النبيذ وعادات شرب الخمر
أسرِعْ بالحضور لتناوُلِ العشاء، وأحضِرْ معك صندوقَك وإبريقَك؛ فقد أرسَلَ كاهن ديونيسوس لطلبك. أسرِعْ! فأنت تعطِّل العشاء لبرهةٍ. كلُّ شيءٍ آخَر جاهزٌ؛ الأرائك والموائد والوسائد والأغطية والأكاليل والعطر وأطباق الحلوى، والعاهراتُ أيضًا حاضرات. والكعكات اللذيذة متوافرة، فمنها الكعكات المسطحة وكعكات السمسم وكعكات العسل، والراقصات حاضرات — وهن المُفضَّلات لدى هارموديوس — وهن جميلات أيضًا.
إن هذه الدعوة الهزلية المُقتبَسة من مسرحية «الأخارنيون» لأريستوفان (١٠٨٦–١٠٩٣) تحدِّد مكانَ مأدبةِ العشاء وجلسةِ الشراب في المناسبة نفسها، وهي «مأدبة العشاء». وهي مناسبة مميزة عبارة عن مأدبة احتفالية في منزل كاهن، يُدعَى إليها الرابحُ في مسابقةِ احتساءِ المشروبات الروحية المقامة في عيد أنثيستيريا. وأناقشُ هذا الاحتفال فيما يأتي. كما ذكرنا في الفصل الثاني، يُفصَل بين الجنسين في المأدبة الإغريقية؛ إذ لا يحضرها من النساء إلا ذوات المكانة المتواضِعة.
يتعلَّق هذا الفصل بالنبيذ والمشروبات الكحولية والحفلات الاجتماعية — لا سيَّما وسائل الترفيه — التي كانت تصاحِب احتساءَ النبيذ. والفكرة الأولى المراد إثباتها هي أن شرب النبيذ — الذي كان عادةً ما يُخفَّف بالماء — كان منتشرًا في أنحاء البلدان الإغريقية الرومانية، حتى إن مصطلح «شارب الماء» كان يُستخدَم استخدامًا بلاغيًّا كإهانةٍ. كان النبيذ من المواد القليلة المُسبِّبة للإدمان في العصور القديمة؛ ولذلك كان استخدامه يخضع لمراقبةِ القانون في بعض الأحيان. وثمة ادِّعاءاتٌ على الأقل بوجودِ قوانين من هذا النوع تتعلَّق بالنساء في ظل الجمهورية الرومانية. وكان شرب النبيذ يرتبط بعددٍ كبيرٍ من الطقوس الدينية، منها ما يؤديه الناسُ في الاحتفالات الرسمية وكذلك في المنزل. وكان إنتاج النبيذ والاتِّجَار به من الأنشطة التي لها أهمية اقتصادية كبرى. وكان النبيذ يرتبط كذلك بإلهام الكتابة والغناء، وذلك من خلال المظهر الاجتماعي الذي يعبِّر عن النبيذ ويتمثَّل في جلسة الشراب. وكانت جلسة الشراب القديمة مناسَبةً تشهد إلقاءَ الكثيرِ من الأشعار، وكان الشعر يعبِّر عن ذلك (بُووِي ١٩٨٦)، وسوف نستشهد بأمثلةٍ من كزينوفانيس وسافو وثيوجنيس وأناكريون فيما يأتي. وكانت تنشأ عن جلسات الشراب القديمة تأمُّلاتٌ فلسفية، وكانت الألعاب والأنشطة المرتبطة بجلسات الشراب تنشأ عنها كتاباتٌ أدبية كثيرة، وأفضلُ مثالٍ لذلك يتمثَّل في الأعمال الأدبية اللاتينية في شعر هوراس، وفي الأعمال الأدبية الإغريقية مثل كتابات أثينايوس.
نهر النبيذ الذي يجري على جزيرة أندروس — وأهالي أندروس الذين أسكرهم النهر — هو موضوع هذه اللوحة؛ فبفضل ديونيسوس، أصبحَتْ أرضُ أهالي أندروس مليئةً بالنبيذ، حتى إنه يتفجَّر منها وينساب إليهم نهرًا؛ فإذا كنتَ تظن أنه يتدفَّق بالماء فهو ليس نهرًا عظيمًا، أما إذا كان يتدفَّق بالنبيذ فهو نهرٌ عظيم، أجل، بل نهرٌ إلهي! إذ إن مَنْ يشرب منه من المرجح أن يزدري نهرَي النيل والدانوب، وربما يقول عنهما إنهما كانا سينالان قدْرًا أكبر من التقدير أيضًا إذا كانا أصغر مساحة، بشرط أن يتدفَّق خلالهما ما يتدفَّق من هذا النهر.
في معبد ديونيسوس «إين ليمنايس» كان أهالي مدينة أثينا يمزجون النبيذ للإله من الجِرار التي أخذوها معهم إلى هناك، ثم يتذوَّقونه بأنفسهم … وكتعبيرٍ عن ابتهاجِهم بالمزيج، كانوا يحتفلون بديونيسوس بالأغاني ويرقصون ويستحضرونه بصفته مُنبِت الأزهار ومُلهِم القصائد الحماسية والمُعربِد وجالب الريح.
يُوضَع أول قطف من محصول العنب الجديد — باكورة الحصاد — في المعبد الذي لا يُفتَح إلا عند الغروب. يعجُّ اليوم بالتحضيرات؛ إذ تُنقَل الأواني الفخارية بعرباتٍ تُجَرُّ باليد، قادِمةً من حقول العنب الصغيرة المتناثرة في أنحاء الريف، ويتدفق إلى المدينة صغارُ الفلاحين والعمال المشتغلون بنظامِ الأجر اليومي والعبيدُ، وينتظر الأصدقاء والغرباء حتى حلول الليل خارج المعبد، ثم يفتحون الجِرار ويريقون الخمر إجلالًا للإله وتكريمًا له ليحظى بلحظاتِ إراقةِ الخمر الأولى.
وفي اليوم الثاني — «كوييس» — كانت تُفتَح جِرارُ النبيذ ويتنافس الرجالُ على الشرب من أباريق كبيرة؛ وكان العبيد والأطفال يشاركون أيضًا، باعتبار هذا الطقس من طقوس إدماج الطفل الصغير في الأسرة. وكان اليوم الثاني يتَّسِم بسلبياتٍ أيضًا؛ إذ كان المنزل والمدينة عرضةً لاجتياح الموتى. وكانت هناك أيضًا صورة أخرى من صور احتساء الخمر، وفيها ينطلق صوتُ نفيرٍ، وعندئذٍ يشرع الجميعُ في احتساء كمياتٍ متساوية من الشراب معًا في آنٍ واحدٍ، ولكن في صمتٍ وكلٌّ منهم جالسٌ على مائدةٍ منفردةٍ. ويقال إن هذه العادة كانت إحياءً لذكرى وصول أوريستيس إلى مدينة أثينا ويداه لا تزالان ملوثتين بدماء أمه كليتيمنيسترا. وفي هذا اليوم أيضًا، زوَّجَ والي الملك — وهو أحد كبار القضاة في المدينة، الذي كان قد أنشأ نظامَ احتساءِ الخمور على نحوٍ انفرادي — زوجته لديونيسوس في معبد ديونيسوس في المستنقعات، في مكانٍ ما جنوبي قلعة أكروبوليس. وفي اليوم الثالث من العيد — ويُعرَف باسم «خوتروي» أو القدور — كان يُسلَق خليط الحبوب مع العسل في القدور. ويعلِّق بيركرت (١٩٨٥: ٢٤٠) على ذلك قائلًا: «هذا هو أكثر طبق بدائي من أطباق الحبوب عرفه المزارعون الأوائل، وهو أقدم من اكتشاف طحن الدقيق وصنع الخبز؛ ونشأ ضمن العادات الجنائزية واستمر حتى وصل إلى الوقت الحاضر.» وتقدِّم الكلمة اليونانية الحديثة «كوليفا» مثالًا على المزيج الجنائزي الذي تحدَّثَ عنه بيركرت. وحسبما يذكر بيركرت، فإن العصيدة البدائية يعود أصلُها إلى أسطورة الفيضان. وفي نهاية اليوم، يُطلَب من الموتى الرحيل.
يجمع الاحتفال بين موسم النبيذ الجديد والموت، ويجمع بين الأسرة والمدينة، ويجمع بين إدماج النبيذ الجديد وأفراد الأسرة الجُدد وأفرادها من الموتى. وتوجد أدلة قوية على الصلة التي تجمع النبيذ والموت، ويمكن ملاحظةُ هذه الصلةِ في أسطورة إيكاريوس، وفي أناشيد هوراس (١، ٩)، وفي العبارات المفكَّكة التي يتفوَّه بها تريمالكيو وهو سكران في النص الذي ألَّفَه بيترونيوس. كان إيكاريوس يعيش في قرية إيكاريا، على المنحدرات الشمالية من جبل بنتلي في أتيكا، وحين أتى ديونيسوس بنبيذه إلى أتيكا، قَبِل إيكاريوس النبيذَ وتقاسَمَه مع جيرانه، وحين سكروا خافوا (مثل بنتيوس — ملك طيبة — في مسرحية «الباخوسيات») أن يكون قد حاقَ بالقرية مكروه بدلًا من أن يكون قد حلَّ بها خيرٌ، وقتلوا إيكاريوس وشنقت ابنته إريجوني نفسَها فوق شجرة صنوبر. وأُدمِجَت هذه القصة الحزينة ضمن احتفال أنثيستيريا (وكذلك عادة احتساء الخمر انفراديًّا إحياءً لذكرى أوريستيس الذي قتل أمه)، وصُنعَت قدورٌ عليها رسومٌ تصوِّر فتياتٍ يجلسْنَ على أرجوحات، في إشارةٍ إلى إريجوني. وما زال الموقع الجميل الذي كانت تحتله قرية إيكاريا محتفظًا بأشجار الصنوبر، وعُثر هناك أيضًا على تمثال من القرن السادس لديونيسوس، وعُثِر أيضًا على مسرحٍ كانت تُمثَّل عليه الأساطيرُ العنيفة التي تتَّصِل بإله الخمر (من بين آلهة أخرى، على الأرجح). وما زال يوجد أيضًا نصبٌ تذكاري يعود للقرن الرابع، يسجِّل انتصارَ أحدِ رعاةِ العروض التمثيلية التي كانت تقام في ذلك المسرح. ومن الممكن أن نشير أيضًا إلى الأفكار الملتبسة الواردة في مسرحية «الأخارنيون» من تأليف أريستوفان؛ ففيها يعيد البطل ديكايبوليس عيد ديونيسيا إلى بلدته، ويربح في مباراة احتساء الخمور في احتفال أنثيستيريا، وهما ميزتان. ومع ذلك، يرى الكثير من المعلِّقين (بُووِي ١٩٩٣، فيشر ١٩٩٣) أنه يتصرَّف بأنانية بما يتعارض مع مصالح مواطنيه (وتَرِد مناقشةٌ لهذه الفكرة في ويلكنز٢٠٠٠: الفصل الثالث)، ويذكِّرنا بمَنْ يشربون الخمرَ بمفردهم تقليدًا لأوريستيس. وتشكِّل الموضوعاتُ السوداوية الكئيبة في المسرح الكوميدي أهميةً كذلك، وإلا فقد نعتقد (مثل هينريكس ١٩٩٠) أن ديونيسوس الرهيب كانت تصوِّره المسرحياتُ التراجيدية فقط، وأن ديونيسوس المَرِح البهيج كانت تصوِّره المسرحياتُ الكوميدية فقط.
وتتمثَّل صعوباتُ التعامُل مع المشروبات الكحولية في عدة صور: في الشعر الذي يحثُّ على الاتزان وضبط النفس، وفي طقوس احتساء الخمور التي توازِن بين السُّكر الجماعي وبين الحذق والظرف، وفي القصص التحذيرية التي تتناول حالاتِ سُكْرٍ خرجَتْ عن نطاقِ السيطرة. وعلى الرغم من الأخطار التي يسبِّبها الخمر واحتساؤه، كان الخمر يحظى باحترامٍ كبيرٍ في العصور القديمة، وكان دائمًا ما يُنظَر إلى جلسة الشراب — وهي قسمٌ من المأدبة كانوا يحتسون فيه الخمر في الثقافة الإغريقية وكثيرًا في الثقافة الرومانية — بصفتها اللحظة التي تتجلَّى فيها الحكمةُ والتأملات الثقافية. أما القسم المُخصَّص لتناول الطعام من المأدبة، فكان نادرًا ما يحظى بتلك المكانة. (حقَّق الحاضرون في المأدبة التي صوَّرها أثينايوس في كتابه «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي» تلك المكانةَ، ولكن ذلك الكتاب حالة خاصة.)
ليس من المؤكَّد أن الخمر كان منشؤه في الشرق الأدنى، وأنه دخل عن طريق ديونيسوس حسبما تقول الأسطورة أو عن طريق نقل تكنولوجيا تصنيعه إلى البلدان الإغريقية الرومانية. ربما تكون زراعة العنب — كما هي الحال مع غيره من النباتات المزروعة — قد نشأَتْ دونَ مساعدةٍ خارجيةٍ في عدة مواقع؛ ولذلك يدَّعِي ماكغفرن (٢٠٠٣) — استنادًا إلى أحدث دليل متاح قائم على تحليل الحمض النووي — أن العنب المزروع وليس البري نشأ فيما يبدو في مناطق في شرق تركيا قبل عام ٥٠٠٠ قبل الميلاد. ويبدو أن ما وصلنا إليه حاليًّا من أدلةٍ ومعلوماتٍ، يشير إلى أن العنب انتشر من هناك إلى بلاد الرافدين وأوروبا. ويتناول ماكغفرن أيضًا الأدلةَ التي تُثبِت مزْجَ النبيذ بالجعة وبالكثير من النكهات الأخرى في الشرق الأدنى، ويأتي عددٌ منها (فيما عدا الجعة) في كتابات المؤلِّفين الرومان.
يرجع الكثير من طقوس الشراب والطعام إلى ما بعد عهد هوميروس، ورأينا أن الاتكاء — وليس الجلوس إلى المائدة — كان من بين هذه التطورات المهمة. وتشير الأدلة الأثرية إلى أن النبيذ كان معروفًا في العصر البرونزي لدى الحضارة المينوية وحضارة مايسيني، وذلك في صورة أقداح الشراب وجِرار النقل ورواسب كيميائية. وتثبت هذه الأدلة استخدام أنواع النبيذ المُنكَّه بالراتينج والنبيذ المُنكَّه بنباتاتٍ مثل إكليل الغار والسذاب. ويقدِّم ماكغفرن (٢٠٠٣) أدلةً على وجود أنواع النبيذ المُنكَّه بالراتينج في الشرق الأدنى قبل ذلك ببضعة آلاف عام؛ فعملية إضافة النكهات هذه موجودة أيضًا في الفترة التاريخية. وعلى حدِّ علمنا، فإن قصائد هوميروس تخلو من أي جلساتِ شرابٍ رسمية من هذا النوع، ولكن يوجد الكثير من سمات احتساء الخمور التي ترتبط بالشكل الأحدث لجلسات الشراب؛ فالأبطال في أعمال هوميروس الذين يحلُّون ضيوفًا على منزل مضيفٍ عادةً ما يقدِّم إليهم مضيفُهم طعامًا وشرابًا عند وصولهم (في الجزء الرابع من ملحمة «الأوديسا»، مثلًا). وعادةً لا يوجد فصلٌ ملحوظ بين تناول الطعام واحتساء المشروبات. يستعمل هوميروس بالأحرى العبارة الكثيرة التكرار: «وحين أشبعوا رغبتَهم في تناوُل الطعام واحتساء الخمر …» فتناولُ الطعام واحتساءُ الخمور يأتيان في مرحلة واحدة؛ وعندئذٍ ينتهي وقت تناول الطعام، ويحين الوقت للتوجُّه لأنشطةٍ أخرى، مثل النوم والحديث وقص الحكايات والغناء والرقص، ويصاحب ذلك احتساء النبيذ الذي يُمزَج في إناءٍ عميق أو وعاء مزج الخمر.
وفي الفترة اللاحقة لتلك الفترة في العصور القديمة، نجد أن قصَّ الحكايات والغناءَ والرقصَ وغيرَ ذلك من أوجه الترفيه قد أصبحت فيما يبدو من سمات جلسة الشراب. ولكن بحلول عصر الإمبراطورية في روما أصبح احتساء الخمور أقربَ إلى النموذج الوارد في أعمال هوميروس؛ فاحتساءُ الخمور يبدأ في مرحلة مبكرة — في بيترونيوس وأثينايوس بأي حال من الأحوال — إذ يُقدَّم النبيذ إلى الضيوف في البداية. وتتخلَّل وسائلُ الترفيه أيضًا المأدبةَ المقامة في منزل تريمالكيو. أما في «مأدبة الحكماء» لأثينايوس، فإن الحديث الذي يتبادله حاضرو المأدبة ويتصدَّر أنشطتَهم يستمرُّ بلا انقطاعٍ منذ البداية، مع أنه يقال إن وسائل الترفيه تُقدَّم في جزء المأدبة المتعلِّق بجلسة الشراب. والدليلُ الذي يقدِّمه أثينايوس مهمٌّ للغاية لمقاصدنا؛ إذ إنه يكتب في أواخر المدة التي نتناولها في هذا الكتاب، ويلخص العادات السابقة على هذه المدة. وهو يصف أيضًا مأدبةً ذات طابعٍ إغريقي في روما، ويمزج بين الثقافتين من نواحٍ كثيرة.
وبالمقارنة بطرق احتساء الخمر التي ظهرت فيما بعدُ، نجد أنه يمكن وصف احتساء الخمر في أعمال هوميروس بأنه نموذجٌ لأفضل العادات، وهذا هو بالضبط الادِّعاء الذي يَرِد في الجزء الخامس من كتاب أثينايوس. وجديرٌ بالذكر أيضًا أن تفاصيل عادات تناوُل الطعام واحتساء الخمور لا تَرِد عادةً في قصائد هوميروس. ونجد أن «الرغبة في تناول الطعام واحتساء الخمر» تسيطر على الكثير من التفاصيل الواردة في الكثير من الفقرات، وفي فقراتٍ أخرى تَرِد «كل أنواع الأطعمة» (دون تحديد). وتتناول القصائدُ تحضيرَ اللحم بالتفصيل، وتتناول تحضيرَ النبيذ بقدرٍ أقل من التفاصيل؛ وهو ما يتناقض تناقُضًا ملحوظًا مع العصور التي أعقبَتْ هذا العصر.
ونجد أيضًا أن مَنْ يتناولون الطعام ويحتسون الخمر في أعمال هوميروس يجلسون على مقاعد. وفي مرحلة لاحقة من العصر الإغريقي القديم أُدخِلت تغيراتٌ مهمة في عادة جلسة الشراب فيما يبدو، وذلك كما جاء في الفصل الثاني. وأبرز هذه التغيرات هي «كليني» — أو الأريكة — التي كان يتكئ عليها مَنْ يتناول الطعام أو مَنْ يحتسي الخمور؛ ويبدو أن هذه العادة قد جاءت إلى البلدان الإغريقية من الشرق الأدنى، وانتشرت غربًا إلى الإتروريين والرومان. ثم جاءت الأواني الخَزفية أيضًا لتزيين موائد مَنْ يحتسون الخمور؛ مثل الأقداح وأوعية المزج والمغارف المُخصَّصة لغرف النبيذ والمصافي والمبرِّدات. وكلُّ هذه الأدوات كانت تُزخرَف بزخارف مُنمَّقة، وكانت الأواني تُزخرَف أيضًا بالذهب والفضة، وهو ما أخذ يزداد شيوعًا بدءًا من القرن الرابع قبل الميلاد، وربما قبل ذلك بكثيرٍ (فيكرز وجِل ١٩٩٤). وكان من بين الأمور اللافتة للغاية إدراجُ احتساءِ الخمور في عُرْفٍ اجتماعي أخلاقي، لتوجيه مَنْ يشربون الخمورَ لاتباعِ منزلةٍ وسطى بين السُّكر وعدم المشاركة تمامًا في احتساء الخمور. كان التوازن مطلوبًا في شتى المجالات، وكان هذا يشمل التوازن الاجتماعي، مثل السلوك المناسب بين الأشخاص ذوي المكانة المتماثلة، والسلوك اللائق سياسيًّا، والسلوك المناسب بين الأقران. ويظهر بوضوح في الكثير من الشِّعر الإغريقي القديم عُرْفٌ أرستقراطي يعزِّز النظامَ السياسي للمدينة ذات الحكم الذاتي الآخِذة في التطور.
ونشأت كل الأغاني وصور الشعر الجديدة التي تُكمِل ملاحمَ هوميروس ووسائل الترفيه المصاحبة لجلسات الشراب في العصر القديم. كان لشِعْر الرثاء وشِعْر التفعيلة العمبقية صلاتٌ قوية بجلسات الشراب.
والآن، أخيرًا كُنِسَت الأرضُ وصارت أيادي كل الضيوف نظيفة، وكذلك أقداحهم، ويضع أحدُ العبيد الأكاليلَ المجدولة على رءوسهم، ويقدِّم عبدٌ آخَر عطرًا حلو العبير في صحن صغير، ووعاءُ المزجِ يبدو مملوءًا بالطيبات، وأنواعُ النبيذ الأخرى جاهزةٌ وتَعِدُ بألَّا تنفد أبدًا، والنبيذُ المعتق في الجِرار يفوح بعبيره، وفي خضم ذلك ينبعث من البخور عطرُه المقدَّس، ويوجد ماءٌ بارد وصافٍ. والأرغفة الصفراء جاهزة في المتناول، وتَئِنُّ مائدةٌ فخمة بثقل الجبن والعسل الشهي، وفي الوسط يوجد هيكل تحفُّه الزهور، ويعجُّ البيتُ بالغناء والرقص والعطايا. ولكن الرجال المحتفلين عليهم أولًا حمد الإله بالقصص الورعة والكلمات النقية، وعليهم أداء طقوس إراقة الخمر والصلاة طلبًا للقوة التي تمكِّنهم من فعل الصواب (فذلك هو الواجب الأقرب)، ليس من الخطيئة أن تشرب قدرَ استطاعتك على أن تظلَّ قادرًا على العودة إلى منزلك دون مُرافِق، إلا إذا كنتَ متقدِّمًا في السن. فنِعْمَ ذلك الرجل الذي يظل يعبِّر عن أفكار جميلة حتى وهو يحتسي الخمر، وذلك حسبما تسعفه الذاكرة، وحماسه للفضيلة في أَوْجِه! وليس من الحكمة أن يحكي عن مشاجراتِ الجبابرة والعمالقة أو عن مشاجراتِ وحوشِ القنطور، أو عن قصص الرجال من العصور السابقة أو مشاداتهم العنيفة؛ فذلك يخلو ممَّا يفيد، ولكن من الصواب دومًا احترام الآلهة. (كزينوفانيس، الشذرة ١ ويست، ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
لا يعجبني مَنْ يتحدَّث وهو يحتسي قدحَ النبيذ بجوار وعاء المزج المملوء، ويحكي عن الصراعات والمشاجرات الكئيبة، بل يعجبني مَنْ يمزج الهبات البهية التي تمنُّ بها ربَّاتُ الإلهام وأفروديت ومَنْ يدرك دومًا قيمةَ اللهو والمرح. (أناكريون، ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
تعالي يا إلهة الحب وصُبِّي برِقَّةٍ من الأقداح الذهبية الرحيقَ المخلوط الذي سنتناوله في لَهْوِنا. (سافو، ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
يركز الكثير من الشعر الغنائي وشعر الرثاء القديم على التوازن المطلوب في جلسة الشراب بين السُّكْر والتسلية وسط الجماعة. ويهتم هذا الشعر أيضًا بالتضامن الجماعي والاشتراك في نفس الإطار الأخلاقي، وتجنب الشجار والقصص المتعلقة بالشقاق. ونجد اهتمامًا كبيرًا بالصفاء الشعائري والنفسي في قصيدة كزينوفانيس؛ وكانت مناسبة كتابة هذه القصيدة أيضًا مثارَ جدلٍ كبير. وأحيانًا يكون إطار القصيدة دينيًّا على نحوٍ واضحٍ، كما في الشذرة المأخوذة من قصيدة للشاعرة سافو، التي تستحضر إلهًا. وغالبًا ما يكون إطارُ القصيدة عبارة عن جماعة من الندماء في جلسة شراب — كما في شِعْر كزينوفانيس وقصائد الرثاء التي كتبها ثيوجنيس — يخاطبون شابًّا اسمه سيرنوس، ويحثُّون هذا الشاب على اتباع الطريق «القويم» لتجنُّب الخلاف السياسي السائد في الطبقات الدنيا في المدينة.
فَلْيحتفظ الرجل باتزانه بين حاضري المأدبة الآخرين، وَلْيَبْدُ وكأنَّ كلَّ شيء يغيب عن انتباهه وكأنه ليس بينهم، وَلْيُلْقِ بالنكات، ولكن عند خروجه فَلْيكن ثابتًا ومُدْرِكًا لطَبْع كلِّ فرد من الحاضرين. (ثيوجنيس ٣٠٩–٣١٢، ترجمه إلى الإنجليزية: جِربر)
فَلْيقف أحدُ العبيد على أهبة الاستعداد ويصبَّ النبيذَ لكلِّ مَن يريد أن يشرب؛ فلن يتأتى لنا أن نحظى بوقتٍ لطيف كلَّ ليلة. ولكن سأعود إلى منزلي — فقد نلت كفايتي من النبيذ الحلو حلاوة العسل — وسأفكر في النوم، فهو يفرِّج الهموم. لقد وصلت إلى المرحلة التي يصبح فيها احتساء النبيذ ممتعًا للغاية، ما دمت لست صاحيًا ولا سكران أكثر مما ينبغي. إن كل مَن يفرط في احتساء الخمر لا يصبح متحكمًا في لسانه أو عقله، فهو يتفوَّه بكلامٍ غليظ يراه غير الثمل شائنًا، ولا يخجل من أي شيء يقوله حين يكون سكرانًا؛ فمن قبلُ كان راشدًا ولكن يصبح بعدئذٍ أحمق. وبعد أن أدركتَ هذا كلَّه، تجنَّبِ الإفراط في احتساء الخمر، وانهضْ قبل أن تسكر — لا تَدَعْ بطنك يسيطر عليك وكأنك عاملٌ أجير بائس — أو ابْقَ في المكان دون احتساء الخمر. ولكنك تقول: «املأ قدحي!» فهذا هو اللغو الفارغ الذي تتفوَّه به دائمًا؛ ولهذا تسكر. فتشرب قدحًا نخب الصداقة، ويُوضَع أمامك قدحٌ آخَر، وتقدِّم أنت قدحًا آخر كطقسٍ لإراقة الخمر من أجل الآلهة، وتشرب قدحًا آخَر كغرامةٍ، وتعجز عن الرفض. ذلك الرجل هو البطل حقًّا الذي لا يتفوَّه بكلامٍ أحمق بعد احتساء الكثير من الأقداح. إذا ظللتَ بجوارِ وعاءِ المزج، فتحدَّثْ حديثًا لطيفًا وتجنَّبِ المشاجرات مع الآخرين، وتحدَّثْ بأسلوب يخلو من التحفظ مع الجميع على حدٍّ سواء؛ وهكذا تصبح جلسة الشراب لا بأس بها. (ترجمه إلى الإنجليزية: جِربر)
ويُذكِّرنا البُعْدُ الأخلاقي لهذه الكلمات بالفقرة المأخوذة من شعر كزينوفانيس التي استشهدنا بها فيما سبق، ويسبق الكثير من الفقرات التي ظهرت لاحقًا في المسرح الكوميدي وفي مواضع أخرى، والتي تعبِّر عن مخاطر الإفراط في احتساء الخمر والإخفاق في تحقيق التوازن الدقيق بين احتساء الخمر في جوٍّ من الود، وبين السُّكْر الطائش (أثينايوس، ويلكنز ٢٠٠٠).
سَنُّوا هذه العادةَ في حملاتهم العسكرية؛ فبعد أن يفرغوا من تناول عشائهم وينشدوا ترنيمة الحمد، كانوا ينشدون أبياتًا من شعر تيرتايوس، وكان قائدهم الأعلى هو الحَكَمُ ويكافئ الرابح بمنحه قطعةَ لحمٍ. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
وفيما يتعلق بالظروف المحيطة بالأداء، راجع للاستزادة ويست (١٩٧٤)، وبُووِي (١٩٨٦)، وجنتيلي (١٩٨٨). كان الكثير من هذه القصائد يتناول الحياةَ المشتركة للمواطنين، مثل الحرب والاضطرابات الأهلية ومخاطر البحر؛ فمثلًا: تجمع قصيدةٌ قديمة من تأليف أركيلوكوس — الشذرة ٤ ويست — بين طقوس الرسم واحتساء النبيذ مع حارس ليلي على متن سفينة (بُووِي ١٩٨٦: ١٦).
ومن العناصر الأخرى موضوعُ المنافسة، واحتياجُ أفراد الجماعة لتحقيقِ التفوُّق فيما بينهم من خلال المباريات والعادات المرتبطة بجلسات الشراب وكذلك الإنجازات الرياضية والبدنية.
ونشأ تراثٌ من عادات جلسات الشراب ظلَّ لأمدٍ طويلٍ يدور حول الفكرة الرئيسة القائمة على البحر، التي تربط بين الضياع في البحر وبين السُّكْر (سلاتر ١٩٧٦، ويلكنز ٢٠٠٠: ٢٣٨–٢٤١).
ويُطلِعنا عددٌ من المصادر على عاداتٍ متنوعة لاحتساء الخمر في المدن الإغريقية. يقول كريتياس في كتابه «مزاج الإسبرطيين» (الذي يستشهد به أثينايوس): «يشرب أهالي جزيرتَيْ خيوس وثاسوس الأنخابَ في أقداح كبيرة من اليسار إلى اليمين، ويشرب أهالي أثينا أنخابهم في أقداح من اليسار إلى اليمين، أما أهالي ثيساليا فيشربون أنخابهم في أقداح كبيرة نخب مَنْ يريدون. ولكن أهالي لاكديمون (أي إسبرطة القديمة) يشرب كلٌّ منهم قدحه على انفرادٍ، والعبدُ الذي يصبُّ النبيذ يُعِيدُ ملْءَ القدح بالكمية التي شربها» (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك).
وإلى جانب التراث الأدبي جاءت أقداحُ النبيذ وأوعيةُ مزْجِ النبيذ الشهيرة، وتظهر فيها رسومٌ تصوِّر مشاهدَ من الحياة والأسطورة بالأشكال السوداء والحمراء، من بين أشكال أخرى. ومن بين الموضوعات التي كانت تعبِّر عنها الأقداحُ فعلُ احتساءِ الخمر، والفارقُ الدقيق الذي يلتزم به مَنْ يشرب الخمر بين الإلهام والسُّكْر. يقارن ليساراج (١٩٩٠) بين الصور والأقداح مستعينًا بالشعر القديم والهزلي والتفسير الذي يقدِّمه أثينايوس. ومن العناصر اللافتة على وجه التحديد في هذا المجال قائمةُ الأقداح الواردة في الجزء الحادي عشر من كتاب أثينايوس. وهكذا كانت جلسة الشراب وقتًا مُخصَّصًا للتأمُّل برفقةِ الأصدقاء والأقران، وكان الناسُ يسكرون معًا؛ كانوا يتقاسمون النبيذ والماء بعد مزجهما في الوعاء العميق أو وعاء مزج الخمور، بنسبةِ تركيزٍ يقرِّرها رئيسُ جلسة الشراب. وربما يتحتَّم عليهم أداءُ مفاخر تعتمد على الاتزان، بناءً على سرعة البديهة والرشاقة، وربما يتأملون صور السكْر مثل الصور البحرية، أو صور الفوضى مثل المعارك التي تندلع بين الإغريق وآلهتهم وبين الشعوب البدائية وآلهتها. وربما يمارسون كذلك ألعابًا مثل لعبة «كوتابوس» (وهي لعبة قديمة يصوِّب فيها اللاعبُ الرواسبَ المتبقيةَ في قدح الخمر على هدفٍ معينٍ)، وغيرها من وسائل الترفيه (راجع ما يأتي). وتعبر الرسوم الظاهرة على المَزهريات (وأحيانًا على جدران المقابر) عن الكثير من سمات تناول الطعام واحتساء الشراب ووسائل الترفيه التي تتخلَّل جلسة الشراب.
وكانت كل هذه الأنشطة تقتضيها الطقوس. وفي نهاية القسم المُخصَّص لمأدبة العشاء من المناسبة، كانت تُستبدَل الموائد وتُغسَل الأيدي وتُستبدَل الأكاليل وتُقدَّم طقوس إراقة النبيذ النقي إلى مختلف الآلهة، بما فيها «الروح الصالحة» أو ديونيسوس وهيجيا (أو الصحة)، وهي المساعدة الإلهية لأسكليبيوس. وكان النبيذُ النقي الذي يُقدَّم في هذه المرحلة على عكس النبيذ الممزوج بالماء الذي يشربه الحاضرون في جلسة الشراب. وفي نهاية الأُمسية، قد ينشدون ترنيمة (تشهد نهاية كتاب «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي» إنشادَ ترنيمةٍ شعائرية موجَّهة للإلهة هيجيا: راجع ويلكنز ٢٠٠٥). وبعدئذٍ، قد يغادرون إلى منازلهم — مثلما يحدث في نهاية كتابيْ أفلاطون وزينوفون اللذين يحملان عنوان «حوار المأدبة» — أو يأخذون في إحياء حفل صاخب أو «كوموس»، مثل المحتفلات بديونيسوس ومريدي ديونيسوس. توجد وثائق تدل على انفلات زمام ذلك النوع من الحفلات الصاخبة. يحضر ألكيبيادس كمحتفل سكير، ولكن مهذب، في منتصف جلسة الشراب الواردة في كتاب «حوار المأدبة» لأفلاطون، ويتصرَّف فيلوكليون بعنفٍ مفرط بعد حضور جلسة شراب في مسرحية «الدبابير» من تأليف أريستوفان.
كان يُعتقَد أحيانًا أن جلسة الشراب تنتمي للطبقات الراقية التابعة لحكم الأقلية على مدى العصر الإغريقي الكلاسيكي القديم (تقريبًا القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد). وتَرِد هذه الفكرة تلميحًا في بعض التعليقات التي ذكرها موراي (١٩٩٠) وفي مراجع أخرى، ويُصرِّح بها ديفيدسون (١٩٩٧) بوضوح. ويُخيَّل إليَّ أنه من الخطأ أن نقارن بين جلسة الشراب — وهي عادةً ما تكون مناسَبةً خاصةً يحتفلون بها في منازل عِلْيَة القوم في المدن ذات الحكم الذاتي — وبين الأعياد وغيرها من الأنشطة العامة والجماعية في المدينة ككل. ويبدو أن الأعراف القديمة والأرستقراطية كانت قطعًا قوية في المدينة في العصر الكلاسيكي القديم، حتى المدن ذات الحكم الديمقراطي مثل أثينا وأرغوس. ولكن يبدو أن جلسة الشراب كانت متاحةً أمام الجميع، وأنها كانت تقام في المناسبات العامة والخاصة، وكانت تقام على مستوى المدينة وفي المنازل أيضًا. وتأتي مناقشة للأدلة المتعلِّقة بذلك في ويلكنز (٢٠٠٠) وفيشر (٢٠٠٠). ويبدو أن توزيع النبيذ واحتساءه — مثل توزيع اللحم — كان حاضرًا في كل الطبقات، وكان متاحًا من خلال منافذ شعائرية وتجارية. وهكذا ربما يتوقَّع مواطن فقير أن يأكل معظم حصته من اللحم في الاحتفالات العامة، وأن يشرب النبيذ بين أقرانه وأصدقائه في مناسباتٍ أقل عددًا مقارَنةً بالأغنياء. ولكن ينبغي ألَّا يُنظَر إلى «كابيليون» — أو متجر النبيذ — بوصفه نظيرَ جلسةِ الشراب لدى الفقراء؛ إذ إنه كان مكانًا إضافيًّا يُخصَّص لاحتساء الخمر ولا يحمل طابعًا شعائريًّا. كان الفقيرُ يشرب الخمور في الاحتفالات وحفلات الزفاف وغيرها من المناسبات، وربما يكون النبيذ أقلَّ جودة، والأثاث أرخص، ووسائل الترفيه أقل تأثُّرًا بضغوط المنافسة الأجنبية، ولكن العُرْف كان كما هو دون تغيير. وأرى أنه سيكون من المُضلِّل للغاية أن نشير إلى أن الفقير كان يشرب الخمر في أماكن ذات طابع تجاري كالحانات والمحال، أما جلسة الشراب ذات الطابع الشعائري فكانت حِكْرًا على الأغنياء؛ ويرى كلٌّ من موراي وديفيدسون أن مسرحية «الدبابير» لأريستوفان تمثِّل سابقةً من نوعها في هذا الصدد. وقد حاولتُ أن أبرهن (ويلكنز ٢٠٠٠) على أن جلسة الشراب منتشرة في المسرح الكوميدي الإغريقي — ومقبولة كعُرْف اجتماعي، تتعرَّض فيه أنشطةُ عِلْيَة القوم للنقد عادةً — إلى حدٍّ يحتِّم علينا أن نستنتج أن جلسة الشراب كانت نشاطًا مألوفًا ومتاحًا للجميع.
ولا أقصدُ بهذا إنكارَ أهميةِ احتساء الخمور في الحانات ومحال النبيذ لفقراء المجتمع في البلدان الإغريقية والرومانية؛ إذ تتوافر أدلةٌ كثيرة على وجود مثل تلك المنشآت — وخصوصًا في مدن منطقة كامبانيا — وتتوافر كذلك أدلة كثيرة على وجود مجموعة كبيرة من تلك المنافذ، وكان جزءٌ منها يوفر الطعام، وجزءٌ ثانٍ يوفر وسائل الترفيه، وجزءٌ ثالث يوفر الخدمات الجنسية.
وكان احتساء الخمر في جلسات الشراب جزءًا من الهُوِيَّة الإغريقية، حتى إنه كان يُنظَر إليه كنشاطٍ ذكوري صِرف، لم يكن بوسع غير الذكور ممارسته؛ ومن ثَمَّ، كان من غير المسموح للنساء صاحبات المكانة الرفيعة بالمشاركة في جلسة الشراب؛ إذ كان يُعتقَد أنهن سريعات التأثُّر بالنبيذ. ومعظمُ الأدلة على ذلك ذات طابع كوميدي — ومن الجائز أنها مُضلِّلة — ولكن كان يُعتقَد أن النساء يُفْرِطن في احتساء الخمر ويشربْنَ النبيذ الصِّرف وليس الممزوج بالماء. وكان يُعتقَد أن الأجانب، مثل السكوثيين والفُرس، يشربون أيضًا النبيذَ دون مزجٍ؛ فلم يتبعوا العادةَ الإغريقية الراقية القائمة على مزج النبيذ بالماء، تمامًا كما كانوا يمارسون طقوسًا أخرى، مثل تقديم القرابين من الحيوانات، بطرقٍ مختلفة. وكان العبيد أيضًا — في المُخَيِّلة الإغريقية على الأقل — يتأثرون تأثُّرًا مفرطًا بالنبيذ.
وكانت النساء يشاركْنَ في جلسة الشراب الإغريقية، ولكنهن كنَّ «هيتاراي» أو محظيات، وكنَّ يمثِّلْنَ المثيرات الجنسية في جلسة الشراب، وكان وجودهن يُبرِز عنصرَ المتعة في المناسبة؛ ومن ثَمَّ، كانت جلسات الشراب ذات النظام المتزمِّت — مثل جلسة الشراب الخيالية التي تحدَّثَ عنها أفلاطون في كتابه، وجلسات الشراب التي وردت في كتاب أثينايوس — تخلو من «هيتاراي» أو المحظيات. كانت النساء يحضرْنَ المآدب الرسمية «سيناي» وحفلات الشراب «كونفيفيا» في روما، كما ناقشنا في الفصل الثاني، ومع ذلك يبدو أن ثمة ضوابط كانت تُفرَض على احتساء النساء للخمور في عصر الجمهورية (فاليريوس ماكسيموس ٢، ١). وكان هناك قانون يتعلَّق بالتقبيل، ويتيح للزوج اختبار ما إذا كانت زوجته تشرب الخمور. وتحدَّثت الحكايات المقصود بها العِبْرة عن نساءٍ من المُتصوَّر أنهن يشربْنَ الخمر؛ وكانت هذه من الموضوعات التي تثير القلق والتأمُّل الأيديولوجي في العقل الروماني، ربما على نحوٍ يماثل الحاجةَ إلى سنِّ قوانين الإنفاق التي تحدُّ من إنفاق النساء على الملابس وغيرها من السلع. كان الجميع في عصر الجمهورية — وكذلك في البلدان الإغريقية — يخشى أن تكون ثمة حاجةٌ لفرض قيودٍ على النساء.
وكانت جلسة الشراب — كما رأينا — تقترب من الفوضى واختلال التوازن. يستشهد أثينايوس بفقراتٍ من المسرح الكوميدي حيث تتمادى الشخصيات في شُرْبِ الخمر إلى حدِّ انفلاتِ زمامِ الأمور. تَرِد وقائع يرويها المؤرخون والخطباء عن خروج الأمور عن نطاق السيطرة بسبب شرب الخمور (طيمايوس في كتاب أثينايوس، وديموسثينيس ٥٤). ويتحدَّث أفلاطون بوضوحٍ عن هذا الموضوع في كتابه «القوانين»؛ ففي الجزء الأول — الذي تُعقَد فيه مقارَنةٌ بين تناوُلِ الطعام الجماعي في إسبرطة وكريت، وتناوُلِ الطعام واحتساء الشراب في المدن الإغريقية الأخرى في أجواءٍ فوضوية — تُوصَف جلسة الشراب بأنها أخطرُ مثالٍ لنقص الضوابط والانغماس في المتعة. وهذا هو رأي الخطباء من إسبرطة وكريت، وهي مجتمعاتٌ لا تتبع عادة جلسة الشراب فيما يبدو؛ أما الخطيب الأثيني، فيُسهِب في الحديث عن جلسة الشراب.
والأدلة الأثرية المتعلِّقة بجلسات الشراب متنوعةٌ للغاية، وهي تشمل أوعيةَ المزج والأقداح وغيرها من أدوات المائدة الخزفية وبعض الأعمال المعدنية. وتوجد أدلة قوية أيضًا على وجود غُرَفٍ مُخصَّصة لاحتساء الخمور في المنزل الإغريقي والروماني، وغُرَفٍ لاحتساءِ الخمور في المباني العمومية، ومتاجر نبيذ عُثِر عليها في المدن الإغريقية وفي مدن بومبي وهركولانيوم وأوستيا (راجع الفصل الثاني).
دائمًا زيِّنِ الرأسَ بكلِّ أنواع الأكاليل في العيد، وزيِّنه بكل ما تنتجه الأرض الخصبة من زهور. عطِّرْ شعرَك بالعطور المقطرة الراقية، وانثُرْ طوالَ اليوم الرمادَ الطري لصمغ المرِّ والبخور، تلك الفواكه العَطِرة الوافدة من سوريا. ودَعْهم يقدِّموا لك هذه الأطباق اللذيذة وأنت تشربُ الخمر: معدة أنثى خنزير ورَحِمها مسلوقَيْن بالكمون والخل اللاذع والسيلفيوم، ولحم طيور مشوية طري، أيًّا كان النوع المتوافر في ذلك الوقت من العام. ولا تعبأ بهؤلاء السيراقوسيين الذين لا يشربون إلا كما تشرب الضفادع ولا يأكلون شيئًا. كلا، لا تنخدع بما يقولونه، بل تناوَلِ الأطعمة التي أقدِّمها لك. كل ما عدا تلك الأطايب «تراغيماتا» هو من علامات الفقر المدقع، مثل الحمص المسلوق والفول الأخضر والتفاح والتين المجفَّف. ومع ذلك، فإنني أستحسن الكعكة المسطحة التي نشأت في أثينا، وإذا لم تستطع الحصول على كعكة من هناك، فاذهَبْ وأحضِرْ كعكةً من مكان آخَر وابحثْ عن شيءٍ من عسل أتيكا، فهو الذي يُضفِي عليها رونقَها الذي تزدهي به. هذا هو أسلوب الحياة الذي ينبغي أن يتبعه الحُرُّ، والبديل هو أن تنزل تحت الأرض وتحت الجحيم والعالَم السفلي حيث الدمار، وتتوغَّل تحت الأرض على عمق عددٍ لا يُحصَى من الاستديوم.
ويمكننا أن نلاحظ أصنافًا مختلفة من أطباق المائدة الثانية — على سبيل المثال — في الأوصاف الكوميدية وفي كتب أثينايوس (راجع ويلكنز ٢٠٠٠) وغيره، بما في ذلك المحار الذي يُقدَّم في مأدبة تريمالكيو الرسمية.
وكان الإغريق في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد يتوقعون — فيما يبدو — وجودَ وسائل الترفيه (سواء أكانت شعرًا أم أحاجي أم راقصات أم فلسفة) في مرحلة جلسة الشراب. ويبدو أن بعض المآدب الفاخرة التي شهدها العصر الهلنستي كانت تختلف عن هذا النمط (راجع كارانيوس وسيمفونية أنطيوخوس الرابع الظاهر (في الفصل الثاني)، وأثينايوس). وبحلول العصر الروماني بدأ شرب الخمور ووسائل الترفيه يتخلَّلان المأدبة بأكملها، فيما يبدو، وليس مرحلة جلسة الشراب فحسب. يقدِّم تريمالكيو كلَّ شيء؛ بدءًا من إلقاء أبياتٍ من شعر هوميروس، إلى الموسيقى السيمفونية والعروض البهلوانية. أما بلينوس الأصغر فيصف وسائلَ الترفيه الراقية التي تتخلَّل بعضَ المآدب والرقصات الخليعة في مآدب أخرى. وكانت المناقشات الفلسفية موجودة في بعض المآدب الفاخرة في العصر الروماني، كما يذكر أثينايوس، وربما تتَّسِم المأدبة بأكملها بفكرة رئيسية، ومثالُ ذلك ما فعله الإمبراطور دوميتيان بعد انتصاراته المفترضة على الداقيين. كانت تُقدَّم للناس العاديين مآدبُ عشاءٍ عمومية وتُؤدَّى أمامهم ألعابٌ منفرة في ساحة المدرج الروماني، وكانت تُقدَّم لأعضاء مجلس الشيوخ والفرسان أطباقٌ مميزة، مما يذكِّرنا بالعلاقة التي سبق مناقشتها التي تربط بين ديونيسوس والموتى (كاسيوس ديو ٦٧، ٩، ترجمه إلى الإنجليزية: كاري).
جهَّزَ غرفةً يطغى السوادُ على كل جوانبها وسقفها وجدرانها وأرضيتها، وكان قد جهَّزَ أرائك بسيطة من اللون نفسه ووضعها على الأرضية العارية؛ ثم دعا ضيوفَه وحدهم ليلًا من دون خدمهم. وفي البداية، وضع بجوارِ كلٍّ منهم بلاطةً على هيئة شاهِدِ قبرٍ تحمل اسم الضيف، ووضع أيضًا مصباحًا صغيرًا كالذي يُعلَّق عند القبور. وبعد ذلك، دخل صبيةٌ بَهِيُّو الطَّلْعة عُرَاة، وقد دُهِنتْ بشرتهم باللون الأسود هم أيضًا، فبدوا وكأنهم أشباح، وأخذوا يدورون حول الضيوف في رقصة مهيبة، ثم اتخذوا أماكنَهم عند أقدام الضيوف. وبعد هذا كلِّه، قُدِّمَ إلى الضيوف كلُّ ما يُقدَّم عادةً في طقوس تقديم القرابين لأرواح الموتى، وكلُّها أشياء لونها أسود وفي أطباقٍ من اللون نفسه؛ ومن ثَمَّ، استبدَّ الخوفُ بالضيوف جميعًا، وأخذوا يرتجفون خوفًا، وسيطر عليهم توقُّعٌ بأنهم سيتعرَّضون للقتل في اللحظة التالية، ورانَ عليهم صمتٌ مُطبِق فيما عدا دوميتيان، وكأنهم قد صاروا في عالم الموتى، وأخذ الإمبراطور نفسه يتحدَّث عن موضوعات تتعلق بالموت والقتل فقط.
توجد أيضًا أدلة كثيرة على اجتماع وسائل ترفيه مع تناول الطعام واحتساء الشراب لأفراد المجتمع الأقل شأنًا، سواء أكان في مآدب عامة — مثلما يذكر ديو — أم في الفنادق والحانات. والأدلة المتعلقة بمدينة بومبي وغيرها من المدن الإيطالية فيما يخص النرد والراقصات والعشيقات والعازفين وغير ذلك من وسائل الترفيه جَمَعَها كليبرج (١٩٥٧).
إنَّ أثينايوس هو أفضل مصدر أدبي فيما يخصُّ جلسات الشراب، فهو يسجِّل الكثيرَ من مظاهر تلك الجلسات مثل الأكاليل والغناء والرقص، والشعر أيضًا، وهي مظاهر ربما لا ترتبط مباشَرةً بشرب الخمور في أجواءٍ رسمية. ويقدِّم أيضًا الدليلَ الشامل لأنواع أقداح الخمر، وهو ما يمكن ربطه على نحوٍ وثيق إلى حدٍّ ما بالسجلات الأثرية. يكتب أثينايوس معتمِدًا على تراث جلسات الشراب، بكل ما يتسم به من حساسية ذاتية واستبطان؛ ومن ثَمَّ فإنه يصمِّم طريقةَ احتساءِ الخمر التي يتبعها حاضرو مأدبة الحكماء بناءً على النموذج الذي وضعه كزينوفانيس في العصر القديم جدًّا. وبناءً على ذلك، نجد أن بلوتارخ — أحد حاضري المأدبة المفوَّهين — يستهلُّ القصيدةَ (التي استشهدنا بها فيما سبق) بقوله: «لطالما لاحظتُ أن جلسة الشراب التي نظَّمتموها — على غرار كزينوفانيس الكولوفوني — تزخر بالمسرات.» وظهر تراث جلسات الشراب في قالبٍ شعري، وكذلك — بعد كتاب أفلاطون «حوار المأدبة» — في قالبٍ نثري يتناول المناقشات الفلسفية أو الأنشطة المصاحبة لجلسات الشراب. وأصبحت جلسات الشراب الواردة في كتابَيْ أفلاطون وكزينوفانيس بعنوان «حوار المأدبة» هما النموذج الذي سار عليه الكثيرُ من المؤلفين ممَّنْ جاءوا بعدهما. ويناقش روميري (٢٠٠٢) هذا التراث؛ إذ يثبت أن أثينايوس يختلف عن معظم خصائص هذا التراث في أنه يُولي الطعامَ أهميةً تضارع أهميةَ النبيذ. ونجد أن الكثير من جلسات الشراب الأقدم — وأفلاطون مثالٌ أولي في هذا الشأن — يُنهِي مرحلةَ تناول الطعام بأسرع ما يمكن، حتى تنتقل إلى المناقشة الفلسفية في جلسة مُخصَّصة لاحتساء الخمر باعتدال. وحين لا يتَّسِم تناوُل الطعام واحتساء الخمر بالاعتدال — كما يحدث بين الفلاسفة في كتابَيْ «حوار المأدبة» و«ليكسيفينيز» من تأليف لوقيان — تجتاح المناسبة فوضى عارمة. ويشير أثينايوس بالطبع في العنوان الذي اختاره «مأدبة الحكماء» أو «مأدبة الفلاسفة» بأن محلَّ اهتمامه يختلف عن سابقيه؛ فبما أنه يكتب في عصر الإمبراطورية الرومانية، فليس من الواضح تمامًا مدى تفكُّره في العادات الإغريقية، أو مدى تأثُّره بالنمط الروماني في دمج تناوُل الطعام مع شرب الخمر.
كان لإنتاج النبيذ وأعياد النبيذ على مدار العام والطقوس الاجتماعية الفَضْلُ في منح النبيذ مكانةً قوية في البلدان الإغريقية الرومانية. وكان معظم استهلاك الخمور من النبيذ المحلي، وكذا هي الحال بخصوص الأطعمة الأخرى التي ناقشناها في فصول سابقة، كان المواطنون الفقراء يستهلكون أنواعًا أرخص من النبيذ الذي كان في متناول الأغنياء. (كانت هناك استثناءات لهذه القاعدة فيما يبدو في مناطق من الإمبراطورية التي كانت فيما سبق على حدود التأثير الإغريقي الروماني؛ إذ نقرأ أن فرنسا ومصر كانتا تستوردان النبيذ، ثم بدأتا تنتجانه لاستهلاك الأغنياء، أما المواطنون الفقراء فكانوا يشربون الجعة. ولا يبدو أن الفارق كان كبيرًا إلى هذا الحد في عام ٢٠٠ ميلاديًّا مثلًا، بعد ما يزيد عن قرنٍ من الاندماج في النظام الروماني؛ إذ كان الناس لا يزالون يشربون الجعة، ولكن النبيذ كان من السلع التي لم تَعُدْ أجنبيةً في فرنسا بعكس ما كانت عليه في العهد الذي شهدَ مؤلَّفات بوسيدونيوس (التي استشهد بها أثينايوس) في عام ١٠٠ قبل الميلاد تقريبًا.)
حين تكون قد قدَّمْتَ قربانًا كبيرًا لزيوس المُخلِّص، عليك أن تشرب نبيذًا معتَّقًا كأنه شيخٌ أشيب الرأس تمامًا، خصلات شعره الرطبة مزيَّنة بزهور بيضاء؛ نبيذًا من لسبوس التي يحيط بها البحر من كل جانب. وأُثْنِي على نبيذ بيبلاين من فينيقيا، مع أنه لا يرقى إلى نبيذ لسبوس، وإذا تذوَّقْتَه سريعًا ولم تكن لديك معرفةٌ مسبقة به، فسيبدو لك أن رائحته عَطِرة أكثر من نبيذ لسبوس؛ إذ إن رائحته تستمر لمدة طويلة جدًّا. ومع ذلك، حين تتذوَّقه، تجده رديئًا للغاية، وسيحصل نبيذ لسبوس على مرتبةٍ لا تنتمي لفئة النبيذ بل إلى فئة طعام الآلهة … وتنتج ثاسوس أيضًا نبيذًا ممتازًا، بشرط أن يكون معتقًا لعدة مواسم على مدى السنين. وأعرفُ كذلك أمر الغصون التي تتساقط منها عناقيدُ العنب في مدن أخرى؛ أستطيع أن أستشهد بها وأمتدحها؛ فأنا مُلِمٌّ بأسمائها كلَّ الإلمام. ولكن أنواع النبيذ الأخرى بلا قيمةٍ بجوار نبيذ لسبوس، ويحب بعض الناس بالطبع امتداحَ منتجات بلادهم. (ترجمه إلى الإنجليزية: ويلكنز)
من الواضح أن نبيذًا كهذا لو كان يُستورَد إلى أثينا أو كورنث، لَأصبح مختلفًا من حيث خصائصه، لكن سعره كان سيزيد أيضًا عن سعر أي نظير محلي له. ونجد ما يدل على استحسانِ أنواعِ النبيذ هذه في أثينا في الشعر وفي السجلات الأثرية؛ إذ تحتوي المباني التي كانت مُخصَّصة فيما يبدو لبيع النبيذ على بقايا جِرار قادمة من الخارج. وكانت أنواع النبيذ الإغريقية أيضًا تروق للذائقة الرومانيين. ويقدِّم كاتو — من بين الجميع — وَصْفات لصنع أنواع نبيذٍ على الطريقة الإغريقية، في بحثه الذي يتناول الزراعة. أما الرومان، فشرعوا في إنشاء تجارة نبيذ مختلفة للغاية. وفضلًا عن الخمور المحلية الرخيصة — نبيذ سابينا الذي كان يستحسنه هوراس في مزرعته من الأمثلة الشهيرة — كانت تُنتَج أنواع نبيذ مُعتَّقة، خصوصًا في التلال الخصبة في لاتيوم وكامبانيا، وتقع بين روما ونابولي؛ ففي هذه الأماكن، أصبح للمناطق الصغيرة أسماءٌ تجارية على نحوٍ يشبه نظامَ «التقيُّد بالأسماء الجغرافية»، وأصبحت أنواع النبيذ المُعتَّق — مثل فالرنيان وفونديان وكاكوبان — تُباع بأسعار مرتفعة. وكانت تجارة النبيذ تدرُّ عائداتٍ مرتفعةً على المستثمرين؛ نظرًا لأرباحها الهائلة، ولكنها أيضًا كانت تنطوي على مخاطرة كبرى في حالة سوء الطقس. أثبَتَ كلٌّ من بورسيل (١٩٨٥) وتشيرنيا (١٩٨٦) على الأهمية الاقتصادية والأصداء الثقافية المترتبة على صناعة النبيذ الرومانية؛ ونجد مناقشةً وافيةً يعرضها دالبي (٢٠٠٣: ٣٥٠–٣٦٠) وتعرضها مقالاتٌ واردة في روبنسون (١٩٩٤). درسَ الباحثون باستفاضةٍ انتقالَ أنواع النبيذ الرومانية، بناءً على الأختام التي تحملها جِرارُ النبيذ عامةً، وجِرارُ النبيذ التي عُثِرَ عليها في حطام السفن خاصةً.
وكانت للنبيذ أهمية كذلك في الطب؛ إذ رأينا أنه يمكن استحضار الإلهة هيجيا أو الصحة في بداية جلسة الشراب ونهايتها. والترنيمة المُوجَّهة إليها في نهاية كتاب «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي» هي في الواقع نفس الترنيمة المنقوشة على حجرٍ في المجمع الطبي في إبيدوروس. وكان وجود الأطباء يرتبط بجلسة الشراب؛ ففي الأعمال الأدبية التي تناولت جلسةَ الشراب بدءًا من أفلاطون حتى أثينايوس، كانت جلسة الشراب كثيرًا ما يحضرها طبيب. وتزخر المؤلَّفاتُ الطبية أيضًا بالكثير عن آثار النبيذ على الجسم، ونجد أن الأطباء ممَّنْ لهم اهتماماتٌ جغرافية واسعة، مثل جالينوس، يذكرون أنواعَ النبيذ التي نشأت في مناطق غير مألوفة، كما في بعض الأنحاء في آسيا الصغرى (راجع للاستزادة جوانا ١٩٩٦).