما يقدِّم خواصَّ علاجيةً. كان من المعتقد أن آلهة مثل بان وهيرميس والحوريات وغيرها تحمي مصدرَ المياه عند كل الينابيع في كل أنحاء اليونان، وكان السكان يسترضونها ويتوسلون إليها؛ فكانوا يقدِّمون النذورَ تعبيرًا عن الشُّكْر على النِّعَم التي حلَّتْ عليهم، وأملًا في الحصول على نِعَم في المستقبل. وكان تقديم قرابين من الزيت أو العسل أو كعكات الشعير واردًا مثل تقديم قرابين من الحيوانات. ومن الممكن أن تكون المأدبة التي يعدُّونها خفيفةً وسهلةَ النقل، كما هي الحال في النزهة الخلوية في العصر الحديث. ومن الوارد أن يُحضِر المشاركون في النزهة الخلوية طعامًا ساخنًا وبعض الأثاث الخفيف، ومن الوارد أنها كانت مناسبة مميزة على الرغم من إقامتها وسطَ المناظر الطبيعية، وعلى الرغم من بُعْدها عن المنزل. وربما كان يشترك الحاضرون في هدفٍ واحد، أو ربما كان للتجمُّع أكثر من هدف. ثم إن اللقاء كان خصوصيًّا وغير هادف للربح التجاري. وكان المطعم الصغير يُضفِي على المناسبة طابعًا تجاريًّا، ولكن هذه الحالة أيضًا كانت تجمع بين الأنشطة التجارية والشخصية، وذلك في رأيي.
من الممكن أن يفسِّر المراقب المعاصر هذه المآدب من عدة نواحٍ، وعادةً ما يكون من بين العناصر المهمة — فيما يبدو — صلةُ القرابة والتماثُلُ والتقاليدُ المرتبطة بالعيد، والمزارُ الواقع وسطَ المناظر الطبيعية. وكان الطعام متوافرًا مقابل المال أو مجانًا، وكان تناول الطعام من الأمور المبهِجة لحاسة التذوُّق وللآكِلين بصفتهم كائناتٍ اجتماعيةً. وقد ركزتُ على تناوُل الطعام على المستوى الإنساني، ولا شك أن «الدين» في العالم الحديث والقديم قد أضفى على الآلهة والقوى العلوية قدراتٍ قائمةً على العناصر وأمَدَّها بأساطير تفسيرية ومطالبات بأن يتوجه إليها أتباعُها من البشر بالعبادة والاحترام. والقديس أنطونيوس الباستوسي مثالٌ حديث لإحدى العبادات المحلية في مكانٍ ناءٍ من جزيرة يونانية؛ ففي العصور القديمة كانت تنتشر الآلاف من تلك العبادات في أنحاء بلدان البحر المتوسط، وكان للكثير منها تقاليد وأساطير معينة، وفي تلك الأماكن — وفي الأماكن المقدسة الكبرى في أوليمبيا وإلفسينا ودلفي — كان الإغريق والرومان يقدِّسون آلهتَهم ويحاولون الحصول على دعمها للزراعة أو لحماية حياة أفراد المجتمع أو لنشاطٍ معين. وفي الكثير من الحالات، كانت العبادة تتضمَّن تقديمَ قرابين تُراق دماؤها أو قرابين أخرى، من بينها إقامة مأدبة يتناولها المُتعبِّدون مع الإله. ومن المفترض أن نتخيَّل وجودَ هيكلٍ يُستخدَم لتقديم القرابين ومبانٍ (أو مساحة لتشييد مبانٍ مؤقتة) لتناوُل الطعام بعد تقديم القربان، وذلك بجوار معظم المعابد (ما زالَتْ أطلالٌ رئيسةٌ لأماكن دينية ظاهرة حتى اليوم).
وللاطِّلَاع على نسخة قديمة من ذلك الغداء الذي أُقِيم في باستوس، يمكننا أن نقارنه بمأدبة يَرِد لها وصفٌ في مسرحية كوميدية من تأليف ميناندر — وهي مسرحية «ديسكولوس» (أي «الفَظُّ») — وألَّفها في أثينا في عام ٣١٦ قبل الميلاد. وتدور أحداثُ المسرحية في قرية فيلي النائية في شمالي إقليم أتيكا؛ إذ أعَدَّتْ إحدى الأمهات العُدَّة لتقديم قربان ريفي في مزارٍ للإله بان والحوريات (لا شكَّ أنه يقع بجوار مصدر مياه)؛ لأنها تريد أن تبرأ من الكوابيس التي تنتابها ويُسلِّطها عليها الإله بان وتتعلَّق بسلامة ابنها؛ فتأتي بأسرتها الغنية من الحَضَر إلى الريف ويقدِّمون قربانًا من الغنم إلى الآلهة، وذلك بمساعدة طاهٍ مستأجَر يُحضِر قِطَعَ أثاث وتجهيزات نزهة خلوية معه، ويُحضِر أبسطة «ستروماتا»، وذلك فيما يبدو لصناعة مصاطب أو أرائك ريفية (٤٠٥–٤٢١)، وأحضر بعض القدور والمقالي، واتضح أنه ينوي استعارةَ قدورٍ أخرى من مكان تقديم القربان (٥٠٤–٥٢١). وبعد تقديم القربان يتناولون الغداء (أريستون، ٥٥٤–٥٦٢)، وفيما بعدُ تبدأ الترتيبات لإقامة جلسةِ شرابٍ للرجال، وحفلٍ صاخبٍ ساهر للنساء (٨٥٥–٨٥٩)، وتنشب الخلافاتُ بين المشاركين من الرجال والمشاركات من النساء، وبين المشاركين الريفيين والمشاركين الحضريين، وإلى حدٍّ ما بين الخدم والأسياد. ويتضح أنها مناسبة ذات أجواءٍ رسمية على عكس النزهة الخلوية التي شاهدتها؛ لأن الحبكة الدرامية تقتضي أن تكون المناسبة عبارة عن وليمة غير رسمية للاحتفال بخِطبة، ولكن توجد أوجه شبه لافتة بين المناسبتين؛ إذ يقع مسرح الأحداث في حديقة مقدَّسة؛ حيث ينطلق الأشخاصُ في رحلةٍ ويطهون اللحم في أماكن ريفية، ويأخذون معهم وسائلَ الراحة الحضرية، تنجح المأدبة في دمج العناصر المتباينة منها والجمع بينها. وفي هذه الحالة — كما هي الحال في المسرح الكوميدي الإغريقي (ونناقشه باستفاضةٍ في الفصلَيْن السابع والتاسع) — تتناول المسرحية المخاوفَ المتعلِّقة بتجاوزات الشباب، وبالشاب الذي يبدِّد الأموالَ على مُتَع المدينة وملذاتها، ولا يلتزم بالمحافظة على موارد الأسرة. ولكن تساعد شعيرةُ تناول اللحم والنبيذ في نهاية المسرحية في لمِّ شمْلِ الجميع على النحو الصحيح.
ينتقد سوستراتوس — الشاب الغني الذي نتحدَّث عنه — أمَّه بسبب تحمُّسها لتقديم القرابين (٢٦٠–٢٦٣) قائلًا: «تنوي أمي تقديم قربان لإلهٍ ما — لا أدري أي الآلهة هو — وهي تفعل ذلك يوميًّا. وهي تتنقل بين أنحاء المقاطعة بأكملها لتقديم القرابين.» وما يلفت الانتباه هنا هو كثرة مرات تقديم القرابين، والأم ذات الدور المحوري في نشاط تقديم القرابين؛ إذ يتيح لها ثراؤها تقديم قرابين خصوصية لأكثر من مرة، وكونها امرأةً لا يعوقها عن ذلك، وهو تحسُّن مهم طرَأَ على بعض النقاط التي ناقشناها بخصوص النوع الاجتماعي في الفصل الثاني.
يا لطريقة هؤلاء اللصوص في تقديم القرابين! إنهم يحملون معهم أَسِرَّتهم وجِرار النبيذ، ليس لأجل الآلهة بل لأنفسهم. البخور مقدَّس وكعكة القربان كذلك. ويقدِّمون ذلك للإله كقربان كامل تُضرَم فيه النيران. ثم يقدِّمون طرفَ الذيل والحويصلةَ المرارية للآلهة — لأنها لا تُؤكَل — ويلتهمون هم كلَّ ما عدا ذلك.
تصوِّر المسرحية هذا الرجل الكثير الانتقاد المُعادِي للمجتمع وهو يتلقَّى العقابَ على عدم تمكُّنه من تقدير الأساس التبادلي للمجتمع. وليس المقصود بهذا أن ننفي أن لديه حُجةً قوية؛ فلم تكن المتعة منفصلةً عن تقديم القربان. ومن الممكن أن نضيف أن الحيوانات كانت تُقدَّم كقرابين للآلهة في وقتٍ من العام يتزامن مع مواسم الزراعة (جيمسون ١٩٨٨)، وأن الدين مدمجٌ في النظام الثقافي الإنساني؛ ومن ثَمَّ، فإن شخصًا يحرص على صفاء النوايا مثل سنيمون هو الشخصية المناسبة لمناقشة هذه النقطة. وفي الوقت نفسه، تُلقِي هذه المسرحية الهجائية الضوءَ على العلاقة المتبادَلة الوثيقة بين الدين والطعام والعلاقات الاجتماعية؛ وهذه العناصر توضِّحها أكثرَ شخصيةُ الطاهي. ينتقد سنيمون هذا الطاهي الأجير القادم من المدينة، وهو ليس الوحيد في انتقاده هذا؛ إذ إن الطاهي من الشخصيات النمطية في المسرح الكوميدي الأثيني (ويلكنز ٢٠٠٠). ولكن الطهاة موجودون أيضًا في النقوش التي تشرح القواعد المنظمة للاحتفالات الدينية (بيرثيوم ١٩٨٢) والقواعد المتبعة في الموائد الجماعية الإسبرطية، والتي كانت أبعد ما تكون عن الترف؛ ومن ثَمَّ، لا بد من تصنيف الطهاة بحسب مقياسٍ يتراوح بين كون الواحد منهم موظفًا مختصًّا بالشئون الدينية فقط، ومرورًا بكونه موظفًا يتولَّى تقديم المآدب في المؤسسات، إلى كونه شخصية شهيرة مستعدة للعمل في منزل؛ فالطاهي هو متعهد تقديم الطعام الذي يضفي السمات المرتبطة بالمطاعم الحديثة — وهي أحدث ما وصل إليه مجال المنشآت المخصَّصة لتناول الطعام — على مآدب الأغنياء.
الكوميديا من المصادر المُختلَف عليها في مظاهر الحياة في العصر القديم، ولكن هذه النزهة الخلوية القديمة تحفِّز التفكيرَ من عدة نواحٍ مهمة. كان الناسُ في العصر القديم يتناولون الطعام غالبًا في أجواءٍ غير رسمية، خارج المنزل، وكانوا يقدِّمون قرابين صغيرةَ الحجم لأغراضٍ عائلية، بالإضافة إلى القرابين الكبيرة التي تُقدَّم في الأعياد في المدن الكبيرة. وكان الرجال والنساء يتناولون الطعام معًا، في ظل أعراف اجتماعية معينة. ولدينا الكثير لنتحدث عنه بخصوص عادات تناول الطعام الرسمية وغير الرسمية لدى السَّوَاد الأعظم من السكان، مع أن معظم الأدلة الواردة مأخوذة من عادات تناوُل الطعام بغرض التفاخر لدى الأغنياء والمشاهير.
(١) المزارات الكبرى والصغرى
في شهر سكيرافوريون، قبل احتفال سكيرا. يُقدَّم إلى هيتينيوس فواكه الموسم وخروف و١٢ دراخمة. يُقدَّم إلى كوروتروفوس خنزير و٣ دراخمات، وحصة الكاهن ٢ دراخمة و١ أوبول (عملة معدنية قدرها ١ / ٦ دراخمة). يُقدَّم إلى تريتوباتيريس خروف، وحصة الكاهن ٢ دراخمة. يُقدَّم إلى أكامانتيس خروف و١٢ دراخمة، وحصة الكاهن ٢ دراخمة.
تُقدَّم القرابين للآلهة الآتية على سنواتٍ متبادلة: المجموعة الأولى — في شهر هيكاتومبايون، يُقدَّم إلى أثينا ثور … (ترجمه إلى الإنجليزية: رايس وستامبو)
يقضي الأورجيونيس بما يأتي: يقدِّم المضيفُ القربانَ في يومَيْ ١٧ و١٨ من شهر هيكاتومبايون؛ في اليوم الأول يقدِّم قربانًا من خنزير رضيع إلى البطلات، وقربانًا كاملَ النمو إلى البطل ويُقِيم مائدة، وفي اليوم الثاني يقدِّم قربانًا كاملَ النمو إلى البطل. ويحسب نفقاته ولا ينفق ما يزيد عن العائد. (يوزِّع) اللحم كما يأتي: يقدِّم للأورجيونيس حصةً، وللأبناء حصةً لا تزيد عن النصف، ولنساء الأورجيونيس (في حالة تقديم قربان عبارة عن ثور) وللنساء الحرائر حصة مساوية (لحصة الأورجيونيس)، وللبنات حصة لا تزيد عن النصف، ولوصيفة واحدة (لكل امرأة) حصة لا تزيد عن النصف. (تُسلَّم) حصة المرأة للرجل (المقصود الزوج أو الوصي أو المولى). (ترجمه إلى الإنجليزية: فيرجسون)
وكانت هذه مناسبة سنوية لتقديم القرابين إلى البطل إكيلوس، ربما بدءًا من القرن الخامس إلى ما بعده. وكان يقدِّم القرابين جماعةٌ من الرجال يقتسمون اللحمَ فيما بينهم بعد ذلك، وكان على الرجال حضور المناسبة حتى يحقُّ لهم تناوُل اللحم، وكان يحق لأبنائهم ونساء أسرتهن أيضًا تناوُل اللحم، وإنْ كان لا يحق للنساء تناوُل اللحم إلا إذا كان القربان ثورًا وليس خنزيرًا؛ فكان من الواضح أن كمية اللحم التي يحصلون عليها عند ذبح ثورٍ كقربان كانت أكبر مما في حالة ذبح خنزير. يتضح من هذا الدليل المتعلق بالنساء (وهنَّ من ميسورات الحال إذا كان بإمكانهن شراء عَبْد) أنه يحقُّ لهن الحصول على اللحم أحيانًا، ولكن ليس دائمًا، وأنهن يعتمدن على أزواجهن أو أوصيائهن للحصول عليه. ويشير فيرجسون إلى أن النساء عادةً لم يكنَّ يحضرْنَ على الأرجح عمليةَ تقديم القربان.
وتتعلَّق مجموعة ثانية من القوانين (مجموعة النقوش المأخوذة من روما القديمة المعروفة باسم «سيلوج» (٣، ١٠٩٧، ٣٠)، من تحرير ديتينبرجر) بحرم مقدَّس كان مؤجرًا لمستأجر حين لم يكن «الأورجيونيس» بحاجةٍ إليه. في الفترة المقدسة من شهر بويدروميون، كان المستأجر يوفر مطبخًا (أوبتانيون) ومجموعةً من الموائد وأرائك تناوُل الطعام لغرفتَيْ طعام رسميتين (مجموعتين من الأرائك الثلاثية الأضلاع تكفي لما يتراوح بين اثني عشر شخصًا وثلاثين شخصًا من الحاضرين). وكان الحاضرون يقدِّمون القربان ويأكلون اللحم في المكان نفسه؛ إذ لم يكن مسموحًا — هذه المرة — بأخذ الطعام معهم إلى المنزل. وتوضح هذه القواعد أن الأبعاد الاجتماعية والدينية كانت متداخلة بالكامل، وتكمل بالضبط الدليل الذي يقدِّمه ميناندر فيما سبق، والنقش المتعلِّق بِعيدِ بان أثينايا المذكور فيما يأتي. وكانت الموائد والأرائك المستخدمة في تناول الطعام تنتمي لعالَم الدين مثلما تنتمي لعالَم المنزل، أما المطبخ فغالبًا ما يُذكَر وجوده في مواقع تأدية الطقوس أكثر من وجوده في المساكن الخاصة. ويذكر نقش من إلفسينا — على سبيل المثال (مشروع النقوش الإغريقية ٢، ٢، ١٦٧٩، ١٨٩) — أعمالَ التشييد الجارية لبناء مطبخ (من الحجر)؛ ويدل هذا على كونه بناءً متينًا وليس مطبخًا من المطابخ المؤقتة التي كانت كثيرًا ما تُستخدَم فيما يبدو في المنازل الخاصة.
وكانت هناك في روما أيضًا جماعاتٌ تجتمع لتناول العشاء معًا بعد تقديم قرابين للآلهة المحلية، واندمجت تلك الجماعات في الاحتفالات الكبرى والولائم المقامة احتفالًا بمناسبات سياسية في المدينة (دوناهو ٢٠٠٥، بيرد ونورث وبرايس ١٩٩٨: ٢٩٢–٢٩٤).
وتظهر صورة مشابهة لشعيرة تقديم القرابين على مستوًى محدود في مناسبة أكبر في الموقع الكبير لأداء الطقوس الخاصة بعبادة أوليمبيا، بحسب وصف العالِم الجغرافي باوسانياس في كتابه «وصف اليونان» (٥، ١٥). ويوجد هيكل هائل لزيوس (٥، ١٣)، شُيِّد من كومة كبيرة من الرماد الناتج عن نيران إحراق القرابين، وتحكمه قواعد خاصة للاستعمال أثناء إقامة الألعاب الأوليمبية وخارجها. ويأتي الرماد من الهيكل الموجود في مبنى «بريتانيون»؛ حيث تُضطرَم شعلة بصفة دائمة. وكانت المناسبة المميزة للألعاب الأوليمبية محطَّ الأنظار لدى معظم الإغريق والرومان على مستوى العالم، وكانت المناسبة تشهد أنشطةً مكثَّفةً لتقديم القرابين، واهتمامًا كبيرًا بالصلات التي تجمعها بهرقل آكِل اللحم الوارد ذِكْره في الأسطورة (راجع الفصل الأول). وكان اللحم — كما رأينا — ضروريًّا للغاية بالنسبة إلى الرياضيين، وترتبط إنجازاتُ الأكل التي نفَّذَها ميلو الكروتوني ارتباطًا ذهنيًّا بأوليمبيا، ولكن في نظر الأهالي المحليين (في إليس) يظهر نمطٌ مختلف وتكميلي من المِلَل. كانت تُقدَّم قرابين شهرية على كل الهياكل في المزار ذي البناء المُركَّب، وذلك «على الطريقة القديمة»، وكانت هذه القرابين من النوع الذي لا تُراق فيه الدماء مثل البخور وكعكات القمح الممزوجة بالعسل وأغصان الزيتون، بالإضافة إلى طقوس إراقة الخمر (فيما عدا القرابين المُقدَّمة إلى الحوريات والخليلات؛ إذ لم يكن يُقدَّم إليهن النبيذ). وكانت طقوس إراقة الخمر تُقدَّم إلى الآلهة الإغريقية والليبية في مزار آمون العظيم، الذي كانت تجمعه روابط بأوليمبيا، وكانت طقوس إراقة الخمر تُقدَّم أيضًا إلى الأبطال (وهم بشرٌ مؤلَّهون) وزوجاتهم. وكان المجتمع يكرِّم الفائزين في الألعاب الأوليمبية في غرفة طعام («هيستياتوريون») مميزة في مبنى البريتانيون التابع لأهالي إليس (المَضْيَفة المقدسة للمجتمع، مثل مبنى البريتانيون في أثينا ومعبد فيستا في روما).
(٢) المُتعة ومقاومة التغيير
نعود الآن إلى العلاقة بين الدين وعالَم التجارة، وهو العالَم الذي ربما يضيف المتعةَ والترفَ إلى التجربة الدينية، وهي النقطة التي سلَّطَ سنيمون عليها الضوء فيما سبق. ففي الكثير من النصوص التي نتناولها في الفصلين السابع والتاسع، نجد مقارناتٍ ضمنيةً بين العُرْفِ المتوارَث كما يباركه الدين، والضغوطِ الجديدة وخصوصًا الخارجية — التي جلَبَتْها التجارة والسوق — وهي الضغوط التي تشجِّع على التغيير، وضمنيًّا على المخاطر الأخلاقية. يضرب أوفيد مثالًا مفيدًا على هذا في قصيدته «الأعياد» الجزء السادس، عن الإلهة كارنا؛ فهي تحب القمح الثنائي الحبَّة التقليدي ولحم الخنزير المقدَّد، وتكره الأسماك والطيور المجلوبة من بلاد أخرى. وينمُّ اهتمامُها بالإنتاج الزراعي التقليدي عن حفاظها على الهُوِيَّة القديمة ذات الطابع الجمهوري لروما. ومع أن هذه الملاحظة مهمة وكثيرًا ما يلتفت إليها الناس — كما سنرى — لا بد أن نشدِّد دائمًا على وجود الفكرة المقابلة، وهي العلاقات المهمة بين الدين وعالم التجارة. من ثَمَّ، كانت الأرض المقدسة تُؤجَّر للمزارعين؛ وكان الناسُ يشترون الحيوانات بغرض تقديم القرابين؛ وأدَّى بيْعُ اللحم والجلود إلى زيادة الإيرادات؛ وكانت كثيرًا ما تُحفَظ خزائن المدينة في المعابد، مثل معبد البارثينون في أثينا. علاوةً على ذلك، ساعدت مناسبات تقديم القرابين على التعبير عن ثراء ونفوذ مدينةٍ أو فردٍ ما، بقدر ما كانت تعبِّر عن العُرْف المتوارَث والنشاط الزراعي الراسخ، فلو توافَرَتْ لمدينة أثينا المواردُ الكافية لتقديم قرابين قوامُها عدة مئات من الماشية في احتفالٍ واحدٍ — وهو ما كانت تعجز مزارعها عن تلبيته — لَكان ذلك تعبيرًا ملحوظًا عن الثراء.
وردًّا على الحُجَّة المدافِعة عن التجارة، يمكننا أن نضيف أنه من المتعذَّر استبعاد المتعة تمامًا من تجربة تقديم القرابين. ومن المرجح أن أكل اللحم كان مستحسنًا بشدة في الأعياد القديمة — وذلك في حالة ندرة أكله — وكذلك كانت تجربة الانضمام إلى جماعةٍ يعايشها المتعبدون، خصوصًا إذا أُضِيف إليها النبيذ الذي كان كثيرًا ما يحتسيه الناس في أوقات الاحتفال.
وعلينا أن نتذكر أيضًا أن كلًّا من المدن الرومانية والإغريقية كانت منفتحة على الكثير من المِلَل والعادات الدينية الجديدة، وذلك مهما كانت الديانة القديمة مقاوِمةً للتغيير من حيث عدة نواحٍ؛ ومن ثَمَّ وفد إلى أثينا، على سبيل المثال، أتباعُ أدونيس وبينديس وإيزيس وسيبيلي، ووفد إلى روما أتباعُ إيزيس، ووفد إليها — في السنوات العِجاف من القرن الثالث قبل الميلاد — أتباعُ آلهة أخرى من البلدان الإغريقية، كان من بينهم أتباع أبولُّو والأم العظمى سيبيلي. ويعبِّر دخولُ أتباع الآلهة السورية والتراقية والفريجية والمصرية والإغريقية على التوالي؛ عن وجود فئة من السكان بحاجةٍ إلى هذه الآلهة، وعن الهُوِيَّة التي تؤيدها تلك الفئة (جاليات من المهاجرين في الكثير من الحالات)، ويعبِّر دخولُ هؤلاء الأتباع — في حالة روما أيضًا — عن حاجةٍ للحصول على مساعدة الآلهة الأجنبية.
ينطبق الدليل المتعلِّق بالأورجيونيس (مؤدُّو الطقوس الشعائرية لتقديم القرابين) على أتباع هذه الآلهة الأجنبية أيضًا. وصل أتباع بينديس إلى مدينة بيريوس في القرن الخامس قبل الميلاد، وبحلول القرن الثالث كانت قد اندمجت في أتباع الآلهة الرسمية للدولة، وكانت المدينة تقدِّم الحيوانات، التي كان بعضها يُقدَّم إلى الأورجيونيس مقابل مبالغ مالية. وكان الأورجيونيس يعدُّون وليمةً من اللحم، وكانت المدينة تحصل على الجلود. يُقدِّر فيرجسون (١٩٤٤: ١٠١–١٠٣) أن مائة رأس من الماشية كانت تُقدَّم على الأرجح كقرابين (بمعدل مائة رأس من الماشية للقربان الواحد)؛ ممَّا كان يوفر اللحمَ لعددٍ هائل من الجموع. كان عيد بينديس يشمل احتفالًا على مستوى المدينة ووليمة للأورجيونيس، الذين ربما كانوا يأكلون معًا بعيدًا عن الأنظار. يعتقد فيرجسون أن اللحم ربما كان يُؤخَذ نيِّئًا إلى المنازل، وكان يُسمَح لغير الأورجيونيس بتقديم القرابين في المزار، ولكن كان لا بد من تقديم حصصٍ من ذبائح القرابين إلى الكاهنة والكاهن، وكان يُراعَى في تقديم القرابين الرسمية الاختلاف بين الجنسين بتخصيص حصصٍ من الذبائح الذكور؛ وهذا مثال حي يدلُّ على دمْجِ الطوائف الأجنبية في نسيج أثينا، ويدل أيضًا على الأعداد الكبيرة التي كانت تستفيد من لحوم القرابين.
قديمًا، كان السبيلُ أمام البشر للفوز برضا الآلهة هو العلس وكذلك حبات الملح النقي المتلألئة. وحتى ذلك الحين، لم تكن أي سفينة أجنبية قد جلبت عبر أمواج المحيط صمغَ المُرِّ المستقطر من لحاء الأشجار، ولم يكن قد جُلِب أيُّ بخور عبر نهر الفرات، كما لم يكن قد وصل أي بلسم من الهند، وكانت خيوط الزعفران الأحمر ما زالت غير معروفة لنا. وكان يُكتفَى بأن يُعبَّق الهيكل بدخان العرعر، وكان نبات الغار يُحرَق ويُسمَع له صوتُ طقطقةٍ عالية. وكان مَنْ يستطيع إضافة زهور البنفسج إلى الأكاليل المغزولة من زهور المروج غنيًّا بحقٍّ. (ترجمه إلى الإنجليزية: فريزر)
ومن ثَمَّ، أدَّتِ العطور دورًا مبهمًا، وعادت للظهور في جلسة الشراب؛ حيث كانت تؤدِّي دورًا غامضًا، شأنها شأن الزهور. يقدِّم كلٌّ من أثينايوس وبلوتارخ («حديث المائدة» ٣، ١) حُجَجًا تؤيد استخدامَ الزهور في الأكاليل عند تناوُل الطعام، وحُجَجًا أخرى تنتقد ذلك؛ فهل كان استخدام الزهور جزءًا من عادة مقدسة، أم كان استخدامُها بدافع الترف؟ هل كانت تمثِّل همزةَ وصلٍ بعالم الطبيعة ومن ثَمَّ بآلهة الطبيعة مثل ديونيسوس، أم كانت تنمُّ عن تبذيرٍ فادحٍ؟ بالطبع، كان استخدام الزهور مزيجًا من كل هذه العناصر؛ ومن ثَمَّ كانت مجالًا خصبًا لتوظيف الدلالات الأيديولوجية.
كان للعطور وأكاليل الزهور دورٌ في الجزء المتعلِّق بتقديم القرابين في المراسم، وكانت تُتوَّج الحيوانات والكهنة على حدٍّ سواء بالأكاليل. وتعود العطور وأكاليل الزهور للظهور أيضًا في جلسة الشراب، كما رأينا توًّا، ولا بد أن نتذكر أنه عند ذِكْر مناسبةِ تقديمِ قرابين في أحد النصوص — ما لم يكن القربانُ عبارةً عن حيوانٍ أُحرِق بالكامل (عادةً ما يُقدَّم قربانًا إلى آلهة الموتى) — فإن الحيوان المراد تقديمه كقربان كان يُقسَّم بين المشاركين، وكان يعقب ذلك إقامة مأدبة، رسمية أو غير رسمية. (كان من الممكن إقامة مأدبة، دونَ طقسِ تقديم القربان الذي يسبقها، ما دام أمكن شراء اللحم من السوق. وربما يكون ذلك هو مصدر معظم اللحوم التي ورَدَ وصْفُها في النصوص الهزلية الإغريقية أو النصوص الهجائية الرومانية. ولكن كان التوقُّع الطبيعي، خصوصًا في البلدان الإغريقية، هو أن اللحم — الذي كان نادرًا ما يُؤكَل — كان مصدره طقوس تقديم القرابين.) ومن ثَمَّ، كان تقاسُم الطعام يعقب عمليةَ تقديم القرابين، وكانت جلسة الشراب تعقب تناوُلَ الطعام.
وكانت جلسة الشراب — وهي العنصر الثالث في التسلسل المؤلَّف من تقديم القرابين، ثم المأدبة، ثم جلسة الشراب — من الأنشطة الممتعة بدورها، وكانت كذلك مناسبةً ذات طابع شعائري؛ ففي نهاية المأدبة — التي تتكوَّن من المقبِّلات والأطباق الرئيسية من الأكلات الإغريقية — كانت الموائد تُستبدَل، ويُجلَب الماء لغسل الأيدي، وتؤذن طقوس إراقة الخمر والصلوات ببداية جديدة. وكانت هذه الصلوات تُؤدَّى لزيوس وديونيسوس وإلهة الصحة هيجيا، وغيرهم من الآلهة المرتبطة بجلسات الشراب. وكان يُستعمَل نبيذٌ نقي وليس نبيذ ممزوج في طقوس إراقة الخمر، وكانت تُنشَد ترنيمة في النهاية (راجع أثينايوس)، وكانت هذه الشعائر الدينية تضع إطارًا لشعائر احتساء الشراب، ويأتي وصفٌ لغير ذلك من الشعائر الاجتماعية في الفصل السادس.
ثم ألسنا نباشِر المعاملات التجارية ونقدِّم القرابين بطرق متشابهة؟ ففيما أُحْضِرُ للآلهة خروفًا صغيرًا لطيفًا اشتريتُه بعشر دراخمات، بوسعي أن أحصلُ بأقل من طالين واحدٍ على عازفات مزمار وعطور وعازفات قيثارة … نبيذ من جزيرة ثاسوس وأسماك إنكليس وجُبن وعسل. ثم نحصل على بركةٍ بقيمةِ عشر دراخمات، إذا صار القربان مصحوبًا بالبشائر الطيبة إلى الآلهة، ونعوِّضُ نحن هذه الفوائد بالتكلفة التي ننفقها على هذه السلع المترفة. ولكن كيف لا يكون هذا من قبيل مضاعفة شرور تقديم القرابين؟ فلو كنتُ إلهًا، لَمَا سمحتُ قطُّ بوضع خاصرة من اللحم على الهيكل ما لم يكن مَنْ يقدِّم القربان قد خصَّص أيضًا سمكة إنكليس (وهي نوعٌ من ثعابين البحر) ضمن القربان الذي يقدِّمه، وبتلك الطريقة سيصبح كاليميدون في عداد الموتى، لكونه يحمل صفاتٍ من هذا النوع من الأسماك. («السُّكْر» الشذرة ٢٢٤)
وكان كاليميدون خطيبًا سياسيًّا من القرن الرابع قبل الميلاد، وتعرَّضَ أيضًا للانتقاد في مسرحيات كوميدية أخرى لشغفه بالأسماك المرتفعة الثمن (راجع الفصل الخامس). ويجمع المتحدث بين تقديم القرابين وجلسة الشراب بالتسلسل الذي تابعناه توًّا، ثم يقارن بين أسعار قربان صغير ومأدبة فاخرة (الطالين فئة نقدية تتألَّف من ٦٠٠٠ دراخمة). وتكمن الطرفة في الافتراض القائل بأنك تحصل على ما يعادل القيمة التي دفعتها، وإذا دفعتَ مقابلًا أقل في تقديم القربان، فإن الآلهة تردُّ بالأقل. وذلك ليس النهج المُتَّبَع في القرابين الدينية (قارن فرفريوس ٢، ١٥-١٦)، ولكن المتحدِّث يشير إلى الطابع المُلتبِس للقِيَم.
ونجد أن مثل هذه المقتطفات لافتة للغاية؛ إذ إنها تتأمل الطابع المُلتبِس لعادة تقديم القرابين الإغريقية؛ فبدايةً، نلاحظ وجود علاقة مضطربة بين ما هو بشري وما هو إلهي، ويأتي هذا في صميم القصص القديمة التي يرويها هِسيود عن أسطورة بروميثيوس، ثم نجد أن طقس تقديم القرابين — كما رأينا — مدمجٌ في نسيج النظام الاجتماعي البشري؛ ومن ثَمَّ، فمن الحتمي أن نجد جوانب يبدو أنها تركِّز على صالح البشر وليس على حاجات الدين الصِّرفة، في حالة تعريفها بطريقة متشددة. وتقودنا أيضًا طقوس تقديم القرابين وغيرها من القرابين الدينية إلى مناسباتِ تناوُل الطعام وتجمُّعاتٍ اجتماعيةٍ مخصَّصة لتناول الطعام والشراب، ونجد أنها ممتعة في حد ذاتها؛ ممتعة من الناحية الاجتماعية وممتعة أيضًا لحاسة التذوق؛ فالدين ممتزج بالترفيه وبالحياة السياسية، فمن الممكن — على سبيل المثال — أن تقام عَقِب تقديم القرابين مأدبةٌ في أحد مكاتب الحكم الديمقراطي الأثيني؛ فهل من الممكن أن يصبح ذلك محلَّ خلاف؟ ربما يصبح محلَّ خلاف، في حالة رصد تجاوُزات. تشير إحدى الخطب القانونية لديموسثينيس (٥٤) إلى جماعات من المواطنين كانوا يقدِّمون محاكاةً ساخرةً للشعائر الدينية في جلسات الشراب، وكانت حادثةَ مَحفل الأسرار (أو العبادات السرية التي تُمارَس طقوسُها في الخفاء) في أثينا في عام ٤١٥ قبل الميلاد تتعلَّق بمخاوف تدبير المؤامرات على الحُكْم الديمقراطي، التي ظهرت في المحاكاة الساخرة للشعائر الدينية في جلسات الشراب الخاصة (كتاب المؤرخ ديموسثينيس (٦، ٢٧–٢٩)، كتاب «عن مَحْفَل الأسرار» من تأليف أندوسيديز).
كانت تظهر في أبهى مظهرٍ لها كلما غادرَتْ منزلها للمشارَكة في الاحتفالات التي تحضرها النساء، وذلك بعد أن أخذت حصتها من ثروة القائد سكيبيو حين كان في أوج نجاحه. وبالإضافة إلى فخامة ملابسها وزينة عربتها، كانت كلُّ السلال والأكواب وغيرها من الأواني المستخدَمة لتقديم القربان مصنوعةً إما من الذهب وإما من الفضة، وكانت تُوضَع في موكبها في كل تلك المناسبات الشعائرية المهيبة، وكان عدد الخادمات والخَدَم المصاحبين لها كبيرًا بما يتناسب مع ذلك. (ترجمه إلى الإنجليزية: باتون)
كان عيد ديونيسيا التقليدي في الماضي عبارة عن موكب بسيط وبهيج؛ ففي البداية كان يأتي دورق من النبيذ وغصن من العنب، ثم يأتي أحد المحتفلين يجرُّ جَدْيًا خلفه، ويتبعه آخَر يحمل سلةً من التين المجفَّف، وفي آخِر الموكب كان يأتي الرمز الذي يمثِّل فالوس أو العضو الذكري. ولكن حاليًّا نجد أن هذه البساطة اختفَتْ، وحلَّتْ محلَّها أوانٍ من الذهب يحملونها ويمرون من أمامنا، وملابس وعربات فخمة تمر بجوارنا، وأقنعة. (ترجمه إلى الإنجليزية: كسابو وسلاتير)
وهذا ينقلنا للحديث عن المخاطر الوخيمة المترتبة على المتعة في الفِكْر القديم، والتي نتناولها في الفصل السادس.
ونعود إلى «ماجيروس» أو الطاهي، تلك الشخصية المبهمة (راجع الفصل الأول). فالرجل الذي يتولَّى ذبْحَ الحيوان ليس صاحبَ مكانةٍ اجتماعية رفيعة، ولكنه يؤدِّي مهمة دينية، وإنْ كانت مهمة شاقة وتتسبَّب في تلطيخه بالدماء، ومن الممكن أيضًا أن يبيع اللحم بعد تقديم القربان؛ فالجانبان الديني والتجاري — مرةً أخرى — ليسا منفصلين. وكان من الممكن — بصفته لا يزال «ماجيروس» — أن يعرض خدماته لطَهْي مآدب خاصة ومآدب فاخرة لحساب الميسورين، مقابل أجر. أما في إسبرطة، فكان الطاهي يُشرِف على المأدبة الجماعية (كتاب «عن الدستور الإسبرطي» من تأليف مولبيس، استشهد به أثينايوس).
وقد رأينا الكثير من الأسئلة عن الدين داخل المجتمع البشري. ما الغاية التي كانت تنشدها الآلهة نفسها من عملية تقديم القرابين؟ لماذا كانت بحاجةٍ إلى قرابين؟ صحيحٌ أنها كانت تطلب الشرفَ في أتباعها من البشر، ولكن لماذا كانت بحاجةٍ إلى لحوم القربان؟ وكما رأينا، كان المشاركون من البشر يحصلون على الأجزاء الفانية من الحيوان، أما الآلهة فكانت تحصل على دخان النخاع المحترق والأعضاء الحيوية المحترقة، وهي قوام الحياة في الحيوان. ولكن لماذا كانت تطلب ذلك الطعامَ؟ إذا كان إلهٌ ما كاملًا — كما يفترض هرقل في مسرحية «هرقل» (١٣٤٥-١٣٤٦) ليوربيديس — فلن يكون بحاجةٍ إلى أي شيء. ويتناول أريستوفان هذه الفكرة في مسرحيته «الطيور»، ويتبع منهجًا ماديًّا للغاية بخصوص الآلهة، وذلك كما هو مُتَّبَع في المسرحيات الكوميدية. تستولي الطيور على المنطقة التي يشغلها الهواء بين البشر على الأرض والآلهة في السماء، وهكذا تَحُول دون وصول الدخان الناتج عن طَهْي القرابين إلى الآلهة؛ وبهذا، فإنهم يجوعون فيضطرون للخضوع. ويقدِّم فرفريوس في الجزء الثاني من كتابه «عن التقشُّف» أسئلةً فلسفيةً لافتة تتعلَّق بالأسباب التي تدفع الآلهة لقبول أنواع معينة من القرابين أو عدم قبولها.
وحين نبدأ في تناول بعض الأعياد القديمة، سنرى أنها كثيرًا ما تعزِّز الأبنية والأيديولوجيات الاجتماعية السائدة فيما يبدو، ولكنها في الوقت نفسه تنطوي على الكثير من السمات المتناقضة. وتعكس هذه العناصر المُحيِّرة التاريخَ الديني المُركَّب للمدن (وهو موضوع لدراساتٍ متخصصة مثل ديوبنر ١٩٣٢، وباركر ١٩٩٦، وبيركرت ١٩٨٥، وروبرتسون ١٩٩٣)، ولكنها تعبِّر أيضًا عن التلازم القوي للأفكار ذات الصلة، مثل النبيذ والموت في عيد أنثيستيريا أو الأطفال الرُّضَّع والذرة في عيد ثيسموفوريا. وكثيرًا ما تتضمَّن الأعيادُ سماتٍ سلبيةً وإيجابيةً أيضًا؛ إذ من الممكن أن تكون وقتًا للعطلةِ واحتساءِ الخمر والفِسْقِ والفجور، وفي الوقت نفسه وقتًا للاعتداء الجنسي والتدريب على الشعائر والطقوس الدينية المتعلِّقة بالجوانب المظلمة من عالَم البشر وعالَم الطبيعة.
(٣) الأعياد
في سبيل تنظيم الموكب وتجهيزه على أفضلِ وجهٍ ممكنٍ كلَّ عام لأجل الإلهة أثينا بالنيابة عن شعب مدينة أثينا، وحتى تتسنَّى إقامة كل الترتيبات الأخرى اللازمة للعيد أثناء احتفال «الهيروبويوي» (أي الكهنة) به كما يجب في كل مناسبةٍ تكريمًا للإلهة؛ يوافِق الشعب، طبقًا للقرار الذي اتخذه المجلس بما يأتي: يتولَّى «الهيروبويوي» مهمةَ تقديمِ القرابين، وعليهم توزيع حصص اللحم بمعرفة اثنين منهم، على أن تُقدَّم إلى الإلهة أثينا هيجيا، ويكون ذلك في المعبد القديم، على أن تُجرَى عمليات التوزيع بالطريقة التقليدية بالحصص التالية: تُخصَّص خمس حصص إلى مباني البريتانيون، وثلاث حصص إلى الولاة التسعة، وحصة إلى أمناء خزائن الإلهة، وحصة إلى الكهنة، وثلاث حصص إلى مجلس القادة العسكريين وقادة الفِرَق العسكرية، وتُخصَّص الحصص المعتادة لأهالي مدينة أثينا الذين شاركوا في الموكب وللفتيات اللاتي يَقُمْنَ بدور «الكانيفوروي» (أيْ حاملات السِّلال)؛ وتُوزَّع اللحوم المأخوذة من القرابين الأخرى على أهالي أثينا. ومن مبلغ ٤١ مينا الذي يمثِّل قيمةَ إيجارِ الأرض المقدسة، يشتري الكهنةُ وغيرهم الماشيةَ المراد تقديمها كقرابين؛ وعند قيادتهم للموكب، عليهم تقديم كل هذه الماشية كقرابين إلى الإلهة على الهيكل الكبير المخصَّص للإلهة أثينا، فيما عدا رأس ماشية واحدة عليهم اختيارها مسبقًا من أفضل الماشية وتقديمها قربانًا على هيكل الإلهة نايكي، أما كلُّ ما تبقَّى من الماشية التي اشتروها بمبلغ ٤١ مينا، فعليهم تقديمها كقرابين إلى أثينا بولياس وأثينا نايكي، وتوزيع لحومها على أهالي مدينة أثينا في كيرامايكوس بنفس الطريقة المستخدمة في غيرها من عمليات توزيع اللحوم. وعليهم تخصيص الحصص لكل مقاطعة بالتناسب مع عدد المشاركين في الموكب من كل مقاطعة … (ترجمه إلى الإنجليزية: رايس وستامبو)
وتوضِّح هذه القواعد بجلاءٍ الصلةَ بين المشاركة في الموكب وتوزيع اللحوم. وحتى في بلد ديمقراطي، لا بد أن يحصل المسئولون على حصصهم المُميَّزة. وكان معظم الكهنة يشغلون مناصبَ سياسيةً، ولكن حاملات السِّلال كُنَّ فتياتٍ يحملْنَ الحبوب في سِلالهن — لنَثْرِها فوق رأس الحيوان — وكانت السكين المستخدمة في ذبح القرابين مخبَّأة تحت الحبوب. ولمَّا كان ذلك العيد احتفالًا كبيرًا، فإن طقوس تقديم القرابين كانت تقام في هياكل مختلفة، وكانت اللحوم الناتجة عن ذلك تُوجَّه إلى وجهاتٍ مختلفة. كان موكب عيد بان أثينايا يشقُّ طريقَه من بومبيون عند بوابة ديبيلون في كيرامايكوس، ويمر خلال السوق الأثيني إلى المعابد الواقعة في قلعة الأكروبوليس، ثم يُوزَّع اللحم المُخصَّص للأهالي في كيرامايكوس؛ ومن ثَمَّ، تجوب الرحلة التي تتضمَّن مراحلُها تقديمَ الرداء، وذبح الحيوانات لتقديمها كقرابين، وتوزيع لحومها وسط المدينة. يشير فيشر (٢٠٠٠: ٣٦٢-٣٦٣) إلى أن المواطنين كانوا يتناولون هذا اللحم في النزهات الخلوية في منطقة كيرامايكوس. وجديرٌ بالملاحظة أن طريقة توزيع اللحوم كانت سائدةً، ولا تقتصر على عيد بان أثينايا فحسب.
كان عيد ديونيسيا يعبِّر أيضًا عن البنية الديمقراطية للمدينة، وقد نُقِلَ تمثال ديونيسوس من الحدود الشمالية لإقليم أتيكا إلى قلب المدينة، في السوق؛ ومن هناك، انتقَلَ إلى معبد ديونيسوس الذي يقع جنوبي قلعة أكروبوليس. وهنا — وذلك بحسب ما قاله أريستوفان على الأقل (في مسرحية «الضفادع» ١٦–١٨) — كان الإله يشاهد المسرحيات التراجيدية والكوميدية في المسرح. وأعلِّقُ في الفصل التاسع على طقوس تقديم القرابين وتوظيف الاحتفالات التي كان يشهدها الإله وبقية المشاهدين في سياق المسرحيات نفسها. وفي المدينة، كانت تقام طقوس جماعية لتقديم القرابين، ويخبرنا ديموسثينيس أن الشوارع كانت تعبق بدخان القرابين (خطبة «ضد ميدياس» ٥١–٥٤). تشير النقوش، التي تسجِّل عملياتِ بيْعِ جلودِ الماشية في القرن الرابع قبل الميلاد، إلى تقديم ما بين ١٠٦ و٢٧٤ رأسًا من الماشية كقرابين في عام ٣٣٣ (مشروع النقوش الإغريقية (٢، ١٤٩٦، ٨٠)، سابو وسلاتر ١٩٩٤: ١١٣، روزيفاش ١٩٩٤). وهذه من طقوس تقديم القرابين الكبرى في منطقة ليس بوسعها تربية الماشية بسهولة. ومن الممكن أن نضاهي ذلك بحدث تقديم القرابين المكوَّن من مائة رأسٍ من الماشية في أوليمبيا — وهو تجمُّعٌ عالمي من كل الولايات الإغريقية — للحكم على ما كانت تحاوِل أن تفعله مدينة أثينا. وبينما كانت المدينة تقدِّم هذه الماشية إلى ديونيسوس، كان المواطنون يتأمَّلون ثقافةَ عاداتِ تناوُل الطعام والشراب لديهم أثناء عَرْضِها أمامهم على المسرح. وأكَّدَتِ المدينةُ أيضًا على قوتها بحرصها على أن تعرض أمام جميع الحاضرين في المسرح الكنزَ الذي قدَّمه حلفاءُ الإمبراطورية واليتامى من أبناء جنود أثينا الذين قُتِلوا في المعارك. وكان هذا العيد يتيح للمدينة فرصةَ استعراضِ قوتها العسكرية والاقتصادية، بالإضافة إلى الطقوس الدرامية والدينية التي تصوِّر مكانتها بين غيرها.
كان العيد الأساسي في إسبرطة وغيرها من المدن الإغريقية القديمة هو عيد كارنيا (بيركرت ١٩٨٥: ٢٣٤–٢٣٦). وكما هي الحال في عيد ثيسموفوريا، كانت الأنشطة الرسمية العادية (بما في ذلك العمليات العسكرية) تتوقف أثناء هذا العيد. يخبرنا ديميتريوس من سكبسيس (في «نظام معركة طروادة»، الجزء الأول، الذي يستشهد به أثينايوس) أن تسع جماعات تناولت مأدبة مكوَّنة من لحوم القرابين في تسعة أبنية تشبه الخيام تُسمَّى «سقائف»، وذلك «على غرار أسلوب حياتهم العسكري». وكانت هذه المأدبة الشعائرية تمثِّل البنيةَ العسكرية، وكانت مصحوبةً برقصاتٍ يشارك فيها الفتيان والفتيات، وسباقِ ركضٍ مميَّز يشارك فيه الراكضون بعناقيد العنب أو مَنْ يُطلَق عليهم باليونانية «ستافيلودروموي». وفسَّرَ بعضُ الباحثين (كما أشار بيركرت) هذا السباقَ بأنه تصوير شعائري لمطاردة ضحية (سواء أكانت حيوانًا أم إلهًا) في طقوس حصاد معينة.
وكانت تقام أعياد للنساء على وجه الخصوص، وهذه الأعياد تخدم أغراضَ هذه الدراسة للغاية؛ لأنها تُظهِر النساءَ وهنَّ يتجمعْنَ في جماعاتٍ لتناوُلِ الطعام وأداءِ غير ذلك من الأنشطة بعيدًا عن وحدة الأسرة التي كثيرًا ما ينحصرْنَ فيها، حسبما تروي الروايات القديمة. وثمة ثلاثة أعياد جديرة بالذكر في هذا الصدد، وهي «ثيسموفوريا» وكان يُحتفَل به منذ تاريخ قديم في عدد من المدن الإغريقية، و«أدونيا» وهو عيدٌ وفِدَ إلى اليونان من الشرق الأدنى، وأجريونيا وهو عيد من الأعياد التي تحتفل بديونيسوس. وكان العيد الأول يُقام تكريمًا للإلهتين ديميتر وبيرسيفوني، وكان يحمي خصوبة النساء وكذلك خصوبة محاصيل الحبوب، وكان يجمع بين عناصر الخصوبة والجَدْب، وبين تناوُلِ الطعام والصيامِ بطرقٍ مدهشة تصوِّر تلك العناصرَ المُركَّبة التي كثيرًا ما تظهر في الأعياد الإغريقية والرومانية. كانت النساء يغادرْنَ منازلهن ويقتسمْنَ الخيام بعضهن مع بعضٍ على تل بنيكس (في حال وجودهن في مدينة أثينا)، وهو التل الذي كان ينعقد فيه بطبيعة الحال مجلسُ المواطنين الذي يقتصر على الرجال، ولكن كان يُوقِف نشاطَه أثناء العيد.
في اليوم الأول من العيد، كانت النساء — فيما يبدو — يتجهْنَ إلى إحدى الحفر، ويجمعْنَ منها البقايا المتعفِّنة لخنازير سَبَق إلقاؤها هناك في عيدٍ سابق، وكانت هذه البقايا ترتبط بالأرض، وحسبما يُذكَر في أحد المصادر كانت تُنثَر فوق الحقول كسمادٍ لمحاصيل الحبوب. وكانت النساء يصنعْنَ كذلك نماذجَ من العجين على هيئة ثعابين وأعضاء ذكرية. وفي اليوم الثاني، كانت النساء يجلسْنَ على أغصانِ شجرةِ كَفِّ مَرْيَم وهن صائمات، وكانت هاتان العادتان من صور وسائل منع الحمل الطبيعية. وفي اليوم الثالث، كانت هذه الجوانب السلبية تتحوَّل إلى احتفالاتٍ إيجابية ينصبُّ فيها الاهتمام على الخنازير المشوية. يعلِّق بيركرت (١٩٨٥: ٢٤٢–٢٤٦) باستفاضةٍ على عيد ثيسموفوريا وعلاقته بأسطورة ديميتر وبيرسيفوني، التي يَرِد أشهرُ سَرْدٍ لها في قصيدة هوميروس «ترنيمة إلى ديميتر». وترتبط الخنازير على وجه التحديد بإلهتَي الخصوبة هاتين في شعائرَ وطقوسٍ أخرى أيضًا (فضلًا عن كونها أكثر الحيوانات التي تُقدَّم كقرابين).
ولشعائر عيد ثيسموفوريا عدة عناصر مفيدة؛ أولًا: هذا النمط القائم على الصيام في أحد الأعياد، الذي يعقبه تناوُل الأطعمة الفاخرة، يتكرَّر في هياكينثيا في إسبرطة، وفيه يأتي تكريم ذكرى موت البطل في البداية بالامتناع عن أكل الخبز أو الكعكات، وعدم ارتداء الأكاليل، والامتناع عن إنشاد الأغاني. وفي اليوم الأخير، يقدِّمون الكثيرَ من الحيوانات كقرابين، ويُقِيمون المآدب في منازلهم لمعارفهم وعبيدهم (بوليكراتيس «عن إسبرطة»، الذي استشهد به أثينايوس). وثانيًا: إن الصيام في عيد ثيسموفوريا من العادات الإغريقية الرومانية المتبعة، وكان صيامًا عن تناوُل أطعمة معينة ويستمر لفترة محددة. وقد ربَطَ عدة معلِّقين بين الصيام واليهود؛ ممَّا يطرح نقطةً لافتةً؛ كان اليهود يصومون حقًّا، وكان صيامهم يتَّسِم بنمط مميَّز ومنظَّم، فلم يكن يُعرِّض حياتهم للخطر، على عكس الصيام المفرط الذي كان يتبعه بعض الزاهدين من المسيحيين الأوائل (جريم ١٩٩٦). ثالثًا: طقوس تقديم القرابين التي تقتصر على النساء موجودة في أماكن أخرى؛ إذ تَرِد — مثلًا — في قصة عن تيجيا يرويها باوسانياس: «كانت النساء يقدِّمْنَ بأنفسهن قربانًا احتفالًا بالنصر، دون معاونة الرجال، ولم يكنَّ يقتسمْنَ أيَّ كميةٍ من لحم القربان مع الرجال.» رابعًا: يقدِّم ديتيان (١٩٩٤ (١٩٧٧)) تفسيرًا لافتًا لعيد ثيسموفوريا؛ إذ يقارِن هذا العيد المتعلق بالحَمْل والإنجاب (والعناصر المرتبطة به مثل الخنازير المتعفنة والعناصر الرطبة المأخوذة من الأرض) بعيد أدونيا، وهو عيدٌ للمحظيَّات والعُشَّاق تكريمًا لأدونيس رفيق أفروديت. وكانوا يحتفلون بعيد أدونيا في المنازل؛ إذ كانوا يستحضرون الحياة الجميلة — والقصيرة على الرغم من ذلك — التي عاشها أدونيس في الأسطورة، وذلك بممارسة شعيرة «حدائق أدونيس». كانت تُوضَع الأصص فوق أسطح المنازل، وكانت تحتوي على نباتات وأعشاب وتوابل «نَشِطة» من شأنها أن تنبت بسرعةٍ، لكنها تعيش لمدة قصيرة ثم تموت بفِعْل الحرارة مثل الإله أدونيس الطيب الذِّكْر الذي لم يَعِش سوى فترة قصيرة حسبما تروي الأسطورة. وتأتي هذه النباتات على النقيض من الحبوب التي تُوضَع في الأرض وتنمو ببطءٍ على مدى فترة زمنية طويلة. ويساعد هذا التناقض اللافت على تناوُل العلاقة بين كلٍّ من النساء والإنجاب والحيِّز الاجتماعي والنباتات في الثقافة الإغريقية من منظور مفاهيمي واضح للغاية؛ ممَّا يُعَدُّ انتصارًا للفِكْر البنيوي. (ثمة بضع حالاتٍ مناقضة لذلك؛ إذ تحضر على سبيل المثال إحدى المواطنات الشابات عيد أدونيا — وذلك في مسرحية «فتاة ساموس» من تأليف ميناندر — وتصبح حاملًا.) ويوضِّح ديتيان كيف كان الناسُ يحتفلون بالنباتات الأدنى شأنًا (من اللحم والحبوب والنبيذ) في الأساطير والديانة الإغريقية، ويتحدث في فصول أخرى عن صمغ المُرِّ والتوابل والخس.
يصف بلوتارخ العيدَ النسائي أجريونيا؛ إذ كان يحتفل به المواطنون في مدينته خايرونيا في مقاطعة بيوتيا («حديث المائدة» ٨) كالآتي: «تبحث النساء عن ديونيسوس وكأنه هربَ منهنَّ، ثم يكففْنَ عن ذلك ويقلْنَ إنه لاذَ بربات الإلهام واختبأ عندهن، ثم بعدَ برهةٍ، حين يفرغْنَ من تناوُل طعامهن، يختبر بعضهن بعضًا بالأحاجي والألغاز.» ويشرح بلوتارخ هذه الشعيرة كما يأتي: «حين نحتسي الشراب لا بد أن نتبادل حديثًا يتخلَّله التأمُّلُ وشيءٌ من التثقيف، ونلاحظ أنه حين يتخلَّل احتساءَ الخمر حديثٌ من هذا النوع، فإن العنصر الجامح والجنوني يتوارى؛ إذ تكبح جماحَه ربَّاتُ الإلهام والفنِّ بعطفهنَّ وحُبهنَّ للخير» (ترجمه إلى الإنجليزية: مينار وساندباك وهيلمبولد). ويشمل عيد أجريونيا ثلاثَ سمات مترابطة ومهمة لهذا الكتاب؛ أولًا: هذه الشعيرة واحدة من بين عددٍ من الشعائر التي يشهدها عيد ديونيسيا، ففي هذا العيد يُخرِج إلهُ الخصوبة العربيد النساءَ من منازلهن التي يحصرهُنَّ المجتمعُ فيها لغرضِ الإنجاب وإعدادِ الطعام وحياكةِ الملابس. ويدفع بهن إلى التلال حيث يأمر عالم الطبيعة (حسبما جاءَ في رواياتٍ أخرى) بإنتاج الحليب والعسل فيما يشبه المعجزة بدلًا من المحاصيل الزراعية الأساسية. ثانيًا: تحتفل نساء بيوتيا بإقامة مأدبة بعد انتهاء مطاردتهن للإله؛ وهذا دليلٌ على مشاركة النساء في المآدب، يمكن إضافته إلى الدليل الوارد في الفصل الثاني. ثالثًا: يفسِّر بلوتارخ تلك الشعيرة بأنها تشبيهٌ للسلوك المُتَّبَع في جلسة الشراب. ومن الممكن أن نضيف أننا نجد هنا أيضًا دليلًا على ممارسة النساء لألعابٍ كان يُعتقَد أنها ألعابٌ مصاحِبة لجلسات الشراب. وقد يجعلنا مؤلِّفون مثل أثينايوس نظنُّ أنَّ مَنْ كنَّ يلعبْنَ تلك الألعابَ المصاحِبةَ لجلسات الشراب هنَّ المحظيَّات فقط. ولم تكن هذه الألعاب فقط ألعابًا مصاحبة لجلسات الشراب، بل كانت جزءًا من أي عيد، وتأتي كمثالٍ على الجَمْع بين طقوس الاحتفال الديني وما قد نراه من المنظور الحديث كمناسبةٍ دنيويةٍ لتناوُل الطعام والشراب.
ونرى أيضًا هذا الجمع بين ما هو ديني وما هو دنيوي في تناول الطعام الفاخر في عيد ديونيسيا الريفي في أتيكا، وهو عيد يحتفل به الناس في المنزل وفي الأماكن العامة أيضًا (راجع ما ذُكِر سابقًا في هذا الفصل). ومن الممكن أن نذكر أيضًا أن أحاديث بلوتارخ عقب العشاء التي سجَّلها في كتابه «حديث المائدة» (ويقترب عددها الإجمالي من المائة) تتزامن أحيانًا مع الأعياد، وتتزامن أحيانًا أخرى مع مناسبات مميَّزة مثل وصول صديق أو عودة بلوتارخ نفسه إلى منزله، وأحيانًا من دون تحديد. ويدور أحد الأحاديث في كورنث أثناء ألعاب مضيق كورنث، ويدور حديثٌ آخَر أثناء عيد أنثيستيريا الذي يحتفل بافتتاح الموسم الجديد لقِطاف العنب (٣، ٧). ولا يُفرِّق بين الأطعمةِ التي تُؤكَل في الأعياد والأطعمةِ التي تُؤكَل فيما عدا هذا من أيامٍ إلا ربْطُ الحديث بعنصرٍ من عناصر العيد.
وكان الدين يعزِّز هياكلَ السلطة التي تقوم عليها المدن القديمة من نواحٍ عدة، ويتضح ذلك في هذه الأعياد وغيرها من الشعائر. وكانت هذه الهياكل تتخذ صورًا شتَّى. كان البشر خاضعين لسلطان الآلهة، ولكنهم كانوا يفهمون ذلك السلطان فهمًا قاصرًا؛ إذ كانت الآلهة تقدِّم وسائلَ البقاء، ولكنها كانت تنتظر التكريم في المقابل؛ ومن ثَمَّ، ظهَرَ نظامٌ مُعقَّد لتقديم القرابين، كان البشر في ظلِّه يقدِّمون باكورةَ الحصاد والحيوانات وغيرها من القرابين إلى الآلهة. جرَتِ العادة على أن تقديم حياة حيوان هو أغلى قربان يمكن تقديمه؛ ففي إطار المجتمع البشري، كانت المدن تنظم مناسباتِ تقديمِ القرابين والشعائر المعقَّدة التي تقام في الأعياد بهدفِ المحافظة على نُظُمها الاجتماعية والسياسية؛ فكان بوسع الأفراد تقديم القرابين نيابةً عن أنفسهم أو عن أسرهم، وكان بوسع الجماعات من الناس التجمُّع لتكريمِ إلهٍ أو بطلٍ محليٍّ، وكان يجوز أن تتولَّى مدينةٌ بأكملها تقديمَ قربان، أو أن تتولَّى ذلك مجموعةٌ من المدن، بل يجوز للبلدان الإغريقية بأكملها المشارَكة في عيد ديني عالمي مثل الأسرار الشعائرية في إلفسينا أو الألعاب الأولمبية.
يدرك عامة الناس في أثينا أنه يتعذَّر على كل فردٍ من الفقراء تقديمُ القرابين وإقامةُ ولائم فاخرة وتشييدُ المزارات والتمكُّنُ من العيش في مدينة جميلة وعظيمة، وعلى الرغم من ذلك اكتشف عامةُ الناس سبيلَهم إلى تقديم القرابين وزيارة المزارات وإقامة الولائم وزيارة المعابد. فالمدينة تقدِّم قرابينَ كثيرةً على نفقة المال العام، ولكن عامة الشعب هم الذين يستمتعون بتناول الطعام في الولائم، وهم الذين تُخصَّص لهم لحومُ القرابين.
ومن المفترض أن الأعياد التي يقصدها المؤلِّف تشمل عيدَ بان أثينايا، وتحديدًا عيد ديونيسيا المقام في المدينة، الذي ورد وصفٌ له فيما سبق.
وكانت تقام في روما أيضًا احتفالاتٌ كبرى ومناسباتُ تقديمِ القرابين. يسجِّل أحدُ النقوش (مختارات من النقوش اللاتينية ٥٠٥٠ = بيرد ونورث وبرايس (١٩٩٨: ١٤٠–١٤٤)) احتفالَ الإمبراطور أغسطس بالألعاب الدنيوية أو القَرْنية في عام ١٧ قبل الميلاد، وكانت هذه المناسبة تمثِّل استئنافًا لمناسبةٍ حدثَتْ قبلَ ذلك بمائة عام في عهد الجمهورية في روما. وكانت تُقدَّم فيها القرابين إلى إلهاتِ القدر وجوبيتر وغيرهم من الآلهة؛ وكانت تلك القرابين تتألف من الحيوانات ومختلِف أنواع الكعك المُخصَّصة لهذا الغرض، وكانت تتضمَّن عروضًا ومآدبَ وصلواتٍ يشارك فيها الناس، مع اتخاذ ترتيبات للرجال والنساء. وكانت تشهد أيضًا إقامةَ ألعاب ومسرحيات ومواكب. وكما هي الحال في الأعياد الإغريقية مثل بان أثينايا وديونيسيا، كانت هذه الأعياد تشهد إقامة المباريات الرياضية والمسرحيات والعروض مثلها مثل تقديم القرابين وإقامة المآدب. وكانت هذه المناسبة مصاحبة أيضًا لاحتفالِ النصر الروماني، الذي كان يقام للترحيب بعودة القائد المنتصر بصحبة جيشه وغنائم الحرب، ولإدماجه في روما بطقسِ تقديمِ قرابين إلى معبد جوبيتر كابيتولينيوس، وبإقامةِ مأدبةٍ مع أعضاء مجلس الشيوخ (راجع بيرد ونورث وبرايس، ١٩٩٨: ١٤٤–١٤٧). وكان يقام أيضًا الكثير من الأعياد الصغرى، وكان عددٌ منها يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسنة الزراعية وبأنشطة معينة مرتبطة بها، وكان من بين تلك الأنشطة افتتاحُ موسم نبيذ جديد وعيد الأفران تكريمًا لصنع الخبز وعيد كارنا، الذي يَرِد وصْفٌ له في الفصل الخامس.
وبعد ذلك تحين ألعاب سيريس. لا داعي للإفصاح عن السبب؛ فما تجود به الإلهة من كرمٍ وفضلٍ واضحٌ وجليٌّ. وكان الخبز الذي تناوَلَه البشرُ الأوائل يتكوَّن من الأعشاب الخضراء التي كانت الأرض تنتجها من تلقاء نفسها، وصاروا الآن يقطفون الحشائشَ الحية من الطبقة العليا من التربة، والآن صارت الأوراقُ الطرية التي تكلِّل هامات الأشجار تُستخدَم في إقامة مأدبة. وبعد ذلك، صارت تُزرَع ثمار البلوط؛ وكان خيرًا لهم أنْ وجدوا ثمارَ البلوط، وطرحَتْ شجرةُ البلوط المتينة كميةً وفيرةً. وكانت سيريس هي أول مَن دعا البشرَ إلى الحصول على قوتٍ أفضل وبادلَتْهم ثمارَ البلوط بطعامٍ أكثر نفعًا. (ترجمه إلى الإنجليزية: فريزر)
كما هي الحال بخصوص عيد ثيسموفوريا، يرتبط طقس تقديم القرابين في العيد بالخنزير، ومن الواضح استبعاد الثور المُستخدَم في جَرِّ المحراث. ويقال إن الإلهة — تماشيًا مع قِدَمِ عهْدِها — يروق لها كلُّ ما هو قديم وترضى بالقليل (بخنزير صغير مفضِّلةً إياه على ثور)، بشرط أن يكون من مصدر طاهر.
ومن الأمثلة الأخرى عيدُ فورناسيليا، وهو عيد الأفران (قصيدة «الأعياد» ٢، ٥١٢–٥٣٢)، وكان يروِّج لصناعة الخبز الجيد؛ وأيضًا عيد فيستاليا (قصيدة «التقويم» ٦، ٢٤٩–٤٦٨) الذي كانت العذارى البتوليات الشهيرات يحضِّرن فيه كعكاتٍ مميزةً من الحبوب والملح لحارس مَضْيَفة المدينة (النسخة الرومانية من مبنى البريتانيون الإغريقي)، وكانت كل مكوناتها تأتي من مناطق موصًى بها، وكانت تُحضَّر بطرق تقليدية.
بينما ظل كلامٌ كثير من هذا النوع يدور، سُمِعَت في تلك اللحظة في كل أنحاء المدينة نغماتُ النايات وضجيج الصُّنوج ودق الطبول، المصحوبة جميعًا بأصوات غناء. وتصادَفَ أنه كان عيد باريليا — كما كان يُسمَّى مع أنه أصبح يُسمَّى الآن العيد الروماني — الذي أُنشِئ تكريمًا للإلهة فورتونا (إلهة الحظ في روما)، حين أنشأ معبدها أفضل الأباطرة وأكثرهم ثقافةً، وهو الإمبراطور هادريان. ويَحتفِل بذلك اليوم سنويًّا كلُّ سكان روما — وكلُّ مَنْ تتصادفُ إقامتُه فيها في ذلك الوقت — باعتباره مناسَبةً جليلةً. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
لماذا لا يُسمَح لكاهن الإله جوبيتر — الذي يُدعَى فلامين دياليس — بلمْسِ الدقيق أو الخميرة؟ هل لأن الدقيق طعامٌ غيرُ مكتمِلٍ وخامٌ؟ فهو لم يظل كما كان — قمحًا — ولم يصبح ما يُفترض أن يكون عليه، أيْ خبزًا؛ ولكنه فقَدَ قوةَ الإنبات التي تكمن في البذرة، وفي الوقت نفسه لم يصل إلى خاصية النفع التي تميِّز الطعام … والخميرة هي أيضًا نِتاج الفساد، وتُنتِج الفسادَ في العجين الذي تُمزَج به؛ إذ يصبح العجين ضعيفًا وخاملًا، وتصبح عمليةُ التخمير بأكملها فيما يبدو عمليةَ تعفُّنٍ، وفي حالة الإفراط في استعمالها، فإنها تُضفِي طعمًا حامضًا على الدقيق وتُفسِده تمامًا.
ولماذا يُحرَّم أيضًا على هذا الكاهن لمس اللحم النيِّئ؟ هل المقصود من هذه العادة صد الناس تمامًا عن أكل اللحم النيِّئ، أم أنهم يرفضون اللحم لنفس سبب تحريم الدقيق؟ فهو ليس كائنًا حيًّا، ولم يصبح طعامًا مطهيًّا بعدُ. ويؤدي السلق أو الشواء — بصفتهما نوعين من التعديل والتحويل — إلى التخلُّص من الصورة السابقة؛ ولكن اللحم النيِّئ الطازج لا يتَّسِم بمظهرٍ نظيفٍ وطاهرٍ، بل مظهره مُنفِّر، مثل جُرْحٍ حديث. (ترجمه إلى الإنجليزية: بابيت)
يطرح بلوتارخ، ضمن «الأسئلة الإغريقية»، سؤالًا عن السبب في أن أهالي مدينة تراليس يطلقون على نبات البِيقة المُطهِّر، ويستخدمونه في طقوس التكفير عن الذنوب وطقوس التطهير الروحي. يقدِّم هذا المنهجُ العقلاني المُتَّبَع في دراسة الأديان القديمة — الذي يمثِّل صورةً مبكرةً من صور علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية — تفسيراتٍ مؤقتةً للظواهر الدينية المُحيِّرة، ويُلقِي الضوءَ على الشعائر التي تقتصر على مدينةٍ بعينها وتميِّزها عن غيرها (وهي فكرة رئيسة متكرِّرة في هذا الفصل)، ويتناول مجموعةً كبيرة من التقاليد الاجتماعية، بما في ذلك الأطعمة والطهي. ويشبه هذا النسق القائم على الأسئلةِ المنهجَ الذي استخدمه أوفيد في قصيدته «الأعياد» — التي كان موضوعها الأساسي هو روما — ولكنه يتناول قدرًا كبيرًا من الشعائر والأساطير الإغريقية أيضًا. بلغ بعضُ جوانب الديانة القديمة حدًّا كبيرًا من الغرابة، حتى إنه كثيرًا ما كان يستدعي البحثَ عن تفسيراتٍ مُوغلة في الغرابة. وهذه هي الحال خصوصًا فيما يتعلَّق بالردود المُحيِّرة التي كان يجيب بها وسطاءُ الوحي، وفيما يتعلَّق بالأساطير المتعلِّقة بتأسيس بعض المدن. فحسبما قال أحد وسطاء الوحي، ستؤسَّس مدينةُ إفسوس «في المكان الذي تشير إليه سمكةٌ ويقود إليه خنزير بري» (أثينايوس). أما في فاسيليس — وهي مدينة تقع جنوبي آسيا الصغرى — فإن تقديم قرابين من الأسماك المُملحة يُحْيِي ذكرى الأسماك المُملحة التي استخدمها مؤسِّسُ المدينة لشراء الأرض من راعي غنمٍ محلي (أثينايوس). ووجد أثينايوس هاتين القصتين في كتب التاريخ المحلية («تاريخ أهل إفسوس» من تأليف كريوفيليس، و«تاريخ أهل كولوفون» من تأليف هيروفيثوس). وتصوِّر القصتان مدى تنوُّع الممارسات الدينية والعلاقة المعقَّدة التي تجمع بين عالَم البشر وعالَم الحيوان في العصور القديمة، وهو ما سنناقشه باستفاضةٍ في الفصل السابع. وكثيرًا ما كان الناسُ يُحيون ذكرى هذه العلاقة على نحوٍ مادي وملموس عن طريق الأطعمة التي يتناولونها وطريقة الطهي الْمُتَّبَعة.
وكان الكثير من الأعياد يجمع بين القادة الحكوميين وسكان المدينة، ورأينا في الفصل الثاني الأعيادَ الكبيرة التي احتفل بها الملوكُ الهلنستيون القدماء، مثل العيد الذي أقامه أنطيوخوس الرابع في دافني، وكان هذا العيد عبارة عن استعراضٍ للقوة الملكية المُخصَّصة للتنافُس في الألعاب التي أقامها القائد الروماني إميليوس باولوس؛ ولكن الموكب كان يشمل الآلهة. ويخبرنا بوليبيوس (٣١، ٣ = أثينايوس ٥، ١٩٥) أنه: «من المتعذَّر أنْ نحصي عددَ الصور المقدَّسة؛ إذ كان المشاركون في الموكب يحملون وَهُمْ سائرون تماثيلَ لكلِّ الشخصيات التي يقال أو يُعتقَد أنها آلهةٌ أو أنصافُ آلهةٍ أو حتى أبطال من البشر، وكان بعض التماثيل مطلِيًّا بالذهب وبعضها مكسوًّا بأرديةٍ من خيوطٍ ذهبية. وكان بجوار كل التماثيل كتيباتٌ في طبعاتٍ فاخرة تتناول الأساطيرَ المقدسة المتعلِّقة بكلٍّ منها، وذلك وفق ما جاء في القصص التقليدية» (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك). ويخبرنا بوليبيوس أن المشهد التالي في الموكب كان يتمثَّل في مرور مئات العبيد وهم يحملون أواني ذهبيةً وفضيةً، وكان هذا الموكب استعراضًا للسلطة والثروة، وكانت تُستدعَى إليه كلُّ الآلهة التي تخطر على البال. وربما كانت الآلهة تشارِك على مضضٍ في بعض الحالات؛ نظرًا لأن جانبًا من تمويل الموكب كان يأتي من الغارات التي تُشَنُّ على المعابد.
ويأتي أشهرُ وصفٍ لموكبٍ ديني في الحِقْبة الهلنستية من الكتاب الذي يتناول الإسكندرية من تأليف كاليزينوس الرودسي، وهو عبارة عن وصفٍ للاحتفال الذي نظَّمَه بطليموس الثاني — فيلاديلفوس — وزوجته أرسينوي تكريمًا لبطليموس الثاني — سوتير — وزوجته برنيس. ويأتي الموكب والأنشطة المرتبطة به كمثالٍ على ما تمتلكه هذه المملكة التي حلَّتْ محلَّ المملكة السالفة من سلطانٍ ونطاقٍ عالمي. ويضم الموكب خيمةً كبيرة مميَّزة مُخصَّصة للحفلة الأساسية، بها ١٣٠ أريكة و١٠٠ مائدة فضية وقد انتثرت على أرضيتها الزهور (مع أن الوقت كان شتاءً) للتعبير عن خصوبة مصر. وبداخل الخيمة، كانت توجد صورٌ لحفلات شرابٍ، وكانت تُقام المسرحياتُ التراجيدية والكوميدية وغيرها من الأنشطة المرتبطة بديونيسوس. وكانت تتوافر لبقية الحضور من الجنود والحرفيين المَهَرة والزوَّار مؤنٌ مستقلة لتناوُل الطعام، وكان الموكب نفسه يُكرِّم أولًا الزوجين الراحلين، ثم يُكرِّم كلَّ الآلهة الأخرى وخصوصًا ديونيسوس. وكان يشارك فيه أشخاصٌ متنكرون في هيئة الإله سيلينوس الذي يتخذ هيئة نصف إنسان ونصف حصان، كما كان يشارك متعبدون آخرون. وكانت تتصاعد رائحة عطور مثل البخور وصمغ المُرِّ، وكان يشارك أشخاصٌ يمثِّلون الزمنَ والفصولَ الأربعة. وكانت تظهر فيه صورٌ للنبيذ وآنيته، وكانت تظهر في الموكب حيواناتٌ كثيرة مثل الجِمال والكركدن والطيور. وكان يشارك فيه كثيرون من أصقاع بعيدة شرقًا وجنوبًا، كما كانت تشارك نساءٌ يمثِّلْنَ مدنَ البر الأساسي لليونان وآسيا الصغرى. وكانت تظهر صورٌ لانتصاراتِ الإسكندر الأكبر ومعروضاتٌ رائعة من الذهب.
يعود الفضلُ إلى أثينايوس في الاحتفاظ بهذا الوصف، الذي يعلق أن فيلاديلفوس فاقَ الكثير من الملوك ثراءً، وذلك بفضل الثراء الذي أتى به النيل ودلتاه؛ فيبدو أننا بصدد موكبٍ يكرِّم الملوك المُؤلَّهين، موكبٍ يقوم على تكريم وعبادة ديونيسوس؛ الإله الذي كرَّرَتْ فتوحاتُ الإسكندر الأكبر رحلتَه المنتصرة عبر آسيا. وتكرِّم فقرات كثيرة من الموكب بقاعًا بعيدة يتضح الآن أن الملك والملكة قد توجَّهَا إليها؛ فالموكب عبارة عن وسيلة لإظهار السلطان والنفوذ، وربما يمكن أن نشبِّهه بالمواكب التي كانت تسير في مدينة أثينا. وكما ذُكِر فيما سبق، كانت الإلهة أثينا تُكرَّم في بان أثينايا بموكبٍ وبطقوسٍ لتقديم القرابين. وينظِّم أهالي الإسكندرية عمليةَ توزيع اللحم، مع إيلاء عناية خاصة بالعائلة الملكية وضيوفها. وتتوافر مؤنٌ مستقلة «للجنود والحرفيين والزوَّار». كانت ترغب مدينة أثينا في التعبير عن هيكلها الاجتماعي؛ ولذلك كان تقسيم اللحم يتمُّ وفقًا لاعتباراتٍ تستند إلى هُوِيَّة مَنْ حضروا الموكب ومَن شاركوا فيه من كلٍّ من المقاطعات التي تتكوَّن منها المدينة ذات الحكم الذاتي.
ونجد أن وصول ديونيسوس منتصرًا في عيد البطلميا هو نسخة مُفصَّلة من وصول ديونيسوس إلى مدينة أثينا قادمًا من خارج البلاد، وذلك كما يظهر في عيد أنثيستيريا وربما الاحتفالات الأثينية الأخرى المتعلقة بديونيسوس. ونجد أن فكرة وصولِ إلهٍ من مكانٍ آخَر وتصويرِ هذا الحدث فكرةٌ شائعة (راجع الفصل الأول فيما يتعلَّق بديونيسوس وتريبتوليموس وهرقل). ويتَّضِح من المقارنة بين احتفال البطلميا والاحتفالات الأثينية المتعلِّقة بديونيسوس كيف أن المواكب الدينية تعبِّر عن الهياكل الاجتماعية والسياسية للمدينة. ويقدِّم أثينايوس تعليقًا لافتًا آخَر عن الاحتفالات في الإسكندرية؛ إذ حافَظَ على مقتطف من بحثٍ ألَّفَه العالِم الرياضي والفلكي إيراتوسثينس عن الملكة البطلمية أرسينوي: «أسَّسَ بطليموس كلَّ أنواع الاحتفالات ومناسبات تقديم القرابين، خصوصًا المرتبطة بديونيسوس، وسألت أرسينوي الرجلَ الذي كان يحمل أغصان الزيتون عن المناسبة التي كان يحتفل بها آنذاك وعن اسم العيد؛ فأجابَ: «إنه عيدٌ يُسمَّى عيد حَمْل الإبريق (لاغونوفوريا)، ويأكل فيه المُحتفِلون ما يُقدَّم إليهم وهم يتَّكِئون على أَسِرَّة من عيدان نبات الأسل، ويشرب كلٌّ منهم من إبريق خاص يُحضره معه من منزله.» وبعد أن مضى، نظرَتْ إلينا وقالَتْ: «لا بد أن ذلك تجمُّع بذيء؛ فذلك النوع من التجمُّعات لا يشارك فيه إلا حشدٌ أفرادُه من مَشارِب مختلفة تُقدَّم إليهم وليمة سيئة المذاق وغير لائقة مطلقًا.» ويضيف المتحدث الذي يستشهد به أثينايوس، وهو بلوتارخ: «ولكن لو كان ذلك الاحتفال قد نال إعجاب الملكة، لَمَا سَئِمَتْ قطُّ من تقديمِ نفسِ القرابين، وهو ما كان متبعًا في احتفال الأباريق (كوييس)» (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك). من المنطقي أن تستهزئ أرسينوي بطعام هؤلاء بعد أن رأت الأطعمة الراقية التي تُقدَّم في احتفال البطلميا، ولكن لا بد أن نذكر هنا ثلاث نقاط؛ أولًا: إدماج نسخة من احتفال منتشر من احتفالات المدينة — وهو «كوييس»، الذي يوافق اليوم الثاني من عيد أنثيستيريا — في طائفة أتباع الملوك البطالمة. ثانيًا: التمييز الطَّبَقي حتى في مناسبة احتفالية (وهو ما يشير إليه موقف أرسينوي). ولاحِظْ أن عامة الناس كانوا يتَّكِئون على أَسِرَّة من عيدان نبات الأسل، وكما ناقشنا في الفصل الثاني، كان الاتكاء عادةً منتشِرة ولم يكن يميِّز عادةَ الاتكاء لدى الأغنياء سوى الذهب والعاج. ثالثًا: كان ديونيسوس في المدينة ذات الحكم الذاتي إلهًا يساعد على تعارف مختلف أنواع الناس ويذيب الفوارق بينهم (سيفورد ١٩٩٤). والنفورُ الذي أَبْدَتْه أرسينوي حيالَ هذا الاتجاه لافتٌ للانتباه؛ نظرًا للاتجاه المتزايد في الحِقْبة الهلنستية والرومانية إلى تخصيص ديونيسوس للاحتفالات والعروض التي يُقِيمها الأغنياء وذوو السلطان، وذلك حسبما يوضح بلوتارخ في كتابه «حيوات» الذي يتناول الإسكندر الأكبر ومارك أنطونيو.
(٤) قرابين الأطعمة
كان اللحم هو الطعام الأساسي في الاحتفالات، بل كان — على أقل تقدير — أكثر الأطعمة شأنًا، ونجد أفضل مثال على ذلك في النقش الذي يتحدَّث عن عيد بان أثينايا الذي استشهدنا به آنفًا، وفي أعداد جلود الذبائح التي تُقدَّم كقرابين في عيد ديونيسيا وفي طقوس تقديم القرابين الكبرى في أوليمبيا. وطقوس تقديم القرابين الحيوانية هي الأهم بسبب تكلفة القربان والأنماط الفكرية المتعلقة بالقتل. يشدِّد كلٌّ من ديتيان وفيرنان — كما رأينا — على موضوعات التعريف (بين الإنسان والحيوان والإله)، والهُوِيَّة (من حيث الزراعة والنوع الاجتماعي والحضارة، كما يحدِّدها استخدام النار في المجتمعات المستقرة). ويشدِّد آخَرون على الإحساس بالذنب الذي يحسُّ به المرءُ حيالَ قتلِ حيوانٍ. (وللاطلاع على أفضل ملخص لطقس تقديم القرابين عند الإغريق، راجع بيركرت ١٩٨٥: ٥٥–٦٨.)
كان هناك أيضًا الكثير من الأطعمة الاحتفالية وقرابين الطعام الأخرى، ذات الأعداد الكبيرة والتنوع الهائل، في كل أنحاء المجتمعات المترامية الأطراف في البلدان الإغريقية الرومانية. يذكر جالينوس الخبز بالجُبن المُستخدَم في أيام الاحتفالات في ميسيا (راجع الفصل الثاني). وكان يُقدَّم «أوبيلياس» أو رغيف مُحمَّص على السيخ في عيد ديونيسيا، وكانت تُقدَّم أطعمة مميَّزة في أيام العطلات الدينية في مبنى البريتانيون في نقراطيس (كما ناقشنا في الفصل الثاني).
كان دافعه الحقيقي لتحريم النظام الغذائي الحيواني هو تمرين الناس وتعويدهم على البساطة في الحياة، حتى يتسنَّى لهم أن يعيشوا على أشياءَ يسيرةِ المنال، ويبسطوا على موائدهم أطعمةً غير مطهية ويشربوا ماءً نقيًّا فقط؛ لأن هذا النظام هو السبيل إلى الحصول على جسم سليم وعقل فَطِن متوقِّد. (ترجمه إلى الإنجليزية: هيكس)
وُجِّهَت انتقاداتٌ كثيرة إلى فِكْر أتباع فيثاغورس، ويعبِّر ديوجينيس عن معتقدات عصره في أوائل القرن الثالث الميلادي. وعزا أثينايوس — وهو من معاصري ديوجينيس على الأرجح — تصويرَ هوميروس لأبطاله في ملحمتَي «الإلياذة» و«الأوديسا» إلى أهداف أخلاقية مشابهة، وذلك كما سنرى في الفصل التاسع. وكتبَ ديتيان (١٩٩٤ (١٩٩٧) ٣٧–٥٩) نقدًا ممتازًا عن الضوابط الغذائية السائدة بين أتباع فيثاغورس، متناولًا الجانبَ السياسي لهذه الجماعة من أتباع فيثاغورس، والعلاقةَ بين نقاء الروح والعصور القديمة. (يناقش أوجه التباين الأساسية بين أكل اللحوم والقرابين النباتية وذلك في حالة ميلو في أوليمبيا؛ حيث كانت تُقدَّم أيضًا قرابين نباتية قديمة (راجع ما سبق).) انتقلَ أتباعُ فيثاغورس المتزمِّتون من المدن الإغريقية ذات الحكم الذاتي في جنوبي إيطاليا، وانسحبوا من عادة تقديم القرابين؛ ومن ثَمَّ من حياة المدينة وهُوِيَّتها. اتخذ أتباعٌ آخَرون أقلُّ زهدًا موقفًا وسطًا، ورفضوا أكلَ حيواناتٍ معينة وأسماكٍ معينةٍ فقط، وذلك بهدف عدم الانسحاب تمامًا عن هذه العادة. وكانت أجزاءُ الحيوان التي امتنعوا عن أكلها هي الأجزاء الأكثر ارتباطًا بالحياة، مثل المخ ونخاع العظم والأعضاء الحيوية، وكانوا لا يأكلون إلا الحيوانات «المُذنِبة»، مثل الخنزير لأنه كان يدوس حبوب ديميتر، والجَدْي لأنه كان يرعى على أعناب ديونيسوس.
يقول أبولودورس أيضًا في بحثه «عن الآلهة» إن أسماك الترليا (وهي سمكة ذات زعانف صدرية مكوَّنة من ثلاث شُعَب) كانت تُقدَّم إلى الإلهة هيكاتي؛ نظرًا لتداعيات الاسم وارتباطه بهيئة هذه الإلهة ذات الرءوس الثلاثة. ولكن ميلانثيوس يُدْرِج — في كتابه عن الأسرار الشعائرية في إلفسينا — سمكَ الإسبرط مع سمك الترليا لأن هيكاتي إلهة بحر أيضًا. يُعلِن هيجيساندر من دلفي أن أسماك الترليا كانت تُحمَل في الموكب في عيد آرتيميس لأنها معروفة بصيد أرانب البحر والتهامها؛ نظرًا لكونها كائنات سامة. ومن ثَمَّ، على اعتبار أن أسماك الترليا كانت تفعل هذا لإفادة البشر، فإن هذه الأسماك الصيَّادة تصبح مُكرَّسة للإلهة الصيَّادة. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
تثبت هذه الشهادات أن الأسماك لم تكن مستبعَدةً تمامًا من الديانة الإغريقية، فالأمر أبعد ما يكون عن ذلك. ولم تكن الضوابط المفروضة على تناول الأسماك أيضًا تقتصر على الطوائف الهامشية مثل أتباع فيثاغورس؛ ففي أتيكا، كانت نساء إلفسينا يُقِمْنَ وليمةً في عيد هالوا، كانت تضم «كلَّ أصناف الطعام، فيما عدا الأطعمة المُحرَّمة في احتفال الأسرار الشعائرية، مثل الرمان والتفاح والبيض والدواجن وأنواع معينة من الأسماك. وعندما تصبح الوليمة جاهزة، كان الولاة ينصرفون ويتركونها للنساء. وشرح المعلِّق القديم أن الوليمة الفاخرة تثبت أن إلفسينا هي المكان الذي تعلَّمَ فيه البشرُ عاداتِ تناوُلِ الطعام الراقية» (بارك ١٩٧٧: ٩٨). وهذا الدليل على إقامةِ وليمةٍ فاخرة تقتصر على النساء، وتحكمها ضوابط غذائية، مع وجود تفسيرٍ يبحث في أصل الأسطورة؛ هو دليلٌ يميِّز المدنَ ذات الحضارة الإغريقية الرومانية. ويتصادف أن يأتي هذا الدليل من إلفسينا، وهي من المدن المهمة في المجال الديني. ومع وجود حالات مثل هذه، يستنتج باركر (١٩٨٣) أن المُحرَّمات المتعلِّقة بالأطعمة كانت محدودة.
يُحضِر أهل أثينا قرابين باكورة الحصاد إلى الإلهتين من ثمار الحقل اتباعًا للعادة القديمة، واتباعًا لوسيط الوحي من دلفي: من مائة بوشل (مكيال للحبوب) من الشعير، على ألَّا يقل عن سُدس بوشل، ومن مائة بوشل من القمح، على ألَّا يقل عن واحد على اثني عشر بوشل … يجمع الجباة هذه الكميةَ في القُرَى ويسلِّمونها إلى الكهنة في إلفسينا. تُشيَّد ثلاث صوامع من الذرة في إلفسينا … تُحضِر الولاياتُ الحليفة أيضًا قرابينَ من باكورة الحصاد بالطريقة نفسها … وترسلها إلى مدينة أثينا … يرسل مجلس المدينة أيضًا إخطارًا لكل المدن الإغريقية … ويحثُّها على تقديم قرابين باكورة الحصاد إذا رغبَتْ في ذلك … وإذا أحضرَتْ إحدى هذه المدن قرابينَ يتسلَّمها الكهنةُ بالطريقة نفسها. تُقدَّم قرابين من الكعكات المقدَّسة بحسب إرشادات كهنة يومولبيداي، ويُقدَّم أيضًا قربان من ثلاثة حيواناتٍ تبدأ بثور بقرون مُذهَّبة، ويُقدَّم قربان لكلٍّ من الإلهتين من الشعير والقمح، ثم يُقدَّم قربان كامل لكلٍّ من تريبتوليموس والإله والإلهة ويوبولوس، ويُقدَّم للإلهة أثينا ثورٌ بقرون مُذهَّبة. (ترجمه إلى الإنجليزية: بيركرت)
يبين النص بوضوحٍ اندماجَ حماية الحصاد في أتباع الإلهتين ديميتر وبيرسيفوني (والأساطير المرتبطة بها) في إلفسينا، ونجد أيضًا شرحًا واضحًا لمتطلبات السياسة الوطنية والدولية في أثينا، وهي المدينة التي كانت تسيطر على إلفسينا والأسرار الشعائرية. وكانت يومولبيداي أيضًا أسرة قديمة من الكهنة تحظى بنفوذٍ في إلفسينا وأثينا. ويذكر النص المنقوش العادةَ القديمة وبناءَ صوامع جديدة (يذكر بيركرت أن الصوامع كانت مُشيَّدة بالفعل في هذا التاريخ). وهذا يوضِّح كيف كان الدين متأثرًا بالماضي ومرتبطًا بالمتطلبات المعاصرة في آنٍ واحد، وكان من الشائع أن تتألف القرابين من العسل وكعكات أخرى (راجع الفصل الرابع).
لم تكن باكورةُ الحصاد تقتصر على موسم حصاد الحبوب فحسب؛ فنحن نعلم أيضًا بتقديم قرابين شكر إلى بوسيدون لأنه وهبَ سِرْبًا من أسماك التونة. يخبرنا أثينايوس عن تقديم قرابين من باكورة الأسماك التي يصطادها الصيَّادون في هالاي في أتيكا، وذلك استنادًا إلى الدليل القائم على كتاب «عن المفردات» من تأليف أنتيجونوس الكاريستوسي. وكذلك، كانت تُقدَّم قرابين من فئة ثانية من الحيوانات غير المُخصَّصة للقرابين. كان الصيد عادةً شائعةً في كل العصور، وكان من العادات التي تمارسها الطبقة الحاكِمة على وجه الخصوص، وكان من الوارد تقديم الحيوانات الكبيرة التي يصطادونها كقرابين إلى آلهة الأماكن البرية، وتحديدًا إلى الإلهة أرتيميس. وينبغي أن يُنظَر إلى هذا الشكل من أشكال تقديم القرابين على أنه قربان للتعبير عن الشكر وإجراء احتياطي تحسُّبًا لغضبِ أحدِ آلهةِ الأماكن البرية، ما دام أنه لم يكن يندرج في فئة حيوانات المزارع التي يفرضها طقس تقديم القرابين العادي، وهو بمنزلة العقد المُبرَم بين آلهة الزراعة المتقدِّمة، إذا جاز التعبير. ويتحدث بيركرت (١٩٨٥: ٥٨ و١٤٩–١٥٢) حديثًا طويلًا عن الموضوع.
لم يتمكَّنوا من العثور على سبب الوباء العضال الذي حلَّ عليهم في ذلك الشتاء، ولا وسيلة القضاء عليه، وعندئذٍ رجعوا إلى كتب النبوءات القديمة بمرسومٍ من مجلس الشيوخ. احتفل موظفان مسئولان عن كتب النبوءات القديمة بأول مناسبة ليكتيسترنيوم أُقِيمت في مدينة روما، وظلَّا طوال ثمانية أيام يسترضيان أبولُّو ولاتونا وديانا وهرقل ومركوريوس ونبتون بثلاث موائد من أفخم الأطعمة المتاحة آنذاك. وكان الناسُ يحتفلون بالشعيرة أيضًا في المنازل الخاصة. (ليفي ٥، ١٣، ٥–٨، ترجمه إلى الإنجليزية: بيرد ونورث وبرايس ٢: ١٣٠)
كانت المدينة بحاجةٍ ماسةٍ إلى الآلهة لتعالج الوباء، وكان يُعتقَد أن أفضل وسيلة لاستحضار الآلهة (لدفعها للحلول في تماثيلها، إنْ جاز التعبير) هي إقامة وليمة فاخرة. ولم يكن الوقت مناسبًا للبساطة القديمة؛ ممَّا يدل مرةً أخرى على أن الدين والمجتمع كانت تجمعهما صلةٌ وثيقة، وأنه لم يكن يوجد بالضرورة فصلٌ بين الفخامة الاجتماعية والبساطة الدينية. كان من الوارد أن يتَّسِم نمطُ تناوُلِ الطعام في مناسباتٍ دينية بطابعٍ فاخرٍ أو غير فاخر، وذلك بحسب الطائفة الدينية والإله والشعيرة قيد المناقشة وبحسب الظروف السياسية. ولنا أن نستدل على ذلك من تمثال الإله المُخصَّص ليُوضَع في مقر الطائفة، الذي كان من الممكن أن يكون تمثالًا قديمًا منحوتًا من الخشب (تمثال ديونيسوس منحوت من خشب التين، على سبيل المثال)، أو أن يكون تمثالًا هائلَ الحجم من الذهب والعاج، مثل تمثال زيوس في معبد أوليمبيا.